التقيّة في إطارها الفقهي

علي الشملاوي

التقيّة في إطارها الفقهي

المؤلف:

علي الشملاوي


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

أما الأول :

فمن سبر غور التاريخ الإسلامي ـ المضمن في كتب التاريخ ... التي لا يسعنا رفضها اجمع .. إذ فيها من التواتر المقطوع ـ ... وجد الجواب الشافي على ذلك. وإن شكل ـ في بعض الاوقات ـ نقطة سوداء في وجودنا لن تزول أبداً ، مهما نقحنا تاريخنا وشذبناه ..

بل في بعض الأوقات نجد تاريخنا قد رسم ـ مسبقاً ـ لنا ـ كما في أخبار الفتن الغيبية التي نؤمن بها ، والتي اهتم العلماء قاطبة بها ـ سواءاً كانوا اصحاب صحاح أم مسانيد أم غيرهم (١) .... ولا يكلف ذلك اكثر من نظرة خاطفة لاي كتاب تاريخي أو حتى حديثي ليجد ذلك واضحاً جلياً .. بل يمكن أن يجده حتى في الكتاب الفقهي ـ الذي ما كان ينبغي أن يشكل جزءاً في صورة الصراع السياسي ... إلا أنه أبي إلا أن يشارك ـ الخلاف الفقهي ـ في الصراع السياسي ..

لو فرض أننا تجاوزنا القرن الأول .. الذي كان ينبغي ان يشكل صورة واضحة لاستمرار الوحدة والانفاق بين المسلمين ... ولكن مع تمام الأسف لم يكن ... فقد ساعد في رسم تاريخ مليء بالخلافات ..

وقد يقال .. وماذاك .. فانه ليس هناك أمة إلا ولها جذور في الخلاف ـ كما ذكر في اطلالة هذا البحث ... نعم ..

__________________

(١) صحيح البخاري ج ٦ ص ٢٥٨٧ الى ٢٦٠٩ كتاب الفتن. تعليق د. البغا.

١٨١

ولكن لا ينبغي ان يكون لهدم الأمة .. بل ينبغي أن يكون لبنائها.

وما حصل بالفعل .. عكسه.

فمن القرن الأول .. جاء وصف البغاة من المسلمين (٢) ... ومنه كان إخافة الناس ... ومنه جاء وصف الظلمة لحكام المسلمين .. ومن بداية عقوده المتأخرة .. بدأ التحول التاريخي .. كما اخبر بذلك الرسول الكريم في الحديث المتواتر ... معنىً .. : ثم يكون ملك عضوض .. مع ذلك كله تجاوزناه ..

ولا يهمنا ان نطوف بالحوادث الشاهدة على ذلك .. انما نريد أن نشير الى حدوث مثل هذه الصورة في الجملة ..

ونؤكد على استمرار هذه الحالة بعد تشكل المذاهب الإسلامية .. ومواقفهم من بعضهم البعض ..

اذ لا احد ينكر صور النزاع التي كانت بين المذاهب الإسلامية .. بحيث كان المسلم ... من اي مذهب كان ـ يخاف ان يذكر أنه ينتمي الى المذهب الذي يرى العمل طبقه (٣) ...

والذي ساعد في ذلك هو :

ـ بعد نشوء الخلافات الفقهية ـ اتخاذ بعض الخلفاء والولاة مذهباً خاصاً لا يجوز العمل بغيره من المذاهب .. كما

__________________

(٢) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ٢٨٠.

(٣) اسد حيدر : الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج ١ ص ١٨٧

١٨٢

نودي في المدينة : أن لا يفتى الناس إلا مالك (٤) ... وكما يحدثنا ابن حزم عن هذه الصورة :

[ مذهبان انتشرا في بدء امرهما بالرئاسة والسلطان مذهب ابي حنيفة ... ومذهب مالك عندنا بالأندلس ... ] (٥).

وكذلك غيرها من الاقطار .. التي كانت بيد الخلفاء العباسيين وغيرهم ..

ونتيجة ذلك النماذج التالية :

١ ـ حبس الامام احمد بن حنبل ـ امام المذهب عند عدم قوله بخلق القرآن ايام المعتصم ، وضربه ... الى أن رفع المتوكل محنة خلق القرآن (٦).

٢ ـ قتل الامام الشافعي شر قتلة على ايدي المالكية في مصر عندما انتشر مذهبه (٧).

٣ ـ ضرب وسجن ابي حنيفة عدة مرات في محنة القول بخلق القرآن .. بل قيل أنه استتيب من الكفر ـ حسب اعتقاد البعض ـ عدة مرات (٨) ...

٥ ـ تجريد الإمام مالك بن أنس ـ امام الذهب ـ وضربه سبعين سوطاً ـ لعدم ايمانه ببيعة العباسيين ، أو لفتوى لم توافق غرض السلطان ... (٩)

__________________

(٤) ابن خلَكان : وفيات الاعيان ج ١ ص ٦٤.

(٥) الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج ١ ص ١٦٧.

(٦) ابن خلكان : وفيات الاعيان ج ٦ ص ٦٤.

(٧) الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج ١ ص ١٦٨.

(٨) الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ج ١٣ ص ٣٨٥. فما فوق.

(٩) ابن خلكان : وفيات الأعيان ج ٤ ص ١٣٥.

١٨٣

هذا شأن أئمة المذاهب مع الحكام .. فما بالك بغيرهم ...؟

ومن راجع .. كتاباً في تراجم العلماء وجد ما يبعث على الألم والأسى من الواقع الذي كان يعيشه العلماء والناس عامة مع الحكام .. والولاة ...

كما كانوا يتقلبون بين إرادة الأمراء والولاة .. كما حدث ذلك في أيام محنة خلق القرآن .. كما فرض المأمون على القضاة ذلك ..

فاذاً .. لا خلاف في وجود صورة مشاكلة ـ في أوساط المسلمين .. بين المذاهب الإسلامية متمثلة في معتنقيها ـ هذه الصورة نفسها ـ مشابهة تماماً للحالة التي بين المسلمين والمشركين ... بحيث يوجد موضوع التقية. متشكلة في مداراة اصحاب المذاهب لاصحاب المذهب المعلن من قبل الدولة .. كما في دولة العبيديين ـ الفاطميين ـ والأدراسة. كما سيأتي.

وبهذا نكون قد اعطينا صورة واضحة لا شك فيها. بوجود الصورة المقتضية للتقية.

وبالتالي : ان السبب الذي من اجله شرعت التقية ـ بين الكفار والمسلمين ـ هو الذي أثر في تشريعها بين المسلمين ـ كما كان مذهب الامام الشافعي. أن الحالة بين المسلمين اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محامأة للنفس (١٠).

__________________

(١٠) الفخر الرازي : التفسير ج ٨ ص ١٤.

١٨٤

بعد هذا نأتي على الامر الآخر ... وهو اثبات وقوع التقية بالساحة ـ العملية ـ لافراد المسلمين (١١).

وقد اخترت بعض النماذج التي ينقلها التاريخ ، والتي تدل على وقوع العمل بالتقية بين المسلمين وهي كالتالي ..

١ ـ ابو حنيفة والتقية :

في تاريخ بغداد :

[ اخبرنا ابن الفضل وعلج بن احمد اخبرنا احمد بن علي الأبار اخبرنا سفيان بن وكيع ، قال جابر بن حماد بن ابي حنفية ..

فقال : سمعت ابي حماداً يقول :

بعث ابن ابي ليلى الى ابي حنيفة فسأله عن القرآن فقال مخلوق ، فقال : تتوب والا أقدمت عليك.

فقال : القرآن كلام الله ..

فقال : فدار به في الخلق يخبرهم أنه قد تاب من قوله .. القرآن مخلوق ..

فقال ابي :

فقلت لابي حنيفة : كيف صرت الى هذا وتابعته ؟.

قال : يا بني خفت ان يقدم علي فأعطيته التقية ... ] (١٢)

٢ ـ [ وفي الكشاف ... وكان ابو حنيفة يفتي ـ سراً ـ بوجوب نصرة زيد بن علي وحمل المال اليه ... والخروج على

__________________

(١١) اوضح هذا المعنى الباحث مصطفى الشكعة : تفسير سورة آل عمران ص ٣٣

(١٢) الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ج ١٣ ص ٣٨٧.

١٨٥

اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة .. كالدوانيقي واشباهه ] (١٣).

فاظهاره التأييد للحكام ما هو ..؟!

ب ـ مسروق الفقيه والتقية :

[ وذكر عن مسروق رحمه الله قال :

بعث معاوية بتماثيل من صفر تباع بأرض الهند ، فمر بها على مسروق قال :

والله لو اني أعلم أنه يقتلني لغرقتها .. ولكني اخاف أن يعذبني فيفتني ، والله لا ادري اي الرجلين معاوية ...؟!! رجل قد زين له سوء عمله او رجل قد نسي الآخرة ... الى ان يقول :

ثم كان في تغريق ذلك من الأمر بالمعروف عنده .. اي مسروق ـ وقد ترك ذلك مخافة على نفسه ..

وفيه تنبيه أنه لا بأس باستعمال التقية .. وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ... ] (١٤)

وقد بيّن أن فتنة السوط أشد من القتل ـ كما يراه القياسيون ـ فهو يوجب التقية ... (١٥)

ج ـ رجاء بن حيوة والتقية :

[ وقال ادريس ين يحيى : كان الوليد بن عبد الملك يأمر

__________________

(١٣) حسين الديار بكري تاريخ الخميس ج ٢ ص ٣٢٧.

(١٤) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٦ ، ٤٧.

(١٥) نفس المصدر السابق.

١٨٦

جواسيس يتجسسون الخلق وياتون بالأخبار .. قال :

فجلس رجل منهم في حلقة رجاء بن حيوة فسمع بعضهم يقع في الوليد فرفع ذلك اليه فقال :

يا رجاء أذكر بالسوء في مجلسك ولم تُغَيّر ؟ فقال ما كان ذلك يا امير المؤمنين ، فقال له الوليد : قل الله الذي لا إله إلا هو. قال : الله الذي لا إله الا هو.

فأمر الوليد بالجاسوس فضرب سبعين سوطاً ، فكان يلقى رجاء فيقول : يا رجاء بك يُستقى المطر وسبعين سوطاً في ظهري : فيقول رجاء : سبعون سوطاً في ظهرك خير لك من أن يقتل رجل مسلم ] (١٦).

د ـ أبو سعيد بن اشرس والتقية :

[ وذكر موسى بن معاوية أن ابا سعيد بن اشرس ـ صاحب مالك ـ استحلفه السلطان بتونس على رجل أراد السلطان قتله انه ما أواه ، ولا يعلم له موضعاً ، قال : فحلف له ابن الاشرس ـ وابن اشرس يومئذٍ قد علم موضعه وأواه ـ فحلّفه بالطلاق ثلاثاً .. فحلف له ابن الاشرس ، ثم قال لامرأته : اعتزلي فاعتزلته.

ثم ركب ابن أشرس حتى قدم البهلول بن راشد القيروان ، فاخبره الخبر ، فقال له البهلول : قال مالك انك

__________________

(١٦) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٢٤ ، ١٢٥. وفي نفح الطيب لابن المقرى الاندلسي : حيوة ابن رجاء ج ١ ص ٢٨٨. وهو من العلماء المبرزين عند اهل السنة والجماعة ، كان يجالس عمر بن عبد العزيز توفي في ١١٢ ه‍ ـ ابن خلكان ج ٢ ص ٣٠٣.

١٨٧

حانث. فقال ابن اشرس : وانا سمعت مالكاً يقول ذلك ، وانما أردت الرخصة او كلام هذا معناه ، فقال له البهلول بن راشد : قال الحسن البصري إنه لا حنث عليك ، قال : فرجع ابن أشرس الى زوجته واخذ بقول الحسن ] (١٧).

ه‍ ـ حذيفة والتقية :

[ وقد كان حذيفة ممن يستعمل التقية ، على ما روي : أنه يداري رجلاً فقيل له إنك منافق ، فقال : لا ... ولكني اشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كله ] (١٨).

هذا ويظهر من حذيفة هذا ـ هو حذيفة بن اليمان ،

وبذلك ربما يقال لا معنى لنقل ذلك عنه لانه من الشيعة .. فلا حجة فيه .. لهذا المورد ..

فنقول : انما نقلناه .. لنقل السرخسي الحنفي لذلك والاحتجاج به ..

وبعد هذا ...

ربما يعد من الإسهاب الممل .. نقل الحوادث التاريخية التي ربما ملئت الكتب ، فلا اطيل لآخذ وقتاً غير ممنوح لي من قبل قارئي ـ وإن كان ذلك من مسلمات الأساليب العلمية ـ.

وسوف اترك فكر القارىء يفتش في لوحة التاريخ ... ليقرأ من خلالها صوراً متراكمة تغطي خياله الواسع .. وسوف اقرب له هذه اللوحة برسم بعض خطوطها ..

__________________

(١٧) نفس المصدر السابق.

(١٨) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٦.

١٨٨

اتسائل .. ـ وان كنت لم اقرأ صورة خاصة من هذه اللوحة ـ ..

ماذا كان يصنع المسلمون ـ عامة ـ العاملون بالمذاهب الأربعة في ظروف طغيان المذهب العاملة به الدولة ـ المسمى ـ بالمذهب الرسمي ـ كما يطالعنا التاريخ به ـ ، وكما قرأنا لابن حزم قوله : مذهبان انتشرا في بدء امرهما بالسلطان (١٩).

هل تركوا العمل على طبق مذاهبهم ورأوا من الحق العمل بالمذهب المعلن ـ كما فعل قوم ...؟ (٢٠)

ام أنهم استمروا على العمل وسايروا المذهب الرسمي ـ مسايرة ..؟

ومن المسلم أن الواقع يميل الى تأييد الصورة الثانية ..

إذ الملاحظ انه عندما ينشط انصار اي مذهب ينبرون بأجمعهم يمثلون الروحية ... الكاملة ـ صوتاً وصورة .. لذلك المذهب ..

فمثلاً ... عندما نشط القول بخلق القرآن انطفأت شمعة القائلين بقدمه .. إلا القليل كاحمد بن حنبل ـ الذي لم يعمل بالتقية ـ وبعض اصحابه (٢١) ...

ولما انعكس الامر ونشطت مدرسة القول بقدم القرآن انطفأت شمعة القائلين بخلقه ـ المتشكلة ببعض المذاهب الاسلامية ـ كالمعتزلة ـ.

__________________

(١٩) الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج ١ ص ١٦٨.

(٢٠) الجاحظ : رسائله : ج ١ ص ٢٠٢.

(٢١) احمد شرباصي : الائمة الاربعة : ص ١٧٣.

١٨٩

وربما أضيف في وقفة سريعة : أن عمل احمد بن جنبل ـ امام المذهب ـ بمقاومة التيار والوقوف بوجهه ينطوي في ضمن ـ حسبما يراه البعض كما تقدم في التقية والاحكمام الخمسة ـ موارد حرمة العمل بالتقية اذا كان العامل بها ممن يقتدى به ، فرأى إمام المذهب أنه اذا لم يقف هذا الموقف ينزلق هذا الرأي في هاوية لا ينبز له رأس ابداً فوقف هذا الموقف .. او في ضمن ما يراه في الرأي الفقهي : أنه لا تقية في دار الاسلام.

وبهذا نستطيع ان نضيف صورة للتقية ممن وافق القول بخلق القرآن وذلك ..

[ أن اجابتهم كانت مصانعة لانهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه وان كان له رزق على بيت المال قُطع ، وإن كان مفتياً منع من الإفتاء ، وإن كان يسمع حديث ردع عن الإستماع ] (٢٢).

مع الأخذ بعين الإعتبار ـ بالصورة الأخرى المناقضة لذلك والتي تمثلت في الإمام ابي حنيفة ... كما تقدم ..

وصورة اخرى ..

عندما نشط المذهب المالكي في الأندلس ..

وثالثة ..

عندما أعلن المذهب الفاطمي ـ العبيدي ـ ماذا ... كان موقف الزعامات الأخرى للمذاهب الاخرى. هل تحولوا

__________________

(٢٢) الامام الصادق والمذاهب الاربعة ج ٤ ص ٤٥٦. ومحمد سرور : الدولة الفاطمية في مصر ص ٨٣.

١٩٠

لمذهب ـ الدولة ـ الرسمي ـ كما فعل القاضي النعمان (٢٣) ـ ام بقوا يدارون المذهب ، حتى نشطت مذاهبهم عندما اعلن صلاح الدين الغاء المذهب الفاطمي ـ الذي استمر شعاره الشيعي ـ والعمل طبق ثلاثة مذاهب اخرى معروفة ..؟

وهكذا نطالع في لوحة التاريخ صوراً كثيرة لا نستطيع الفرار من حملها على ذلك ..

فلذلك نقطع ..

بأن التقية كانت شعاراً ودثاراً استطاع المسلمون فيما بينهم أن يحفظوا كيانهم به .. ، فاصبح سيرة عملية على مر التاريخ الإسلامي لكل المذاهب الإسلامية ..

كما يطالعنا بهذا الواقع ـ وبوضوح ـ الجاحظ في رسائله لابي الوليد محمد بن ابي داود .. في نفي التشبيه .. حيث ذكر عز المشبهة ثم زواله .. الى ان يقول.

[ وحتى تحولت المحنة عليهم ، والتقية فيهم ] (٢٤).

وهذا ما يعكس واقع المشبهة ، والقائلين بقدم القرآن .. مع تزعم المعتزلة في حياة المأمون ..

ثم يذكر ان المعتزلة ... في هذا الظرف يجب عليهم نصرة الحق وترك التقية ..

[ فمتى اذاً .. تزول التقية ويجب إظهار الحق والنصرة

__________________

(٢٣) حيث كان مالكيا ثم تحول الى فاطمي. وفيات الاعيان ج ٥ ص ٤١٥. ومحمد سرور : الدولة الفاطمية في مصر ص ١٧٨ وص ١٧٩. وأكد هناك على صورة العمل بالتقية حيث قال : [ وكان فقهاء المذهب السني يستنكرون تعاليم الفاطميين ولكنهم لا يستطيعون الجهر بذلك .. ] ويراجع ص ٨٤.

(٢٤) الجاحظ : رسائله ج ١ ص ٢٠٢.

١٩١

للدين ، والمباينة للمخالفين .. أحين يموت الخصم ويبيد أثره وعقبه ويقل ناصره ، ويزول جميع الخوف ويكون على يقين من السلامة ... فقد سقطت المحنة وزالت البلوى والمشقة ... ] (٢٥).

كما انه ربما يوحي بانهم يجب ان يقفوا مع الحق ويقفوا مع جميع من يرى الحق فلا يُهددوا أحداً ويرفعوا موضوع التقية ويتركوا الناس يعملون حسبما يرون ..

وبالتالي لا يبقى موضوع للتقية .. كما هو المفروض أن يكون بين أفراد المسلمين.

التقية في الفتوى والقضاء :

أعطف على ذلك ـ تتمة لما توصلنا اليه من قيام علماء الإسلام بالعمل بالتقية في الأوضاع الخاصة ... وإن كنت لم اطلع على نماذج واسعة النطاق لتغطي هذا العنوان ـ ..

بان التقية كانت تطبق في الفتاوى والقضاء ـ طبقاً للمذهب الرسمي ـ مع كون المفتي والقاضي لا يرى الفتوى طبق ذلك .. ولا القضاء به ... وانما يعمله تقية ، ذلك لما يتسبب ـ لو عمل برأيه من عزله عن القضاء ـ إن كان قاضياً ـ أو منعه من بيت المال إن كان يرد اليه شيء منه .. أو يضرب ويسجن ... كما يذكر ابن الجوزي : أن مالكاً ـ امام المذهب ـ ضُرب سبعين سوطاً لأجل فتوى لم توافق غرض السلطان ، فعندها يأتي دور التقية ..

__________________

(٢٥) المصدر السابق ص ٢٠٣.

١٩٢

كما لاحظنا فعل ذلك جلياً عند ابي حنفية عندما أفتى سراً بنصرة ودعم زيد أبن علي ـ كما تقدم ـ (٢٦).

وبالتالي لا يبقى شك ... في تمكن الصورة العملية للتقية المستمرة ـ في واقع المسلمين ـ ، وأنها كانت ضرورة ملحة اقتضتها الظروف .. بين المذاهب الاسلامية ..

__________________

(٢٦) احمد شرباصي : الائمة الاربعة ص ٤١.

١٩٣
١٩٤

ـ ١٠ ـ

انوار لامعة من الطرفين

مهما حاولت أن اصور ... واقع الاتفاق بين علماء ومفكري المسلمين على اختلاف مذاهبهم ـ وبالتالي بين عامة المسلمين .. فلن استطيع ان اصوره باوضح مما رسموه بواقعهم وبكلماتهم .. التي تعطينا أفضل واوضح صورة في تعمق روح الواقع الوحدوي ـ الفكري والإستنباطي وبالتالي ..

حينما يكون هناك وحدة في التفكير في فهم القرآن والعمل به وفي فهم الخطوط التشريعية الأخرى .. لابد ان يكون هناك اتفاق على النطاق العملي لجميع المسلمين .. وهذا ما اتضح لنا قبل قليل ..

وما سيتصح اكثر تحت هذه المقتطفات المشرقة من كلمات علماء المسلمين ومفكريهم .. والتي حاولنا أن نجمعها لنكون قد جمعنا اجزاء الصورة المتناثرة لهذا الفرع .. الفقهي العملي .. ليدركها الخيال والعقل ويطمئن لها القلب ...

وقد حاولنا ان نجعلها مزدوجة ... كلمة من طرف الشيعة تتبعها كلمة من طرف السنة.

فهذه صورتها الواقعية :

١ ـ الامام الصادق (ع) : [ التقية في كل ضرورة

١٩٥

وصاحبها اعلم بها حين تنزل به ] (١)

٢ ـ الحسن البصري : [ التقية جائزة الى يوم القيامة ] (٢).

٣ ـ الشيخ المفيد : [ إن التقية جائزة في الدين عند الخوف على النفس ] (٣).

٤ ـ الإمام الشافعي : [ إن الحالة بين المسلمين اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة للنفس ] (٤).

٥ ـ الشيخ الطوسي : [ والتقية عندنا واجبة عند الخوف على النفس ] (٥).

٦ ـ ابن حجر العسقلاني : [ التقية : الحذر من اظهار ما في النفس من معتقد وغيره للغير ] (٦).

٧ ـ المقداد السيوري : [ دلت الآية الكريمة ـ ١٠٦ النحل ـ على جواز التقية في الجملة ] (٧).

٨ ـ الجصاص : [ واعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله وليس بواجب ] (٨).

__________________

(١) الحر العاملي : وسائل الشيعة ج ١١ ص ٤٦٨ ح ١ باب ٢٥.

(٢) على اختلاف الروايات : صحيح البخاري ج ٦ ص ٢٥٤٥. كتاب الاكراه.

والقرطبي التفسير ج ٤ ص ٣٨. والعسقلاني ، فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٤.

(٣) المفيد : اوائل المقالات ص ١٣٧.

(٤) الفخر الرازي : التفسير ج ٨ ص ١٤. حكاية عن مذهبه.

(٥) التبيان في تفسير القرآن له : ج ٢ ص ٤٣٤.

(٦) فتح الباري. له. ج ١٢ ص ٢٣٦.

(٧) كنز العرفان. له. ج ١ ص ٣٩٣.

(٨) احكام القرآن. له. ج ٢ ص ٤٨٩.

١٩٦

٩ ـ الشيخ الأنصاري : [ التقية هي : التخفظ عن ضرر الغير بموافقته في قول أو فعل مخالف للحق ] (٩).

١٠ ـ شمس الدين السرخسي : [ وفيه تبيين : أنه لا بأس باستعمال التقية ، وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه ] (١٠).

١١ ـ العلامة الطباطبائي : [ وبالجملة : الكتاب والسنة متطابقان في جوازها في الجملة والاعتبار العقلي يؤكده .. ] (١١).

١٢ ـ الفخر الرازي : [ وهذا القول ـ عموم التقية لكل الأزمان ـ الولى لان دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الإمكان .. ] (١٢).

١٣ ـ الشهرستاني [ المراد من التقية : اخفاء امر ديني لخوف الضرر من اظهاره ، والتقية بهذا المعنى شعار كل ضعيف مسلوب الحرية ] (١٣).

١٤ ـ الشوكاني : [ ويدل على جواز التقية قوله تعالى : « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ .. ] (١٤).

١٥ ـ الإمام الحكيم : [ نعم تختص مشروعية التقية

__________________

(١٩) الانصاري : رسالة في التقية ص ٣٢٠.

(١٠) المبسوط. له. ج ٢٤ ص ٤٧.

(١١) الميزان في تفسير القرآن. له. ج ٣ ص ١٥٣.

(١٢) التفسير الكبير. له. ج ٨ ص ١٤.

(١٣) حاشية اوائل المقالات ص ١٣٧. عن مجلة المرشد ٢٥٢ ، ٢٥٣. ج ٣.

(١٤) فتح القدير. له. ج ١ ص ٣٣١.

١٩٧

بصورة خوف الضرر على نفسه أو ماله او نفس غيره او ماله .. ] (١٥)

١٦ ـ عبد الكريم زيدان : [ والتقية كما تجوز مع الكفار ، تجوز مع غيرهم إذا وجد الاضطرار اليها دفعاً لتلف النفس بغير وجه من قبل ظالم باغ منتسب للإسلام ] (١٦).

__________________

(١٥) مستمسك العروة الوثقى. ج ٢ ص ٤٠٦.

(١٦) مجموعة بحوث فقهية ص ٢١٣.

١٩٨

اخر المطاف

وفي آخر المطاف :

بعد هذه الكلمات المضيئة التي تكوِّن بمجموعها الصورة الواضحة للتقية بين جميع المسلمين ..

إنها انوار ساطعة كشفت لنا ما وراء الجدران من مجهول معتم ... ظل سنوات .. بل قرون ... مختبئاً تحت الظلام الدامس كلّف كثيراً من المسلمين عناءاً مريراً .. مع أنه في الواقع هباءاً منثوراً ..

وحتى ظلت فرقة واحدة من هذه الفرق الاسلامية مطوقة بهذا القيد الحديدي ..

وحتى قيل أنها الوحيدة التي تعمل بالتقية ـ على مر القرون الاسلامية ... وحتى قيل أنه من اصولها ..

وفي النهاية ..

اريد أن أشير ـ بعد وضوح ان التقية طريقة عملية مسلمة عند جميع المسلمين ... الا ما حكي عن الخوارج من القول بحرمتها مطلقاً .... اريد أن اشير ... الى ان :

من يقول : بأن التقية من اصول الدين عند الشيعة ..

من يقول ذلك .. لم يفرق بين اصول الاعتقاد ... أو

١٩٩

البنية الاعتقادية ... وبين البنية العملية ... التي يتحرك الشيعة وغيرهم من خلالها ..

فهي من البنى التحتية التي تسير عليها الشيعة. في وجودها كما لاحظنا ذلك عند غيرها. ايضا ـ لا أنها من اصول الدين والبنى الأساسية للاعتقاد ... اذ ليس من الإعتقادات ما يجب العمل به في محل دون محل .. وانما هذا شأن الفروع ـ الاحكام ـ.

فاذاً ... هي طريقة عملية ... كما اثبتنا ذلك ـ عند جميع المسلمين حاولوا ان يحفظوا بها وجودهم ... بين الكفار او بين انفسهم ...في اطار المتذهب ـ ان صح التعبير ـ

وبالتالي :

إن التقية قابلة لان تنتفي من الوجود بالمرة اذا أصبح كل انسان من المسلمين يعمل على طبق ما يراه دون معارض .. ودون ان يتعرض لاذىً ... وهذا ما ندعوا الله ليلا ونهاراً أن يحققه بيننا.

وفي نهاية هذا السفر السريع ـ الذي قطعناه في ربوع هذا الفرع ـ التقية ـ والذي لا ندعي أننا ألممنا بجميع اطرافه .. وإنما هي محاولة متواضعة تحتاج للكثير من البحث والتدقيق والتوسع ـ اودع القاريء الكريم لألتقي معه في سفر آخر.

واود قبل هذا ان اعتذر له .. من كثرة اشتمال هذه الدراسة على النصوص ... ذلك أنني وجدت من اللازم أن

٢٠٠