منتقى الأصول - ج ٤

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٥٩

نعم ، يبقى سؤال : وهو انه ما الوجه في إطلاق الجعل على الإنشاء؟ ، وجوابه : ان الاعتبار العقلائي لا يتحقق بدون الإنشاء ، فالبناء النفسيّ على تمليك زيد داره لعمرو وانها ملك له بمائة دينار لا يوجب اعتبار البيع عند العقلاء ما لم ينشأ البيع ، وعليه فالإنشاء بمنزلة الموضوع والسبب للاعتبار العقلائي نظير الملاقاة للنجس في كونها سببا لحكم الشارع بالنجاسة ، وإيجاد الموضوع للحكم يصحح عرفا إطلاق إيجاد الحكم ونسبته لموجود الموضوع ، ولذلك يقال : « ان زيدا نجّس يده » ، كما يقال انه : « ملّك عمرا داره » ، مع ان الحكم بالنجاسة شرعي وبالملكية عقلائي ، فإطلاق الجعل على الإنشاء إطلاق مسامحي يصححه كون الإنشاء سببا للاعتبار ، فالتفت وتدبّر.

وهذا امر واضح. وانما الأمر الّذي لا بد من إيقاع البحث فيه : هو ان الاعتبار الّذي لا ينفك عن المعتبر في موارد كون المنشأ هو الحكم على تقدير ، هل هو فعلي بمعنى انه يتحقق حال الإنشاء وان كان لا يترتب عليه الأثر الا عند حصول التقدير ، بان يعتبر العقلاء الوجوب عند الزوال من الآن؟ ، أو انه استقبالي بمعنى ان الاعتبار لا يتحقق إلاّ عند تحقق التقدير فقبل تحققه لا وجود الا للإنشاء؟ ، ولا يخفى ان هذا أجنبي عن إمكان انفكاك الحكم عن إنشائه الّذي عرفت تعين الالتزام به ، إذ هو بحث عن تحقق الانفكاك وعدمه.

والظاهر الّذي يجده الإنسان من نفسه الّذي به يميز ويدرك حكم العقلاء وعملهم ، هو ان اعتبار الحكم لا يكون إلاّ عند تحقق التقدير ، فقبله لا حكم ولا اعتبار ، فمن ملك زيدا داره على تقدير سفره ، لا يعتبر العقلاء ملكية زيد للدار الا في حال سفر المملك. ولكن هذا المعنى تام بناء على الالتزام في باب الاعتبارات بالاعتبار العقلائي ليس إلاّ ، اما بناء على الالتزام بوجود اعتبار شخصي للمنشئ يكون موضوعا للاعتبار العقلائي ، فلا يتم الكلام المزبور ، إذ الاعتبار الشخصي لا يكون إلاّ في حال الإنشاء ، إذ قد لا تكون للمنشئ

١٠١

أهلية الاعتبار عند حصول التقدير كما إذا كان نائما أو غافلا أو ميتا ـ كما في الوصية التمليكية ـ.

هذا ، ولكن الالتزام بثبوت الاعتبار الشخصي قد عرفت نقضه في مبحث الخبر والإنشاء في أوائل الكتاب ، مع ان الاعتبار الشخصي موضوع للاعتبار العقلائي الّذي يكون محط الآثار العملية. وقد عرفت ان الاعتبار العقلائي منفك خارجا عن الإنشاء.

والمتحصل : ان الحكم المجعول ينفك عن الإنشاء إمكانا ووقوعا.

ونتيجة ما حققناه : هو تصور وجود حكم إنشائي غير الحكم الفعلي وإمكان انفكاك الإنشائي عن الفعلي خارجا.

وعليه : فما ذكره صاحب الكفاية من إمكان أخذ العلم بالحكم الإنشائي في موضوع الحكم الفعلي لا إشكال فيه ، لعدم تأتي أي محذور فيه من المحاذير المتقدمة.

نعم ، يبقى بحث مع المحقق النائيني في إمكان أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول ، وسيأتي التعرض إليه إن شاء الله تعالى في أوائل مباحث الأمارات. فانتظر.

ثم ان صاحب الكفاية رحمه‌الله تعرض للظن كما تعرض للعلم ، فذكر انه لا يمكن أخذ الظن بالحكم في موضوع نفس الحكم ، وهو صحيح لعين ما مرّ في أخذ العلم بالحكم في موضوع نفسه.

واما أخذ الظن بالحكم في موضوع مثله أو ضده فلا مانع منه بالنحو الّذي يلتزم به في مقام الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري على ما سيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. ويأتي هناك إن شاء الله تعالى بيان المقصود من عبارة الكفاية من ان الحكم الواقعي يكون فعليا ، بمعنى انه لو قطع به من باب الإتقان لتنجز. وبيان النكتة في قيد « الاتفاق » الّذي أخذه فانتظر والله سبحانه

١٠٢

الموفق للصواب.

الجهة السابعة : في الموافقة الالتزامية.

وربطها بالأصول باعتبار ان البحث فيها انما يكون لمعرفة وجود المانع من جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي بالتكليف الدائر بين الوجوب والحرمة ، المصطلح عليه بدوران الأمر بين محذورين ، بيان ذلك : ان جريان الأصل في أطراف العلم الإجمالي مطلقا ..

تارة : ينفي بلحاظ عدم المقتضى له إثباتا ، كما ذهب إليه الشيخ في الاستصحاب باعتبار ان شمول دليله لموارد العلم الإجمالي يستلزم حصول التناقض بين الصدر والذيل ، ببيان يأتي في محله إن شاء الله تعالى (١).

وأخرى : ينفى ـ بعد تسليم وجود المقتضي له إثباتا في نفسه بمنع ما ذكره الشيخ رحمه‌الله ـ بأنه يستلزم المخالفة القطعية العلمية للتكليف المنجز بالعلم الإجمالي (٢).

وثالثة : ينفي في مورد عدم توفر هذا المانع كما في دوران الأمر بين محذورين ، إذ لا تمكن المخالفة القطعية ولا الموافقة القطعية ، بان الأصل لا أثر له عملا بعد عدم خروج المكلف عن الفعل والترك ، والأصل انما يجري بلحاظ الأثر العملي وبدونه لا يجري.

وفي هذا الفرض إذا التزم بجريان الأصل بإنكار ضرورة وجود الأثر العملي لجريان الأصل يقع البحث عن وجود مانع من جريانه ، وهو استلزامه لعدم الموافقة الالتزامية الواجبة ، ولأجل ذلك يبحث في وجوب الالتزام بالاحكام مضافا إلى وجوب الامتثال العملي ، بمعنى انه هل هناك وجهان أحدهما العمل

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٢٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٤ ـ ٦٩٣ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١٠٣

والآخر الالتزام بوجوبه ، أو ليس في البين إلاّ وجوب العمل فقط؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى عدم وجوبه ، واستدل بالوجدان الحاكم في باب الإطاعة ، وانه لا يرى استحقاق العبد للعقاب إذا جاء بمتعلق التكليف بدون التزامه به وانقياده له.

وانتهى بذلك إلى عدم المانع من جريان الأصل في مورد دوران الأمر بين محذورين.

ثم ذكر انه على تقدير البناء على وجوب الالتزام فليس يمنع عن جريان الأصل ، لأن الواجب ـ على تقدير وجوبه ـ فهو الالتزام بحكم الله الواقعي على واقعة ، وهذا ممكن في مورد دوران الأمر بين محذورين ، ولا يتنافى مع جريان أصالة الإباحة في كلا الطرفين ، إذ يمكن ان يلتزم العبد بحكم الله الواقعي من وجوب أو حرمة على واقعه ، ويبنى على إباحة كل من الطرفين ظاهرا ، وليس الواجب هو الالتزام بحكم الله بعنوان الخاصّ من وجوب أو حرمة ، إذ لا دليل لو سلم الا على النحو الأول لأن الدليل المفروض هو وجوب التصديق بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو لا يقتضي أكثر مما ذكرناه.

ولو تنزلنا وقلنا : بان الالتزام الواجب هو الالتزام بحكم الله الواقعي بعنوانه الخاصّ ، فهو غير ممكن في الفرض ، فيسقط لعدم العلم به بعنوانه ، وهو مما يتوقف عليه الالتزام.

ودعوى : ان مقتضى العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة هو العلم إجمالا بلزوم الالتزام بأحدهما ، وحيث انه لا يمكن الموافقة القطعية بالالتزام بهما معا يتنزل إلى الموافقة الاحتمالية من باب التوسط في التنجيز ، فيلتزم بأحدهما تخييرا كما في صورة الاضطرار إلى أحد المشتبهين.

تندفع : بان الموافقة الاحتمالية هاهنا غير مقدورة إلاّ بنحو محرم ، وذلك لأن الالتزام بكل واحد من الحكمين غير ممكن مع الشك به وانما يمكن مع البناء

١٠٤

النفسيّ عليه وتشريعه وهو محرم. وهذا الجواب هو ظاهر الكفاية (١).

وهو أفضل من الجواب المذكور في حاشيته على الرسائل من نفي منجزية العلم الإجمالي مع عدم التمكن من أحد الطرفين والاضطرار إلى أحدهما وعدم الالتزام بالتوسط في التنجيز (٢). لأنه جواب مبنائي لا يتناسب مع البحث العلمي التحقيقي ، بخلاف جواب الكفاية هذا توضيح بعض ما جاء في الكفاية في المقام.

وللمحقق الأصفهانيّ في حاشيته على الكفاية كلام مرجعه إلى الاعتراض على صاحب الكفاية. وبيانه : ان البحث في وجوب الالتزام ..

تارة : يكون بلحاظ اقتضاء نفس التكليف ذلك كما يقتضي العمل.

وأخرى : يكون بلحاظ اقتضاء دليل من الخارج له.

والبحث من الجهة الأولى يناسب مباحث القطع ، لأنه بحث عن شئون التكليف المعلوم من حيث الإطاعة والمعصية عقلا. إلاّ ان البحث في لزوم الموافقة الالتزامية انما هو لأجل معرفة وجود المانع عن إجراء الأصول العملية مع تمامية المقتضي لها ، فان ارتباطها بالأصول من هذه الجهة ، ومن الواضح ان ذلك يقتضي بلزوم إيقاع البحث فيها من كلتا الجهتين ، ولا يصح ان يبحث فيها من جهة دون جهة ، إذ لا اختصاص للمانعية وعدمها في ثبوتها من إحدى الجهتين.

وعليه ، فإيقاع البحث فيها من خصوص الجهة الأولى في المقام كما جاء في الكفاية ليس كما ينبغي ، إذ لا يتناسب مع أصولية المسألة.

ثم ذهب قدس‌سره إلى ان ما دل على لزوم تصديق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما جاء به لا يقتضي وجوب الموافقة الالتزامية ، إذ غاية ما يقتضيه

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٢٧ ـ الطبعة الأولى.

١٠٥

هو ان ما أوجبه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأخبر به هو واجب من قبله تعالى ، وهو يجتمع مع عدم الالتزام بحكمه تعالى كما لو علم به مباشرة من دون توسط اخبار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم ذكر قدس‌سره : « غاية الأمر أن المخالفة الالتزامية فيها ـ التعبديات ـ لا ينفك عن المخالفة العملية وتنفك المخالفة العملية عن المخالفة الالتزامية ، لأن الالتزام بالحكم لا يلازم العلم ، والعمل العبادي يلازم الالتزام بالحكم » (١).

أقول : ما ذكره أولا لا بأس به ولا كلام لنا معه.

واما ما ذكره أخيرا من ان عدم الالتزام في التعبديات ينافي التقرب المعتبر في العبادة فيكون مستلزما للمخالفة العملية.

ففيه : ان الحكمين التعبدين أو التعبدي والتوصلي المعلوم إجمالا ثبوت أحدهما ، اما ان نلتزم بإمكان المخالفة العملية القطعية في الفرض ، أو نلتزم بعدم إمكانه كالتوصليين ، فان التزمنا بالأول كما هو الحق على ما بين في محله ، فلا تجري الأصول لأجل استلزامها المخالفة العملية ، فيكون الأصل محفوفا بالمانع مع قطع النّظر عن وجوب الالتزام ، فلا تصل النوبة إلى البحث فيه من هذه الجهة ، نعني جهة مانعيته عن جريان الأصل. وان التزمنا بالثاني ـ ولو فرضا ـ فدعوى ان عدم الالتزام يلازم المخالفة العملية القطعية خلف كما لا يخفى ، فتدبر جيدا.

ثم ان صاحب الكفاية رحمه‌الله ذكر انه لا يمكن ان يكون إجراء الأصل نافيا لوجوب الالتزام لو فرض وجوبه في نفسه ومنافاة مفاد الأصل له ، وقد أشار بذلك إلى ما ذكره الشيخ في رسائله من ان إجراء الأصل في الشبهة

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٦ ـ الطبعة الأولى.

١٠٦

الموضوعية يخرج مورده عن موضوع وجوب الالتزام ، فان أصالة عدم الحلف على ترك الوطء وعدم الحلف على الوطء ـ في موارد دوران الأمر بينهما ـ تخرج كلا من الطرفين عن موضوع الوجوب والحرمة ، فلا يجب الالتزام بهما لعدم ثبوتهما.

ولكنه قدس‌سره بعد ان ذكر ذلك ان التحقيق خلافه ونفى صحته (١).

ومن الغريب جدا ما يظهر من حاشية المحقق الأصفهاني قدس‌سره من نسبة الوجه المذكور إلى الشيخ مع ما عرفت من نفيه صحته في نفس المطلب (٢).

وعلى كل حال ، فقد ذهب صاحب الكفاية إلى بطلان هذا الوجه ، لأنه يستلزم الدور ، وذلك لأن إجراء الأصل في كل من الطرفين المدعى انه يرفع وجوب الالتزام المنافي له انما يكون مع عدم المانع وعدم المانع هاهنا وهو وجوب الالتزام يتوقف على إجراء الأصل.

وبالجملة : جريان الأصل يتوقف على عدم ثبوت وجوب الالتزام لأنه مناف له ، وعدم ثبوته يتوقف على جريان الأصل كما هو مقتضى الوجه ، فيلزم الدور.

أقول : بنظير هذا البيان يقرب التحاكم أو التوارد بين الأصل السببي والمسببي.

ولكنه يدفع : بان الأصل السببي حيث يكون رافعا لموضوع الأصل المسببي ، فالأخذ به لا يستلزم رفعا لليد عن دليل المسببي لعدم موضوعه ، اما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٦٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى فرائد الأصول ١٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٢٨ ـ الطبعة الأولى.

١٠٧

الأخذ بالأصل المسببي فهو يستلزم رفع اليد عن دليل السببي اما بلا وجه أو بوجه دوري ، وهو بان يستند في رفع اليد عن دليل السببي إلى الأخذ بالأصل المسببي المتوقف على عدم الأخذ بالأصل السببي ـ إذ لو أخذ به رفع موضوعه كما هو الفرض ـ المفروض توقفه على الأخذ بالأصل المسببي.

والّذي نراه ان تقريب المذكور في كلام الشيخ بما دل ان يجعل نسبة جريان الأصل إلى وجوب الالتزام نسبة الأصل السببي إلى الأصل المسببي فيتأتى فيه هذا البيان ولا دور.

بيان ذلك : ان وجوب الالتزام موضوعه هو الحكم الثابت ، فالأصل النافي للحكم يرفع موضوع وجوب الالتزام ، فلا يكون إجراؤه موجبا للتصرف في دليل وجوب الالتزام ، وهذا بخلاف جريان الأصل ، فان موضوعه الشك ، فلم يؤخذ في موضوعه عدم وجود حكم ينافيه ، وانما لا يجري من جهة حكم العقل بحصول المنافاة ، نظير عدم اجتماع حكم الأصل السببي مع المسببي بحيث لو قام دليل بالخصوص على ثبوت الحكم المسببي لم يجر الأصل السببي مع انه لم يرتفع موضوعه.

وعليه ، فيكون الأخذ بوجوب الالتزام مستلزما لرفع اليد عن دليل الأصل اما بلا وجه أو على وجه دائر.

اذن فما جاء في الكفاية في مناقشة هذا الوجه غير وجيه (١) ، وانما الصحيح ما أشار إليه الشيخ في رسائله من ان عدم جريان الأصل على تقدير ثبوت وجوب الالتزام من جهة منافاته للتكليف المعلوم بالإجمال ، ولا يتكفل الأصل رفع موضوع وجوب الالتزام ، لأن الأصل انما يجري في كل من الطرفين بلحاظ

__________________

[١] من المحتمل قويا ان يكون منظور الكفاية إلى هذا البيان وملاحظته ملاكا لإيراده بالدور. فتأمل. ( منه عفي عنه ).

١٠٨

الشك ، ولكنه لا ينفي الحكم الواقعي المعلوم ، لأنه معلوم إجمالا فلا موضوع للأصل بلحاظ الواقع.

وعليه ، فلا ينفع في نفي وجوب الالتزام لعدم رفعه لموضوعه.

وهذا نظير عدم جريان الأصل في الطرفين إذا استلزم المخالفة العملية القطعية ، لأجل منافاته للتكليف المعلوم إجمالا وعدم تكفله لنفيه كيف؟ وموضوعه الشك والفرض هو العلم بالواقع ، وانما يجري في الطرفين. فالتفت وتأمل.

الجهة الثامنة : في ما ذهب إليه الأخباريون من عدم حجية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة كما نسب إليهم.

وقد ذهب صاحب الكفاية تبعا للشيخ كما تبعه غيره إلى ان حجية القطع لازمة له مطلقا من غير فرق بين أسبابه وموارده ومن يتحقق عنده.

ثم شكك في صحة نسبة عدم حجية القطع غير الحاصل من الكتاب والسنة إلى الأخباريين ، وذكر بعض الكلمات لبعض أعلامهم تأييدا لتشكيكه ، بل تكذيبه للنسبة المزبورة ، حيث انها ظاهرة في منع الملازمة بين حكم العقل لوجوب شيء وحكم الشرع بوجوبه ، أو ظاهرة في منع الاعتماد على المقدمات العقلية لأنها لا تنتهي إلى الظن واكتفى قدس‌سره بهذا المقدار من التحقيق (١) ، وتابعة على إهمال ذلك بعض الاعلام المتأخرين عنه.

ولكن الّذي يظهر من مراجعة رسائل الشيخ وما جاء فيها من كلمات الأخباريين هو صحة النسبة المذكورة.

وعلى كل فقد أطال الشيخ الكلام في نقل كلماتهم وتفنيدها. وانما المهم من كلامهم ما ذكره بعد ذلك تحت عنوان : « فان قلت : ». وأهم منه ما ذكره في آخر كلامه بعد الجواب عن الشبهة الأولى تحت عنوان « إلاّ ان يدعى ان الاخبار »

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٠٩

وهو العمدة في دعوى الأخباريين.

اما الشبهة الأولى : الّذي ذكرها تحت عنوان : « فان قلت » فمحصلها : هو ان مقتضى كثير من النصوص كرواية زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام : « ... ولو ان رجلا قام ليله وصام نهاره وحج دهره وتصدق بجميع ماله ولم يعرف ولاية ولي الله فتكون أعماله بدلالته فيواليه ما كان له على الله ثواب » (١) وغيرها ، هو عدم وجوب إطاعة الحكم وامتثاله إلاّ إذا وصل من طريق النقل وما لم يصل من طريق النقل ملغى بنظر الشارع وان كان ثابتا في الواقع.

وأجاب الشيخ رحمه‌الله عن هذه الشبهة بوجهين :

الأول : انه إذا أدرك العقل قطعا وجوب شيء فعلا وان الله لا يرضى بتركه يمتنع ان يقال انه لا تجب إطاعة هذا الحكم ، والأخبار لا تدل على هذا المطلب ، بل هي في مقام النهي عن العمل بالمقدمات العقلية المنتهية إلى الظن كالقياس والاستحسان ، والقرينة على ذلك هو اهتمام المعصومين عليهم‌السلام في بيان هذا الأمر الّذي يظهر منه كونه امرا متعارفا ومباينا للواقع كي يستدعي الاهتمام ، ومن الواضح ان ما كان متعارفا هو الاستناد إلى المقدمات العقلية الظنية.

اما الاستناد إلى العقل القطعي المخالف للكتاب والسنة ، فهو نادر جدا لا يستدعي مثل هذا الاهتمام.

واما نفي الثواب على التصدق بجميع المال مع عدم كونه بدلالة ولي الله ، فلا يمكن الأخذ بظاهره لأن حسن التصدق بالمال مما يحكم به العقل الفطري ـ وهو مما يعترف الاخباري بحجيته والركون إليه ـ فلا بد ان يراد به التصدق على المخالفين لأجل مخالفتهم ـ فينتفي بهذا القيد حسنه ـ نظير تصدق الشيعة

__________________

(١) الوسائل : ١ ـ ٩١ ـ باب ٢٩ من أبواب المقدمات ـ حديث ٢ مع اختلاف في بعض العبارات.

١١٠

على فقراء الشيعة لأجل تشيعهم أو بغضهم لأعدائه أو يراد به إحباط ثواب التصدق من جهة عدم معرفتهم لولي الله.

الثاني : انه لو تنزلنا وسلمنا مدخلية تبليغ الحجة في وجوب الإطاعة ، فلا ينفع في إثبات المدعى لأنه قد ورد ان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في خطبة الوداع : « معاشر الناس ما من شيء يقربكم إلى الجنة ويباعدكم عن النار الا أمرتكم به وما من شيء يقربكم إلى النار ويباعدكم عن الجنة الا وقد نهيتكم عنه » (١) ، فإذا قطع المكلف بحكم من طريق العقل يقطع بضميمة هذه الرواية ان الحكم الّذي قطع به بينه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصدر عنه.

واما الشبهة الثانية : وهي التي ذكرها بعد ما تقدم تحت عنوان : « إلاّ ان يدعى ان الاخبار ... » فمحصلها : هو ان الاخبار تدل على ان الحكم انما يصير فعليا إذا بلّغه الحجة ووصل إلينا عن طريقه وبدون التبليغ ووصوله عن طريقه عليه‌السلام لا يصل إلى مرحلة الفعلية. وعليه فالقطع بالحكم من طريق العقل لا يكون قطعا بالحكم الفعلي كي يلازمه حكم العقل بوجوب الإطاعة ، ولا ينفع العلم بالصدور الواقعي وانما اللازم هو العلم بطريقهم عليهم‌السلام وبواسطة بيانهم اما مباشرة أو بالواسطة كالاخبار المعتبرة.

وقد ناقشها الشيخ رحمه‌الله بقوله : « لكن قد عرفت عدم دلالة الاخبار ، ومع تسليم ظهورها ، فهو أيضا من باب التعارض بين النقلي الظني والعقلي القطعي ولذلك لا فائدة مهمة في هذه المسألة ، إذ بعد ما قطع العقل بحكم وقطع بعدم رضاء الله جل ذكره بمخالفته فلا يعقل ترك العمل لذلك ما دام هذا القطع باقيا ، فكلما دل على خلاف ذلك فمؤول أو مطروح ».

__________________

(١) المحاسن كتاب مصابيح الظلم باب البيان والتعريف ولزوم الحجة ٣٩ حديث ٣٩٩.

١١١

انتهى ما أفاده الشيخ في هذا المقام (١).

ولكن الإنصاف ان هذه الشبهة أعني الأخيرة شبهة قوية متينة لا تتنافى مع العقل أصلا ، وانما المهم استفادتها من الاخبار المزبورة.

وتقريب ذلك : ان بيان الحكم قد يكون بإنشائه بما يدل عليه من الصيغ وقد يكون ببيان ترتب الثواب أو العقاب على متعلقه ، فيستفاد تحريم القتل من قوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ... ) (٢) كما يستفاد استحباب الصبر من قوله تعالى : ( وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ... ) (٣).

ومن هنا ادعي دلالة اخبار « من بلغ » على استحباب العمل الّذي ورد في استحبابه خبر ضعيف ، وان نوقشت دلالتها من جهة أخرى تذكر في محلها.

وكما ان إثبات الثواب على عمل ظاهر عرفا في تعلق الأمر به كذلك نفى الثواب عليه ظاهر عرفا في عدم مطلوبيته وعدم تعلق الأمر به إلاّ إذا قامت قرينة على ثبوت الأمر به كالالتزام بتوجه الأمر إلى المخالفين مع عدم ترتب الثواب على أعمالهم لفقدان الولاية ـ ما حققناه في الفقه ـ ، ولا مانع من نفى الثواب مع وجود الأمر بلحاظ صدور امر مكروه من العبد بكراهة شديدة تنفي استحقاقه العقاب لعبده عن المولى ، وترك الولاية من قبيل ذلك.

وعليه : فرواية زرارة المتقدمة ظاهرة في نفي الثواب عن كل عمل لم يكن بدلالة ولي الله تعالى ، ومقتضى ذلك عدم الأمر به مع عدم دلالة ولي الله تعالى ، فتكون ظاهرة في أخذ دلالة ولي الله في موضوع الأحكام ، ولا محذور فيه عقلا لما عرفت من صحة أخذ العلم بمرتبة الإنشاء في موضوع الفعلية.

يبقى سؤال : وهو ان التصدق بجميع المال من أظهر مصاديق الإحسان

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ١١ ـ ١٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) سورة النساء الآية : ٩٣.

(٣) سورة البقرة ، الآية : ١٥٥.

١١٢

وهو حسن بحكم العقل الفطري فكيف ينفي الثواب عنه؟ مع عدم دخالة دلالة الحجة في حسنه ، بل هو حسن بذاته.

والجواب : ان حكم العقل بحسن الشيء لا يلازم حكمه باستحقاق الثواب على المولى ، إذ الثواب هو الجزاء على العمل الّذي جاء به العبد مرتبطا بمولاه. فمن أحسن إلى فقير لا يستحق على زيد ثوابا بحيث له ان يطالبه به ، وانما يستحق الثواب من زيد إذا كان زيد يرغب في الإحسان إلى الفقير وجاء به عمرو من هذه الجهة.

وعليه : فليس مجرد الإتيان بالحسن موجبا لاستحقاق الثواب ، بل يتوقف على ان يكون ذلك العمل مرادا ومحبوبا لله تعالى ، وجاء به العبد من تلك الجهة ، فإذا فرض ان الله لا يريد هذا الحسن الا في ظرف مخصوص لم يكن فعله في غير ذلك الظرف موجبا للثواب وان كان حسنا.

ومن هذا القبيل التصدق ، فان الرواية ظاهرة في ان الله تعالى لا يريده إلاّ إذا كان بدلالة الحجة ، فبدونها لا يستحق الثواب وان جاء بالحسن.

ونتيجة ما ذكرناه : ان دعوى الأخباريين ترجع إلى ان العلم من طريق خاص ، وهو طريق النقل مأخوذ في موضوع الحكم الفعلي ، وقد تقدم ان تقييد العلم الموضوعي بصنف خاص لا مانع منه. ومن هنا يظهر ما في جواب الشيخ الأخير الّذي نقلناه بنصه من المسامحة. إذ لم يتقدم منه نفي دلالة الخبر على هذه الدعوى ، وانما تقدم منه نفي دلالتها على نفي المنجزية وإثبات دلالتها على نفى الطرق العقلية الظنية.

وقد عرفت انه انما التزم بذلك ـ مع انه خلاف ظاهر الاخبار ـ باعتبار الاهتمام الظاهر من الاخبار ، وهو لا يتناسب مع نفي المنجزية لندرة مخالفة القطع مع الطريق السمعي.

ومن الواضح ان الدعوى الأخيرة الراجعة إلى تقييد موضوع الحكم

١١٣

بالعلم به بطريق النقل ، امر يحتاج بيانه إلى الاهتمام والتأكيد.

كما ان ما ذكره من انه مع تسليم الدلالة فتكون من موارد معارضة النقلي الظني مع الدليل العقلي القطعي غير واضح المراد ، إذ بعد تسليم ظهور هذه الرواية والاطلاع عليها لا يحصل القطع بالحكم الفعلي من غير طريق النقل أصلا ، ومعه لا حكم بالمنجزية فأين هو الدليل العقلي القطعي الحاكم بوجوب الإطاعة في غير مورد النقل كي يدعى معارضته مع هذه الرواية.

ومن هنا صار هذا الكلام من الشيخ موردا للاعتراض عليه من قبل بعض الأخباريين ونسبته إلى ما لا يتناسب مع ما عرفت من الشيخ من مقام ديني وعلمي.

وقد جاء في أجود التقريرات بعد بيان هذه الدعوى من قبل الأخباريين وعدم المحذور العقلي فيها ، انه لا يساعدها مقام الإثبات لأن الاخبار على طائفتين : إحداهما : ما كان في مقام اعتبار الولاية في صحة العمل أو قبوله. والأخرى : ما كان في نفي الاعتماد على الظن الحاصل من المقدمات العقلية من قياس واستحسان وغيرهما. وكلا الطائفتين أجنبيتان عن دعوى الأخباريين (١).

ولكنك عرفت تقريب دلالة رواية زرارة على الدعوى فلا ينفع ما ذكره في أجود التقريرات.

ثم ان المحقق العراقي تعرض إلى هذه الدعوى ثم استبعد ان تكون هي دعوى الأخباريين باعتبار ان هذه الدعوى تستدعي عدم حصول العلم من غير طريق الكتاب والسنة ، مع ان ظاهر الأخباريين نفي حجية العلم ولزوم اتباعه لا إنكار حصوله. ولو كان مرادهم هذه الدعوى لم يكن وجه لإنكار الشيخ عليهم الإنكار الشديد واستيحاشه من مقالتهم. نعم ذكر الشيخ في أول

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ٢ ـ ٤٠ ـ الطبعة الأولى.

١١٤

الكتاب من أمثلة القطع المأخوذ في الموضوع ما ذهب إليه بعض الأخباريين من تقييد الحكم بالعلم به من طريق خاص ، ولكنه ذكر ان تعرض الشيخ له من باب التمثيل لا لأجل تصحيح كلام الأخباريين. هذا ما أفاده العراقي رحمه‌الله (١).

ونحن لا نريد ان نطيل البحث في هذه الجهة ، وان هذه الدعوى هل هي مقالة الأخباريين أو لا؟ ، فليس هذا مهما ، إذ هي شبهة متينة في نفسها ذهب إليها الأخباريون أو لم يذهبوا إليها ، فان اللازم التعرض لدفعها ونقضها.

والتحقيق في دفع هذه الشبهة : ان الرواية ظاهرة في لزوم متابعة الأئمة عليهم‌السلام والانقياد لتعليماتهم والمنع عن تشكيل مقام ديني يناقض مقامهم وفي قبالهم عليهم‌السلام ، وهي تنفي الثواب عند حصول هذا المعنى نظير نفيها الثواب عند عدم الولاية نفسها ، لأجل ان هذا المعنى معصية شديدة المبغوضية فتستلزم عدم الثواب.

واما القرينة على هذا الظهور ، فمن الرواية نفسها ، وذلك لقوله عليه‌السلام « فيواليه » ـ الّذي يظهر انه هو القيد لظهور تفرعه على ما تقدم في ذلك ـ بعد قوله : « ولم يعرف ولاية ولي الله فتكون أعماله بدلالته » ، ومن الواضح انه ليس المراد منه الولاية بمعنى الاعتقاد بالإمامة ، إذ هي سابقة على كون الأعمال بدلالة الولي لا متأخرة ، فالمراد بها المتابعة والانقياد.

وواضح انه مع أخذ أكثر الأحكام منهم وعدم القيام بما يظهر منه الاستقلال عنهم ، يحقق المتابعة والانقياد بحيث لا يكون القطع بحكم من طريق العقل منافيا لهذا الانقياد.

وعليه ، فلا تنفي الرواية فعلية الحكم إلاّ إذا تعلق به القطع من طريق

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٤٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١١٥

النقل ، بل تنفي الفعلية فيما إذا كان المكلف في مقام الاستقلال عن الأئمة عليهم‌السلام والسير في غير طريقهم.

ومثل هذا لا ينطبق على المؤمن التابع لهم الّذي يحصل له القطع بالحكم في غير طريقهم في بعض الأحيان.

ولو لا هذه القرينة لما كان محيص عن الالتزام بدلالة الرواية على الدعوى ولتعين الالتزام بالدعوى عملا بالرواية وعدم أي مانع عقلي منها. فالتفت.

الجهة التاسعة : في قطع القطاع.

وقد نسب إلى كاشف الغطاء القول بعدم حجيته وعدم الاعتناء به (١).

والمراد بقطع القطاع : هو القطع الحاصل من أسباب وطرق لا تستلزم القطع عند متعارف الناس وبحسب العادة. فلا يشمل القطع الحاصل للشخص دون سائر الناس من جهة ذكائه وسعة اطلاعه والتفاته إلى بعض اللوازم والخصوصيات التي تكتنف بها الواقعة المستلزمة للقطع مما لا يتوفر لسائر الناس ، وان كانت بحيث لو توفرت لكل أحد يحصل منها القطع.

وقد تعرض الشيخ رحمه‌الله إلى مناقشة هذا القول ببيان ملخصه :

انه ان أريد بعدم اعتباره عدم اعتباره في مورد يكون القطع موضوعا للحكم ، فلا بأس به لانصراف القطع المأخوذ في الموضوع إلى الحاصل من الأسباب التي يتعارف حصول القطع منها ، نظير انصراف الظن والشك في موارد أخذهما في الموضوع إلى المتعارف منهما.

وان أريد نفي اعتباره في مقام يكون القطع طريقيا ، فان أريد نفي إجزاء ما قطع به عن الواقع لو انكشف الخلاف فهو حق أيضا ، لكنه لا يختص بقطع

__________________

(١) كاشف الغطاء المحقق الفقيه الشيخ جعفر كاشف الغطاء ـ ٦٤ ـ المقصد العاشر ـ الطبعة الأولى.

١١٦

القطاع ، بل يعم غيره لعدم إجزاء الأمر التخيلي ـ كما حقق في مبحث الإجزاء ـ. وان أريد وجوب ردعه عن قطعه ورفعه عنه وتنبيهه على مرضه أو يقال له : ان الله لا يريد منك الواقع إذا كان غافلا عن القطع بحيث تلتبس عليه المغالطة ، فهو حق أيضا في موارد القطع بخلاف الواقع مما يرتبط بالنفوس والاعراض والأموال التي تجب المحافظة عليها ، لكنه لا يختص بقطع القطاع بل يعم مطلق القطع المخالف للواقع ولو كان متعارفا.

وان أريد انه حال العلم بحكم الشاك فهو ممنوع. إذ القاطع بالحكم لا يمكن إرجاعه إلى أحكام الشك من الأصول العملية لعدم شمولها له ، فنفي حجية قطعه يعني تركه متحيرا متخبطا لا يعرف ما يقوم به. هذا ملخص ما أفاده الشيخ (١).

والعمدة في وجه المناقشة التي ترتبط بما نحن فيه هو الشق الأخير من الترديد. وهو عدم إمكان فرض العالم بحكم غير العالم وإرجاعه إلى حكم الشاك. وهو الّذي يرتبط بمنع عدم حجية القطع.

وكلامه لأول وهلة يظهر منه انه قدس‌سره أغفل المناقشة من هذه الجهة ونقل المناقشة إلى موضوع آخر لا يمت لدعوى عدم حجية القطع بصلة.

وعلى كل فمناقشة الشيخ المزبورة متينة وجيهة.

واما ما جاء في أجود التقريرات من مناقشة الدعوى المزبورة بان حجية القطع ذاتية فلا يمكن تخلفها عنه في مورد من الموارد.

ففيه : انه لم يتقدم ان حجية القطع من ذاتياته ، وانما تقدم انها بحكم العقل وإدراكه ، فلا بد من إيقاع البحث في أن العقل هل يدرك حجية القطع مطلقا أو في بعض صوره.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٣ ـ الطبعة الأولى.

١١٧

نعم ، تقدم ان طريقية القطع ذاتية لكنها غير حجيته.

واما مناقشة الشيخ ، فيمكن ان يقال في دفعها :

أولا : بالنقض بمورد الجاهل المركب المقصر ، فانه في حال علمه لا يمكن ثبوت أحكام الشك له ، ولكنه لا يكون معذورا في مخالفته للواقع مع انه قاطع.

وثانيا : بأنه وان سلم ان القاطع في حال قطعه لا يمكن إرجاعه إلى أحكام غير القاطع بما هي أحكام لغير القاطع ، لكننا يمكننا ان ندعي هذا القاطع لا يكون معذورا لو خالف قطعه الواقع ، وهذا هو المراد من نفي حجية قطعه.

بيان ذلك : ان حجية القطع ترجع إلى وجوب متابعته ومنجزيته للواقع لو صادفه ومعذريته لو خالف قطعه الواقع.

فالذي ندعيه : ان العقل لا يحكم بمعذرية قطع القطاع لو خالف الواقع. وهذا لا محذور فيه أصلا ولا يتنافى مع لزوم متابعة القطع الحاصل بنظر القاطع.

وعليه ، فيكون الكلام في أن الحكم العقلي بمعذرية القطع وعدم استحقاق العقاب على مخالفة الواقع الّذي تعلق القطع بخلافه ، هل هو ثابت لجميع افراد القطع اما انه ثابت لبعض الافراد دون بعض؟.

ولا يخفى ان التشكيك في ذلك يكفي في عدم ثبوت المعذرية ولا نحتاج إلى إثبات العدم ، وانما الّذي يحتاج إلى الإثبات هو القول بالحجية.

ولكن الإنصاف عند ملاحظة حال العقلاء ومعاملاتهم فيما بينهم ومع عبيدهم ـ التي هي الطريق لتشخيص أصل حجية القطع في الجملة ـ هو عدم معذورية القاطع إذا كان قطعه من غير طريق متعارف ، فمن امر وكيله بشراء خاصة له بالقيمة السوقية فاشتراها الوكيل بأزيد منها استنادا إلى قطعه بان الثمن يساوي القيمة السوقية ، لكنه ملتفت إلى ان قطعه غير ناش عن سبب متعارف فللموكل ان لا يعذر وكيله ويعاتبه كما لا يخفى.

وليس هذا امرا بعيدا بعد التزام الفقهاء بمعاقبة الجاهل المركب المقصر

١١٨

في أصوله وفروعه ، وليس ذلك إلاّ لعدم كون قطعه معذرا بعد تقصيره في المقدمات التي تسبب القطع.

وبعد التزام الشيخ بان التقصير المسبب للنسيان يمكن ان يستلزم العقاب على المنسي لو لا حديث الرفع الراجع إلى نفي وجوب التحفظ ، مع انه لا حكم للناسي في حال نسيانه ، ولا يمكن مخاطبته باحكام الملتفت.

وبالجملة : عدم إمكان إثبات حكم للقاطع ينافي ما قطع به في حال قطعه ، لا يتنافى مع عدم حجية القطع بمعنى عدم كونه معذورا لو انكشف ان قطعه مخالف للواقع ، إذ عدم المعذورية انما يحكم به بعد زوال القطع فلا محذور فيه.

ومن هنا يظهر : انه يمكن تصحيح دعوى الأخباريين الراجعة إلى نفى حجية القطع ـ هذا مما احتمله الشيخ في مراد الأخباريين فراجع صدر كلامه ـ بإرجاعها إلى نفي معذورية القطع الحاصل من غير الكتاب والسنة ، وهي دعوى لا بأس بها ، إذ بعد ورود الروايات الكثيرة الدالة على ان الدّين لا يصاب بالعقول ، وكثرة وقوع الخطأ في الأحكام إذا كانت مدركة من طريق العقل ، لا يحكم العقل والعقلاء بمعذورية القاطع من غير طريق الكتاب والسنة ، بل يعدونه مقصرا في المقدمات فيصح عقابه. وان لم يمكن نفي وجوب الإطاعة في حال قطعه. فالتفت وتدبر.

وإلى ما ذكرناه من نفي معذورية القطع أشار المحقق العراقي كما في نهاية الأفكار (١) فلاحظ.

الجهة العاشرة : في العلم الإجمالي.

والكلام فيه في مقامين :

المقام الأول : في إثبات التكليف به ، وقد وقع الكلام بين الاعلام ( قدس

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٣ ـ ٤٤ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

١١٩

سرهم ) في ان العلم الإجمالي بالتكليف هل يوجب تنجزه أو لا؟.

والأقوال متعددة :

منها : انه علة تامة لتنجيز التكليف كالعلم التفصيليّ.

ومنها : انه مقتض للتنجيز بحيث يؤثر فيه لو لم يمنع مانع من تأثيره. وهو رأي صاحب الكفاية في هذا المقام (١) امّا في مبحث الاشتغال ، فقد توهم عبارته خلاف ذلك وسيأتي دفع هذا التوهم إن شاء الله تعالى.

والّذي ذهب إليه صاحب الكفاية يبتني على مقدمات ثلاث :

الأولى : ان العلم لا يكون منجزا إلاّ إذا تعلق بحكم فعلي تام الفعلية من جميع الجهات ـ كما مرت الإشارة إلى ذلك فيما تقدم ـ.

الثانية : ان الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية انما هو بالالتزام بان الحكم الواقعي فعلي لكن لا من جميع الجهات الّذي عبر عنه بأنه لو علم به لصار فعليا وتنجز (٢) ، وهو راجع إلى أخذ العلم في موضوع الفعلية ، وقد نبه على عدم ورود الإشكال عليه بان العلم إذا أخذ موضوعا لم ينفع قيام الأمارة في صيرورة الحكم الواقعي فعليا لعدم قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي بنظره ـ نبه على عدم ورود هذا الإشكال ـ بان قيد الموضوع ليس هو العلم وانما المانع من الفعلية هو الأمارة أو الأصل على الخلاف ، فإذا لم تقم الأمارة فقد ارتفع المانع فتحقق الفعلية ، وسيأتي إن شاء الله تعالى توضيح مرام الكفاية والنّظر فيه نفيا وإثباتا.

وعلى كل ، فالمقصود من هذه المقدمة هو بيان : انه مع وجود الأصل أو الأمارة على خلاف الواقع لا يكون الواقع فعليا من جميع الجهات وانما يكون فعليا على تقدير ـ بتعبير ـ أو فعليا من جهة دون جهة ـ بتعبير آخر ـ.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٢٠