منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

وعدم استلزامه لأي محذور ، إذ لو كان ممتنعا لما وقع. وإذا لم يكن هناك دليل على وقوع التعبد به فلا فائدة في البحث عن إمكانه وعدمه ، لذا الأثر العملي لوقوع التعبد به لا لإمكانه مع عدم وقوعه (١).

وتوضيح هذا الوجه. انه قدس‌سره استظهر من كلام الشيخ رحمه‌الله ان للعقلاء في مورد التعبد بالظن بناءين. أحدهما : بناؤهم على إمكان التعبد به. والآخر : بناؤهم على التعبد به وحجيته [١].

فناقشه : قدس‌سره بأنه إذا ثبت البناء على التعبد فلا حاجة لبنائهم على إمكانه ، وإذا لم يثبت بناؤهم على الحجية فلا أثر لبنائهم على إمكانه ، فالمهم هو إثبات بنائهم على تحقق التعبد وعدمه.

وهذا نظير ما يورد على الالتزام بجعل السببية في باب المعاملات والمسببات الاعتبارية كسببية البيع للملكية ، من انه ان اعتبر الشارع أو العقلاء الملكية عند تحقق البيع ـ مثلا ـ لم يكن احتياج لاعتبارهم سببية البيع للملكية وان لم تعتبر الملكية عند البيع فاعتبار السببية وحدها عديم الأثر.

هذا ومن الممكن ان لا يكون كلام الشيخ رحمه‌الله ناظرا إلى تعدد الاعتبار والجعل فيما نحن فيه ، بل إلى انه مع قيام الدليل القطعي على التعبد بالظن كحجية الظواهر لا يعتني العقلاء في مقام عملهم باحتمال الاستحالة والشك فيها ، بل يرتبون آثار الاعتبار والحجية بلا التفات إلى احتمال الاستحالة. وبذلك لا يرد عليه إشكال صاحب الكفاية بوجهيه كما لا يخفى.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى ما يحكى عن الشيخ الرئيس من قوله :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) حمل سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) عبارة الكفاية أولا على ان قيام الدليل على الوقوع قيام له بالملازمة على الإمكان ، ومعه لا حاجة إلى الأصل ، إذ الدليل حاكم عليه ، وبدون الدليل لا ينفعنا الأصل بشيء ثم فسرها بما يأتي ( منه عفي عنه ).

١٤١

« كلما قرع سمعك فذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك عنه واضح البرهان » ، وذكر ان المراد منه ليس بيان ان الإمكان أصل مع الشك فيه ، بل مراده من الإمكان هو الاحتمال ، وهذا امر وجداني لا يمكن إنكاره إذ كل شيء محتمل الوقوع قبل قيام البرهان على استحالته أو وجوبه (١).

واما ما ذكره المحقق النائيني في مناقشة أصالة الإمكان ، من ان البحث عن الإمكان في عالم التشريع بمعنى عدم لزوم المحذور في التشريع لا الإمكان التكويني المختص بالأمور الخارجية حتى يبحث عن ان الأصل العقلائي هل هو الحكم بالإمكان حتى يثبت الامتناع أو لا (٢)؟.

فهو مما لا نكاد نفهمه بأكثر من صورته اللفظية ، وذلك فان التشريع وجعل الحكم فعل تكويني للمولى كسائر الأفعال التكوينية له وان اختص باسم التشريع ، فيقع البحث في انه يستلزم المحال أو لا؟ ومع الشك ما هو الأصل والقاعدة؟.

وبالجملة : التعبير بالإمكان التشريعي والتكويني لا يرجع إلى اختلاف واقع الإمكان ، بل هو تقسيم بلحاظ متعلقه.

ولنكتف في البحث في هذه الناحية بهذا المقدار ، إذ ليس ذلك بذي جدوى. وانما المهم هو البحث في ...

الناحية الثانية : وهي في بيان ما ذكره من وجوه استحالة التعبد بالظن والنّظر فيها.

وقد ذكرها صاحب الكفاية ثلاثة ، وجمعها تحت دعوى استلزام التعبد بالأمارة غير العلمية اما المحال أو الباطل.

الأول : استلزام التعبد بغير العلم اما التصويب الباطل لو التزم بعدم بقاء

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ٨٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٤٢

الواقع على واقعه. واما اجتماع المثلين فيما إذا وافق الحكم الّذي قامت عليه الأمارة الواقع من وجوبين أو تحريمين أو غيرهما ، أو اجتماع الضدين فيها إذا تخالف الواقع مع مؤدى الأمارة من وجوب وحرمة ـ مثلا ـ واردة وكراهة ، ومصلحة ملزمة ومفسدة كذلك. وهذا فيما إذا التزم ببقاء الواقع على واقعه.

الثاني : استلزامه طلب الضدين فيما إذا أدت الأمارة إلى طلب ضده الواجب ، وهو محال من الحكيم تعالى.

الثالث : استلزامه تفويت المصلحة فيما لو أدت إلى عدم وجوب الواجب أو الإلقاء في المفسدة فيما لو أدت إلى عدم حرمة الحرام ، وهو قبيح عليه تعالى.

وقد تصدى الاعلام لحل هذه الإشكالات وأطلق على البحث في هذه الجهة بـ : « مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ».

وقد ذكر صاحب الكفاية وجوها ثلاثة للتخلص من هذه المحاذير جمعها بقوله : « ان ما ادعى لزومه اما غير لازم أو غير باطل » (١).

الوجه الأول : ان المجعول في مورد التعبد بالأمارة ليس حكما شرعيا تكليفيا ، بل المجعول هو الحجية من دون ان يكون هناك أي حكم ظاهري مجعول في موردها ، وأثر ذلك هو التنجيز والتعذير.

وعليه ، فليس لدينا وجوبان ـ مثلا ـ أو وجوب وحرمة ولا مصلحة ومفسدة ولا إرادة وكراهة. كما انه ليس لدينا طلب الضدين.

واما محذور تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيرتفع بوجود مصلحة في التعبد بالظن غالبة على مفسدة التفويت أو الإلقاء.

وقد اكتفى قدس‌سره في دفع محذور التفويت بهذا المقدار من البيان مع انه يستدعي إطالة البحث وسنتكلم فيه إن شاء الله على حده ـ بعد التعرض

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٤٣

لوجوه الجمع المتكفلة لدفع محذور اجتماع الضدين أو المثلين ـ ونتكلم فيما أفاده الشيخ قدس‌سره من الالتزام بالمصلحة السلوكية. فانتظر.

الوجه الثاني : انه لو التزم بوجود حكم ظاهري تكليفي في موارد الأمارات اما بدعوى استتباع جعل الحجية لذلك أو بدعوى انه لا معنى لجعل الحجية إلاّ جعل الحكم التكليفي ، بمعنى انها منتزعة عن الحكم التكليفي الظاهري ، فلا محذور أيضا وان اجتمع الحكمان ، وذلك لأن الحكم الظاهري حكم طريقي ، بمعنى انه ناشئ عن مصلحة في نفسه أوجبت إنشاءه المستلزم للتنجيز والتعذير. والحكم الواقعي حكم فعلي ناشئ عن مصلحة في متعلقه.

وعليه فلا يلزم اجتماع الضدين ، لأن تضاد الحكمين من جهة تضاد مبدئهما وهو الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة ، والمفروض ان ما فيه المصلحة في الحكم الظاهري نفس الحكم لا المتعلق الّذي فيه المفسدة الموجبة للحكم الواقعي ، فمركز المصلحة والمفسدة مختلف وباختلافه يختلف متعلق الإرادة والكراهة ، إذ هما يتبعان المصلحة والمفسدة ، فلا تتعلق الإرادة بمتعلق الحكم الظاهري ، بل بنفس الحكم لأنه مركز المصلحة.

واما نفس الحكمين بما هما إنشاءان مع قطع النّظر عن مبدئهما فلا تضاد ولا تماثل بينهما ، فان الإنشاء خفيف المئونة كما قيل. وقد أشار قدس‌سره إلى حديث تحقق الإرادة من المبدأ الأعلى ونفي تحققها ، وان الموجود في نفس المبدأ الأعلى ليس إلاّ العلم بالمصلحة والمفسدة ، وان الإرادة انما تتحقق في النّفس النبوية أو الولويّة حين يوحى الحكم الشأني إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو يلهم به الولي ، وهو حديث خارج عما نحن بصدده نوكله إلى أهله في محله.

الوجه الثالث : الالتزام بعدم كون الواقع فعليا تام الفعلية ومن جميع الجهات.

ببيان : ان الحكم الفعلي هو الحكم الواصل إلى مرحلة البعث والزجر ،

١٤٤

وذلك انما يكون إذا كانت على طبقه الإرادة والكراهة فعلا ، فيلتزم بان إرادة الواقع معلقة على صورة عدم ثبوت الإذن على خلافه ، فإذا كان هناك اذن فعلي كما في موارد أصالة الإباحة لم يكن الحكم الواقعي فعليا من جميع الجهات ، إذ هو فعلي على تقدير ولم يتحقق التقدير لفرض ثبوت الاذن.

وقد أشرنا سابقا إلى ان عبارته بدوا توهم تعليق فعلية الحكم على العلم به ، فيشكل عليه بعدم كون قيام الأمارة المصادفة للواقع موجبا للفعلية لعدم قيامها مقام القطع الموضوعي ، وبينا انه التفت إلى هذا الإشكال ، فذهب إلى ان فعلية الواقع معلقة على عدم الإذن على خلافه لا على العلم به كما هو صريح ذيل عبارته فلاحظها (١).

كما ان ظاهر عبارته أولا ان الحكم الواقعي فعلي بنحو لو علم به لتنجز.

وهذا ليس طريقا لحل الإشكال إلاّ إذا قلنا بان مراده كما هو ظاهر كلامه انه لو علم به لصار فعليا وتنجز ، فيكون العلم موجبا للفعلية والتنجز في آن واحد وهو واضح.

وعلى كل فالالتزام بعدم فعلية الواقع التامة لتعليقها على عدم الاذن يوجب عدم اجتماع الضدين أيضا ، لعدم الإرادة والكراهة في شيء واحد ، إذ الواقع ليس مرادا كما انه ليس بذي مصلحة ملزمة فعلا ، فلا تنافي بين الحكمين حينئذ وقد أشار إلى هذا الوجه مكررا مع اختلاف في التعبير ، وقد عبر في بعض الأحيان عن الواقع بأنه لو علم به من باب الاتفاق ، فلا بد من الحديث عن هذا القيد وما هو المقصود به كما وعدناك سابقا وسيجيء إن شاء الله تعالى.

وهذا الوجه ذكره عدولا عن الوجه الثاني لعدم تأتيه ـ كما ذكر ـ في مورد بعض الأصول العملية كأصالة الإباحة الشرعية ، وعلله بان الإذن في الإقدام

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٤٥

والاقتحام ينافي المنع فعلا كما فيما صادف الحرام ، وان كان الاذن لأجل مصلحة فيه لا لأجل عدم مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه.

وقد وقع الكلام في بيان جهة الإشكال في مورد أصالة الإباحة وما هو المنظور في كلام الكفاية؟. فذهب البعض إلى انه استدراك من الوجه الأول ، حيث انه لا معنى لجعل الحجية في أصالة الإباحة شرعا ، بل المجعول رأسا هو الترخيص والاذن.

ولا يخفى ما في هذا التوجيه ، فانه خلاف صريح العبارة كقوله : « وان كان الاذن فيه لأجل مصلحة فيه ... » ، فانه صريح في انه استدراك عن الوجه الثاني الّذي يرجع إلى الالتزام بكون الحكم الظاهري طريقيا ناش عن مصلحة في نفسه.

ثم انه لو انحلت المشكلة بالالتزام بالوجه الثاني في موارد بعض الأصول ـ كما يراه الموجه ـ فأي معنى لقوله : « فلا محيص الا عن الالتزام ... ».

وعليه ، فما يوجّه به كلامه قدس‌سره بعد البناء على انه استدراك من الوجه الثاني هو ان يقال : ان التضاد بين الأحكام من ناحية المبادئ ، فالتضاد بين الوجوب والحرمة من جهة اجتماع الكراهة والإرادة في شيء واحد لا من جهة أنفسهما ، ولكن إذا فرض وجود مصلحة في الفعل تدعو إلى إرادته واقعا ومصلحة في نفس الاذن في تركه ظاهرا كان وجود المصلحة في نفس الإذن موجبا لكون المولى لا اقتضاء نفسيا بالنسبة إلى الفعل ، وهو يتنافى مع إرادته الفعل.

ولكن هذا التوجيه صوري لا أكثر ، إذ يرد عليه :

أولا : ان مقتضاه سراية الإشكال إلى موارد قيام الأمارة على الإباحة ولا اختصاص له بمورد الأصل العملي.

وثانيا : انه ما الفرق بين الإذن وسائر الأحكام؟ فكما ان مصلحة الاذن تلازم كون المولى لا اقتضاء نفسيا بالنسبة إلى الفعل والترك المنافي لإرادة الفعل

١٤٦

واقعا ، كذلك مصلحة الحرمة ظاهرا تلازم كون تعلق كراهة المولى بالفعل المنافية لإرادته الواقعية.

وعليه ، فهذا الاستدراك لا نعرف له وجها صحيحا. فالتفت.

وعلى أي حال ، فلا يهم في المطلب صحة الاستدراك المزبور وعدمه ، انما المهم هو بيان وجوه الجمع المذكورة في الكفاية وغيرها والنّظر في ما يمكن الالتزام به منها.

فلنتعرض أولا إلى وجوه الكفاية الثلاثة ، فنقول :

اما الوجه الأول : فقد نسب إلى صاحب الكفاية انه يريد به كون المجعول هو نفس المنجزية والمعذرية ، كما قد يظهر من التزام المحقق الأصفهاني بان المجعول مفهوم الحجية على انه رأي شخصي له (١).

وذلك وان كان قد يظهر من بعض عباراته في غير المقام ، لكن عبارته في المقام ظاهرة في ان المجعول هو الحجية ويترتب عليه المنجزية والمعذرية (٢).

وعلى كل ، فقد أورد عليه المحقق النائيني : بان المجعول ان كان هو المنجزية فهو محال ، إذ مع فرض الجهل بالواقع وعدم وجود ما يوجب التنجز يحكم العقل بقبح العقاب عليه ، فجعل العقاب على مثل ذلك يكون جعلا له بلا سبب وبلا وجه ، ويكون مستلزما لتخصيص الحكم العقلي بقبح العقاب بلا بيان وهو ممتنع. وان كان المجعول امرا يترتب عليه التنجيز رجع إلى ما ذكرناه من كون المجعول هو الوسطية في الإثبات بتعبير ، أو الطريقية بتعبير آخر ، أو الوصول بتعبير ثالث (٣).

وأورد عليه أيضا المحقق الأصفهاني : بان المنجزية واستحقاق العقاب

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم أجود التقريرات ٢ ـ ٧٦ ـ الطبعة الأولى.

١٤٧

فرع قيام الحجة على التكليف ، وإلاّ فالتكليف مع عدم الحجة عليه لا يستحق العقاب على مخالفته.

وعليه ، فترتب الحجية على جعل المنجزية يستلزم الدور ، هذا إذا كان المجعول نفس المنجزية ، وان كان المجعول خصوصية يترتب عليها التنجز فلا بد من البحث عن تلك الخصوصية المجعولة وما هي (١).

فخلاصة الإيرادين : ان جعل المنجزية يستلزم تخصيص حكم العقل ، ويستلزم الدور وكلاهما محال.

والّذي نراه عدم صحة الإيرادين كليهما :

اما بناء على ما قربناه سابقا من ان الحكم باستحقاق العقاب لا يد للعقل والعقلاء فيه ولا دخل ، وانما هو يدور مدار ما يدل عليه الدليل الشرعي ، نظير عقاب السّارق بالحدّ في الدنيا فانه لا يحكم به العقل ولا العقلاء ، فلو دل على ان العقاب على الواقع بواقعه علم به أو جهل قامت الحجة عليه أو لا لم يكن لدينا كلام ولما كان منافيا لحكم عقلي ، فواضح جدا إذ لا حكم للعقل بقبح العقاب بلا بيان ، ولا تفرع للعقاب على قيام الحجة ، فقيام الدليل على ثبوت العقاب عند قيام الأمارة لا يستلزم تخصيص الحكم العقلي ولا الدور.

واما بناء على المذهب المشهور من ان الحكم باستحقاق العقاب عقلي وللشارع تحديد مقداره لا أكثر ، فلان جعل العقاب من قبل الشارع على الواقع عند قيام الأمارة يكون بنفسه بيانا رافعا لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان لا مخصصا له ، إذ الحكم بقبح العقاب بلا بيان يكون حكما عقليا تابعا للملاكات الواقعية وليس حكما جعليا كي يكون تابعا للبناء والجعل.

وإذا فرض ان اعتبار الطريقية ـ كما عليه المحقق النائيني ـ أو مفهوم

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٤ ـ الطبعة الأولى.

١٤٨

الحجية ـ كما عليه المحقق الأصفهاني ـ يستلزم ارتفاع موضوعه وتصحيح العقاب على الواقع المجعول من دون ان يتغير الواقع بالاعتبار ، فليكن الأمر كذلك في اعتبار نفس المنجزية رأسا ، إذ دعوى الفرق بين الاعتبارين في تغيير الحكم العقلي التابع للملاك الواقعي ـ دعوى ـ لا تستحق الالتفات والسماع.

وبالجملة : نفس جعل المنجزية بيان للواقع المجعول يصحح العقاب ويرفع موضوع القاعدة لا انه يوجب تخصيصها ، كما انه لا يتوقف على جعل الحجية قبل ذلك فالتفت.

واما ما ذكره المحقق النائيني من انه لو أريد من المجعول امرا يترتب عليه التنجيز فهو يرجع إلى جعل الطريقية الّذي اختاره قدس‌سره ، فصحته تتوقف على امتناع فرض مجعول آخر غير الطريقية.

وهذا ما ستعرفه بعد حين.

والمتحصل : ان ما أفاده العلمان في مقام الإيراد على الوجه الأول غير تام.

والّذي ينبغي ان يقال : هو ان مقصود صاحب الكفاية ان كان هو جعل المنجزية ـ والمراد بها الوعيد بالعقاب لا جعل الاستحقاق كما لا يخفى ـ عند قيام الأمارة مطلقا صادفت الأمارة الواقع أم لم تصادف فلازمه ترتب العقاب على التجرّي وهو لا يلتزم به. وان كان جعل المنجزية بالنسبة إلى الأمارة على تقدير مصادفتها للواقع ، فحيث لا يعلم المصادفة لم يترتب على قيام الأمارة استحقاق العقاب ، لعدم صلاحية المشكوك المصادفة للبيانية. هذا مع ان جعل المنجزية مطلقا ينافي جواز اسناد مؤداها إلى الله سبحانه الّذي هو أثر حجية الأمارة الظاهر ، كما لا يخفى ، وعليه ينسد باب الإفتاء بمؤدى الأمارة.

واما الوجه الثاني : فقد أورد عليه المحقق الأصفهاني من ناحيتين :

إحداهما : فيما ذكره من استتباع الحجية للحكم التكليفي ، فقد استشكل فيه بان استتباع الحجية للحكم التكليفي اما بنحو استتباع الموضوع لحكمه أو

١٤٩

بنحو استتباع منشأ الانتزاع للأمر الانتزاعي ، وكل منهما محل نظر.

اما الاستتباع بالنحو الأول : فلان الحجية ليست نظير الملكية ذات أثر شرعي ، بل لم يرتب عليها أي حكم شرعي ولا يعقل ذلك ، إذ جعل الحجية يكفي في انبعاث المكلف نحو العمل ويكفي في تنجز الحكم ، ومعه يكون جعل وجوب العمل حقيقيا بداعي البعث أو طريقيا بداعي التنجيز لغوا.

واما الاستتباع بالنحو الثاني : فلان الحكم الوضعي هو الّذي يصح انتزاعه عن الحكم التكليفي ، كالجزئية المنتزعة عن التكليف بالمركب ، دون العكس ، لأن تحقيق الحكم التكليفي انما هو بالإنشاء بداعي جعل الداعي وهو مما لا يقبل الانتزاع عن حكم وضعي.

الثانية : فيما ذكره من ان الحكم المجعول طريقي ، الّذي حمله المحقق الأصفهاني على الحكم المنشأ بداعي التنجيز فلا يتنافى مع الحكم المنشأ بداعي البعث.

وأورد عليه : بان جعل الحكم بداعي التنجيز غير معقول ، وذلك لأن ما يتنجز بالإنشاء هو المادة التي يقع عليها الإنشاء ، ومن الواضح ان ما يقبل التنجز هو الحكم لا متعلقه ، وما عليه الإنشاء وما هو مدلول المادة نفس المتعلق كالصلاة لا حكمها ولا معنى لتنجزه.

ونظير ذلك الإنشاء بداعي البعث ، فان المبعوث نحوه هو المادة التي يقع عليها الإنشاء.

وقد أطال قدس‌سره في بيان ذلك وانما نقلناه ملخصا للاكتفاء بمجرد ذلك فيما هو المهم.

ثم ذكر قدس‌سره ان الحكم الطريقي بمعنى آخر معقول ، وهو الحكم المنشأ بداعي البعث إلى الواقع لكن لا بعنوان ، بل بعنوان آخر وهو عنوان ما قامت عليه الأمارة. ولكنه خلاف ظاهر العبارة ، لأن ظاهرها ان الحكم الطريقي

١٥٠

حيث انه ليس جعلا للداعي فلا تماثل ولا تضاد بينه وبين الحكم الواقعي ، فلا بد ان يريد به المعنى الأول (١).

والتحقيق : ان اشكاله قدس‌سره من الناحية الأولى انما يتم لو كان المراد بالاستتباع الاستتباع في مقام الثبوت ، اما لو أريد بالاستتباع الاستتباع في مقام الإثبات ، بمعنى ان الدليل وان دل على جعل الحجية لكنه يراد به الدلالة على لا جعل الحكم الظاهري رأسا ، فلا إشكال إذ لا تعدد للمجعول ، وحينئذ فالاختلاف بين الترديدين المذكورين في هذا الوجه يرجع إلى ان المقصود بالأول هو ان واقع جعل الحجية إثباتا جعل الحكم ، وبالثاني هو ان واقع جعل الحجية ثبوتا هو جعل الحكم. فالتفت.

واما اشكاله من الناحية الثانية فمردود بأنه : لا ظهور لكلام صاحب الكفاية في إرادة الطريقية بالمعنى الأول ، بل لم يتبادر إلى الذهن الا الثاني منهما. ولو سلم ذلك فكلامه لا يأبى الحمل على المعنى الثاني للطريقية تخلصا عن إيراد عدم معقولية المعنى الأول ، واما استشهاده بما عرفت فمنشؤه قول الكفاية : « وانما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثا أو زجرا وإنشاء حكم آخر طريقي ، ولا مضادة بين الإنشاءين فيما إذا اختلفا ... » (٢) ولكنه غير صريح في المطلوب ، فمن الممكن ان يراد به المعنى الثاني ويكون نظره في نفي التضاد إلى بيان اختلاف متعلق الإرادة والكراهة كما عرفت فتدبر.

ثم ان المحقق النائيني رحمه‌الله نسب إلى صاحب الكفاية ـ استنادا إلى تعليقته على الرسائل ـ التزامه في مقام الجمع ، بان الأحكام الواقعية إنشائية وانه عبر عنها في بعض عباراته بأنها شأنية.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥١

وأطال قدس‌سره في مناقشته بان مراده من الحكم الشأني ..

ان كان ثبوت الحكم في مرتبة ثبوت ملاكه ومقتضية. وبعبارة أخرى : ليس الموجود سوى ملاك الحكم ، فهو التزام بالتصويب وعدم وجود حكم يشترك فيه العالم والجاهل.

وان كان ثبوت حكم حقيقي في الواقع ، ولكنه حكم أولي لا يتنافى مع عروض عنوان ثانوي يغيره كموارد الضرر والحرج ، فهو يستلزم ان يكون قيام الأمارة على الخلاف موجبا لانقلاب الواقع كانقلابه بعروض الضرر ، وهو التزام بالتصويب أيضا.

وان كان ثبوت حكم مهمل من حيث ما يطرأ عليه من العناوين فهو غير معقول ، لأن الإهمال في مقام الثبوت محال ، وانما الإهمال المعقول هو الإهمال في مقام الإثبات.

هذا إذا كان مراده من الشأني غير الإنشائي. واما إذا أريد به الإنشائيّ كما هو ليس ببعيد ، فيرده ما ثبت من ان الأحكام الشرعية ليست إلاّ أحكاما فعلية حقيقة ثابتة لموضوعاتها المقدرة الوجود ، وانه ليس لدينا إلاّ مقام الجعل وهو الإنشاء ومقام المجعول وهو الحكم ، وهو لا يخلو اما ان يكون مقيدا بغير من قامت عنده الأمارة أو مطلقا ، فعلى الأول يستلزم التصويب وعلى الثاني يكون فعليا لحصول موضوعه ويستحيل تخلفه عن موضوعه.

هذا ملخص ما أفاده قدس‌سره (١) والّذي يؤاخذ به :

أولا : نسبة هذا الوجه إلى صاحب الكفاية وعدم تعرضه إلى الوجه الثالث الّذي ذكره في الكفاية بقليل ولا كثير ، مع تبني صاحب الكفاية له والتزامه به كما أشرنا إليه ، وعدوله عن الالتزام بكون الحكم الواقعي إنشائيا.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٣ ـ ١٠١ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٥٢

وثانيا : التزامه بعدم وجود حكم إنشائي ، وهذا مما عرفت الإشكال فيه سابقا ، وقد أشبعنا الكلام في إثبات حكم إنشائي غير الإنشاء والفعلية فراجع (١).

واما الوجه الثالث من وجوه الجمع في الكفاية : فقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني قدس‌سره بأنه ...

ان أريد من كون الحكم الواقعي فعليا من جهة وليس تام الفعلية انه فاقد لبعض شرائط الفعلية ، فهو على هذا حكم إنشائي لا فعلي.

وان أريد انه واجد لمرتبة من الفعلية دون أخرى ـ بالبناء على ان الفعلية ذات مراتب ـ ، فشدة المرتبة وضعفها لا يوجب رفع التضاد أو التماثل ، فالبياض بمرتبته الضعيفة لا يجتمع مع السواد بأي مرتبة منه.

وان أريد انه حكم بداعي إظهار الشوق لا بداعي البعث والتحريك ، فهو فعلي من قبل هذه المقدمة.

ففيه : ان الشوق إذا بلغ حدا تتحقق به الإرادة التشريعية كان منافيا لإرادة أخرى على خلافها ، وان لم يبلغ هذا الحد لم يكن العلم به موجبا للامتثال لعدم تعلق الإرادة بالعمل.

ثم ذكر قدس‌سره انه ان أراد ما ذكرناه من كون الحكم فعليا ، بمعنى انه فعلي من قبل المولى ، وهو الإنشاء بداعي جعل الداعي ، حيث ان هذا هو تمام ما بيد المولى تم ما ذكره ، ومثل هذا الحكم لا يكون قابلا للداعوية الا بعد الوصول ، وعليه فلا منافاة بينه وبين الحكم الظاهري الفعلي الواصل ، إذ لا دعوة للحكم الواقعي مع الجهل به (٢).

ومن كلام صاحب الكفاية الراجع إلى إنكار التضاد من حيث المبادئ ،

__________________

(١) في مسألة انفكاك الحكم الإنشائي عن الفعلي خارجا في مبحث القطع بالحكم المأخوذ موضوعا للحكم.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٥٤ ـ الطبعة الأولى.

١٥٣

وهذا الكلام الراجع إلى إنكار التضاد من حيث المقتضى ، يمكن تشكيل وجه مستقل للجمع بين الحكم الظاهري والواقعي كما ذهب إليه بعض ، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

أقول : المهم في جهة الإشكال هو ما ذكره أولا من ان فقدان بعض شرائط الفعلية يوجب كون الحكم إنشائيا ، ولا يكون فعليا.

ويندفع هذا الإشكال : انه ليس المهم بنظر الكفاية هو تسمية الحكم الواقعي فعليا وعدم تسميته إنشائيا ، إذ لا أثر للتسمية في واقع المطلب ، وانما المهم هو التزامه بان الحكم الواقعي بنحو يكون العلم به أو قيام الأمارة عليه منجزا له ، سواء سمّي الحكم الواقعي إنشائيا أم فعليا ، في قبال الالتزام بأنه إنشائي صرف بحيث لا يكون العلم به منجزا ـ كما ينسب إلى الشيخ ـ.

ولا يخفى ان ما ذكره المحقق الأصفهانيّ لا ينفي واقع هذا الأمر ، وانما ينفي صحة تسمية الحكم الواقعي بالفعلي ، فلو وافقناه في انه حكم إنشائي لم يختل الجمع بهذا الوجه ولم ينتف ما رتبه صاحب الكفاية عليه من ان عدم الاذن على الخلاف يحقق فعليته المستلزمة للبعث والزجر ، إذ لا مانع ان يكون الحكم الواقعي إنشائيا ولكنه بهذه الصفة.

وبعبارة أخرى : ان تسمية ما سماه صاحب الكفاية بالفعلي من جهة بالإنشائي لا يوجب وقوع صاحب الكفاية فيما فر منه من الالتزام بان الواقع إنشائي صرف لا يتنجز بالعلم ، وهذه الدعوى هي مهمة صاحب الكفاية فان مهمته واقعية لا لفظية.

ولم يتعرض المحقق العراقي لهذا الوجه أصلا ، وانما تعرض للوجهين الأولين وناقشهما بما هو خارج عن محل الكلام ، من إشكال التضاد ، وهو لزوم نقض الغرض وتفويت المصلحة الّذي سيأتي الكلام فيه على حده إن شاء الله

١٥٤

تعالى (١).

ونتيجة ما ذكرناه : ان وجوه الجمع الثلاثة المذكورة في الكفاية معقولة كلها وليس فيها إشكال ثبوتي يوجب رفع اليد عنها.

واما الوجوه الأخرى المذكورة في مقام الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية غير ما أفاده صاحب الكفاية فهي متعددة.

منها : ما أشار إليه في الكفاية من ان الحكم الواقعي إنشائي والحكم الظاهري فعلي ، ولا تضاد بينهما كذلك ، إذ التضاد انما هو بين الحكمين الفعليين (٢) وينسب هذا الوجه إلى الشيخ الأنصاري قدس‌سره. واستشكل فيه في الكفاية بوجهين.

الأول : ان لازمه عدم لزوم امتثال ما قامت عليه الأمارة من الأحكام ، إذ الحكم الإنشائي لا يلزم امتثاله كما تقدم في أوائل مباحث القطع ، من ان القطع انما يكون منجزا إذا تعلق بحكم فعلي دون ما إذا تعلق بحكم إنشائي ، مع ان لزوم امتثال ما قامت عليه الأمارة من الواضحات التي لا تحتاج إلى بيان.

والتفصي عن هذا الإشكال : بان قيام الأمارة يوجب فعلية الحكم الواقعي الإنشائي فيلزم امتثاله لصيرورته فعليا بقيام الأمارة.

مندفع : بان لازم ذلك بان موضوع الفعلية هو الحكم الواقعي الإنشائيّ الّذي قامت عليه الأمارة ، ولا يخفى انه لا بد من إحراز ذلك اما تعبدا أو حقيقة في الحكم بالفعلية (٣).

وعليه فنقول : ان أريد ان دليل حجية الأمارة بنفسه يتكفل التعبد بهذا الموضوع. ففيه : ان دليل الحجية انما يتعبد بما هو مؤدى الأمارة وهو نفس الواقع

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٦٩ ـ ٧٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٨ ـ ٢٧٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥٥

الإنشائي لا أكثر.

وان أريد ان الموضوع مركب من جزءين : أحدهما : الحكم الإنشائي ، وهو محرز بالتعبد ، والآخر : قيام الأمارة وهو محرز بالوجدان فتترتب الفعلية كسائر الموضوعات المركبة التي يحرز بعض اجزائها بالتعبد وبعضها الآخر بالوجدان. ففيه : ان الجزء الآخر ليس هو مجرد قيام الأمارة بل هو قيام الأمارة على الواقع الّذي هو عبارة أخرى عن مصادفة الأمارة للواقع. وهذا غير ثابت لا وجدانا ولا تعبد إذ لا نظر لدليل الحجية إلى إثبات المصادفة والتعبد بها.

وبعبارة أخرى : ان قيام الأمارة لوحظ بنحو التقييد لا التركيب ، ومن الواضح ان لازم دليل الحجية ليس إلاّ إحراز قيام الأمارة على الواقع التنزيلي لا الواقع الحقيقي ، فلا يثبت الموضوع المقيد لا وجدانا ولا تعبدا.

الثاني : ان الالتزام بكون الحكم الواقعي إنشائيا لا ينفي احتمال فعلية الواقع ، ولازمه تحقق احتمال اجتماع الحكمين الفعليين وهو محال لأن احتمال اجتماع الضدين محال كنفس اجتماعهما (١).

وهذا الإشكال غير واضح المرمي ، وهو بظاهره مندفع ، إذ نظير هذا الاحتمال يتأتى على ما اختاره قدس‌سره من وجه الجمع ، إذ يقال له : ان الالتزام بكون الحكم الواقعي فعليا من جهة دون أخرى لا ينفي احتمال فعلية الواقع التامة ، فيلزم محذور احتمال اجتماع الحكمين الفعليين ، فإن أجاب عن نفسه بانحصار الحل فيما ذكره فلا احتمال حينئذ ، فكذلك يجيب غيره بانحصار الحل في مختاره فلا احتمال. فلاحظ.

ومنها : ما أشار إليه في الكفاية أيضا : من تعدد مرتبة الحكمين الظاهري والواقعي واختلافهما ، فان الحكم الظاهري بما ان موضوعه الجهل بالواقع يكون

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥٦

متأخرا عن الحكم الواقعي بمرتبتين.

وردّه في الكفاية : بان الحكم الظاهري وان لم يكن في تمام مراتب الحكم الواقعي إلاّ ان الحكم الواقعي ثابت في مرتبة الحكم الظاهري لشموله لحال الجهل ، فيجتمع الحكمان المتنافيان (١).

أقول : اكتفي صاحب الكفاية في نقل هذا الوجه والإشكال عليه بهذا المقدار.

وتحقيق الحال فيه يستدعى التعرض إلى بيان ما يصلح تقريبا له والنّظر فيه ، وهو وجوه متعددة :

الوجه الأول : ما يمكن ان يستفاد من كلام المحقق الأصفهاني قدس‌سره وتوضيحه : ان الأحكام لا تنافي بينهما من حيث أنفسهما وانما التنافي من حيث المبدأ وهو الكراهة والإرادة والمنتهى وهو مقام الامتثال ، وقد التزم قدس‌سره بعدم انقداح الإرادة في الأحكام الشرعية ، بلحاظ ان الشوق نحو الفعل انما ينقدح فيما إذا كان في الفعل مصلحة تعود على المشتاق نفسه ، والأمر ليس كذلك في موارد الأحكام ، إذ المصلحة في الفعل تعود على المكلّف ـ بالفتح لا المكلف ـ بالكسر ـ وعليه ، فينحصر محذور تضاد الحكمين من جهة المنتهى ، فان الحرمة والوجوب يتضادان في مقام التحريك ، إذ أحدهما يدعو إلى الفعل والآخر يزجر عنه أو يدعو إلى الترك.

وهذا المحذور مفقود فيما نحن فيه. لأن الحكم الظاهري لما كان ثابتا في مورد الجهل بالحكم الواقعي لم يكن منافيا له في مقام الامتثال ، لأن الحكم انما هو إنشاء ما يمكن ان يكون داعيا ، وإمكان الداعوية لا يثبت إلاّ بالوصول ، وإلاّ فالإنشاء بنفسه بدون الوصول لا يترتب عليه إمكان الداعوية.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥٧

وعليه ، فالحكم الواقعي في موارد ثبوت الحكم الظاهري لا داعوية له لا فعلا ولا إمكانا ، فبتعدد مرتبة الحكمين ارتفع محذور التنافي بينهما في مقام الامتثال فلا مانع من اجتماعهما (١).

ويؤاخذ هذا الوجه بشئونه من جهات ثلاث :

الأولى : انما ذكره من عدم عود مصلحة إلى المكلف ـ بالكسر ـ في موارد الأحكام غير تام على إطلاقه ، إذ هو مسلم بالنسبة إلى المبدأ الأعلى جل اسمه. واما بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الولي عليه‌السلام فغير مسلم لتصور مصلحة عائدة إليهما من الأفعال ، ولو بلحاظ كمال الأمة المنسوبة إليهم فانه مما يوجب تحقق الشوق إلى ما يوجب كمالها ، نظير الشوق لما فيه مصلحة الابن خاصة باعتبار انتسابه إلى أبيه.

وعليه ، فتحقق الإرادة والكراهية في نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الولي عليه‌السلام ممكن.

الثانية : فيما ذكره من ان حقيقة الحكم جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وان إمكان الداعوية لا ثبوت له الا في حال الوصول ، فانه لازمه كون الأحكام الفعلية مقيدة بالوصول بنحو الوجوب المشروط ، إذ لا معنى للجعل في حال عدم الوصول بعد عدم إمكان الداعوية ، والمفروض ان الحكم حقيقته جعل ما يمكن ان يكون داعيا. وعليه فلا يكون فعليا قبل الوصول نظير الواجب المشروط بغير الوصول. وهذا خلاف ما التزم به من ان الفعلية من قبل المولى تتحقق قبل الوصول.

الثالثة : فيما ذكره من ان إمكان الداعوية لا يثبت إلاّ في حال الوصول فانه ممنوع وذلك : لأن داعوية الأمر نحو متعلقه في صورة العلم ليست تكوينية

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٢ ـ ٤٣ ـ الطبعة الأولى.

١٥٨

قهرية نظير تأثير الأسباب التوليدية في مسبباتها كالنار في الإحراق. وانما هي بلحاظ ما يترتب على الموافقة والمخالفة من ثواب وعقاب ، وهذا الملاك بعينه ثابت في صورة الجهل البسيط واحتمال الأمر ، إذ يقطع بترتب الثواب عند الإتيان بالعمل ويحتمل العقاب ـ مع غض النّظر عن المعذر ـ ، وهذا يكفي في الداعوية نحو الفعل ، وعليه فلا يتوقف إمكان الداعوية على الوصول.

والنتيجة : ان ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس‌سره غير مسلم.

وقد حاول بعض الاعلام الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي بوجه مؤلف مما أفاده صاحب الكفاية والمحقق الأصفهاني ببيان : ان التنافي بين الحكمين ان كان بلحاظ المبدأ وهو الإرادة والكراهة والمصلحة والمفسدة ، فلا تنافي لا بين الحكم الواقعي والظاهري لأن الحكم الظاهري ناشئ عن مصلحة في نفسه لا في متعلقه. وان كان بلحاظ المنتهى وهو مقام الامتثال فلا تنافي أيضا لأن الحكم الظاهري ثابت في صورة الجهل والحكم الواقعي لا داعوية له في هذا الفرض. وانتهى ملخصا (١).

أقول الحكم التكليفي بجميع مباني حقيقته من كون الإنشاء بداعي جعل الداعي أو جعل الفعل في العهدة أو غيرهما يتقوم بإمكان داعويته اما من جهة انه مقوم لحقيقته أو لازم لها ولا يتخلف عنها ، ففي المورد الّذي لا يمكن الانبعاث يلغو جعل الحكم. ولأجل ذلك اعترف القائل بامتناع جعل التكليف في صورة الجهل المركب على خلافه وصورة الغفلة لعدم تصور الداعوية فيه.

وقد صححه في صورة الجهل البسيط والتردد بإمكان الانبعاث احتياط. لكن يشكل : بأنه مع قيام الأمارة على خلاف الواقع وكان مفادها حكما إلزاميا ـ كما لو قامت الأمارة على الحرمة وكان الواقع الوجوب ـ يمتنع بقاء الواقع لعدم

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ١٠٩ ـ الطبعة الأولى.

١٥٩

قابليته الدعوة مع تنجز الحرمة في حق المكلف. فتدبر.

الوجه الثاني : ما نقله المحقق الأصفهاني عن بعض الأجلة ، وهو يرجع إلى دعوى عدم اجتماع الحكمين في موضوع واحد. ببيان : ان الحكم لا تعلق له بالموجود الخارجي ، بل انما يتعلق بالموجود الذهني بما هو حاك عن الخارج ، وليس لدينا مجمع في الذهن للعنوان المتعلق للحكم الواقعي والعنوان المتعلق للحكم الظاهري ، لأن موضوع الحكم الواقعي هو الفعل المجرد عن لحاظ العلم بحكمه والشك فيه ، وموضوع الحكم الظاهري هو الفعل بوصف كونه مشكوكا حكمه ، ومن الواضح انه لا مجمع للفعل بما هو مجرد والفعل بما هو متصف بالشك.

ولا يخفى ان هذا الوجه يبتني على امرين : أحدهما : امتناع تقييد الحكم بصورة العلم به. والآخر : انه إذا امتنع التقييد امتنع أخذه مطلقا بحيث يشمل صورة العلم والجهل ، لكون التقابل بين التقييد والإطلاق تقابل العدم والملكة.

ونتيجة هذين الأمرين : كون الحكم الواقعي مهملا من هذه الجهة. وهو غير خال عن الإشكال لامتناع الإهمال في مقام الثبوت كما بيناه مكررا ، إذ الحاكم يمتنع ان يتردد في حكمه وموضوعه.

وليس امتناع التقييد مستلزما لامتناع الإطلاق مطلقا ، بل هو يستلزم ضرورة الإطلاق في بعض الأحيان ، وهو كما في صورة امتناع تقييد الحكم لا في صورة امتناع قصر الحكم على المقيّد فقط ـ وقد أوضحناه في مبحث التعبدي والتوصلي ـ.

وبالجملة : فالحكم الواقعي لا بد ان يكون مطلقا شاملا لكلا الحالين حال العلم وحال الجهل.

ومعه يكون لموضوعه وموضوع الحكم الظاهري مجمع ذهني نظير الصلاة في الدار المغصوبة.

وقد أطال المحقق الأصفهاني قدس‌سره في مقام الرد على هذا الوجه ،

١٦٠