منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

ولكنّه تخيّل فاسد ، فانّه لو سلّمنا قياس الحجيّة ونحوها من الأحكام الوضعيّة على الحكم التكليفي في إمكان كونها فعليّة في ظرف الشّك ولم نقل بالتفكيك بينهما ـ لو سلمنا ذلك ـ فلا ينفع فيما ذكر ، إذ نفي الحجية تعبدا ولو في مرحلة الظاهر يلازم الوعد بعدم العقاب على المخالفة. فانه إذا قال المولى : « إنني لا يصح لي الاحتجاج بهذا الأمر » دل على الوعد أو ما يشبه الوعد بعدم العقاب على المخالفة. وعليه ، فقبح العقاب هاهنا يرجع إلى قبح خلف الوعد بالنسبة إلى الشارع الأقدس ولو لم نقل بقبح العقاب بلا بيان من باب الظلم. ولا يخفى ان هذا الحكم العقلي غير الحكم بقبح العقاب في مورد الشك ، لأن ذلك بملاك قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأنه ظلم من المولى.

وعليه ، فالاستصحاب على جميع التقادير لا يستلزم تحصيل الحاصل.

نعم ، يبقى سؤال وهو : انه إذا فرض ترتب عدم المنجزية أو قبح العقاب على مجرد الشك. فأي داع عقلائي لإجراء الاستصحاب مع انه انما يترتب عليه نفس الحكم وان كان بملاك آخر يوجب التغاير ، إذ اختلاف الملاك لا يرفع اللغوية؟. ومحصل الإشكال : هو لغوية جريان الاستصحاب.

والجواب عنه : ان إجراء الاستصحاب موجب لارتفاع موضوع الأثر الثابت للشك بما هو ، فيكون الاستصحاب حاكما على الحكم العقلي الثابت في فرض الشك لارتفاع موضوعه به ، وحينئذ فيجري فيه الوجه الّذي يوجه به جريان الحاكم إذا كان متفقا مع الدليل المحكوم في الأثر. وهو امر يلتزم به في كثير من الموارد وليس فيه محذور.

ثم ان ما ذكره المحقق النائيني ( قده ) من : انه أردأ من تحصيل الحاصل. غير واضح الوجه ، فان الأردئية انما تتم لو كان ثبوت الأثر بالاستصحاب ثبوتا تعبديا ، إذ مع ثبوته حقيقة بمجرد الشك لا معنى للتعبد به.

٢٠١

ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ الأثر يترتب حقيقة وواقعا على التعبد الاستصحابي فلا يلزم الا تحصيل الحاصل ـ لو كان ـ لا ما هو أردأ منه.

ولكن عرفت الإشكال في أصل المطلب. وان الحق صحة جريان استصحاب عدم الحجية بلا محذور في البين من تحصيل الحاصل أو اللغوية.

الجهة الثالثة : في انه لو التزم بعدم جريان استصحاب عدم الحجية ، فهل يصح جريان استصحاب بقائها لو تمت أركان الاستصحاب أو لا؟.

قد يتوهم : عدم صحة جريانه أيضا كاستصحاب العدم. ببيان : انه مع عدم القدرة على أحد النقيضين لا يكون الآخر مقدورا ، فمع عدم إمكان التعبد بعدم الحجية لا يمكن التعبد بالحجية أيضا.

وهذا الوهم غريب ، فانه واضح الفساد لوجهين :

الأول : ان الثابت هو ان عدم القدرة على أحد النقيضين يلازم عدم القدرة على الآخر ، ولازم ذلك انّ عدم القدرة على عدم شيء يلازم عدم القدرة على وجوده ، إذ يكون وجوده ضروريا أو ممتنعا ، لأن نسبة القدرة إلى الوجود والعدم على حد سواء. وهذا لا يرتبط بما نحن فيه ، إذ الممتنع انما هو التعبد بالعدم لا أصل نفي الحجية وعدمها واقعا ، وهو ـ أعني التعبد ـ امر وجودي وليس نقيضا للتعبد بالوجود كي يكون امتناعه مستلزما لعدم القدرة على الوجود ، بل هما امران وجوديان ، فمع عدم القدرة على أحدهما لا يلزم ان لا يقدر على الآخر (١).

الثاني : لو تنزلنا وسلمنا ان امتناع التعبد بعدم الحجية يستلزم امتناع التعبد بالحجية فلا يتم ما ذكر ، إذ ذلك يتم فيما لو كان التعبد ممتنعا تكوينا ، بحيث لا يكون الجاعل مسلوب الاختيار بالنسبة إليه ، وهو غير ما نحن فيه ،

__________________

[١] بل لو فرض انهما ضدان ، فهما من الضدين اللذين لهما ثالث ، إذ يمكنه ان لا يتعبد لا بالوجود ولا بالعدم. ( منه عفي عنه ).

٢٠٢

إذ ليس المدعى ان التعبد بالعدم ممتنع لعدم القدرة عليه ، بل لأجل انه لغو لا يصدر من العاقل الحكيم بما هو عاقل حكيم وهذا لا ينفي الاختيار ، فلا يمنع من تحقق نقيضه في مورد لا يكون لغوا. فمثلا لو لم يقم شخص لعدم كون القيام ذا أثر عملي ، فهل يتوهم انه لا يستطيع الجلوس في بعض الموارد فيأتي به لو كان ذا أثر عملي؟.

وبالجملة : هذا التوهم لا يستحق الذّكر لما بيناه.

ثم ان المحقق العراقي قدس‌سره تصدى لبيان الإشكال في استصحاب عدم الحجية ، فقربه : بان الأثر لما كان مترتبا على الجامع بين عدم العلم والعلم بالعدم ، فبما ان الشك في مرحلة سابقة على الاستصحاب لأنه مأخوذ في موضوعه ، فعند حصول الشك يترتب الأثر ولا مجال للاستصحاب حينئذ لأنه لا يتكفل رفع الشك ، إذ هو يتكفل التعبد مع فرض المكلف شاكا. وبذلك يفترق الاستصحاب عن الأمارة على عدم الحجية ، فانها تتكفل رفع الشك بخلاف الاستصحاب ، وإذا ترتب الأثر في مرحلة سابقة على الاستصحاب لا معنى لجريانه حينئذ ، لأنه تحصيل الحاصل (١).

وهذا البيان لا يزيد عما تقدم منا في بيان الإشكال الا في تكفله لنفي الحكومة المدعاة.

وقد أجاب قدس‌سره عن هذا الإشكال : بان الشك في الحجية كما يكون موضوعات للقاعدة ـ يعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان ـ يكون موضوعا للاستصحاب ، وعند الدوران بينهما لا بد من تقديم الاستصحاب ، لأنه يرفع موضوع القاعدة لرفعه الشك تعبدا ، بخلاف القاعدة فانها لا ترفع موضوع الاستصحاب فيكون إجراؤها مستلزما لتخصيص دليل الاستصحاب (٢).

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٨١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٨٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٢٠٣

ولا يخفى ان هذا الجواب لا يفي بالمطلوب ، كيف؟ والمدعى ان التعبد الاستصحابي لا يكون إلاّ في فرض الشك ، ورفعه تعبدا لا يجدي في الحكومة على الحكم العقلي ، لأن مرجع الحكومة في اللب إلى التخصيص وهو ممتنع بالنسبة إلى الأحكام العقلية. فالعمدة ان يقال : ان الاستصحاب كما عرفت يترتب عليه حكم عقلي آخر غير حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وهو رافع لموضوع حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، لأن موضوعه الشك في الحجية والاستصحاب ينفي الحجية ، والحكم العقلي الثابت في مورد عدم الحجة غيره الثابت في مورد الجهل بالحجة ، والأول مقدم على الثاني ، لأن عدم الحجية وان انتفى ظاهرا ، لكنه يكفي في رفع حكم العقل الثاني ، فان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان انما يتأتى في مورد لا يقوم دليل على نفي الحجة من قبل المولى ، فمجرد الشك ليس موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بل الشك مع عدم نفي البيان. فما يتكفل نفي البيان يكون رافعا لموضوع الحكم العقلي حقيقة. فتدبر ولاحظ.

هذا كله جريان على تحريرات الاعلام ، وإلاّ ..

فالحق عدم جريان الاستصحاب لما عرفت من ان الشك في الحجية يلازم القطع بعدمها ، واقعا ومع القطع بعدم الحجية لا مجال للاستصحاب ، فانه يجري مع الشك لا مع اليقين بالعدم. فالتفت ولا تغفل والله سبحانه ولي التوفيق.

الجهة الرابعة : في بيان الموارد التي قيل أو يقال بوقوع التعبد فيها بالظن وخروجها عن الأصل السابق.

وقد عبر صاحب الكفاية عن ذلك بـ : « الخروج موضوعا » (١).

ويقصد بذلك التنبيه على ان الخروج عن الأصل السابق لا بد وان يرجع إلى الخروج الموضوعي ، إذ الخروج حكما مع بقاء الموضوع يرجع إلى التخصيص

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٨٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٠٤

وهو ممتنع بالنسبة إلى الحكم العقلي ، بخلاف رفع موضوع حكم العقل فانه لا ضير فيه. وعلى كل فيقع الكلام في ضمن فصول :

٢٠٥
٢٠٦

الفصل الأول

في الكلام عن حجية الظواهر :

وقد ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله : انه لا إشكال في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة. والوجه في ذلك هو : ان بناء العقلاء قد استقر على اتباع ظهور الكلام في تعيين مراد المتكلم ، والحكم بان مراد المتكلم كذا من طريق ظاهر كلامه. ومن الواضح ان الشارع جرى في كلامه على طبق هذه الطريقة العقلائية ولم يخترع طريقة أخرى مخالفة لطريقة العقلاء ، وإلاّ لظهر وبان لتوفر الدواعي لظهور ذلك ، إذ عليه أساس فهم التكاليف وغيرها مما يروم الشارع بيانه ، وحيث لم ينقل إلينا ذلك نقطع بعدم ردع الشارع عن الطريقة العقلائية وإمضائه لبنائهم وجريه على وفق مجراهم في تفهيم مرامه.

وهذا البناء العقلائي على اتباع الظاهر لا يختص بصورة حصول الظن الشخصي بالوفاق ، ولا بصورة عدم حصول الظن الشخصي بالخلاف ، إذ لا يحق للعبد الاعتذار عن مخالفة الأمر الصادر من قبل المولى المبين بكلام ظاهر فيه ـ الاعتذار ـ بأنه لم يكن ظانا بثبوته أو كان ظانا بعدم ثبوته.

ثم أشار إلى التفصيل بين من قصد افهامه ومن لم يقصد افهامه ، فالظاهر حجة بالنسبة إلى الأول دون الثاني. ورده بقيام السيرة العقلائية على

٢٠٧

اتباع الظاهر مطلقا بالنسبة إلى من قصد افهامه ومن لم يقصد افهامه (١).

هذا توضيح ما ذكره في الكفاية وهو تلخيص بل أشبه بالفهرست لما ذكره الشيخ رحمه‌الله في هذا المقام.

وقد شرح الشيخ رحمه‌الله في هذا الفصل ببيان : ان الأمارات المعمولة في استنباط الحكم الشرعي من لفظ الكتاب والسنة على قسمين :

الأول : ما يعمل لتشخيص مراد المتكلم عند احتمال إرادة خلاف ذلك ، كأصالة الحقيقة عند احتمال إرادة المجاز ، وأصالة العموم والإطلاق ، ومرجع الكل إلى أصالة عدم القرينة الصارفة عن المعنى الّذي يقطع بإرادة المتكلم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة ... إلى آخر كلامه (٢).

وقد تصدى صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل لمناقشة الشيخ في إرجاعه هذه الأصول اللفظية إلى أصالة عدم القرينة ، وذكر : انه ليس للعقلاء إلاّ بناء واحد ، وهو اتباع الظهور ، فليس لدينا إلاّ أصالة الظهور ، لا انهم يبنون على عدم القرينة ، بل يبنون رأسا على اتباع الظهور ، فالأصل اللفظي في الحقيقة أصل وجودي لا عدمي (٣).

وهذه المناقشة مخدوشة وستعرف وجه الخدشة فيها عن قريب إن شاء الله تعالى.

ثم انه يستفاد من كلام الشيخ : ان دلالة الظاهر على المراد دلالة قطعية مع العلم بعدم القرينة. ولعل الوجه فيه : ان المتكلم إذا كان في مقام بيان مراده بالكلام وكان الكلام دالا على معنى من المعاني ، فإرادة غيره بدون نصب قرينة ـ كما هو الفرض ـ خلف ، لعدم دلالة الكلام عليه ، فيقطع بان مراده هو المعنى

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٨١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٤ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٤٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٨

الظاهر من الكلام لو لم ينصب قرينة على خلافه.

وتحقيق الكلام في حجية الظواهر بنحو يتضح الحال فيها ، ويتحدد موضوع الكلام ، ان يقال : ان الكلام الصادر من المتكلم له صور ثلاث :

الأولى : ان لا يقصد به الحكاية عن معنى ولا تفهيم معنى أصلا ، بل يكون مقصوده وغرضه متمحضا في نفس صدور الكلام بما هو كلام منه ، كما لو أراد ان يعرف كيفية صوته من الرّقة والغلظة.

الثانية : ان يقصد به تفهيم معنى وإيجاده في ذهن السامع ولكن لا تكون على طبقه إرادة جدية ، فهو ليس في مقام الاخبار أو الإنشاء واقعا ، بل لا يكون له غرض الا في استعمال اللفظ في المعنى ، كما في موارد الاستعمالات بداعي الهزل والسخرية. ويعبر عن ذلك اصطلاحا بالإرادة التفهيمية أو الاستعمالية.

الثالثة : ان يكون على طبقه إرادة جدية واقعية بان يقصد الحكاية واقعا في الكلام الخبري والإنشاء في الكلام الإنشائي. ويعبر عنها بالإرادة الجدية والواقعية.

اما الصورة الأولى ، فهي خارجة عما نحن فيه بالمرة ، ولا تكون للكلام أي دلالة على المعنى الا الدلالة التصورية التي لا ترتبط بإرادة المتكلم.

واما الصورة الثانية ، فالذي يبدو النّظر أن دلالة الكلام على إرادة تفهيم معناه وإيجاده في ذهن السامع ـ وبعبارة أخرى : دلالته على استعماله في معناه ـ دلالة قطعية لا ظنية ومن باب التعبد. وذلك لأن المتكلم إذا فرض انه في مقام تفهيم معنى وإحضاره في ذهن السامع لأي داع كان وأطلق اللفظ الظاهر في معنى خاص ولا دلالة له على غيره في نفسه ، فلا بد ان يكون مراده هو المعنى الّذي يظهر فيه اللفظ ، إذ إرادة غيره مع عدم دلالة اللفظ عليه خلف كونه في مقام التفهيم باللفظ. ونتيجة ذلك : هو القطع بان مراده من اللفظ هو معناه الظاهر فيه.

٢٠٩

واما الصورة الثالثة ، فالحال فيها كالثانية ، وذلك لأن المتكلم إذا فرض انه في مقام الحكاية عن الواقع ـ مثلا ـ ، وانه يحاول ذلك بواسطة اللفظ بلحاظ ما يدل عليه من المعنى وجريا على الطريقة العقلائية ، فإذا أطلق اللفظ ، فان أراد الحكاية عن غير مدلوله كان ذلك خلف لعدم دلالة اللفظ عليه ، فلا بد ان يكون مراده الحكاية عن مدلول اللفظ ، فيحصل القطع بان مراده الواقعي على طبق المراد الاستعمالي.

والّذي يتحصل : ان دلالة الكلام على المراد الاستعمالي والمراد الواقعي دلالة قطعية لا ظنية.

وهذا خلاف فرض أصالة الظهور من الظنون النوعية المعتبرة شرعا.

وعلى هذا ، فلا معنى لبعض التفصيلات من اعتبار الظن بالوفاق أو عدم الظن بالخلاف ، إذ المفروض حصول القطع من الظهور فلا يتصور حصول التشكيك ونحوه.

هذا ، ولكن لما كان الانتهاء إلى القطع بالمراد في كلتا الصورتين مبتنيا على فرض كون المتكلم في مقام التفهيم والجد ، ومبتنيا على عدم نصب قرينة على خلاف ظاهر الكلام ، فهذان الأمران قد لا يمكن إحرازهما قطعا ، كما لو شك في ان المتكلم في مقام بيان المراد الواقعي ان كان في مقام التقية ، أو شك في حصول الغفلة للمتكلم فلم ينصب قرينة على تعيين مراده وصرفه عن الظاهر ، فيرجع في إحرازهما إلى الأصول العقلائية المعتبرة ، كأصالة عدم الغفلة أو أصالة كون المتكلم في مقام بيان المراد الواقعي المعبر عنها بأصالة الجهة ، وهذه الأصول ليست قطعية بل ظنية.

وعليه ، فتكون النتيجة ظنية لأنها تتبع أخس المقدمتين ، فلا تكون دلالة الظاهر على المراد الاستعمالي والواقعي دلالة قطعية بل ظنية.

وعليه يقال : ما المراد من أصالة الظهور وحجيته من باب الظن؟. ان كان

٢١٠

المراد انه من الظنون بلحاظ أصالة الجهة أو أصالة عدم الغفلة ، فهو متجه ، لكنه خلاف ما يظهر من كلماتهم من عدّ أصالة الظهور أصلا برأسه في قبال تلك الأصول ، ولذا يقال : ان في الخبر جهات ثلاث جهة السند والجهة والظهور. وان كان انه من الظنون الخاصة بلحاظ نفسه ومع قطع النّظر عن أصالة عدم الغفلة وأصالة الجهة ، ففيه ما عرفت من تحقيق ان دلالة الكلام على المراد الاستعمالي أو الواقعي مع فرض عدم القرينة وكون المتكلم في مقام بيان مراده الواقعي ، دلالة قطعية لا يشوبها شك ولا وهم فالتفت ولا تغفل.

ثم انه قد عرفت انه لدينا مرحلتان : مرحلة المراد الاستعمالي ومرحلة المراد الواقعي. وعرفت ان تشخيص المراد الاستعمالي لا يلازم تشخيص المراد الواقعي.

ومن ذلك يظهر الإشكال في ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من بيان تعيين مراد المتكلم بأصالة الحقيقة ونحوهما التي أرجعها إلى أصالة عدم القرينة ، إذ الحقيقة والمجاز انما هما يرتبطان بالاستعمال ، فأصالة الحقيقة تنفع في إثبات ان المراد الاستعمالي هو المعنى الحقيقي ، اما مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي الواقعي فلا تجدي في إثباته أصالة الحقيقة.

كما يظهر الإشكال فيما أورده صاحب الكفاية على الشيخ والتزامه بإرجاع أصالة عدم القرينة إلى أصالة الظهور ، وانه ليس هناك إلاّ أصل واحد هو أصالة الظهور.

وذلك لأن مجرى أصالة عدم القرينة وأصالة الظهور لو كان واحدا أمكن ان يتكلم في ان الأصل الّذي يبني عليه العقلاء هو اتباع الظهور فقط لا أصالة عدم القرينة وأصالة الظهور ، إذ مثل ذلك لغو محض.

ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ مجرى أصالة عدم القرينة غير مجرى أصالة الظهور ، فان مجرى أصالة عدم القرينة هو تشخيص المراد الاستعمالي ، ومجرى

٢١١

أصالة الظهور ـ كما يظهر من كلماتهم ـ تشخيص مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الواقعي ، فلا يغني أحد الأصلين عن الآخر كما لا معنى لإرجاع أحدهما إلى الآخر.

وبالجملة : فلدينا أصلان : أحدهما : يجري في تشخيص المراد الواقعي ، وهو أصالة الظهور. والآخر : يجري في تشخيص المراد الاستعمالي ، وهو أصالة عدم القرينة أو أصالة الحقيقة وتشخيص كونه أيهما ـ أعني الوجوديّ أو العدمي ـ. لا يرجع إلى بحث علمي بل أمر ذوقي وجداني.

ثم انه يرد على الشيخ مضافا إلى ما تقدم : انه لا يتصور الشك في القرينة بنحو تجري فيه أصالة عدم القرينة ، إذ مع فرض كون المتكلم في البيان فلا بد ان ينصب القرينة لو أراد.

نعم قد يشك في غفلة المتكلم عن نصب القرينة فيرجع إلى أصالة عدم الغفلة ، وهو غير أصالة عدم القرينة للقطع بعدم نصبه القرينة ، كما قد يشك في سقوط بعض الكلمات من الكتاب ـ مثلا ـ بحيث يحتمل دخلها في تغيير المعنى ، وفي مثله لا تجري أصالة عدم القرينة ، بل يتوقف العقلاء في مثل ذلك من العمل بالكتاب. هذا بلحاظ القرينة المتصلة.

اما المنفصلة ، فهي لا تستلزم التجوز ، بل تصادم ظهور الكلام في دلالته على المراد الواقعي. وعليه فلا معنى لإرجاع أصالة الحقيقة إليها ، إذ مع الجزم بها لا يلزم ان يكون الاستعمال مجازيا.

وعلى أي حال ، فظهور الكلام حجة على المراد قطعا سواء كان من باب الظن كما عليه الأعلام أم من باب القطع كما حققناه.

وبعد هذا يقع الكلام في جهتين :

الأولى : فيما ذهب إليه المحقق القمي رحمه‌الله ـ صاحب القوانين ـ من التفصيل في حجية الظواهر بين من قصد افهامه وبين من لم يقصد افهامه ،

٢١٢

فالظاهر حجة بالنسبة إلى الأول دون الثاني (١).

الثانية : فيما ذهب إليه جمهور الأخباريين من التفصيل بين ظواهر الكتاب المجيد وغيرها. فالأولى ليست بحجة وغيرها حجة.

اما ما ذهب إليه المحقق القمي رحمه‌الله ، فقد وجهه الشيخ رحمه‌الله أولا ثم رده. فوجهه بما يتلخص في : ان حجية الظاهر من باب افادته الظن النوعيّ بالمراد بحيث لو خلي وطبعه كان مفيدا للظن ، فإذا كان مقصود المتكلم افهام مخاطب ما فلا بد ان يلقي إليه الكلام بنحو لا يوجب فهم المخاطب خلاف مراده ، فلو فرض انه فهم خلاف مراد المتكلم فمنشؤه اما غفلته من الالتفات إلى القرائن المكتنفة بالكلام ، أو غفلة المتكلم عن نصب قرينة تدل على تعيين مراده ، وعليه فاحتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر لا بد ان ينشأ عن احتمال غفلته أو غفلة المخاطب لا غير ، واحتمال الغفلة منفي بأصالة عدم الغفلة التي جرت عليها طريقة العقلاء في محاوراتهم وسائر تصرفاتهم.

وهذا البيان الّذي ينتهي إلى حجية الظاهر في كشفه عن مراد المتكلم يختص بالمقصود بالإفهام ، اما غير المقصود بالإفهام فلا يعمه هذا البيان ، إذ لا ينحصر منشأ احتمال إرادة المتكلم خلاف الظاهر عنده في احتمال غفلته أو غفلة المتكلم ، بل هناك سبب آخر وهو احتمال وجود قرائن كانت موجودة خفيت عليه اختيارا لداع من دواعي الإخفاء أو قهرا. وهذا الاحتمال لا دافع له عند العقلاء فلا يكون الظاهر حجة حينئذ.

وعليه : فمثل الاخبار الصادرة عن أهل البيت عليهم‌السلام لا يكون ظاهرها حجة بالنسبة إلينا من باب الظن الخاصّ ، إذ الخطابات المشتملة عليها تختص بالمشافهين ، وهي ليست كتصنيف المصنفين التي يقصد بها إفهام كل من

__________________

(١) القمي المحقق ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول ١ ـ ٣٩٨ ـ الطبعة الأولى.

٢١٣

يطلع عليها لا خصوص المخاطبين بها ، فالمقصود بالإفهام بها خصوص المخاطبين. اما نحن فلسنا مقصودين بالإفهام ، واحتمال وجود القرائن المختفية علينا على مرّ الزمن لا رافع له ، فلا يكون الظاهر حجة بالنسبة إلينا ، الا من باب الظن المطلق الثابت بدليل الانسداد (١).

وهذا البيان لا يخلو عن نظر بكلا جهتيه وهما : أصل توجيه التفصيل وبيان الفرق. وصحة كونه فارقا في مقام الحجية فيما نحن فيه.

اما بيان الفرق بين المقصود بالإفهام وغيره بما تقدم ، فهو غير تام ، إذ منشأ احتمال خلاف الظاهر لدى المقصود بالإفهام لا ينحصر باحتمال الغفلة منه أو من المتكلم ، بل ينشأ أيضا عن احتمال خفاء قرينة متصلة ، كما لو جاءه كتاب من شخص يأمره بشراء حاجة واحتمل ان يكون قد قيد الحاجة بنحو خاص ، ولكن حذف القيد في طريق وصول الكتاب عن عمد أو غير عمد.

وعليه ، فالتفصيل بين كون منشأ احتمال خلاف الظاهر هو احتمال الغفلة أو احتمال خفاء القرينة التي نصبها المتكلم لا يصلح تفصيلا بين من قصد افهامه وغيره ، بل هو تفصيل آخر أجنبي عن ذلك التفصيل ، فلو تم كان تفصيلا ثالثا في مسألة حجية الظاهر.

واما كون الفرق المذكور فارقا فيما نحن فيه ، بحيث تكون نتيجته عدم حجية ظواهر الاخبار بالنسبة إلينا ، فهو غير تام أيضا. وذلك لأنا وان لم نكن مقصودين بالإفهام بكلام الإمام عليه‌السلام الموجه إلى السائل كـ : « زرارة » ، لاختصاص الخطاب بالمشافهين وعدم كونه من قبيل تصنيف المصنفين ، الا انا مقصودون بالإفهام في إخبار زرارة عن الإمام عليه‌السلام ونقله الحكم المخاطب به إلينا ، وهو حين ينقل كلام الإمام عليه‌السلام لنا لا يريد بذلك

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٠ ـ ٤١ ـ الطبعة الأولى.

٢١٤

نقل مجرد الألفاظ الصادرة عن الإمام عليه‌السلام ، إذ لا يترتب على ذلك أي أثر ، وهو ينافي التأكيد والترغيب والحث على رواية الحديث ونقل الأحكام ، وانما يريد بذلك نقل مضمون ما صدر من الإمام عليه‌السلام وبيان المطلب الّذي أراد الإمام عليه‌السلام تفهيمه له ، ليثبت في حقنا بقاعدة الاشتراك المسلمة لدى الكل. فإذا بيّن ذلك باللفظ الّذي تكلم به ، فاحتمال ان يكون مطلب الإمام عليه‌السلام غير مفاد الكلام ، اما ان ينشأ من احتمال تعمد زرارة لإخفاء بعض القرائن التي كانت بينه وبين الإمام عليه‌السلام ، وهو ينافي كونه في مقام تفهيم مطلب الإمام عليه‌السلام ، كما انه خيانة منفية بفرض وثاقة الراوي كزرارة. واما ان ينشأ من احتمال الغفلة منه أو من المنقول إليه ، وهو منفي بأصالة عدم الغفلة ، اذن فخبر زرارة حجة بالنسبة إلينا في إثبات مراد الإمام عليه‌السلام ، كحجية كلام الإمام عليه‌السلام في إثبات مراده بالنسبة إلى زرارة.

وهذا البيان بنفسه يجري في إخبار من يخبر عن إخبار زرارة وهكذا.

هذا كله يبتني على فرض كون المقصود بالإفهام خصوص المشافه ، وإلاّ فنحن مقصودون بالإفهام بنفس قول الإمام عليه‌السلام وكلامه كزرارة ، فيكون حجة بالنسبة إلينا.

وجملة القول : ان نفي حجية ظواهر الاخبار بالنسبة إلينا من جهة كون المنشأ في احتمال إرادة خلافها احتمال خفاء بعض القرائن ، غير تام. فالتفت.

هذا والحق هو : ان التفصيل في حجية الظواهر بين من قصد افهامه وبين من لم يقصد ، تفصيل متين لا بد من الالتزام به ، فان الملاك الّذي قربنا به حجية الظواهر يختص بمن قصد افهامه.

وذلك : فانا بينا في مقام تقريب حجية الظواهر ـ سواء كانت النتيجة قطعية كما نراه ، أم ظنية كما يراه الآخرون ـ ان المتكلم إذا كان في مقام بيان مراده الواقعي ،

٢١٥

فإرادة خلاف ظاهر كلامه الّذي يتعارف الحكاية به عن مدلوله من دون نصب قرينة معلومة للمخاطب خلف فرض كونه في مقام التفهيم.

وهذا المحذور انما يتأتى بالنسبة إلى من قصد افهامه ، اما من لم يقصد افهامه فلا يتأتى المحذور بالنسبة إليه ، إذ لا خلف في إرادة خلاف ظاهر كلامه مع نصب قرينة لم يعلمها من لم يقصد افهامه وعلمها من قصد افهامه.

وعليه ، فلا يمتنع ان ينصب المتكلم قرينة لا يعرفها سوى من قصد افهامه كما لا يخفى فلا يمكن لمن لم يقصد افهامه ان يحتج بكلام المتكلم على تعيين مراده ، إذ لعله نصب قرينة خفية عليه ، علمها المخاطب فقط.

يبقى علينا الرد على ما أورد به على هذا التفصيل من : ان بناء العقلاء على حجية الظاهر مطلقا حتى بالنسبة إلى من قصد عدم افهامه ، فضلا عمن لم يقصد إفهامه.

ويشهد لذلك صحة التمسك بظاهر الاعتراف والإقرار لمن قصد عدم افهامه لو فرض انه علم به بطريق من الطرق وصحة ترتيب الآثار على ذلك (١).

ومحصل الرد : ان كون المتكلم في مقام التخفي في الحديث يكشف عن ان مراده الواقعي هو ما يكشف عنه الظاهر ، وانه لم يعتمد على القرائن الخفية بينه وبين مخاطبه في الكشف عن مراده ، وإلاّ لم يكن وجه للتخفي بعد فرض علم غير المخاطب أو احتماله بوجود قرائن خفية بين المتكلم والمخاطب على خلاف الظاهر. فإذا فرض كون التخفي ظاهرا في عدم اعتماد المتكلم على غير ظاهر كلامه ، كان حجة في حق كل من علم به ولو لم يكن مقصودا بالإفهام ، إذ احتمال القرينة منفي على الفرض.

اذن ، فعدم كون من الإقرار في حقه مقصودا بالإفهام يختلف عن

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٨١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١٦

سائر موارد عدم قصد التفهيم ، فلا يكون التمسك بالظواهر في موارد الإقرارات منافيا لعدم حجية الظاهر في سائر الموارد التي يتأتى فيها احتمال وجود القرينة الخفية الّذي لا يمكن دفعه كما عرفت بيانه.

وبعبارة أخرى : ان الملاك الّذي أنكرنا به حجية الظاهر لغير المقصود بالإفهام لا يعم صورة الإقرار. وهذا لا يقتضي إنكار التفصيل بالمرة.

وعليه ، فالتفصيل متين كما عرفت. إلاّ ان الغرض منه ـ وهو إنكار حجية ظواهر الاخبار بالنسبة إلينا لعدم كوننا مقصودين بالإفهام ، بناء على اختصاص الخطابات بالمشافهين ـ لا يترتب عليه ، لما تقدم من تقريب حجية ظاهر خبر الواسطة عند مناقشتنا للشيخ في توجيهه التفصيل المذكور. فلاحظ.

هذا كله فيما يرتبط بما ذهب إليه المحقق القمي رحمه‌الله.

واما ما ذهب إليه جمهور الأخباريين من عدم حجية ظواهر الكتاب ، فقد ذكر له في الكفاية وجوها خمسة :

الأول : ما ورد من النصوص الدالة على ان القرآن لا يعرفه إلاّ أهله ومن خوطب به ، وهم النبي والأئمة ( عليهم أفضل الصلاة والسلام ) (١).

الثاني : ان القرآن يحتوي على مطالب عالية شامخة ومضامين غامضة ، فلا يستطيع ان يفهمه كل أحد ، فان فيه علم كل شيء. ولا يستطيع كل أحد ان يصل بفكره إلى ما اشتمل عليه القرآن.

الثالث : ان الظاهر من المتشابه الممنوع عن اتباعه ، ولا أقل من احتمال ذلك ، فانه يكفي في منع العمل بالظاهر.

الرابع : انه وان لم يكن من المتشابه ذاتا ، لكنه منه عرضا للعلم الإجمالي بطرو التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره. وعليه فلا يمكن

__________________

(١) الروضة من الكافي ـ ٣١١ ، الحديث : ٤٨٥.

٢١٧

إجراء أصالة الظهور في كل واحد من ظواهره لحصول المعارضة.

الخامس : ان حمل الكلام على ظاهره تفسير للقرآن بالرأي ، وهو منهي عنه في النصوص الكثيرة.

وهذه الوجوه مردودة.

اما الأول : فلأنه لم يعلم ان المراد من القرآن كل آية منه بنحو العموم الاستغراقي ، بل يمكن ان يراد منه مجموع آيات القرآن وتمامها ، فلا دلالة له على عدم حجية الظواهر منه وعدم معرفتها لغيرهم عليهم‌السلام ، ولو سلم انه ظاهر في نفسه في إرادة كل آية والجميع لا المجموع ، فلا بد من حمله على المجموع في هذه النصوص جمعا بينها وبين ما ورد من النصوص المتضمنة للإرجاع إلى كتاب الله تعالى والاستدلال ببعض آياته (١) ، مما يكشف عن حجية الظاهر منه لغيرهم عليهم‌السلام ، وإلاّ فلا معنى للإرجاع إليه ولا الاستدلال به.

واما الثاني : فلأنه لا يحتوي على المضامين العالية بتمام آياته ، بل في بعضها ، فلا ينافي غموضها حجية غيرها من الظواهر التي لا غموض فيها ولا لبس في دلالتها.

واما الثالث : فلان الظاهر ليس من المتشابه ، لأن الظاهر هو ما يتضح معناه ، وهو خلاف المتشابه الخفي معناه.

واما الرابع : فلأنه وان علم إجمالا بطرو ما يخالف الظاهر من مخصص وغيره ، لكنه يعلم انه لو تفحص عنه لعثر به وظفر ، فمع الفحص عما يخالف ظاهر ما وعدم وجدانه يعلم بان ذلك الظاهر خارج عن دائرة المعلوم بالإجمال ، فلا مانع من الأخذ به.

واما الخامس : فلان الممنوع عنه هو التفسير بالرأي ، وحمل الكلام على

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ٢٩٠ باب : ٢٣ من أبواب الوضوء ، الحديث : ١.

٢١٨

ظاهره ليس تفسيرا ، لأن التفسير هو كشف القناع ، والظاهر لا قناع له ولا سترة ، ولو سلم انه تفسير فليس هو تفسيرا بالرأي ، إذ المراد بالرأي هو الاعتبار الظني الّذي لا اعتبار به ، كحمل اللفظ على غير معناه لرجحانه بنظره ، فلا يكون حمل الكلام على ظاهره تفسيرا بالرأي ، فلا يشمله المنع (١).

هذا تلخيص ما جاء في الكفاية من الرد على الوجوه المتقدمة مع بعض توضيح وبذلك يظهر انه لا مجال لدعوى الأخباريين ، بل ظواهر الكتاب حجة كغيرها.

نعم ، قد يتوقف من العمل بالظواهر الكتابية لشبهة أخرى غير ما ذكره الأخباريون ، وهي : دعوى العلم الإجمالي بوقوع التحريف في القرآن ، وهو يمنع من العمل بظواهر الكتاب للعلم بسقوط بعض ما له دخل في تغيير دلالة الظاهر.

والجواب عنها ـ كما في الكفاية ـ بان دعوى التحريف وان كانت غير بعيدة ، لكنها لا تستلزم المنع عن حجية ظواهر الكتاب ، لعدم العلم بكون التحريف موجبا للخلل فيها ، إذ التحريف أعم من ان يكون بإسقاط جملة مستقلة عن غيرها في المفاد ، أو بإسقاط ما يكون قرينة على إرادة خلاف الظاهر من غيرها. ولو سلم انه موجب للإخلال بالظاهر ، فلم يعلم انه واقع في آيات الأحكام ، وطرفيتها للعلم الإجمالي لا يجدي بعد ان لم تكن ظواهر غير آيات الأحكام حجة ، لخروجها عن محل الابتلاء والعمل ، فلا معنى لحجيتها لأن الحجية بلحاظ العمل ، فتكون أصالة الظهور في ظواهر الأحكام بلا معارض.

نعم ، لو كان الخلل المحتمل من القرائن المتصلة كان مخلا بالحجية ، لعدم انعقاد الظواهر مع احتمال القرينة المتصلة (٢).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٨٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٨٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١٩

هذا ، مع ما ذكره غير صاحب الكفاية من : ان تقرير الأئمة عليهم‌السلام للقرآن الّذي بأيدينا بالإرجاع إليه واستحباب القراءة فيه واحترامه وغير ذلك من أحكام القرآن الكثيرة يكفي في جواز العمل بظواهره ، سواء التزم بالتحريف أم لم يلتزم ، فاحتمال التحريف أو العلم به لا ينفع في منع حجية ظواهر القرآن بعد كل ما ذكر مما عرفت. فالتفت.

ثم ان الشيخ رحمه‌الله (١) ـ وتبعه صاحب الكفاية (٢) ـ تعرض في ذيل البحث عن حجية ظواهر الكتاب إلى تحقيق امر وهو : انه إذا اختلفت القراءة في الكتاب على وجهين مختلفين في المؤدى ، كالاختلاف في قراءة : ( يَطْهُرْنَ ) (٣) ـ من آية الحيض ـ في التشديد من التطهر والتخفيف من الطهر ، فان الظاهر على قراءة التشديد إرادة الاغتسال من حدث الحيض ، وعلى قراءة التخفيف إرادة النقاء من الدم وانقطاعه ، فيختلف المعنى باختلاف القراءتين ، فإذا قيل بتواتر القراءات كلها ـ كما هو المشهور ـ ، فهما بمنزلة آيتين تعارضتا ، فاما ان يمكن الجمع العرفي بينهما فهو ، وإلاّ فلا بد من التوقف والرجوع إلى مقتضى القواعد.

وإذا لم يلتزم بتواتر القراءات ، فان ثبت جواز الاستدلال بكل قراءة ـ كما ثبت بالإجماع جواز القراءة بكل قراءة ـ كان الحكم كما لو قيل بتواتر القراءات. وان لم يثبت جواز الاستدلال بكل قراءة كان الحكم هو التوقف والرجوع إلى القواعد ، لعدم ثبوت القرآن بأحدهما ، فيكون المراد مجهولا. وعلى تقدير جواز الاستدلال بكل قراءة بحيث تكون كل قراءة دليلا وحجة على القرآنية ، لا يلتزم باعمال قواعد الترجيح هاهنا ، لظهور دليلها في كون موضوعها

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٠ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٨٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٢.

٢٢٠