منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

ببيان مقدمة أبان فيها اعتبارات الماهية ، ثم تعرض إلى بيان ان امتناع التقييد لا يستلزم دائما امتناع الإطلاق ، بل قد يستلزم ضرورة الإطلاق كما فيما نحن فيه.

ولا نرى حاجة ملحة إلى سرد كلامه فمن أراد الاطلاع عليه فليراجعه في حاشيته على الكفاية (١).

الوجه الثالث : ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ، وقد اختلف تقريرا بحثه في بيان هذا المطلب.

فقد جاء في أجود التقريرات إيضاح هذا المطلب ـ بعد دعوى ان المراد به الترتب الرافع للتنافي بين الحكمين ـ بمقدمات ثلاث نذكر منها اثنين إذ الثالثة أجنبية عما نحن فيه.

الأولى : ان للشك جهتين : إحداهما : انه حالة من حالات المكلف والأخرى : انه مستلزم للحيرة والتردد وهو بلحاظ الجهة الأولى مشمول للحكم بنتيجة الإطلاق ومتمم الجعل. وبلحاظ الجهة الثانية موضوع الحكم الظاهري.

الثانية : ان التكليف الّذي لا يفي بالملاك المقتضي لجعله يحتاج إلى متمم الجعل ، بان يثبت تكليف آخر بضميمته إلى التكليف الأول يصل المكلف إلى تمام الملاك. وموارد متمم الجعل متعددة كمورد أخذ قصد القربة ، ومورد عموم الحكم لصورتي العلم والجهل به ، ومورد المقدمات المفوتة ، ومورد وجوب الاحتياط ، والجامع بين هذه الموارد هو كون التكليف الأولي بمتعلقه غير واف بالملاك وانما يحتاج إلى المتمم في ثبوت المطلوب. نعم تختلف هذه الموارد من جهة أخرى لا يهم بيانها.

وبعد ذلك ذكر ان الحكم الواقعي في مورد الجهل به والشك لا داعوية

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٥٧ ـ الطبعة الأولى.

١٦١

له ، لأن قوام الداعوية بالوصول ومع الشك ليس إلاّ الحيرة والتردد. فيحتاج في شموله لهذه الحال متمم الجعل.

وعليه : فلا بد من ملاحظة ملاك الحكم الواقعي فهل هو مهم بحيث يلزم استيفاؤه في ظرف الجهل كموارد الإعراض في الجملة أو لا؟.

ففي المورد : لا بد من متمم الجعل لاستيفاء الغرض وهو إيجاب الاحتياط. ولا يخفى انه لا ينافي الحكم الواقعي لأنه متفرع عليه وقد أخذ في موضوعه الحكم الواقعي فكيف ينافيه.

واما في الثاني : فللمولى ان يوكل المكلف إلى ما يحكم به عقله من براءة كما في الشبهة البدوية أو اشتغال كما في الأقل والأكثر عند بعض. ولو ان يجعل البراءة المؤمنة عن الواقع وهي لا تنافي الواقع لأنها في طوله ومتفرعة عليه. ثم انه بعد فصل طويل يتعرض إلى بيان حقيقة وجوب الاحتياط والبحث في ان المؤاخذة على وجوب الاحتياط أو عند خصوص مصادفة الواقع.

فيبين ان وجوب الاحتياط حيث انه ناشئ عن المحافظة على ملاك الواقع ففي مورد المصادفة يكون عين الواقع وليس غيره. وفي مورد المخالفة لا يكون إلاّ حكما صوريا لا وجود له حقيقة.

ومن هنا ذهب إلى ان العقاب يختص بصورة المصادفة إلاّ ان يقال بثبوت العقاب في مورد التجرّي.

هذا خلاصة ما ورد في أجود التقريرات (١).

وهو لا يخلو عن إشكال من جهات عديدة :

الأولى : ما ذكره من تعدد جهتي الشك ، وان ثبوت الحكم الواقعي بنتيجة الإطلاق بلحاظ الجهة الأولى دون الثانية ، ولثبوت الحكم الظاهري بلحاظ

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٧٨ ـ ٨٥ ـ الطبعة الأولى.

١٦٢

الثانية دون الأولى.

إذ المقصود من هذا المطلب ان كان بيان ان في الشك جهتين واقعيتين منفصلتين ، ونتيجته انه إذا ثبت حكم بلحاظ إحداهما وأخر بلحاظ الأخرى لا يكون من اجتماع الضدين ، بل من اختلاف المتلازمين في الحكم ، فالمحذور لو كان فهو محذور التزاحم لا التضاد. ففيه :

أولا : انه ينافي ما تقدم منه في مبحث اجتماع الأمر والنهي من ان الجهات المتعددة انما تكون تقييدية إذا كانت في متعلق التكليف فان التركيب بينها انضمامي لا ما إذا كانت في الموضوع ، فان تعدد العناوين الاشتقاقية المأخوذة في الموضوع لا يوجب تعدد المعنون لأن التركيب بينها اتحادي وهي جهات تعليلية لا تقييدية.

وذلك لأن المأخوذ في الموضوع هو الشاك لا الشك انه مبدأ الاشتقاق ، فموضوع الحلية مثلا هو الشاك لا الشك ، وعليه فتعدد الجهة فيه لا يوجب تعدده واقعا بل المجمع واحد ينطبق عليه عنوانا اشتقاقيان.

وثانيا : ان كون الشك حالة من حالات المكلف ليست جهة واقعية تغاير الجهة الأخرى ، بل هو نظير كونه عرضا للمكلف وكونه صفة له ، فذلك من قبيل تعدد العناوين الانتزاعية في البياض وليست هي جهة في قبال كونه كيفا. فلاحظ.

وان كان المقصود من كون الحكم الواقعي يثبت للشك بلحاظ الجهة الأولى دون الثانية انه مهمل بلحاظ الجهة الثانية ، بمعنى انه يمكن ان يثبت له الحكم بلحاظ جهة الحيرة لكن لا يمكننا الالتزام به إثباتا لقصور الدليل ونتيجة إنكار الواقع كما هو الظاهر من الكلام.

ففيه : انه خلف فرض وجود الواقع وعدم الالتزام بالتصويب.

وان كان المقصود ان الحكم الواقعي ثابت بلحاظ الجهة الثانية لكنه لا

١٦٣

يترتب عليه اثره بلحاظها.

ففيه : انه لا معنى لبيان هذا الأمر بان إطلاق الحكم ثابت من جهة دون أخرى ، لأن الحكم ثابت بلحاظ الجهة الثانية لكن لا داعوية له ، فيكتفي في ذلك بما بينه من عدم داعوية الحكم الواقعي في صورة الجهل ، ولا نحتاج إلى المقدمة الأولى ، بل يتمحض البحث في ان الحكم الواقعي له داعوية في حال الجهل أو لا.

واما المقدمة الثانية : فلا بأس بها ، ولكن لا بد من إيقاع البحث فيه في مورد تعميم الحكم لصورتي العلم والجهل وله مجال آخر ليس هاهنا.

الثانية : ما ذكره من ان الحكم الواقعي لا داعوية له قبل الوصول ، إذ فيه ما عرفت من إمكان الداعوية مع فرض الجهل ، فراجع.

الثالثة : ما ذكره في تقريب عدم المنافاة بين وجوب الاحتياط والحكم الواقعي من تفرع الاحتياط على الواقع وكونه في طوله. إذ فيه :

أولا : ان تفرع وجوب الاحتياط عن الواقع انما يتم لو كان الواقع هو الوجوب أيضا.

اما إذا كان الحكم الواقعي إباحة فلا معنى لتفرع وجوب الاحتياط عليه وكونه بملاك المحافظة عليه على ملاكه ، فان وجوب الاحتياط انما يتفرع عن الوجوب الواقعي لا الإباحة الواقعية.

وثانيا : ان التفرع والطولية لا تنفي التضاد أو التماثل ، فهل ترتفع منافاة البياض للسواد بفرض السواد على تقدير البياض؟ فان الفرض لا يرفع التضاد أو التماثل الموجود بين الحكمين.

الرابعة : ما ذكره أخيرا من ان وجوب الاحتياط عند المصادفة حكم حقيقي وعند المخالفة حكم صوري تخيلي. إذ فيه : ان الالتزام بهذا المعنى يستلزم إنكار منجزية وجوب الاحتياط ، إذ المكلف يشك في مصادفة وجوب الاحتياط

١٦٤

للواقع وعدمه ، ومعه يشك في ان الحكم حقيقي فيستلزم التنجز أو صوري فلا يستلزمه ، ومع هذا الشك لا يصلح الوجوب للتنجيز والبيانية فيكون المورد من مصاديق قاعدة قبح العقاب بلا بيان. فالتفت. والإشكال من هذه الجهة مشترك الورود على أجود التقريرات وتقريرات الكاظمي لأن هذه الجهة ذكرها الكاظمي أيضا في تقريراته (١).

ولكن لا يرد على الكاظمي الإشكال من الجهة الثالثة ، لأنه لم يقرب عدم المنافاة بين الحكم الواقعي ووجوب الاحتياط ، بتفرع إيجاب الاحتياط عن الواقع بل قرّبه بان وجوب الاحتياط عن الواقع على تقدير المصادفة وحكم صوري وهمي على تقدير المخالفة فلا منافاة. وعلى هذا لا يرد أحد الوجهين المتقدمين. فلاحظ.

كما انه يرد عليه الإشكال من الجهة الثانية لأنه ذكرها أيضا.

واما الجهة الأولى : فقد تعرض لذكرها الكاظمي لكن لا بنحو انها أساس المطلب كما ذكرها بهذا النحو في أجود التقريرات.

ثم انه ورد في بعض عباراته ان الحكم لا يكون مبينا لوجوده وان كان ثابتا. وهذا التعبير مجمل المراد ، فان نفس الشيء يستحيل ان يكون مبينا لوجود نفسه لكن دليله لا مانع من تكفله بيان وجوده في صورة الشك. ولعل المراد منه ما سيجيء هنا في تحقيق المراد من تعدد الرتبة.

الوجه الرابع : ما يجئ في الذهن ، وهو ان يكون المراد من اختلاف الرتبة وتعدده ، هو انه ليس ان الحكم الواقعي لا إطلاق له يشمل صورة الجهل ، وان الحكم الظاهري ثابت في تلك الصورة ، كي يرد عليه تارة بان الإهمال ممتنع ثبوتا

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١١٧ ـ ١١٨ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٦٥

ان أريد كونه مهملا بالنسبة إليه ، وأخرى : بان تخصيص الحكم بالعالم يستلزم التصويب ان أريد عدم ثبوت الحكم للشاك. بل المراد ان الحكم الواقعي لا نظر له ولا اقتضاء بالنسبة إلى الوظيفة العملية في حال الشك فيه.

بيان ذلك : ان المكلف عند الشك في الحكم الواقعي يتحير بالنسبة إلى وظيفته على تقدير وجود الحكم واقعا.

ومن الواضح ان الحكم الواقعي بالنسبة إلى هذه الجهة لا معنى لأن يكون له إطلاق أو تقييد ، ولا يمكن ان يكون له نظر إلى وظيفة المكلف عند الشك فيه. فإذا فرض ان العقل حكم بالبراءة أو الاحتياط لم يكن منافيا لوجود الواقع كيف؟ وقد فرض الواقع ثابتا ، إذ التحير في الوظيفة على تقدير وجود الواقع.

وعليه فنقول : ان الحكم الظاهري ثابت في هذه المرحلة التي لا نظر للحكم الواقعي إليها ، وقد يتصرف في موضوع الحكم العقلي كما لو كان العقل يحكم بالبراءة ، فحكم الشارع بالاحتياط أو العكس. فلا تنافي بين الحكم الظاهري والواقعي لأجل ثبوت الحكم الظاهري في مرحلة لا نظر للواقع إليها ، كما انه لم يلزم إنكار الواقع ، إذ عرفت انه مفروض الوجود في جعل الحكم الظاهري ، بل ولا داعويته كي يرد عليه إشكال اللغوية السابق ، بل الملتزم به هو إنكار نظر الواقع لتعيين وظيفة الجاهل به ، وهو إثبات الحكم الظاهري في هذه المرحلة ، أعني مرحلة تعيين الوظيفة فلا منافاة. فتدبر.

وليكن هذا الوجه على ذكر منك لأنّا سنتعرض إلى إيضاحه فيما بعد.

وتحقيق المقام في الأحكام الظاهرية والجمع بينها وبين الأحكام الواقعية ، ان يقال : ان عمدة الإشكالات في ثبوت الحكم الظاهري مع الواقعي امران : تفويت المصلحة ، ولزوم نقض الغرض.

اما الإيراد الأول : وهو الإيراد باستلزام الحكم الظاهري تفويت

١٦٦

المصلحة أو الإلقاء في المفسدة ، فقد اختلفت العبارات في تقريبه ، واكتفي صاحب الكفاية في تقريبه والإجابة عنه بالإجمال كما ـ تقدم (١) ـ. وتقريبه الدّقيق بتلخيص هو : ان الحكم الواقعي ثابت بلحاظ المصلحة في متعلقه ، فالحكم الظاهري ان ثبت بلا ملاك يقتضيه كان خلاف الحكمة. وان ثبت بواسطة ملاك فاما ان يكون في متعلقه أو فيه نفسه ، فان كان الملاك في متعلقه لا بد من حصول الكسر والانكسار بين ملاك الواقع وملاك الظاهر فاما ان يغلب ملاك الواقع فلا حكم ظاهري أو يغلب ملاك الظاهر فلا حكم واقعي ويمتنع ثبوت كلا الحكمين. وهكذا الحال فيما إذا كان الملاك في نفس الجعل ، لأنه اما ان يكون أهم من ملاك الواقع فيلزم انتفاء الواقع ، واما ان يكون ملاك الواقع أهم منه فيلزم انتفاء الظاهر.

وهذا الإيراد يرجع إلى عدم إمكان ثبوت الحكمين من باب التزاحم بين المقتضيين والملاكين ، لا من باب تفويت مصلحة الواقع أو الإلقاء في مفسدته الّذي مر تقريبه في الكفاية.

وقد تصدى الشيخ رحمه‌الله إلى دفع محذور التفويت ببيان طويل ملخصه : ان التعبد بالأمارة اما ان يكون في فرض انسداد باب العلم بالاحكام. واما ان يكون في فرض انفتاح باب العلم بها.

فعلى الأول : لا قبح في التعبد بها ، إذ يدور الأمر بين الاحتياط وهو مقطوع العدم وبين إهمال امتثال الأحكام وهو ممنوع كالأول ، فيتعين إيكال المكلف إلى طريق ظني يوصله إلى الواقع.

وبالجملة : لا يلزم من التعبد بالظن تفويت المصلحة لغرض فواتها بدون التعبد لعدم العلم بالاحكام.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٧

وعلى الثاني : فاما ان يكون التعبد بالأمارة بلحاظ مجرد كاشفيتها وطريقيتها ، أو يكون بلحاظ ثبوت مصلحة بسبب قيامها.

فعلى الأول : فتارة يعلم الشارع بدوام موافقة الأمارة للواقع وان لم يعلم المكلف بها. وأخرى : يعلم الشارع بأنها غالبة المطابقة للواقع. وثالثة : يعلم بأنها أغلب مطابقة من الطرق العلمية التي يسلكها المكلف. وقبح التعبد بالأمارة انما يتم في الفرض الثاني دون الأول والثالث ، إذ لا يلزم على الأول أي تفويت ، ولا يلزم على الثالث تفويت من جهة الأمارة بحيث لولاها لم يفته شيء.

وعلى الثاني : ـ أعني حدوث مصلحة بقيام الأمارة ـ فلا قبح في التّعبد إذا كانت هذه المصلحة مما يتدارك بها مصلحة الواقع ، إذ لا يلزم من التعبد تفويت للمصلحة بعد التدارك ، وتكون هذه المصلحة بمقدار ما يفوت من الواقع من مصلحة.

يبقى إشكال استلزام ثبوت المصلحة على طبق الحكم الظاهري للتصويب. وقد تخلص عنه بالالتزام بان المصلحة انما هي في نفس سلوك الأمارة لا في متعلق الحكم نفسه كي يحصل الكسر والانكسار.

هذا ملخص ما أفاده الشيخ رحمه‌الله مما يتعلق بالمقام ويهم ذكره (١).

وقد تابعة فيما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره ، إلاّ انه اختلف عنه بان النوبة لا تصل إلى الالتزام بالمصلحة السلوكية ، لأن المقصود من انفتاح باب العلم ليس انفتاحه الفعلي ، بل التمكن من تحصيل العلم بسؤال الإمام عليه‌السلام ـ مثلا ـ ، لكن المكلف لا يتصدى إلى ذلك عادة ، بل يعتمد على الطرق العلمية القابلة للخطإ ، وبما ان الطرق العلمية ليست بأقل خطا من الطرق الظنية فلا يلزم التفويت من التعبد بالأمارة لأنها فائتة على كل حال. هذا أولا.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٥ ـ الطبعة الأولى.

١٦٨

وثانيا : ان الأمارات المعتبرة ليست معتبرة ابتداء ، بل اعتبرت إمضاء لسيرة العقلاء ، فلا يلزم من الشارع تفويت بعد ان كانت السيرة العقلائية على العمل بهذه الأمارات كالظهور وخبر الواحد.

نعم لو تنزلنا عن ذلك كله فلا بأس بالالتزام بالمصلحة السلوكية التي يتدارك بها مصلحة الواقع الفائتة (١).

ولا يخلو ما أفاده من إشكال ، لحصره موضوع البحث في التعبد بالأمارات على الأحكام ، مع ان البحث يعم مطلق موارد جعل الحكم الظاهري ، وبعضها لا يتأتى فيه ما ذكره من كونها أقرب من الطرق العلمية أو انها أحكام إمضائية. وذلك كبعض الأمارات القائمة على الموضوع ـ على الخلاف فيها من كونها إمارة أو أصلا ـ كقاعدة التجاوز أو الفراغ ، فانه أي سيرة عقلائية عليها وأي أقربية لها للواقع من طرق العلم؟! ، وكأصالة الصحة في عمل الغير وكموارد الأصول الجارية في الشبهات الموضوعية التي لا يشملها القول بالتصويب ، لأن التصويب انما يلتزم به في الشبهات الحكمية لا الموضوعية ، فيقع في اشكالها القائل بالتصويب أيضا.

نعم الأصول الحكمية لا إشكال فيها ، لأنها انما تجري بعد الفحص واليأس عن الدليل فلا يتصور فيها انفتاح باب العلم ، بخلاف الأصول الموضوعية ، إذ لا يجب في إجرائها الفحص ، بل هي تجري حتى مع التمكن من تحصيل العلم.

ولا معنى لأن يقال : ان الأصل أقرب إلى الواقع من الطرق العلمية ، أو يقال انه حكم إمضائي.

وبالجملة : فما أفاده قدس‌سره لا يحلّ الإشكال في مطلق الموارد. وعليه

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٩٠ ـ ٩٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٦٩

فتصل النوبة إلى الكلام في المصلحة السلوكية.

وقد عرفت التزام الشيخ بها وغايته هو الجمع بين تدارك مصلحة الواقع مع الالتزام ببقائه على ما هو عليه ، وعدم الانتهاء إلى التصويب المحال أو الباطل ـ على الوجهين اللذين ذكرهما ـ.

وقد استشكل المحقق الأصفهاني فيما أفاده قدس‌سره ـ بعد إيضاح مراد الشيخ رحمه‌الله بان المصلحة في سلوك الأمارة الحاكية عن الحكم الواقعي وفي تطبيق العمل عليها من حيث ان مدلولها حكم واقعي ، فعنوانها مقتض لثبوت الحكم الواقعي لا مناف له ، ولذا قال ان هذا من وجوه الرد على المصوبة لا أنه تصويب ـ بما حاصله :

ان المراد ان كان مجرد ثبوت الحكم الواقعي عنوانا بلحاظ ان الأمر بتطبيق العمل على الأمارة بملاحظة كون مدلولها حكم الله. ففيه : ان ثبوت الحكم عنوانا لا ينفع في رد التصويب مع ثبوته واقعا ، ولا ملازمة بين ثبوت الشيء عنوانا وثبوته واقعا ، بل قد يثبت عنوانا ولا وجود له واقعا.

وان كان المراد ان المصلحة قائمة بالفعل بعنوان آخر فلا تزاحم مصلحة الواقع. ففيه : ان المصلحة.

ان كانت قائمة بعنوان منطبق على الفعل ، فيتحقق التزاحم بين المصلحتين ، إذ لا فرق في تحقق التزاحم بين كون الملاكين قائمين بذات الفعل ، أو كان أحدهما قائما بذات الفعل والآخر بعنوانه المتحد في الوجود معه.

وان كانت قائمة بعنوان الاستناد ، وهو ليس من عناوين الفعل. ففيه : ان المصلحة ان كانت قائمة بالفعل المستند إلى الأمارة فلا ينفع في رفع التزاحم ، لأن تعدد الحيثية في تعدد الملاك لا يجدي في رفع التزاحم مع وحدة الوجود المجمع للملاكين. وان كانت قائمة بنفس الاستناد الّذي هو فعل قلبي. ففيه : ان الاستناد لا يجب في غير التعبديات. هذا مع ان ثبوت المصلحة في شيء يستلزم

١٧٠

الأمر به والدعوة إليه لا إلى غيره وان لازمه ، فلا معنى للدعوة إلى الفعل مع كون المصلحة في نفس الاستناد.

ثم تعرض إلى ما في بعض نسخ الرسائل من فرض المصلحة في الأمر ، وانه غير صحيح (١).

أقول : ما ذكره أولا من ان ثبوت الواقع عنوانا لا يلازم ثبوته واقعا الّذي يقصد به نفي ما ذهب إليه الشيخ من ان هذا الوجه من وجوه الرد على المصوبة لأنه فرع ثبوت الواقع. لا يخلو عن إشكال.

وذلك لأن مراد الشيخ لو كان مجرد ان التعبد بالأمارة بعنوان مؤداها الواقع ، كان ما إفادة في مقام الإشكال عليه في محله ، فان التعبد بشيء بعنوان انه وجود زيد لا يستلزم وجوده واقعا ، بل يجتمع حتى مع عدمه وفرض عدمه.

واما لو كان مراد الشيخ قدس‌سره ان التعبد بالأمارة وقيام المصلحة في فرض وجود الواقع ـ يعني على تقدير وجود الواقع ـ ، ففي السلوك مصلحة يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع ، فالالتزام بالمصلحة السلوكية على تقدير وجود الواقع. فلا يتم ما ذكره ، بل يتم ما ذكره الشيخ من انه التزام بعدم التصويب ، إذ يمتنع ان تكون المصلحة الثابتة على تقدير وجود الواقع نافية للواقع ، وإلاّ لزم من وجودها عدمها ـ كما لا يخفى ـ.

وبالجملة : فهذا التزام ببقاء الواقع وثبوته.

ومجرد احتمال إرادة الشيخ لهذا المطلب يكفي في رد الإشكال عليه ، بل فسرت عبارته به أو بما يقاربه في بعض تعليقات (٢) الرسائل على ما يخطر بالبال.

هذا ولكن ما يشكل ما أفاده الشيخ رحمه‌الله من ان قيام مصلحتين في

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٨ ـ ٤٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الآشتياني الشيخ ميرزا محمد حسن. بحر الفوائد ـ ٧٢ ـ الطبعة الأولى.

١٧١

الفعل مستلزم لوقوع التزاحم بينهما في مقام اقتضاء الحكم وتحقق الكسر والانكسار. فان كانت مصلحة الظاهر هي الغالبة ـ كما هو المفروض ـ ، لزم انتفاء الحكم الواقعي. وهذا امر وجداني في كل موارد تعلق الإرادة والكراهة ونحوهما.

واما ما ذكرناه من ان استلزام مصلحة الظاهر لنفي الحكم الواقعي يستلزم محذور استلزام وجود الشيء لعدمه بعد أخذ مصلحة الظاهر على تقدير وجود الواقع. فهو بنفسه دافع لكلام الشيخ لا شاهد.

وذلك لأنه بعد الفراغ عن امتناع اجتماع مصلحتين من دون كسر وانكسار ، يجري هذا البيان في وجود مصلحة الظاهر المعلقة على وجود الواقع ، فيقال : ان وجود مصلحة الظاهر يستلزم نفي الواقع ، ونفي الواقع يستلزم انتفاء مصلحة الظاهر ، فيكون وجود المصلحة الظاهرية مستلزما لعدمها. ومنشأ المغالطة السابقة هو إجراء هذا الحديث في مانعية مصلحة الظاهر وقصر النّظر عليها فقط.

وبالجملة : مانعية المصلحة الظاهرية وان استلزمت الخلف ، لكن ذلك ينتهي إلى إنكار إحدى المصلحتين للفراغ عن لزوم تحقق الكسر والانكسار وامتناع وجود مصلحتين كذلك بدون كسر وانكسار ، والكسر والانكسار مستلزم للخلف فلا بد من إنكار إحدى المصلحتين. فتدبر فانه دقيق.

وعليه ، فالالتزام بالمصلحة السلوكية على ما ذكره الشيخ ممتنع.

وقد تصدى المحقق الأصفهاني قدس‌سره إلى دفع إشكال تفويت المصلحة وما يتفرع عليه بما حاصله : ان تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ليس من العناوين القبيحة ذاتا وبنحو العلة التامة للقبح ، بل هي بالنسبة إلى القبح بنحو الاقتضاء فقد يطرأ عليها عنوان يوجب حسنها نظير الكذب النافع.

وعليه ، فإذا فرض وجود جهة حسنة في التعبد بالأمارة تغلب على مفسدة تفويت الواقع ، فلا مانع من التعبد بها ، والأمر في المقام كذلك ، لأن تحصيل العلم

١٧٢

بالاحكام يشتمل على مفسدة غالبة على ما يفوته من المصلحة أو يقع فيه من المفسدة ، فالتعبد بالأمارة يوجب صرفه عن تحصيل العلم المستلزم لذلك ، فتكون جهة حسنة أقوى من مفسدة التفويت أو الإلقاء.

هذا على الطريقية المحضة.

واما على الموضوعية والسببية ، فلا تفوت المصلحة ، لكن الشأن في الالتزام بالمصلحة بنحو لا يستلزم التصويب. وتحقيقه : ان الواجب الواقعي لو كان هو الظهر وقامت الأمارة على وجوب الجمعة ، فكل من الصلاتين مشتمل على مصلحة ، وهما اما متغايرتان أو متضادتان أو متسانختان. فان كانتا متغايرتين فقد يتخيل وقوع التزاحم بينهما ـ بعد الفراغ عن كون الواجب أحدهما وامتناع وجوب كلتا الصلاتين ـ. ودعوى ان الغالب هو وجوب الجمعة لقيام الدليل عليه فيستلزم انتفاء الواقع وهو التصويب. لكن يندفع بان التزاحم بين المقتضيين انما يكون إذا كان بين مقتضاهما تناف ، ولا تنافي بينهما ، إذ الوجوب الواقعي للظهر لا ينافي الوجوب الظاهري للجمعة كما تقدم تقريبه (١).

وعليه ، فكل من الحكمين ثابت. هذا ملخّص ما أفاده (٢) ، وقد أطال قدس‌سره في بيان ذلك وبيان الشقوق الأخرى ولا يهمنا التعرض لجميع كلامه ، لوضوح الحال بهذا المقدار.

وعلى كل فكلامه لا يخلو عن إشكال بكلام جهتيه :

اما ما ذكره بناء على السببية من عدم تزاحم المصلحتين لعدم تزاحم مقتضاهما. ففيه :

أولا : انه يختص بما إذا تعدد متعلق الحكم الواقعي والظاهري. اما إذا

__________________

(١) راجع ٤ ـ ١٦٦ من هذا الكتاب.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٥ ـ ٤٩ ـ الطبعة الأولى.

١٧٣

اتحد ، كما إذا قامت الأمارة على حرمة ما هو واجب واقعا فلا يتم ما ذكره ، إذ تحقق التزاحم بين المصلحة الواقعية والمفسدة الظاهرية وتحقق الكسر والانكسار امر وجداني ولا يرتبط بتزاحم المقتضيين ، لعدم صلاحية المصلحة المغلوبة أو المفسدة المغلوبة للتأثير في الوجوب والحرمة.

وثانيا : انه غير تام في المثال الّذي ساقه ، إذ الأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة تنفي بالملازمة وجوب الظهر ، فهنا أمارتان إحداهما تقوم على وجوب الجمعة ، والأخرى تقوم على عدم وجوب الظهر ، والأمارة الثانية مقتضاها حدوث مصلحة تقتضي نفي وجوب الظهر ، فيتحقق التزاحم بين المصلحتين ويتحقق الكسر والانكسار لوحدة المتعلق ، فيكون المثال من موارد وحدة المتعلق بلحاظ المدلول الالتزامي للأمارة الّذي هو مدلول أمارة أخرى. فلاحظ.

واما ما ذكره بناء على الطريقية من وجود جهة محسنة في التعبد بالأمارة تتغلب على جهة قبح التفويت ، وهي جهة الفرار عن مفسدة تحصيل العلم التي هي أهم من مفسدة فوات مصلحة الواقع ، ففيه : ان مراده.

ان كان وجود المصلحة في نفس الأمر بالعمل بالأمارة ـ كما قد يحتمله كلامه ـ.

فيرده : انه يبنى على ان المصلحة في نفس الأمر غير معقولة ، كما ذكره في ذيل مناقشته للشيخ في التزامه بالمصلحة السلوكية.

وان كان مراده ان في تحصيل العلم مفسدة غالبة على مصلحة الواقع.

فيرده : ان الحكم الواقعي إذا فرض ان امتثاله يستلزم مفسدة أهم من مصلحة متعلقه كان ذلك سببا لاضمحلاله وعدم جعله ، إذ يقبح جعل الحكم مع استلزام امتثاله للمفسدة العظيمة المهمة.

والنتيجة : ان إشكال تفويت المصلحة بالنحو الّذي قربناه لا طريق إلى حلّه.

١٧٤

نعم. بالنحو الّذي مرّ في الكفاية ينحل بالالتزام بوجود المصلحة في التعبد بالأمارة ، لكن عرفت انه يوقعنا في محذور التصويب.

وهذا الإشكال لا يختص بمبنى معين في المجعول في الأمارات ، بل يعم جميع المباني ، إذ جميعها يشترك في الإلزام بالعمل بالأمارة وهو يستلزم التفويت مع عدم المصلحة والتصويب مع المصلحة. فلاحظ.

وقد تعرض المحقق العراقي إلى هذا الإشكال ودفعه بنحو مختصر جدا (١).

ثم انه قد مرّ من الشيخ والمحقق النائيني ( رحمهما الله ) ان هذا الإشكال مندفع في صورة انسداد باب العلم بالاحكام ، إذ ليس العمل بالأمارة هو سبب التفويت.

فقد يتخيل انحلال الإشكال والخلاص من المحذور في هذا الزمن لانسداد باب العلم ، فيكون الحديث السابق الطويل حديثا علميا لا عمليا.

ولكنه وهم محض. لما عرفت من عدم اختصاص الأحكام الظاهرية بموارد الأمارات القائمة على الأحكام بل يعم الأمارات والأصول الجارية في الشبهات الموضوعية ، أو الجارية في إحراز الامتثال ، كقاعدة الفراغ والتجاوز. وليس طريق العلم بالواقع منسدا في كثير من تلك الموارد.

نعم ، مثل اليد القائمة على الملكية قد يقال بانسداد باب العلم بالواقع في مواردها ، إذ العلم بالملكية الواقعية في أغلب الموارد ـ الا ما شذّ ـ ممتنع.

اذن فالإشكال بالنسبة إلى أزماننا ثابت لا خلاص منه.

واما الإيراد الثاني : فتقريبه : ان الداعي من جعل الحكم هو تحقق البعث والزجر أو غيرهما ، ومن الواضح ان جعل الحكم الآخر على خلافه المانع من

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٥٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٧٥

تحقق الانبعاث والانزجار نقض للغرض من الحكم الأول ، ومثله لا يصدر من الحكيم. فجعل الحكم الظاهري مستلزم لنقض الغرض من الحكم الواقعي وهو تحقق الداعي للمكلف أو الزاجر أو غيرهما.

وقد تفصى عنه المحقق الأصفهاني : بان الحكم الظاهري إذا كان يتكفل تنجيز الواقع فهو مؤكد لداعوية الواقع وليس منافيا لها كي يستلزم نقض الغرض. وإذا كان يتكفل التعذير والمؤمنية من الواقع فهو لا ينافي الغرض من الواقع ، إذ الغرض من الحكم الواقعي ان كان هو تحقق الداعي الفعلي للمكلف ، كان جعل الحكم على خلافه نقضا للغرض.

ولكن الغرض ليس ذلك بل الغرض هو جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وإمكان الداعوية لا يتنافى مع جعل المؤمن عن الواقع على تقدير تحققه (١).

وهذا الوجه ممنوع ـ مع الغض عن منافاة ما تصوره فعلا من إمكان الداعوية في صورة الجهل وما مرّ منه من عدم إمكان الداعوية قبل الوصول ـ ، فانه قد يسلم عدم منافاة الحكم الظاهري لإمكان داعوية الواقع في ما إذا كان الحكم الظاهري ترخيصيا في صورة احتمال الإلزام ، إذ من الممكن الاحتياط الّذي يحكم العقل بحسنه.

اما فيما كان الحكم الظاهري إلزاميا على خلاف الحكم الواقعي الإلزامي ، بان كان الحكم الظاهري الوجوب والواقعي الحرمة ، فلا يتصور إمكان داعوية الحكم الواقعي في هذا الحال ، وكيف يتصور في مثل هذا الحال ان يكون الحكم الظاهري المستلزم للتنجيز مؤكدا لداعوية الواقع كما ذكر قدس‌سره؟!. فلاحظ وتدبر.

اذن فإشكال نقض الغرض في مثل هذه الصورة غير مندفع.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٦ ـ الطبعة الأولى.

١٧٦

فيتحصل لدينا : ان كلا الإيرادين لا دافع لهما.

وعليه : فلا طريق إلى التخلص منهما إلا الالتزام بان الحكم الواقعي إنشائي الّذي تصورنا سابقا ثبوته وبينا إمكانه خلافا لبعض الأعلام.

وبالالتزام بذلك لا يبقى مجال للإيرادين ، إذ الحكم الإنشائي لا يلزم ان ينشأ عن مصلحة في متعلقه كي يلزم الكسر والانكسار على ما تقدم ، كما ان الداعي فيه ليس هو جعل الداعي ، فلا نقض للغرض لو جعل الحكم على خلافه.

ولا محذور في الالتزام بذلك ، إذ لم يقم دليل على اشتراك الجاهل والعالم في الحكم الفعلي وان ادعاه المحقق النائيني (١).

ومع ذلك لا تصل النوبة إلى إشكال تضاد الحكمين ، إذ التضاد بين الأحكام لدى القائل به انما هو بين الأحكام الفعلية دون الإنشائية ، فان الإنشاء كما قيل خفيف المئونة.

ولو أردنا ان نغض النّظر عن الإيرادين السابقين ونلتزم بفعلية الحكم الواقعي ، يرد إشكال اجتماع الضدين ، فإشكال التضاد في طول الإشكالين الآخرين.

والتحقيق في التخلص عنه ان يقال : ان التضاد بين الأحكام اما من ناحية المبدأ ، وهو المصلحة والمفسدة والإرادة والكراهة. واما من ناحية المنتهى ، وهو مقام الداعوية والامتثال.

اما التضاد من ناحية المبدأ ، فيرتفع بما أفاده في الكفاية من كون الحكم الظاهري حكما طريقيا ناشئا عن مصلحة في نفسه ، فانه يتعدد موضوع المصلحة والمفسدة (٢).

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٠٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٧٧

كما انه مع فرض كون المصلحة في نفس الحكم لا تكون هناك إرادة متعلقة بالفعل ، فلم تجتمع المصلحة والمفسدة ولا الإرادة والكراهة في شيء واحد.

واما التضاد من ناحية المنتهى ، فيرتفع بما قربنا به سابقا الالتزام بتعدد الرتبة. وتوضيحه : ان الحكم الواقعي وان كان له ثبوت في حال الجهل ، إلاّ انه لا نظر له إلى تعيين الوظيفة العملية بلحاظ تحير الجاهل المتردد ، فان المتردد في ثبوت الحكم الواقعي يتحير فيما هو وظيفته عملا في هذا الحال لعدم معرفته بما يترتب على مخالفة الواقع لو كان ثابتا من العقاب وعدمه.

والحكم الواقعي لا نظر له إلى تعيين وظيفة المتحير ورفع تحيره ، فإذا جرت البراءة العقلية وحكم العقل بالأمارة من العقاب على تقدير الواقع ، فلا يكون الحكم الواقعي في مثل الحال داعيا فعلا للمكلف ، لأن داعويته نوعا بلحاظ ما يترتب على مخالفته ، ومع حكم العقل بالأمان وعدم استحقاق العقاب لا تتحقق دعوته الفعلية. ولا يخفى انه لا تنافي بين هذا الحكم العقلي أو الحكم العقلي بالاحتياط وبين الوجود الواقعي للحكم ، ولذا لم يتخيل أحد ذلك ولم يدعه ، أو يستشكل من جهته كي يصير في مقام دفعه.

وعليه ، فنقول : ان الحكم الظاهري الشرعي في مرتبة حكم العقل بالبراءة أو الاحتياط ، فإذا حكم بالوجوب كان رافعا لأصل البراءة في مورده لارتفاع موضوعها ، وإذا حكم بالإباحة كان رافعا للاحتياط في مورده.

وكما انّ حكم العقل لا يتنافى مع الحكم الشرعي الواقعي فكذلك الحكم الشارع الظاهري.

وبالجملة : ان الحكم الظاهري يلحظ فيه تعيين الوظيفة العملية للمتحير ، والحكم الواقعي لا نظر له إلى هذه الجهة ولا داعوية فعلية له في حال جعل المؤمن الشرعي ، فلا يتحقق التنافي بينهما.

ولعل هذا هو المراد للقائل بتعدد الرتبة بان الحكم الواقعي لا إطلاق له

١٧٨

يشمل حال الجهل ، لا انه لا ثبوت له حقيقة كي يشكل عليه بأنه التزام بالتصويب.

ولقد أحسن المحقق النائيني حين ذكر : ان الشك بنفسه ليس موضوعا للحكم الظاهري بل بما هو مستلزم للتحير والتردد (١).

وإذا اتضح عدم التنافي بين الحكمين في مقام الداعوية ، فلا تضاد بينهما ، فيمكن القول بان الحكم الواقعي فعلي ، بمعنى ان المجعول ما يمكن ان يكون داعيا.

يبقى سؤال وهو : ان الحكم وان كان جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وهذا متصور فيما نحن فيه ، إلاّ انه إذا لم يترتب عليه الداعوية الفعلية كان لغوا.

والجواب : ان الحكم قابل لأن يترتب عليه الانبعاث الفعلي بلحاظ ما ثبت من حسن الاحتياط ، فانه يحقق الانبعاث نحو لعمل.

هذا ولكنه انما يختص بما إذا كان الحكم الظاهري لا اقتضائيا كالإباحة ، والحكم الواقعي المحتمل اقتضائيا كالوجوب. ولا يشمل ما إذا كان الحكم الظاهري اقتضائيا على خلاف الحكم الواقعي الإلزامي ، كالوجوب والحرمة ، فانه في مثل الحال لا يحسن الاحتياط بموافقة احتمال الحرمة مع قيام الأمارة على الوجوب. فلا يصل الحكم الواقعي إلى مرحلة الداعوية الفعلية فيكون لغوا.

فلا محيص الا عن الالتزام بان الحكم الواقعي في مثل هذه الصورة إنشائي.

وبضميمة عدم القول بالفصل بين هذا المورد وغيره يلتزم بان الحكم الواقعي مطلقا إنشائي.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١١٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٧٩

والنتيجة : انه ينحصر التخلص عن هذه المحاذير بالالتزام بكون الحكم الواقعي إنشائيا.

واما الإيراد على هذا الالتزام : بان الحكم الإنشائي لا يلزم امتثاله ، فيكون التعبد بالأمارة القائمة عليه لغوا كما جاء في الكفاية (١).

ففيه : ان الحكم الإنشائي بضميمة العلم به يصير فعليا.

والإيراد على ذلك : بان أخذ العلم جزء لموضوع الفعلية لا ينفع في ثبوت الأثر على قيام الأمارة ، لامتناع قيام الأمارة بدليل اعتبارها مقام القطع الموضوعي والطريقي ، كما تقدم من صاحب الكفاية (٢).

مندفع ـ بعد الالتزام بان الحكم الإنشائي الّذي يصير بالعلم فعليا مطلق الحكم الإنشائي أعم من الواقعي والظاهري ـ : بان الالتزام بامتناع قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي والطريقي يبتني على الالتزام بان المجعول في باب الأمارات هو المؤدى ـ كما تقدم إيضاحه ـ.

وعليه ، فإذا قامت الأمارة على حكم إنشائي واقعي كان قيامها مستلزما لجعل حكم إنشائي في مرحلة الظاهر ، وهذا الحكم الإنشائي الظاهري متعلق للعلم وجدانا فيصير فعليا ، فلا إشكال ولا يكون التعبد بالأمارة لغوا.

ولعمري هذا واضح لا شبهة فيه ، فكيف غفل عنه صاحب الكفاية وأورد على الشيخ رحمه‌الله ما تقدم. فتدبر.

هذا تمام الكلام في الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري.

يبقى الكلام في جهتين :

إحداهما : بيان المجعول في باب الأمارات والاستصحاب.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٨٠