التقيّة في إطارها الفقهي

علي الشملاوي

التقيّة في إطارها الفقهي

المؤلف:

علي الشملاوي


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

٥ ـ هل أن التقية في القول فقط ؟!

لقد اتضح من طيات ما تقدم في مصادر تشريع التقية أن اصل تشريع التقية من المسلمات التي لا أحد يشك فيها.

وهذا القدر ـ في الواقع ـ كاف في وضوح صورة الإشتراك ـ في واقعها وفي كونها شاملة لكل ما يسمى ـ للإنسان ـ فعلا ـ من قول أو فعل ـ.

الا انه ربما توحي بعض النصوص الى ان التقية إنما تكون في القول خاصة ، ولا يصح اجرائها في الأفعال بل يعتبر فيها ـ على ما وردت به الآية ـ « وقلبه مطمئن بالإيمان » مقابل القول ... أن تكون في القول دون الفعل ، وهكذا تفسير بعض الصحابة كتفسير ابن عباس .. إنما التقية باللسان والقلب مطمئن بالإيمان ... او كقول ابن مسعود ... ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان الا كانت متكلماً به.

إلا أن الواقع خلاف ذلك تماماً ... بل لابد من القول بشمول التقية للقول والفعل ... وذلك لعدة أمور :

١ ـ التعليل الذي اعتمد عليه في إجازة العمل بالتقية ـ طبقا للترخيص ـ وهو الضرورة.

فاذا كان المناط هو الضرر ، وكان هو احد اصول تشريعها. فلا معنى لحصرها على القول فقط ... إذ ان

١٤١

الفعل مما يحصل معه ـ موضوعها ـ وهو تحقق الضرر ..

ونحن نعلم ان من المسلمات ـ بين المسلمين قاطبة ـ ان المناط والملاك عند الشيعة ـ او العلة في القياس عند السنة موجب لتعدية الحكم الى جميع ما يشمله انطباق الملاك عليه او وجود العلة فيه ، وهنا لا يعدو ان يكون كذلك ، فان الملاك او المناط ـ والعلة. متوفرة هنا ـ في الفعل ـ وهو حصول الضرر فلا بد من شموله.

٢ ـ ذكر في تعريف التقية ـ على بعض التعريفات ـ كما أوضحنا في الخلاصة ـ أن التقية : هي ما يقال أو يفعل ... مخالفا للحق .. أو بأن يفعل الانسان ما يخالف الحق ..

وكما هو الظاهر من هذه التعاريف ـ عمومها للقول والفعل ..

٣ ـ نصوص بعض المفسرين وغيرهم من علماء السنة ـ بل اكثر مفكريهم ـ على شمول التقية للقول والفعل ، واكثر من هذا فقد اتبع اكثرهم طريق الاستدلال على الشمول والرد على من يخالف ذلك ... وهذه مقتطفات من اقوالهم :

١ ـ [ ولا فرق بين الاكراه على القول والفعل عند الجمهور ] (٨١).

ويشير الى هذا الخلاف ـ في موضع آخر :

[ وقال قوم : محل الرخصة في القول دون الفعل ... كأن يسجد للصنم ، او يقتل مسلما ، أو يأكل الخنزير أو يزني ... وهو قول الأوزاعي وسُحنون.

__________________

(٨١) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٢.

١٤٢

وأخرج اسماعيل القاضي بسند صحيح عن الحسن أنه : لا يجعل التقية في قتل النفس المحرمة.

وقالت طائفة : الاكراه في القول والفعل سواء ] (٨٢).

وفي موضع آخر يوجه ذكر البخاري لحديث ـ الأعمال بالنيات ـ هنا في باب الإكراه فيقول :

[ وكأن البخاري أشار ـ بإيراده هنا ـ الى الرد على من فرق في الإكراه بين القول والفعل ... لإن العمل فعل ..

وإذا كان لا يعتبر الا بالنية ـ كما دل عليه الحديث ـ فالمكره لا نية له بل نيته عدم الفعل الذي اكره عليه ... ]

ويؤيد هذا بعد قليل بنقله عن ابن المنير ... [ بأنهم اكرهوا على النطق بالكفر وعلى مخالطة المشركين ومعاونتهم ... وترك ما يخالف ذلك ... والتروك افعال ـ على الصحيح ـ .... ولم يؤاخذ بشيء من ذلك ] (٨٣).

٢ ـ [ الخامسة : ذهبت طائفة من العلماء الى أن الرخصة إنما جاءت في القول ، واما الفعل فلا رخصة فيه .. مثل ان يكرهوا على السجود لغير الله والصلاة لغير القبلة ، أو قتل مسلم أو ضربه أو أكل ماله ، أو الزنى وشرب الخمر وأكل الربا ... يروى هذا عن الحسن البصري ، وهو قول الأوزاعي وسُحنون من علمائنا ..

وقال محمد بن الحسن : اذا قيل للأسير ... اسجد لهذا الصنم والا قتلتك. فقال : إن كان الصنم مقابل القبلة

__________________

(٨٢) المصدر السابق ص ٢٦٤.

(٨٣) المصدر السابق ص ٢٦٥.

١٤٣

فليسجد لله وتكون نيته لله تعالى ، وان كان لغير القبلة فلا يسجد وإن قتلوه ..

والصحيح أنه يسجد وان كان لغير القبلة ، وما احراه بالسجود حينئذ ].

وهذا ظاهر في شمولها للافعال ...

ويعقب بذكر بعض إدلة المانعين لشمولها للقول والفعل ... فيقول :

واحتج من قصر الرخصة على القول ... بقول ابن مسعود ... ما من كلام يدرأ عني سوطين من ذي سلطان الا كنت متكلما به ... فقصر الرخصة على القول ولم يذكر الفعل ..

ويرده بقوله : وهذا لا حجة فيه ، لانه يحتمل أن يجعل للكلام مثالا وهو يريد أن الفعل في حكمه ....

وقالت طائفة : الاكراه في الفعل والقول سواء إذا أسر الايمان .... روي ذلك عن عمر بن الخطاب ومكحول ... وهو قول مالك وطائفة من اهل العراق ...

روي ابن القاسم عن مالك : ان من اكره على شرب الخمر وترك الصلاة أو الإفطار في رمضان أن الاثم عنه مرفوع ] (٨٤).

٣ ـ [ وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسُحنون الى ان هذه الرخصة المذكورة في الآية إنما جاءت في

__________________

(٨٤) القرطبي : الجامع لاحكام القرآن ج ١٠ ص ١٢٠.

١٤٤

القول ، واما في الفعل فلا رخصة مثل ان يكره على السجود لغير الله ...

ـ ثم يورد على هؤلاء ...

ويدفعه ظاهر الآية ، فإنها عامة فيمن اكره من غير فرق بين القول والفعل ...

ولا دليل لهؤلاء ـ القاصرين للآية على القول ، وخصوص السبب ـ الموجب هنا للرخصة ـ وهو القول ـ لا اعتبار به مع عموم اللفظ ـ لفظ الآية ـ كما تقرر في علم الاصول ] (٨٥).

٤ ـ [ واذا اكرهه انسان على الإتيان بما هو كفر قولا أو فعلا ... كالسجود لصنم مع طمأنينة القلب بالايمان وكراهية الكفر ... ] (٨٦).

٥ ـ [ ولقد اجازت الشريعة السمحاء اظهار الكفر قولا وعملا عند الإكراه عليه ] (٨٧).

٦ ـ ما سيأتي ـ في مباحث التقية في الفروع ـ كما اشار اليه القرطبي قبل قليل ، وكذلك استثناؤهم القتل والزنا من موارد التقية ـ وهي قطعا من الافعال ـ ، ولو كانت التقية منحصرة في الأقوال لما كان معنى لاستثناء الافعال ... لانها خارجة تخصصا ....

__________________

(٨٥) الشوكاني : فتح القدير ج ٣ ص ١٩٧.

(٨٦) الجزيري : الفقه على المذاهب الاربعة ج ٥ ص ٢٨٩.

(٨٧) عيسى شقرة : الإكراه واثره في التصرفات ص ١١٨.

١٤٥
١٤٦

٦ ـ التقية جائزة الى يوم القيامة ...!!

عندما يخضع الحكم لدليل عام فلا يمكن ان يقيد بحال من الأحوال ولا بزمن من الازمنة ـ خارج دليله ـ بل لابد أن يكون طبقا لدليله .. في العموم والخصوص ... ليعم الحالات التي توجد فيها ... عته وسببه ... ودليله ومناطه ...

فاذا كان حكم الشرع خاضعا للقواعد العامة ، وخاضعا لعنوان الضرر فلا فرق في موضع انطباقه بين حالة وأخرى ...

وقد مضى أن التقية خاضعة لعنوان الضرر ، وهو يُوجِد حكمه اينما وجد ... وعلى هذا.

فلا فرق ـ في حكم جواز التقية بين ... ضعف الإسلام ولا شدته ، ولا بين اول الاسلام ولا عزته ... فكما تصح التقية في ضعف الاسلام كذلك عند قوته ... اذا وجد الظرف الموجب لذلك ...

فعلى هذا قول :

[ مجاهد : هذا الحكم كان ثابتا في أول الاسلام لاجل ضعف المؤمنين فأما بعد قوة الاسلام فلا ... ] فيرده. ما [ روى عوف عن الحسن انه قال : التقية جائزة للمؤمنين الى

١٤٧

يوم القيامة. وهذا القول ـ الذي يقوله الحسن البصري ـ اولى ، لان دفع الضرر عن النفس واجب بقدر الامكان ] (٨٨).

فلابد من القول بعموم التقية لكل الأزمان ... ذلك لوجود السبب الموجب لها وهو دفع الضرر ..

وهذه ناحية من نواحي شمولها ... والاخرى شمولها لجميع الاحوال وهي المسألة الأهم ... المراد اثباتها هنا ...

ذلك انه أدُعي أن ...

[ ظاهر الآية يدل على أن التقية انما تحل مع الكفار الغالبين ] (٨٩). ولا يجوز استعمالها مع المسلمين.

وفي تصوري أن المانع هو ... عدم تصور موضوع للتقية ، ذلك أن القاعدة الاساسية للمسلمين أنهم ابناء اسرة واحدة وابناء دستور واحد ، فلا يمكن أن يوجد بينهم من يجبر الآخر على العمل المخالف للحق ، او خلاف ما يراه المكره ...

وهذا التصور خاطىء في حد ذاته وإن كان ينبغي ان يكون عليه واقع المسلمين إلا انه لم يحصل .... وذلك لما يأتي بعد قليل ـ في بحث [ كيف نشأت الحاجة للتقية بين المسلمين ] المضمن بالشواهد التاريخية الواقعة بين المسلمين.

فلذلك قيل ـ

[ أن مذهب الشافعي (رض) : أن الحالة بين المسلمين

__________________

(٨٨) الرازي : التفسير ج ٨ ص ١٤.

(٨٩) نفس المصدر السابق.

١٤٨

اذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلت التقية محاماة للنفس ] (٩٠).

وذلك تحت إطار ما اوضحناه .. من عموم المناط وشموله لهذه الحالة.

ف‍ [ التقية كما تجوز مع الكفار تجوز مع غيرهم اذا وجد الاضطرار دفعا لتلف النفس بغير حق ـ من قبل ظالم باغ ينتسب للاسلام.

قال الإمام السرخسي في مبسوطه : لا بأس باستعمال التقية وأنه يرخص له في ترك بعض ما هو فرض عند خوف التلف على نفسه.

ولم يشترط السرخسي لجواز استعمالها ـ مع الكفار ـ وانما جعل مناط استعمالها خوف التلف على النفس.

وقال الامام الجصاص ـ وهو يتكلم عن النطق بالكفر عند الاكراه ـ

واعطاء التقية في مثل ذلك انما هو رخصة من الله تعالى ..

وهذا ـ أيضا ـ يدل على ما دل عليه كلام السرخسي ، وهو جواز استعمالها حيث وجد الاضطرار اليها ] (٩١).

__________________

(٩٠) نفس المصدر السابق.

(٩١) عبد الكريم زيدان : مجموعة بحوث فقهية ص ٢١٣.

وانما نقلنا هذا المقطع عنه ـ مع وجود المصدرين عندنا ـ لنبين وجه الاستفادة من كلامهما

١٤٩
١٥٠

ـ ٣ ـ

خلاصة البحث التشريعي

بعد أن قطعنا هذا الشوط الطويل في البحث التشريعي للتقية .. نقف على النتائج الحتمية لهذا البحث :

١ ـ التقية فرع من فروع الدين شُرع لحالات خاصة.

٢ ـ دلالة المصادر التشريعية الاسلامية ـ المسلمة عند المسلمين ـ على تشريعها :

أ ـ الكتاب العزيز ... باربع آيات حسب نص علماء السنة عليها.

ب ـ السنة النبوية وسنة الصحابة والتابعين حسب تسليم علماء السنة لحجية ذلك ـ كما في البحث نفسه ـ بالاضافة الى عموم السنة ـ من قول النبي (ص) وتقريره.

ج ـ الإجماع الذي تقدم نقله عن العلماء ، بل ـ كما يستضح من طيات البحوث الآتية ـ اجماع العلماء القولي والعملي على ذلك.

٣ ـ خضوع التقية للضرر ... اذ لا تقية عند انتفاء الضرر.

٤ ـ إنما شرعت التقية لأجل دفع الضرر عن الإنسان بواسطة أي فعل يطلب منه.

١٥١

٥ ـ عموم التقية للقول والفعل ... على اي كيفية يطلب منه.

٦ ـ عموم التقية لكل الازمان والأحوال ... بين الكفار ... ام بين المسلمين ـ كما سيؤكد ذلك البحوث الآتية.

٧ ـ الاكراه هو الموجد لموضوع التقية ، وهو يحقق الضرر والخوف على النفس فتأتي التقية ...

وبالتالي .. نحصل على النقطة الأهم لتكون نتيجة حتمية لذلك وهي :

أن التقية تساوي الإكراه الفعلي ، حيث أنها لدفع الضرر المتوجه اليه بالإكراه ، فالاكراه سابق على التقية ... لانه موجد لموضوعها ..

فاينما وجدت التقية وجد الاكراه ..

والمكره .. الذي يتحقق فيه الاكراه ... ويجوز له العمل بالتقية طبقا للاكراه المتحصل ... هو من ينجو مما هدد به بالاقدام على ما طلب منه ... (٩٢).

وللتلازم القائم بين الاكراه والضرر فكل موضوع يكون فيه اكراه ويكون فيه ضرر ... فهو موضوع للتقية.

وبالتالي ... اي مورد يكون فيه اكراه فيمكن ان يكون موضوعا للتقية وذلك حسب اختلاف موارد العمل بها.

وبهذا نحصل على نتيجة أُخرى وهي :

__________________

(٩٢) السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٦٨.

١٥٢

أن بين الإكره ـ من جهة صحة العمل طبق التقية ، وعدم صحة العمل ـ وبين التقية عموم مطلق :

فكل تقية لا بد فيها من إكراه ...

وليس كل إكراه يجب فيه التقية ... (٩٣).

حيث أن من الإكراه مالا يجوز الإقدام عليه ... اي يحرم العمل بالتقية فيه ـ كما سيأتي في مبحث ـ التقية والأحكام الخمسة ..

وبهذا ... فكل مورد فيه إكراه وجاز فيه الاقدام على دفع الإكراه فهو ... تقية ...

ومن الآن فلنعتبر .. الإكراه مساوقاً للتقية في موارد جواز دفع الإكراه ...

ولوضوح ذلك اكثر ... نلتمس من القارىء مراجعة المبحث الذي عقبنا به آية الاكراه ... « اكراه ام تقية ؟ » ..

__________________

(٩٣) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٦. والزحيلي نظرية الضرورة الشرعية ص ٢٨٣.

١٥٣
١٥٤

ـ ٤ ـ

بحوث متفرقة

١ ـ ما مقدار الضرر في التقية ؟

مما يكشف عن كون التقية خاضعة لعنوان الضرر ، وأنها تدور مداره ... بحثهم في مقدار الضرر ...

فكما بحثنا هناك في ـ التقية عند الشيعة ـ في الضرر النوعي والضرر الشخصي وما هو المبيح للتقية، وهل يجعلان مبيحان للعمل بالتقية ...

فقد بحث علماء السنة هنا في مقدار الضرر الذي يبيح العمل بالتقية والتلفظ بالكفر وغيره بعد تحقق الاكراه ...

والبحث هنا قد عنونه بعضهم ... والبعض الآخر لم يعنونه ...

إلا أنهم اختلفوا ـ اولا ـ في مقدار الضرر ... وثانيا في فعلية الضرر ...

فأما أولا ...

فقد اختلفوا فيما يُهدد به ، فاتفقوا على ان القتل وإتلاف الأعضاء والضرب الشديد ، والحبس الطويل ... مبيح للعمل بالتقية ... واختلفوا في الضرب اليسير والحبس كيوم أو يومين ... (١)

__________________

(١) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٢.

١٥٥

و [ بسند صحيح عن عمر : قال : ليس الرجل بآمن على نفسه اذا سجن او أوثق او عذب ...

ومن طريق شريح نحوه وزيادة ... ولفظه

اربع كلهن كره ... السجن والضرب والوعيد والقيد ...

وعن ابن مسعود قال : ما كلام يدرأ عني سوطين الا كنت متكلما به ...

وهو قول الجمهور ..... ] (٢)

فالاكراه الذي يجوز عنده عمل المحظور ..

[ هو ان يعذبه بعذاب لا طاقة له به .. مثل التخويف بالقتل ومثل الضرب الشديد والايلامات القوية ... ] (٣)

وفي العبارة السابقة معيار للضرر النوعي ، وربما يستشف من هذه العبارة الاشارة للضررين عند قوله ... لا طاقة له به ... وفي تعقيبه بالتمثيل ... اشارة للنوعي .. ، وهذا ما يمكن ان يستفاد من كثير من العبائر ... فقد :

[ قال النخعي : القيد إكراه والسجن اكراه ..

وهذا قول مالك ، الا أنه قال : والوعيد المخيف إكراه ... وإن لم يقع اذا تحقق ظلم ذلك المعتدي وانفاذه لما يتوعد به ..

وليس عند مالك واصحابه في الضرب والسجن توقيت ، إنما هو ما كان يؤلم من الضرب ... ، وما كان من

__________________

(٢) المصدر السابق ص ٢٦٥.

(٣) الرازي : التفسير ج ٢٠ ص ١٢٣.

١٥٦

السجن مدخل من الضيق على المكره ، وإكراه السلطان وغيره عند مالك إكراه ... ] (٤).

واما في البحث الثاني وهو اشتراط فورية الضرر ... فقد ذكر البعض أنه انما يشترط على نحو :

[ أن يحصل في الواقع خوف الهلاك ، او التلف على النفس او المال ، وذلك بغلبة الظن حسب التجارب ... ، او يتحقق من وجود خطر حقيقي على احد الضرورات الخمسة التي ذكرناها ، والتي صانتها جميع الديانات والشرائع السماوية ، وهي الدين والنفس ، والعرض والعقل والمال ... فيجوز حينئذ الاخذ بالاحكام الاستثنائية لدفع الخطر ، ولو أدى ذلك الى اضرار الآخرين ... عملا بقاعدة .. ( اذا تعارض مفسدتان روعي اعظمهما ضررا بارتكاب أخفهما ) ].

فاذا لم يخف الانسان على شيء مما ذكر لم يبيح له مخالفة الحكم الأصلي العام من تحريم أو إيجاب ... ] (٥).

وبهذا يتضح لنا ان المعيار ليس هو فعلية الضرر ... كما يراه البعض كالسيوطي (٦). بل المعيار هو ... خوف الضرر وغلبة الظن بحصوله ... ولو بعد سنة ... ولا معيار للفعلية او التأجيل ـ كما تقدم في قول مالك ـ اذا تحقق ظلم المعتدي ...

ونستنتج من ذلك ...

__________________

(٤) القرطبي : التفسير ج ١٠ ص ١٢٥.

(٥) وهبة الزحيلي : نضرية الضرورة الشرعية ص ٦٩.

(٦) الاشباه والنظائر له : ص ٢٣٠.

١٥٧

١ ـ ان الاكراه الموجب للعمل بالتقية ... انما هو الضرر المعتد به ... كالقتل والقطع وغيره.

بالاضافة الى أنه هناك اختلاف في مقداره بحسب الموارد ... (٧)

٢ ـ ان المعيار هو حصول الظن او اليقين بحصول الضرر ...

٣ ـ أن فعلية الضرر غير معتبرة ، بل مجرد العلم بوقوعه ولو بعد فترة طويلة ، والمهم أن يكون ظن معتبر بوقوع الضرر ... (٨).

٢ ـ لا تقية عند التورية والتخلُّص :

لقد مر بما لا مزيد عليه الاستدلال على أن التقية إنما تباح عند الضرر المقطوع او المتوقع الحاصل من الإكراه ...

فعلى هذا يدور الحكم مدار وجود الضرر وتحققه ، فاذا أمكن المكلف التخلص من هذا الضرر ـ بإي وسيلة كانت ـ فلا يصح له العمل بالتقية ، لان التقية إنما تكون لدفع الضرر المتوجه اليه ، واذا امكنه التخلص من الضرر بطريقة أخرى فلا تباح له التقية ... لان رتبة التقية متأخرة عن نفاذ جميع الطرق الاخرى للتخلص من الضرر.

وهذه هي المسماة ... بالمندوحة ...

__________________

(٧) السيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٩.

(٨) وهبة الزحيلي : نظرية الضرورة الشرعية ص ٦٩.

وفيه بيان لمعنى كون الضرورة فعلية وقائمة حيث اعتبر فعليتها .. حصول العلم او الظن بحصول الضرر. والسيوطي : والأشباه والنظائر ص ٢٢٩.

١٥٨

ولهذه المندوحة ... عدة طرق ..

فتارة تحصل بواسطة التورية ، فيدفع الضرر بالتورية ، فيكون له مندوحة عن الوقوع في الضرر بالإتيان بالحكم الاول بواسطة التورية.

وتارة تكون المندوحة بواسطة التخلص بغير التورية.

وهذا القسم ـ الثاني ـ أوضح في التنصيص على المندوحة من الأول.

وقد اشترط كثير من علماء السنة امكان التخلص في العمل بالتقية.

والجم الغفير ـ منهم ـ نص على اشتراط التورية.

فمن الاول :

١ ـ [ ألا توجد أمام المكرَه وسيلة إلا ارتكاب الجريمة ـ المحرمة ـ ، فان كان هناك وسيلة أخرى فعلية ان يتوسل بها ] (٩).

ويظهر ان هذا الاشتراط صريح عند الشافعية حيث بنص اكثر من واحد على ذلك. كما في هذا النص :

٢ ـ [ عجز المكرَه عن رفعه بهرب أو استغاثة او مقاومة ] (١٠).

ومن الثاني وهو النص على التورية والتخلص بها ... ما يلي :

١ ـ [ فابيح له ـ في هذه الحال ـ أن يظهر كلمة الكفر

__________________

(٩) محمد القيعي : نظرة القرآن الى الجريمة والعقاب ص ١٨٥.

(١٠) السيوطي : الاشباه والنظائر ص ٢٢٩.

١٥٩

ويعارض بها غيره ... إذا خطر ذلك بباله ، فان لم يفعل ذلك مع خطوره بباله كان كافرا.

قال محمد بن الحسن :

اذا اكرهه الكفار على أن يشتم محمداً (ص) ، فخطر بباله ان يشتم محمداً آخر غيره فلم يفعل ... وقد شتم النبي (ص) كان كافراً ، وكذلك لو قيل له لتسجدن لهذا الصليب ، فخطر بباله أن يجعل السجود لله فلم يفعل وسجد للصليب كان كافراً.

فإن أعجلوه عن الرويّة ولم يخطر بباله شيء وقال ما اكره عليه أو فعل لم يكن كافراً ... اذا كان قلبه مطمئناً بالإيمان ..

قال أبوبكر ـ معللاً ـ :

وذلك ... لانه اذا خطر بباله ما ذكرنا ... فقد أمكنه أن يفعل الشتيمة لغير النبي (ص) « اذا » إذ لم يكن مكرها على الضمير.

وإنما كان مكرها على القول وقد أمكنه صرف ضمير الى غيره ، فمتى لم يفعل فقد اختار اظهار الكفر من غير اكراه ... فلزمه حكم الكفر ] (١١).

وبعبارة أوصح :

٢ ـ [ أجمعوا على : أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه ... وأن يقتصر على التعريضات ...

وههنا بحثان :

البحث الاول : أنه اذا اعجله من اكرهه عن إحضار

__________________

(١١) الجصاص : احكام القرآن ج ٥ ص ١٣.

١٦٠