منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

الأخرى : في بيان ملازمة الإجزاء للتصويب وعدمها.

اما الكلام في الجهة الأولى ، فهو في مقامين :

المقام الأول : في بيان المجعول في باب الأمارات

. والوجوه المعروفة فيه أربعة : الأول : ما ينسب إلى الشيخ رحمه‌الله من كون المجعول هو المؤدى (١).

الثاني : ما ينسب إلى صاحب الكفاية رحمه‌الله من كون المجعول هو المنجزية والمعذرية (٢).

الثالث : ما اختاره المحقق النائيني رحمه‌الله وهو كون المجعول هو الطريقية (٣).

الرابع : ما قربه المحقق الأصفهاني رحمه‌الله من كون المجعول هو نفس الحجية (٤).

ولا بد من إيقاع الكلام في كل واحد من هذه الوجوه ليتميز ما يمكن اختياره منها.

ولا يخفى اختلاف هذه الوجوه بلحاظ الأثر العملي ، ويظهر ذلك في قيام الأمارة مقام القطع الطريقي والموضوعي بدليل واحد ، فانه غير ممكن بناء على جعل المؤدى ، وممكن بناء على غيره كما تقدم. كما يظهر في وجه تقدم الأمارات على الأصول وانه الحكومة أو الورود كما يأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.

اما جعل المنجزية فقد تقدم ما أورده عليه المحققان النائيني والأصفهاني

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٧ و ٤٠٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٠٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٤) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٤ ـ الطبعة الأولى.

١٨١

وتقدم دفعه (١).

وتحقيق الكلام فيه : ان المراد من المنجزية.

ان كان استحقاق العقاب الّذي هو من مدركات العقل لا الشارع بما هو شارع ، فهذا غير قابل للإثبات شرعا ، إذ إثباته اما ان يكون بنحو الاخبار ، أو يكون بنحو الإنشاء والاعتبار. والأول لا معنى له بعد حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.

والثاني غير ممكن لأن الاستحقاق امر عقلي لا جعلي فلا يصح جعله شرعا.

وان كان المراد نفس العقاب الّذي يرجع إلى جعل الوعد بالعقاب ، وهو امر إنشائي يقبل الجعل شرعا. ففيه : ان جعل الوعد ان كان على مخالفة الأمارة فهو مما لا يلتزم به ، وان كان على مخالفة الواقع فهو كسائر الأدلة الدالة على ثبوت العقاب على فعل شيء أو تركه لا يصلح للبيانية ، بل هو كسائر أدلة الأحكام متكفلة لبيان الحكم بجعل العقاب ، كقوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) (٢) ، فيكون دليل الأمارة دليلا آخر على ثبوت الحكم الواقعي ، وذلك لا ينافي عدم تنجزه في صورة الجهل بالواقع كما لا يتنافى عدم تنجزه مع أصل ثبوته بدليله.

ودعوى : ان المفروض ان مورد الأمارة هو صورة الجهل بالواقع ، فإثبات العقاب في هذا الحال يصلح البيانية.

مندفعة : بان اختصاص الأمارة بصورة الجهل انما يلتزم به فيما كان مفاد دليلها التعبد بشيء ، إذ يلغو التعبد مع العلم. وليس الأمر على هذا التقدير

__________________

(١) راجع ٤ ـ ١٤٨ من هذا الكتاب.

(٢) سورة النساء الآية : ٩٣

١٨٢

كذلك ، إذ مفادها جعل العقاب وهو لا مانع منه في صورة العلم.

وعليه ، فيكون الدليل مطلقا في حد نفسه ، ويقيد في صورة الجهل بحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، كما تقيد به آية : ( وَمَنْ يَقْتُلْ ... ) وغيرها مما كان لها إطلاق في حد نفسها يشمل صورة الجهل.

ونتيجة ما ذكرناه : ان جعل المنجزية مما لا محصل له. واما جعل الطريقية ، فقد يورد عليه : ان الطريقية من الأمور الواقعية لا الجعلية التعبدية ، وليست بذات أثر شرعي وانما يترتب عليها المنجزية وهي أثر عقلي ، فلا تقبل الجعل والاعتبار لا بلحاظ نفسها ولا بلحاظ أثرها.

ويندفع هذا الإيراد : بالالتزام بان المنجزية تترتب على الطريقية أعم من وجودها الواقعي والاعتباري ، فللشارع ان يعتبر الطريقية والوصول ويترتب عليها المنجزية عقلا.

وهذا الدفع يصطاد من كلمات المحقق النائيني قدس‌سره في موارد مختلفة (١).

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني رحمه‌الله : بان مقتضاه ان يكون الأثر العقلي مرتبا على الوصول الأعم من الوصول الحقيقي والاعتباري ، ومن الواضح ان ترتب الأثر على الوصول ليس بنحو ترتب الحكم الكلي على الموضوع الكلي من باب القضية الحقيقية كي يكون تحقيق الموضوع ولو اعتبارا موجبا لترتب الأثر عليه ، إذ ليس للعقلاء بناء في المقام بنحو القضية الحقيقية نظير الأحكام الشرعية ، بل الأثر بنحو مستفاد من بنائهم العملي الخارجي على المؤاخذة في مورد الوصول القطعي وخبر الثقة ، فمع عدم بناء العقلاء في مورد لا معنى لتحقيق الموضوع ، ومع بنائهم العملي كخبر الثقة لا احتياج إلى اعتباره

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم ـ أجود التقريرات ٢ ـ ٧٦ ـ الطبعة الأولى.

١٨٣

في ترتيب الأثر إلاّ بنحو الإمضاء (١).

هذا ما أفاده قدس‌سره ومحصله : ان ترتيب الأثر ان كان بنحو القضية الحقيقية ، كان لاعتبار الوصول أثر ، ولكن الأمر ليس كذلك. وان كان بنحو القضية الخارجية ، لم ينفع جعل الوصول في مورد عدم ثبوت اعتبارهم ، كما لا حاجة إلى جعله في مورد ثبوت اعتبارهم.

ونجيب عن هذا الإيراد : بالنقض بكثير من موارد الاعتبارات الشرعية التي يقصد بها ترتيب الآثار العقلائية. كالأمر ، فان اعتباره لأجل ترتب الأثر العقلائي عليه ، وهو لزوم الإطاعة ، مع ان الترديد المزبور يتأتى فيه حذو القذة بالقذة وكاعتبار الملكية من الشارع وبلحاظ ترتب الآثار العقلائية عليها.

وحل المشكلة في الجميع : هو تصور شق ثالث في بناء العقلاء ، فليس هو بنحو القضية الحقيقية ، ولا بنحو القضية الخارجية التحقيقية ، بل بنحو القضية الخارجية التعليقية ، بمعنى ان العقلاء يبنون على ترتيب الآثار عند تحقق الاعتبار ، فليس لديهم حكم كلي فعلا ، بل يثبت حكمهم إذا تحقق أحد الافراد ، وهذا يصحح الاعتبار ، فكما ان العقلاء يرتبون آثار الملكية عند اعتبارها ممن بيده الاعتبار ، ويرتبون آثار الأمر عند اعتباره ممن بيده الاعتبار أيضا كالمولى ، كذلك يمكن ان يلتزم بأنهم يرتبون آثار الوصول عند اعتباره ممن بيده الاعتبار.

وبالجملة : لم يظهر لنا وجه الفرق بين ما نحن فيه وسائر موارد الاعتبارات. نعم الّذي ينبغي ان يوقع الكلام فيه هو نقطة واحدة ، وهي ان الأثر العقلائي هل يترتب على خصوص الوجود الحقيقي للوصول أو على الأعم منه ومن الوصول الاعتباري؟ فعلى الأول لا ينفع اعتبار الوصول. وعلى الثاني يجدي.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٤ ـ الطبعة الأولى.

١٨٤

ومن هنا يظهر أن جعل الطريقية ـ بناء على كون الأثر مترتبا على مطلق الوصول الحقيقي والاعتباري ـ مما لا محذور فيه ثبوتا.

واما إثباتا. فان لم يتصور وجه معقول غيره تعين الالتزام به ، وإلاّ فيحتاج تعيينه إلى دليل ، وسيجيء الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.

واما جعل الحجية ، فقد قرّبه المحقق الأصفهاني رحمه‌الله ، ببيان إليك نصه : « واما الثالث ، وهو اعتبار نفس معنى الحجية. فتوضيح القول فيه : ان الحجية مفهوما ليست الا كون الشيء بحيث يصح الاحتجاج به ، وهذه الحيثية تارة تكون ذاتية غير جعلية ، كما في القطع ، فانّه في نفسه بحيث يصحّ به الاحتجاج للمولى على عبده. وأخرى تكون جعلية ، اما انتزاعية كحجية الظاهر عند العرف وحجية خبر الثقة عند العقلاء ، فانه بملاحظة بنائهم العملي على اتباع الظاهر وخبر الثقة والاحتجاج بهما يصح انتزاع هذه الحيثية من الظاهر والخبر. واما اعتبارية كقوله عليه‌السلام : « حجتي عليكم وانا حجة الله » ، فانه جعل الحجية بالاعتبار. والوجه في تقديم هذا الوجه على سائر الوجوه مع موافقته لمفهوم الحجية ، فلا داعي إلى اعتبار امر آخر غير هذا المفهوم هو : ان المولى إذا كانت الحجية ، فلا داعي إلى اعتبار امر آخر غير هذا المفهوم هو : ان المولى إذا كانت له أغراض واقعية وعلى طبقها أحكام مولوية وكان إيكال الأمر إلى علوم العبيد موجبا لفوات أغراضه الواقعية اما لقلة علومهم أو لكثرة خطائهم ، وكان إيجاب الاحتياط تصعيبا للأمر منافيا للحكمة ، وكان خبر الثقة غالب المطابقة ، فلا محالة يعتبر الخبر بحيث يصح الاحتجاج به ، وكل تكليف قام عليه ما يصح الاحتجاج به اعتبارا من المولى كان مخالفته خروجا عن زي الرقية ورسم العبودية ، وهو ظلم على المولى والظلم مما يذم عليه فاعله. ولا حاجة بعد تلك المقدمات إلى اعتبار الخبر وصولا وإحرازا ، إذ لو لم تكن تلك المقدمات لم يجد اعتبار الوصول » (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٤ ـ الطبعة الأولى.

١٨٥

وكلامه هذا لا يخلو عن مناقشات من جهات.

الأولى : ما ذكره من ان حجية القطع ذاتية. فانه ينافي ما تقدم منه من انها ببناء العقلاء واعتبارهم.

الثانية : ما ذكره من ان حجية الظاهر جعلية انتزاعية. فانه انما يتم لو كان بناؤهم رأسا على نفس الاحتجاج كي يقال انه ينتزع منه كون الشيء بنحو يصح الاحتجاج فيه الّذي هو معنى الحجية ، وليس الأمر كذلك ، بل ليس بناؤهم الا على صحة الاحتجاج وانه للمولى الاحتجاج بالظاهر على العبد ، فمفهوم الحجية ـ وهو كون الشيء بنحو يصح الاحتجاج به ـ مجعول بنفسه في باب الظواهر.

الثالثة : ان حجية الظاهر لدى العقلاء وهكذا خبر الثقة في قضاياهم العقلائية ـ في الغالب ـ من باب الاطمئنان وحصول الجزم بالمراد بحيث لا يتأتى في أذهانهم احتمال الخلاف أو لا يرونه عقلائيا. فإذا أخبرنا الثقة بمجيء زيد في مقام يكون بيان مراد ، فقال : « جاء زيد » لا نرى ان مقصوده من كلامه سوى مجيء زيد ويحصل لنا الجزم بمراده من دون التفات إلى جعل حجية الظاهر ونحو ذلك. كما اننا نجزم بمجيء زيد من طريق اخباره ويحصل لنا الاطمئنان بذلك.

والّذي نراه في حجية الاطمئنان انها على حد حجية العلم القطعي ، بمعنى ان الملاك الّذي يتبع به العقل أو العقلاء القطع بعينه هو الملاك الّذي يتبع به الاطمئنان.

نعم يختلف الاطمئنان عن القطع في جواز ردع الشارع عنه لانحفاظ مرتبة الحكم الظاهري معه : فلا يلزم التناقض اللازم في ردعه عن العمل بالقطع.

وبالجملة : فلا نرى فرقا ظاهرا بين حجية الظاهر وحجية القطع في مقام لزوم الاتباع والجري على طبقه.

الرابعة : ان مفهوم الحجية مساوق للمنجّزية والمعذرية ، إذ معنى الحجية

١٨٦

يرجع إلى استحقاق المؤاخذة وعدم استحقاقها فانه ليس لدينا مقامان : مقام الرد والبدل ، ومقام إثبات استحقاق المؤاخذة ، بل لدينا مقام واحد وهو مقام إثبات استحقاق العقاب ، ومعنى الحجية مساوق لذلك ، فان معنى صحة الاحتجاج يرجع إلى صحة المؤاخذة. وعليه فما يرد على جعل المنجزية يرد على جعل الحجية.

الخامسة : ما ذكره من الدليل الإثباتي على كون المجعول هو الحجية. فانه غير واضح النتيجة ، فانه إذا فرضنا ان جعل الطريقية أو غيرها ممكن ثبوتا فلا مرجح بعد طي المقدمات المذكورة في كلامه لكون المجعول هو الحجية ، بل يكون كل من هذه الاحتمالات ممكنا.

نعم لو فرض منع غير احتمال الحجية ثبوتا كان احتماله متعينا ـ لو فرض إمكانه ـ ، ولكن ذلك يخرج عن طور الاستدلال وتقريب بعض الاحتمالات دون بعض فالتفت.

واما جعل المؤدى ، فلا محذور فيه الا ما تخيله المحقق النائيني من : ان الأحكام الواقعية فعلية ، فلا يمكن اجتماع الحكمين الواقعي والظاهري (١).

ولكن عرفت سابقا نفي ذلك وبيان ان الحكم الواقعي إنشائي فلا يمتنع جعل المؤدى.

هذا كله في مقام الثبوت.

اما مقام الإثبات ، فالبحث فيه يقع لو فرض تعدد المحتملات الثبوتية.

واما لو فرض انحصارها في واحد فهو المتعين إثباتا.

وعلى كل ، فنحن نوقع البحث مع التنزل عن الإشكالات الثبوتية في غير احتمال جعل المؤدى من الاحتمالات.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٠٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٨٧

وقد يستدل على جعل الطريقية : بان الأمارات الشرعية إمضائية وليست مجعولة بالاستقلال والعقلاء يرون خبر الثقة ـ مثلا ـ طريقا ، فلا بد ان يكون المجعول الشرعي ذلك أيضا.

كما قد يستدل عليه بقوله عليه‌السلام : « العمري وابنه ثقتان فما أديا عني فعني يؤديان » (١). وبقوله عليه‌السلام : « لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقات شيعتنا » (٢). فان نفي التشكيك يرجع إلى جعل العلم والوصول.

وفي جميع ذلك نظر ..

اما دعوى بناء العقلاء على الطريقية. فيدفعها : ان الرؤية لها معنيان : أحدهم : الانكشاف والعلم. والآخر : البناء العملي والاعتبار.

والعقلاء يرون خبر الثقة طريقا بالمعنى الأول للرؤية ، إذ يحصل لهم الاطمئنان بخبر الثقة والظواهر غالبا على ما عرفت ، لا بمعنى انهم يعتبرون طريقيتها ويبنون عليها مع عدم ثبوتها واقعا.

وعليه : فلا يقاس عليه ما لا طريقية له بنظر العقلاء ولا يحصل به الاطمئنان كخبر الثقة في الأحكام بالنسبة إلينا لتعدد الوسائط وبعد الزمن وعدم الاطمئنان بتوثيق رجال السند ، وانما يعمل به من باب قيام البينة على الوثاقة.

وبالجملة : لم يثبت اعتبار الطريقية من العقلاء. وانما الثابت ثبوت الطريقية الواقعية لبعض الأمارات وهي غير متحققة لدينا فتدبر.

واما الرواية الأولى ، فلا دلالة لها على جعل الطريقية ، بل هي ظاهرة في

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٠٠ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤.

(٢) وسائل الشيعة ١٨ ـ ١٠٨ باب : ١١ من أبواب صفات القاضي ، الحديث : ٤٠.

١٨٨

جعل المؤدى ، وان ما يؤديه العمري وابنه الحكم الواقعي الّذي قاله الإمام عليه‌السلام.

واما الرواية الثانية ، فهي ظاهرة في جعل المنجزية ، إذ المراد من التشكيك المنفي هو التشكيك العملي ، يعني ان يصير عمله عمل الشاك ، إذ الشك حاصل قهرا وقطعا.

والّذي يقرب في الذهن ، هو كون المجعول هو المؤدى دون غيره من المحتملات. وذلك لأنه من المسلمات القطعية بين العلماء جميعا هو ان قيام الأمارة يصحح نسبة مؤدّاها إلى الله سبحانه ، كما يصحح الإتيان بمؤداها بداعي الأمر الإلهي ، وهذا لا يتلاءم الا مع جعل المؤدى شرعا ، إذ جعل المنجزية أو الحجية لا يثبت الحكم الواقعي بنحو من الأنحاء كي يصح نسبته إلى المولى أو الإتيان بمؤداها بداع الأمر. مع ان المجتهد يفتي بمضمون الأمارة.

واما جعل الطريقية ، فهو لا يجدي أيضا في صحة الاستناد والإسناد. وان كان قد يتخيل ذلك بتوهم : ان الجاعل يعتبر وصول الحكم فيصح اسناده. لكن الاستناد من الآثار العقلية الواقعية للوصول الواقعي للحكم ، فلا ينفع اعتبار الوصول في إخراجه عن التشريع.

ويشهد لذلك ان العقلاء إذا قامت لديهم أمارة على امر من أمورهم ، ولم يكن اتباعها من باب الاطمئنان وانكشاف الواقع ، بل كان من باب الاعتبار والتعبد ، لا يمكنهم اسناد مؤدى الأمارة إلى المتكلم واقعا ، إذ لا معنى لجعل المؤدى لدى العقلاء ، فالمجعول هو الطريقية أو غيرها ، وهو لا يصحح نسبة المؤدى واقعا إلى المتكلم ، فليس للمخاطب ان يقول مراد المتكلم واقعا كذا.

وإذا ثبت ذلك يثبت ما ذكرناه من ان المجعول هو المؤدى دون غيره ، فانه يصح اسناده إلى المولى في مقام الفتوى والعمل.

ولا يمكننا التنزل عن صحة الإسناد والاستناد ، فانه من المرتكزات

١٨٩

الشرعية والمسلمات الفقهية ، ولو أراد أحد ان يوجه فتوى المجتهد بأنه يريد في فتواه بيان الوظيفة الظاهرية أعم من الوجوب العقلي أو الشرعي ـ مثلا ـ ، لا بيان الحكم الشرعي الواقعي. فلا يستطيع توجيه صحة الإتيان بالعمل بداعي الأمر وتحقق العبادية به إلاّ بفرض المجعول هو المؤدى. فتدبر والتفت.

المقام الثاني : في بيان المجعول في الاستصحاب. والاحتمالات فيه ثلاثة :

الأول : ما اختاره الشيخ والمحقق الخراسانيّ ، وهو كون المجعول فيه هو المتيقن لا نفس اليقين (١).

الثاني : ان المجعول هو اليقين بلحاظ طريقيته وكاشفيته عن الواقع.

الثالث : ان المجعول اليقين ، لكن لا من جهة الطريقية بل بلحاظ الجري العملي. وهو اختيار المحقق النائيني ورتب عليه تقدم الأمارات على الاستصحاب ، باعتبار ان المجعول فيها جهة الطريقية وهي متقدمة على جهة الجري العملي.

وقد أوضح ذلك ببيان ما في القطع من جهات فراجع كلامه (٢).

وقد يورد على هذا الاختيار ـ أعني : الأخير ـ بأنه ممتنع ثبوتا ، لأن المراد به ان المجعول نفي الجري العملي ، يعني يقع التعبد بكون المكلف جرى عملا على طبق التكليف ، فهو لا يرتبط بمفاد الاستصحاب ، إذ المقصود بالاستصحاب إثبات التكليف أو نفيه كي يتحقق العمل أو لا يتحقق.

نعم مثل ذلك يتناسب مع قاعدة الفراغ مما فرض في موردها ثبوت تكليف ، وانما الشك في تحقق امتثال ، فيقال انها تتكفل التعبد بالامتثال والجري

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣٦ ـ الطبعة الأولى.

الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول ـ ٣٩٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٥ ـ ١٨ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٩٠

العملي على طبق التكليف المفروض. لا في مثل موارد الاستصحاب مما يشك في أصل التكليف فلا معنى للتعبد بالجري العملي.

هذا مع ان لازمه عدم حركة المكلف نحو العمل ، إذ مفاده تحقق العمل منه. فلاحظ.

وان كان المراد ان المجعول اليقين ولكن بلحاظ الجري العملي ـ الّذي هو ظاهر الكلام ـ ، فمن الواضح ان الجري العملي انما يتفرع عن انكشاف الواقع بواسطة اليقين فيرجع الجعل إلى جعل الكاشفية والطريقية التي هي منشأ الجري العملي.

ويمكن الجواب (١) عن هذا الإيراد : بتصور شق ثالث ، وهو كون المجعول اليقين بلحاظ منشئيته للجري العملي.

وبيان ذلك : ان اليقين كما تكون فيه جهة الطريقية والانكشاف تكون فيه جهة منشئية للعمل والجري نحو المتيقن ، إذ ترتب العمل على اليقين أمر لا إشكال فيه ، كيف؟ وقد قيل ان ما يؤثر في الإرادة هو الوجود العملي للشيء لا الوجود الحقيقي. فهو كالنار بالنسبة إلى الإحراق ، فانها تشتمل على خصوصية في ذاتها تكون بها منشأ لترتب الإحراق عليها ، فتكون فيها جهتان.

وعليه ، فيمكن ان يدعى ان المجعول هو منشئيته للجري العملي ، وهي خصوصية واقعية يكون اعتبارها موردا للآثار العقلائية ولا محذور فيه.

ولو دار الأمر بين هذا الوجه وسابقه ـ أعني : جعل الطريقية ـ ، فهذا هو المتعين لما فيه من الجمع بين جعل اليقين وفرض المكلف شاكا المستفاد من أدلة الاستصحاب ، فان ظاهرها فرض المكلف شاكا وان الواقع مستور عنه ، وهذا لا يتناسب مع جعل الطريقية وانكشاف الواقع ، إذ لا معنى للتعبد بان المكلف

__________________

[١] هذا من مختصات هذه الدورة ( منه عفي عنه ).

١٩١

منكشف لديه الواقع وهو شاك متردد.

ولعل هذا البيان هو الّذي دعا المحقق النائيني إلى اختياره.

ولكن التحقيق : ان النوبة لا تصل إلى دوران الأمر بين هذين الوجهين ، بل الظاهر من الأدلة كون المجعول هو المتيقن ان كان المستصحب حكما ، وحكمه ان كان موضوعا كما عليه الشيخ وصاحب الكفاية ( قدس الله سرهما ) (١). ويشهد لذلك.

مضافا إلى التردد في ترتب الأثر العقلائي على اليقين الاعتباري واحتمال اختصاصه بالوصول الحقيقي.

وإلى ان جواز الإسناد والاستناد لا يترتب على جعل اليقين بكلا نحويه ، كما هو واضح خصوصا على النحو الثاني ، مع فرض ان ترتبهما على الاستصحاب من المسلمات الفقهية والمرتكزات عند المتشرعة كترتيبهما على الأمارات.

مضافا إلى هذين الأمرين ، مفاد دليل الاستصحاب نفسه ، وبيان ذلك : ان ما يتكفل عدم نقض اليقين بالشك من أدلة الاستصحاب بلسان الإنشاء (٢) لا يمكن ان يراد به النهي عن النقض الحقيقي لليقين ولا المتيقن ، إذ اليقين المفروض هو اليقين بالحدوث وهو ثابت لا انتقاض له ، وبلحاظ البقاء منتقض حقيقة لفرض حصول الشك فلا معنى للنهي عن عدم نقضه.

واما المتيقن فان كان حكما ، فهو من افعال المولى الاختيارية وليس هو

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٣٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) تخصيص الكلام بما كان لسانه الإنشاء من جهة ان ما يكون لسانه الإخبار لا يتردد بين احتمالين ، لتوجه النقض إلى نفس اليقين. بخلاف الإنشاء ، فانه حيث يمتنع حمله على ظاهره ، وانما يكون كفاية عن الإبقاء العملي ، وهو أعم من إبقاء المتيقن أو نفس اليقين. كان للتردد بين الاحتمالين فيه مجال واسع.

هكذا أفاد سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) في بيان ذلك فافهم. ( منه عفي عنه ).

١٩٢

تحت اختيار المكلف ، وهكذا إذا كان موضوعا في بعض صوره.

وعليه : فلا بد ان يراد من النهي عن النقض هو النهي عن النقض عملا ، بمعنى انه يجب عليه ان يبقى على عمله السابق (١) ولا يخفى ان الإبقاء العملي لازم لأمرين : اليقين بالحكم ونفس الحكم.

وعليه ، فيصلح الدليل للتعبد ببقاء اليقين وببقاء المتيقن بنحو الاستعمال الكنائي ، بان يستعمل في اللازم ويراد به الملزوم ، فيستعمل في النهي عن النقض العملي لليقين ويقصد به التعبد ببقاء اليقين أو المتيقن. وإذا ثبت صلاحية الدليل لبيان كلا الاحتمالين فالمتعين ان يراد به التعبد ببقاء المتيقن لوجهين :

الأول : ان المسئول عنه في صحيحة زرارة أولا هو وجوب الوضوء بالخفقة والخفقتين ، فنفاه الإمام عليه‌السلام ، ثم سئل عليه‌السلام عن وجوبه في مورد الشك في تحقق النوم ، فنفاه أيضا وطبّق فيه قاعدة الاستصحاب ، فالمنفي في كلام الإمام عليه‌السلام هو نفس الحكم المسئول عنه وهو وجوب الوضوء أو ارتفاع الطهارة ، لوحدة المسئول عنه في الشبهة الموضوعية مع المسئول عنه في الشبهة الحكمية ، لو السؤال في الشبهة الحكمية عن الحكم ـ كما عرفت ـ.

وعليه ، فتطبيق الاستصحاب في مورد بيان عدم انتقاض الطهارة ووجوب الوضوء يكشف عن ان المجعول نفس المتيقن السابق ، فقوله عليه‌السلام : « لا » في جواب السائل في قوله : « فان حرك في جنبه ... » يراد به عدم وجوب الوضوء. وذلك لا يعني إلاّ جعل المتيقن لا اليقين ، إذ جعل اليقين لا يرجع إلى نفي الوجوب شرعا.

الثاني : ان الطهارة الحدثية شرط للصلاة بوجودها الواقعي لا بوجودها العلمي ، فجعل اليقين بها لا ينفع في ترتب أثرها عليها من الدّخول في الصّلاة

__________________

[١] سيأتي منه ( دام ظله ) مناقشة هذا البيان في باب الاستصحاب ( منه عفي عنه ).

١٩٣

وغيره ، وانما المجدي هو التعبد ببقائها بنفسها ، فتطبيق الاستصحاب في مورد إثبات الطهارة بقاء يرجع إلى كون المجعول فيه هو المتيقن لا اليقين ، وإلاّ لم ينفع في إثبات وجود الطهارة بعنوان الواقع فلا تترتب عليها آثارها مع كون المقصود من الاستصحاب ترتيب الآثار على المستصحب.

هذا ما لدينا الآن في بيان المجعول في الاستصحاب ، وسيجيء إن شاء الله تعالى في مبحث الاستصحاب ما له نفع في المقام والله سبحانه ولي التوفيق.

واما المجعول في سائر موارد الأصول العملية ، فليس فيه مزيد بحث وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في محله.

واما الكلام في الجهة الثانية ، فهو في ناحيتين :

إحداهما : في بيان مراد الشيخ من قوله قدس‌سره : « واما على القول باقتضائه له ـ يعني : الاجزاء ـ فقد يشكل الفرق بينه وبين القول بالتصويب ... » (١).

الأخرى : في بيان أصل المسألة وهي ان الاجزاء هل يلازم التصويب أم لا؟.

اما مراد الشيخ قدس‌سره ، فيتضح في انه بعد ان اختار المصلحة السلوكية وانها لا تكون إلاّ بمقدار ما يفوت من الواقع ، فلو انكشف الخلاف في أثناء الوقت فالمصلحة السلوكية بمقدار ما فات من مصلحة أول الوقت دون أصل العمل للتمكن من تداركه ، وهكذا. وبعد بيان ان غير ذلك مستلزم للقول بالتصويب. ومن الواضح ان الالتزام بالمصلحة السلوكية بالنحو الّذي بينه لا يلازم الاجزاء ، فلو قيل بالاجزاء أشكل الفرق بينه وبين التصويب ، إذ القول به يرجع إلى الالتزام بالمصلحة بنحو غير ما اختاره ، وقد عرفت ان غير هذا

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٩ ـ الطبعة الأولى.

١٩٤

النحو يرجع إلى الالتزام بالتصويب. فالتفت.

واما أصل المسألة. فتحقيق الكلام فيها :

انه ان التزم بما التزم به صاحب الكفاية من : ان الحكم الواقعي الّذي يشترك فيه العالم والجاهل هو الحكم الإنشائي دون الحكم الفعلي ، وان الحكم الواقعي عند قيام الأمارة على خلافه إنشائي (١). فلا يلازم القول بالإجزاء وسقوط الواقع بالإتيان بمؤدى الأمارة الالتزام بالتصويب لعدم منافاة ذلك مع القول بكون الحكم الواقعي إنشائيا حين قيام الأمارة ، فلا تصويب.

وان التزم ، بما التزم به المحقق النائيني من : ان الحكم الواقعي المشترك بين العالم والجاهل هو الحكم الفعلي (٢) ، كان القول بالإجزاء ملازما للقول بالتصويب ، لأن القول بالإجزاء يلازم الالتزام بعدم فعلية الواقع في حق من قامت عنده الأمارة وهو عين التصويب ، بيان ذلك : ان الحكم الفعلي انما يصح في مورد يكون مؤثرا في الانبعاث أو يكون له قابلية الوصول إلى هذه المرحلة ، اما مع عدم قابلية الحكم للتأثير في حال من الأحوال فيمتنع ان يكون فعليا.

والأمر بناء على الإجزاء كذلك ، وذلك لأنه عند قيام الأمارة على الخلاف وقبل انكشاف الخلاف لا يصلح الحكم الواقعي للتأثير ، وبعد انكشاف الخلاف يلتزم بالإجزاء وسقوط الواقع لو كان ، ففي أي حال يكون الحكم الواقعي قابلا للتأثير كي يصح جعله.

وعليه ، فلا يكون فعليا فيلزم التصويب.

هذا تمام الكلام في مبحث إمكان التعبد بالظن وذيوله. والحمد لله أولا وآخرا.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم كفاية الأصول ـ ٢٧٨ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي فوائد الأصول ٣ ـ ١٠٣ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٩٥

الجهة الثالثة من جهات مباحث الأمارات.

في تأسيس الأصل عند الشك في حجية ظن وأمارة.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى ان الأصل عدم الحجية. ببيان : ان آثار الحجية انما تترتب على الاعتبار بوجوده العلمي ، فمع الشك في الاعتبار يقطع بعدم ترتب الآثار على المشكوك للقطع بعدم الموضوع.

اما انحصار ترتب آثار الحجة على الحجة المعلومة ، فلأنه بدون العلم باعتبار الأمارة لا يتنجز بها التكليف عقلا ، فلا يصح للمولى العقاب استنادا إليها كما لا تكون معذرة للعبد.

وبالجملة : الّذي يراه صاحب الكفاية ان الشك في التعبد بالظن يلازم القطع بعدم حجيته ، بمعنى عدم ترتيب الآثار المرغوبة من الحجة عليه. هذا خلاصة ما ذكره في الكفاية في هذا المقام (١).

وقد استدل الشيخ رحمه‌الله على نفي حجية المشكوك بما دل على عدم جواز الاستناد والإسناد مع عدم العلم (٢).

وناقشه صاحب الكفاية : بان جواز الاستناد والإسناد ليس من آثار الحجية ، بل بينهما عموم من وجه ، فقد تثبت الحجية ولا يجوز الاستناد كموارد الظن الانسدادي بناء على حجيته عقلا على تقرير الحكومة ، كما انه لو فرض صحة الاستناد مع الشك شرعا لم يثبت به حجية الظن (٣).

والّذي يرتبط من كلام الكفاية بكلام الشيخ هو الشق الأول. اما الثاني فهو توسع في الحديث والبحث ، وإلاّ فهو لا ينفي كلام الشيخ ، إذ عدم ثبوت

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠ و ٣١ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٨٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٦

الحجية مع جواز الاستناد لا ينفي استفادة عدم الحجية من عدم جواز الاستناد ، إذ من الممكن ان يكون جواز الاستناد لازما أعم للحجية وغيرها ، فإثباته لا يثبت الحجية بخلاف نفيه فانه ينفي الحجية.

وعليه ، فنقطة مناقشة الكفاية مع الشيخ رحمه‌الله في الشق الأول ، وهو يتكفل ببيان أمرين :

أحدهما : كلية ان عدم الاستناد لا يلازم عدم الحجية.

الآخر : تطبيق هذه الكلية على مورد الظن الانسدادي بناء على الحكومة.

وقد ناقشه المحقق النائيني في كلتا الجهتين :

اما الثانية : فببيان ان مرجع حجية الظن على الحكومة ليس جعل الظن حجة من قبل العقل. بل حقيقة ذلك هي حكمه بجواز الاكتفاء في امتثال التكاليف المعلومة بالظن ، وهذا ليس من الحجية في شيء ، فان الحجة تقع في طريق إثبات التكليف والظن بناء على هذا الالتزام يقع في طريق إسقاطه.

واما الأولى : فببيان ان معنى حجية الأمارة كونها وسطا في إثبات متعلقها.

فتكون كالعلم. وعليه فيترتب عليها جواز الاستناد كما يترتب على العلم ، فجواز الاستناد من لوازم الحجية ، فانتفاؤه يكشف عن انتفاء الحجية (١).

أقول : إننا نسأل المحقق النائيني رحمه‌الله ونقول له : ان جواز الاستناد الّذي فرضه من آثار الحجية هل يترتب على الوجود الواقعي للحجية ـ فانه فرض للحجة ثبوتا واقعيا يتعلق به العلم والجعل ـ. أم انه يترتب على الوجود الواصل لها؟. لا يمكنه الالتزام بالأول فانه خلاف الوجدان ، فانه لا يصح اسناد الحكم إلى المولى مع عدم العلم بالوجود الواقعي للحجة ، وخلاف ما التزم به من ان التشريع حرام ، وهو لا يحصل مع عدم العلم سواء كان الحكم

__________________

(١) بالكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٢٢ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٩٧

ثابتا واقعا أم لا ، فان حكم العقل بقبح التشريع موضوعي لا طريقي. والالتزام بالثاني لا ينفعه ، إذ الفرض عدم الوصول فيما نحن فيه ، فيترتب عدم جواز الاستناد والإسناد ، لكن لا ينفع في نفي الحجية الواقعية الّذي حاول الشيخ وتابعة هو قدس‌سره لنفيها بنفي جواز الاستناد.

وعلى كل فيقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : في ان الشك في الحجية هل يلازم القطع بعدم حجيتها أو لا؟.

وقد عرفت ان صاحب الكفاية ذهب إلى ذلك ، فنفي الحجية جزما عند الشك في ثبوتها ، لأن آثار الحجية لا تترتب الا على الحجة الواصلة ، فمع الشك لا وصول فلا أثر.

ووافقه المحقق النائيني في هذا المدعى لكنه ذكر انه ليس المراد أخذ العلم بالحجية في موضوعها بحيث لا تكون حجة واقعا مع عدم العلم بها ، فانه واضح الفساد ، إذ الحجية كغيرها من الأحكام الوضعيّة والتكليفية لا يدور وجودها الواقعي مدار العلم بها ، بل المراد عدم ترتب آثار الحجية عليها من المنجزية والمعذرية لكونهما منوطتين بالعلم أو ما يقوم مقامه (١).

أقول : إذا لم يكن للحجية أي أثر في حال الشك فيها ، وكانت آثارها منوطة بالعلم بها ، فأي وجه يوجب جعل الحجية واقعا؟ ، مع ان الحكم الوضعي انما يجعل بلحاظ ما يترتب عليه من الآثار.

وتحقيق الكلام : هو ان ما قيل من ان الشك في الحجية يلازم القطع بعدم الحجية مسلم في الجملة لا مطلقا. بيان ذلك : ان الحجية المشكوكة قد تكون في معرض الوصول إليها بالفحص أو بغيره ، ففي مثل ذلك تكون منجزة بوجودها

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٢٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٩٨

الواقعي ، بمعنى ان المكلف لو ترك العمل على طبقها ولم يفحص عنها ثم تبين مطابقتها للواقع لم يكن معذورا وكان للمولى عقابه ، وليس للمكلف ترك العمل استنادا إلى ان الشك بها يلازم القطع بعدمها.

نعم ، إذ لم تكن في معرض الوصول لم تترتب على وجودها الواقعي المنجزية ، إذ ليس للمولى المؤاخذة بلحاظ وجودها الواقعي. ففي مثل ذلك يكون الشك فيها ملازما لعدم حجيتها.

فالنتيجة : ان الحق هو التفصيل بين ما إذا كانت الحجة المشكوكة في معرض الوصول فلا يلازم الشك فيها القطع بعدم حجيتها ، فلا بد من الفحص عنها ، وان لم تكن في معرض الوصول فالشك فيها يلازم القطع بعدمها لما عرفت من عدم ترتب آثارها عليها في حال الشك.

الجهة الثانية : في انه هل يمكن إجراء استصحاب عدم حجية ما شك في حجيته أو لا؟.

وقد استشكل فيه الشيخ رحمه‌الله (١) ، وتابعة عليه المحقق النائيني قدس‌سره (٢). وخلاصة الوجه المستفاد من كلامهما : ان عدم المنجزية بما انه مترتب على مجرد الشك في الحجية ، فإجراء الاستصحاب بلحاظه يكون من باب تحصيل الحاصل ، بل ذكر المحقق النائيني : انه أردأ من تحصيل الحاصل فان تحصيل الحاصل انما هو فيما إذا كان المحصل والحاصل من سنخ واحد كلاهما وجدانيان أو تعبديان ، وفي المقام يلزم إحراز ما هو محرز بالوجدان بالتعبد ، إذ عدم المنجزية وجداني فلا معنى لإحرازه بواسطة التعبد.

ثم ان هذا المطلب ـ أعني : عدم جريان الاستصحاب ـ يبحث فيه في

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٢٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٩٩

موردين آخرين : أحدهما : مورد قاعدة الاشتغال ، فيبحث في جريان استصحاب. الاشتغال. والآخر : مورد أصالة البراءة ، فيبحث في جريان استصحاب عدم التكليف.

والجامع بين هذه الموارد هو كون الأثر الّذي يحاول ترتيبه على الاستصحاب مترتبا على مجرد الشك ، فيقال ان إجراء الاستصحاب تحصيل للحاصل.

والحق : صحة جريان استصحاب عدم الحجية وليس هو من تحصيل الحاصل ، وبيان ذلك : ان تحصيل الحاصل انما يلزم لو كان المترتب على الاستصحاب نفس الأثر المترتب على الشك ، اما إذا كان غيره وان كانا من سنخ واحد فلا يلزم تحصيل الحاصل ، وما نحن فيه كذلك ، فان عدم المنجزية المترتب على الشك في الحجية غير عدم المنجزية المترتب على عدم الحجة ، فان الأول بملاك الشك وعدم قابلية الموجود للمنجزية. والآخر بملاك عدم الموضوع وعدم المنجز ، ولذا يعبر بأنه من باب السالبة بانتفاء الموضوع. ونظيره في البراءة الشرعية والبراءة العقلية ، فان قبح العقاب المترتب على الشك في التكليف ـ في مورد البراءة العقلية ـ غير قبح العقاب المترتب على عدم التكليف الثابت بالبراءة الشرعية أو استصحاب عدم التكليف ، فان الأول بملاك قبح العقاب بلا بيان ولعدم ثبوت التكليف ، والثاني بملاك عدم المخالفة لعدم التكليف.

وعليه فلا يكون إجراء الاستصحاب مستلزما لتحصيل الحاصل.

وقد يتخيّل انّ ما ذكرناه يتأتى بناء على كون الحكم الواقعي في ظرف الجهل به إنشائيا. امّا بناء على المسلك القائل بأنّ الحكم الواقعي فعلي في ظرف الجهل به فلا يتم ما ذكر ، إذ نفي التكليف أو الحجية بالاستصحاب لا ينفيها فعلا فيبقى الشّك على حاله ولا يكون الحكم العقلي بملاك ارتفاع الموضوع حينئذ.

٢٠٠