التقيّة في إطارها الفقهي

علي الشملاوي

التقيّة في إطارها الفقهي

المؤلف:

علي الشملاوي


الموضوع : الفقه
الطبعة: ١
الصفحات: ٢٠٨
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

كان اختلاف التعبير عندنا ـ كما لاحظنا ذلك سابقا ـ ام عندهم ـ كما سيتضح من طيات هذا البحث ـ إلا ان المراد واحد جلي وواضح ، بل هو متحد حتى في الالفاظ ـ كما تقدم ضمن التعريف القديم (٤).

ولقد اشار الى تعريف التقية اكثر من تطرق لتفسير الآيات النازلة في ذلك ومن تناول موضوع لإكراه فقهيا ، وكذلك شرّاح كتب الحديث.

فقد عرفوها بانها :

[ ما يقال أو يفعل مخالفاً للحق لأجل توقي الضرر ] (٥).

وبعبارة أوضح :

[ بأن يفعل الإنسان ما يخالف الحق لاجل توقي ضرر من الأعداء يعود الى النفس او العرض أو المال ] (٦).

ويضيف ثالث :

[ التقية : الحذر من إظهار ما في النفس ـ من معتقد وغيره ـ للغير ] (٧).

ويشير رابع صريحاً :

[ التقية : هي أن يقي الإنسان نفسه من التلف والأذى بما يُظهره وان كان يبطن خلافه ] (٨).

__________________

(٤) كما تقدم في تعريف الطوسي والمفيد والطبرسي للتقية ..

(٥) محمد رشيد رضا : تفسير المنار ج ٣ ص ٢٨٠.

(٦) المراغي : التفسير : ج ١ ص ١٣٦.

(٧) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ١٣٦.

(٨) عبد الكريم زيدان : مجموعة بحوث فقهية ص ٢١٢ وبهذا المعنى : مصطفى الشكعة : تفسير سورة آل عمران ص ٣٢.

١٠١

ويؤكد خامس :

[ بأنها المحافظة على النفس والمال من شر الأعداء ، فيقيهم الإنسان باظهار الوالاة من غير اعتقاد لها ] (٩).

ورجوعاً لتفسير الصحابة للتقية نجد أنها :

[ التقية : باللسان والقلب مطمئن بالايمان ولا يبسط يده للقتل ] (١٠).

ولا اتصور أن هناك فارقاً بين التعاريف الشيعية والتعاريف السنية ، إذ ان الجميع اخذ في التعريف ما يلي :

١ ـ الحذر او التحفظ او التوقي ... عن ضرر الغير.

٢ ـ باظهار الموافقة لمن يخاف شره بقول او فعل مخالف للحق.

٣ ـ مطلق الضرر سواء كان متوجها للنفس او المال او العرض.

٤ ـ شمول الأفعال ـ للافعال الاعتقادية والفرعية.

٥ ـ اخذ عنوان الضرر في تعريف التقية ، ولا موضوع لها بدون تحقق الضرر.

ونكون بهذا قد تجاوزنا اول نقطة من النقاط الأساسية التي اردنا رسمها لاظهار التوافق المطموس.

__________________

(٩) الصابوني : تفسير آيات الاحكام ج ١ ص ٤٠٢.

(١٠) العسقلاني : فتح الباري ج ١٢ ص ٢٦٤. ويراجع في ذلك التفاسير حول آية التقية.

١٠٢

ـ ٢ ـ

مصادر تشريع التقية

عند أهل السنة

١ ـ القرآن الكريم :

إن الآيات التي بُحث حولها ـ للدلالة على تشريع التقية ـ بشكل واضح آيتان ، وهما المهمتان في الاستدلال وإن استشف من غير واحد ـ امكان الإستدلال على جوازها وتشريعها بغيرهما من الآيات ـ التي سقناها للإستدلال على تشريعها عند الشيعة ـ كما سنشير ـ.

وعند ملاحظتي للتفاسير التي تشير الى دلالة الآيات على تشريع التقية وجدت أنها قد تطابقت على ذلك ، وان دلالة الآيات على التقية من الأمور المفروغ منها.

وأحببت أن أسهب في بيان ذلك بنقل اكثر اقوال المفسرين وكلمات القهاء تبعاً لها. ولذلك اعتذر ـ سلفاً ـ للقارىء الكريم عن الاطالة ، ذلك ان الموضوع يتطلب إيقاف القارىء على النص المقطوع صدوره ، وتقديمه بين يديه باعثاً لليقين ليتضح ما رمينا اليه كمال الوضوح. وهذه الآيات ـ التي هي المصدر الأول من مصادر التشريع ـ التي استدل بها :

١ ـ قوله تعالى :

[ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن

١٠٣

يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه والى الله المصير ] (١).

كلمات المفسرين والفقهاء والبحاث :

١ ـ القرطبي :

قد طرحها في مسائل فقال من ضمن ذلك بعد توضيح التقية لغة :

[ الثانية : فقال « إلا ان تتقوا منهم تقاة » قال معاذ بن جبل ومجاهد : كانت التقية في جدة الاسلام قبل قوة المسلمين ، فاما اليوم فقد اعز الله الاسلام ان يتقوا من عدوهم ].

ثم يشير الى تعريف ابن عباس للتقية :

[ قال ابن عباس : هو ان يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ولا يقتل ولا يأتي مأثماً ].

وعقب بكلمة الحسن البصري :

[ التقية جائزة للانسان الى يوم القيامة ، ولا تقية في القتل ].

وأنهى كلامه بوجوه القراءات في « تُقاة » وسبب نزول الآية. وهل هي نزلت في عبادة بن الصامت ام في عمار بن ياسر (٢).

٢ ـ البروسوي:

[ ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) ، استثناء من أعم الأحوال ،

__________________

(١) الآية ٢٨ آل عمران.

(٢) الجامع لاحكام القرآن. له : ج ٤ ، ص ٢٨.

١٠٤

كانه قيل : لا تتخذوهم أولياء ظاهراً وباطناً في حال من الأحوال إلا حال اتقائكم ( منهم ) اي من جهتهم ( تقاة ) اي اتقاءاً ، بأن تغلب الكفار أو يكون المؤمن بينهم ، فان اظهار الموالاة حينئذٍ مع اطمئنان النفس بالعدوة والبغضاء وانتظار زوال المانع من شق العصا واظهار ما في الضمير ، كما قال موسى (ع) : [ كن وسطاً وامش جانباً ] أي كن فيما بينهم صورة وتجنب عنهم سيرة ، [ ولا تخالطهم مخالطة الألداء ولا تتيسر بسيرتهم ].

ويعقب بالحكم ...

[ وهذه رخصة ، فلو صبر حتى قتل كان أجره عظيماً ] (٣).

٣ ـ المراغي

[ ( إلا أن تتقوا منهم تقاة ) أي إنّ تَرْك موالاة المؤمنين للكافرين حتم لازم في كل حال من الاحوال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم ، فلكم حينئذ أن تتقوهم بقدر ما يتقى ذلك الشيء ].

ثم يؤكد دلالة الآية على التقية ـ حيث استفاد ذلك العلماء فيقول :

[ وقد استنبط العلماء من هذه الآية جواز التقية ].

وبعد تعريف التقية يعقب رابطاً هذه الآية بآية ـ ١٠٦ ـ النحل

__________________

(٣) تفسير روح البيان ـ له : ج١ ـ ص ٢٠.

١٠٥

[ فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك وقلبه مطمئن بالايمان لا يكون كافراً ، بل يعذر كما فعل عمار بن ياسر حين اكرهته قريش على الكفر فوافقها مكرهاً وقلبه مطمئن بالإيمان، فيه نزلت الآية .. ] (٤) ثم ذكر آية ١٠٦ النحل. وعقب بقصة الصحابيين مع مسيلمة الكذاب.

٤ ـ محمد رشيد رضا :

ذكر ـ أولاً ـ ما ذكره المراغي حول الآية. ثم بيّن ان [ هذه الموالاة تكون صورية لانها للمؤمنين لا عليهم ].

ويشير بعد ذلك الى المعنى فيقول :

[ والمعنى : ليس لكم أن توالوهم على المؤمنين ، ولكن لكم أن تتقوا ضررهم بموالاتهم ].

ثم يُضيف مخصصاً بحثاً في التقية :

[ اقول : وقد استدل بعضهم بالآية على جواز التقية ].

وبعد تعريف التقية يؤكد ان :

[ لهم فيها تعريفات وشروط واحكام :

فقيل : أنها مشروعة للمخافظة على النفس والعرض والمال.

وقيل : لا تجوز التقية لأجل المحافظة على المال.

وقيل : انها خاصة بحال الضعف. وقيل : بل عامة ].

ويذكر ـ بعيد هذا ـ ما ذكر المراغي في جواز النطق بكلمة الكفر ـ كما سيأتي ـ

__________________

(٤) تفسير المراغي له : ج ٥ ، ص ١٣٦ ، ١٣٧.

١٠٦

ويشير الى التغمة القديمة :

[ وينقل عن الشيعة : أن التقية عندهم اصل من أصول الدين جرى عليه الانبياء والأئمة ... ، وينقل في ذلك أمور متناقضة مضطربة ... وخرافات مستغربة ... ]

ثم يضعف ذلك بقوله : [ وقلما يسلم نقل المخالف من الظنة سيما اذا كان نقله بالمعنى ... ] ولم يكلف نفسه بمراجعة تفسير أو كتاب فقهي من مصادر الشيعة.

ويستنتج قائلا :

[ وقصارى ما تدل عليه هذه الآية : أن للمسلم أن يَتقى ما يُتقى من مضرة الكافرين ] (٥).

٥ ـ الفخر الرازي :

بعد ان ذكر القراءات ومعنى التقية في ضمن مسائل ، ذكر في المسألة الرابعة : [ اعلم أن للتقية أحكاماً كثيرة ، ونحن نذكر بعضها :

الحكم الأول : أن التقية إنما تكون اذا كان الرجل في قوم كفار ويخاف منهم على نفسه وما له فيداريهم باللسان ، وذلك بان لا يظهر العداوة باللسان بل يجوز أيضاً أن يظهر الكلام الموهم للمحبة والموالاة ، ولكن بشرط أن يضمر خلافه ، وأن يُعَرَّض في كل ما يقول ، فان التقية في الظاهر لا في أحوال القلب ].

وفي طيات بحثه يذكر عدة احكام. يأتي ذكرها في

__________________

(٥) تفسير المنار ـ له : ج ٥ ، ص ٢٨٠ ـ وبنفس المعنى السرخسي : المبسوط ج ٢٤ ص ٤٥.

١٠٧

موضعها من البحوث (٦).

٦ ـ الجصاص :

[ وقوله تعالى : « إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً » .. يعني إن تخافوا تلف النفس او بعض الأعضاء فتتقوهم بإظهار الموالاة من غير اعتقاد لها ، وهذا هو ظاهر ما يقتضيه اللفظ ، وعليه الجمهور من اهل العلم.

وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن اسحاق المروزي قال : « وساق السند ». عن قتادة في قوله تعالى : ( لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ ) قال : لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافراً ولياً في دينه.

وقوله تعالى : ( إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً ) ... إلا ان تكون بينه وبينه قرابة فيصله لذلك ..

فجعل التقية صلة لقرابة الكافر.

وقد اقتضت الآية جواز اظهار الكفر عند التقية ، وهو نظير قوله تعالى : [ مَن كَفَرَ ... ] ـ وساق الآية ـ ١٠٦ النحل.

وإعطاء التقية في مثل ذلك إنما هو رخصة من الله تعالى وليس بواجب ، بل ترك التقية افضل.

قال أصحابنا : فيمن أكره على الكفر فلم يفعل حتى قتل : أنه افضل ممن أظهر.

وقد أخذ المشركون ـ خبيب بن عدي ـ فلم يعط التقية حتى قتل ... فكان عند المسلمين افضل من عمار بن ياسر

__________________

(٦) التفسير الكبير ـ له : ج ٨ ص ١٣.

١٠٨

حين اعطى التقية واظهر الكفر فسأل النبي « ص » عن ذلك ] .. ويذكر القصة الآتية في سبب نزول الآية الثانية.

ثم عقب بقصة الصحابيين مع مسيلمة ورتب على ذلك ...

[ وفي هذا دليل على أن إعطاء التقية رخصة وان الافضل ترك اظهارها ] ـ اي اظهار ما تقتضيه التقية.

[ وكذلك قال اصحابنا في كل أمر كان فيه إعزاز الدين فالإقدام عليه حتى يقتل أفضل من الأخذ بالرخصة في العدول عنه ـ عن الاقدام ـ الا ترى أن من بذل نفسه لجهاد العدو فقتل كان افضل ممن انحاز ... وقد وصف الله أحوال الشهداء بعد القتل وجعلهم أحياء مرزوقين ... فكذلك بذل النفس في إظهار دين الله تعالى ... وترك اظهار الكفر أفضل من إعطاء التقية فيه ... ] (٧).

٧ ـ ابن كثير :

نص على دلالة الآية على تشريع التقية على منوال غيره (٨).

٨ ـ الإمام الشوكاني :

وتناول الآية ـ شرحاً ودلالة ـ كما تناولها غيره ، ثم أكد ان :

[ في ذلك دليل على جواز موالاتهم مع الخوف منهم ، ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً ...

__________________

(٧) احكام القرآن ـ له : ج ٢ ، ص ٢٨٩ ، ٢٩٠.

(٨) تفسير القرآن العظيم ـ له : ج ١ ص ٣٨٣.

١٠٩

وخالف في ذلك قوم من السلف ، فقالوا : لا تقية بعد أن اعز الله الاسلام ]

وبعد تفسير الفقرات الاخرى للآية يذكر عدة روايات حول تفسير هذه الآية. وينقل عن عدة من العلماء كلمات دالة على ذلك.

ثم يربط هذه الآية بآية ـ ١٠٦ ـ النحل ـ فيقول :

[ ويدل على جواز التقية قوله تعالى : « إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ ... ] (٩) الخ الآية ..

٩ ـ العسقلاني :

[ ومعنى الآية : لا يتخذ المؤمن الكافر ولياً في الباطن ولا في الظاهر إلا التقية في الظاهر فيجوز أن يوالي اذا خافه ويعاديه باطناً ].

وبعد أن ذكر الحكمة في العدول في الخطاب ـ الالتفات ـ فيختار أحدها في ذلك فيقول في ضمنها :

[ فنزلت هذه الآية رخصة في ذلك وهو كالآيات الصريحة في الزجر عن الكفر بعد الإيمان ثم رخص فيه لمن اكره على ذلك ] (١٠).

١٠ ـ الصابوني :

بعد أن عرف التقية وارجعها لاصلها اللغوي ... قال :

[ والمعنى : إلا ان تخافوا منهم خوفاً فلا بأس بأظهار

__________________

(٩) فتح القدير. له : ج ١ ص ٣٣١ ، ٣٣٢.

(١٠) فتح الباري. له : ج ١٢ ، ص ٢٦٣.

١١٠

مودتهم باللسان تقية ومداراتهم دفعاً لشرهم وأذاهم من غير اعتقاد بالقلب ] (١١).

وتحت عنوان ـ المعنى الاجمالي ـ يذكر :

[ فالآية الكريمة تحذر من موالاة الكافرين إلا في حال الضرورة ـ وهو حال اتقاء شرهم وتجنب ضررهم ، او الخوف منهم فيجوز موالاتهم بشرط أن يقتصر ذلك على الظاهر مع اضمار الكراهية والبغض لهم في الباطن .. ] (١٢)

وفي عنوان ـ الاحكام الشرعية ـ المستفادة من هذه الآية ـ يذكر احكاماً :

[ الحكم الثاني : ما معنى التقية وما حكمها ...؟..

قال ابن عباس : التقية أن يتكلم بلسانه وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا يقتل ولا يأتي مأثماً ].

وبعد تعريف التقية اصطلاحاً يضيف ناقلاً عن الجصاص ما تقدم فلا نكرر.

ثم يذكر التفاضل بين العمل بالتقية وتركه (١٣).

وتحت عنوان ( ما ترشد اليه الآية ) يشير الى أن :

[ ٢ ـ التقية عند الخوف على النفس أو المال او التعرض للاذى الشديد.

٣ ـ الإكراه يُبيح للإنسان التلفظ بكلمة الكفر بشرط أن يبقى القلب مطمئناً بالإيمان ] (١٤).

__________________

(١١) تفسير آيات الاحكام. له : ج ١ ص ٣٩٨.

(١٢) المصدر السابق : ص ٣٩٩.

(١٣) المصدر السابق : ص ٤٠٢ ، ٤٠٣.

(١٤) المصدر السابق : ص ٤٠٤.

١١١

١١ ـ السرخسي :

[ وقد كان بعض الناس يأبي ذلك ـ التقية ـ ، ويقول أنه من النفاق ، والصحيح أن ذلك جائز لقوله تعالى : إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً .. ] (١٥).

١٢ ـ عبد الكريم زيدان :

[ وقد استدل على جوازها بقوله تعالى : « لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً » ] (١٦).

٢ ـ الآية الثانية :

قوله تعالى :

[ مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ] (١٧).

كثير من المفسرين قد ربط بين مدلول الآية السابقة ومدلول هذه الآية في البحث والدلالة على تشريع التقية. فلذلك قل من أطال حول هذه الآية .. كالقرطبي والرازي ... وإلا فجل المفسرين قد اطنبوا في البحث حول الآية السابقة وربطها مع هذه الآية كما مر ، ومع ذلك نفرد لها بحثاً نورد فيه بعض نصوصهم.

__________________

(١٥) المبسوط ـ له : ج ٢٤ ص ٤٥.

(١٦) مجموعة بحوث فقهية ، له : ص ٢١٢.

(١٧) الآية : ١٠٦ النحل.

١١٢

١ ـ القرطبي :

كما ذكرنا ـ سابقا ـ ان المفسر الكبير القرطبي ممن أطال حول تفسير هذه الآية ، فطرحها في احدى وعشرين مسألة ، وحاولنا اختصارها :

الاولى : في ربط الآية بما قبلها.

والثانية : في سبب النزول :

[ هذه الآية نزلت في عمار بن ياسر ـ في قول أهل التفسير ـ لانه قارب بعض ما ندبوه اليه.

قال ابن عباس : أخذ المشركون واخذوا أباه وامّه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذبوهم. وربطت سُمية بين بعيرين ووجىء ـ قلبها ـ قبلها ـ بحربة .... وأما عمّار فأعطاهم ما ارادوا بلسانه مُكرهاً. فشكا ذلك الى رسول الله « ص » فقال له رسول الله (ص) ( كيف تجد قلبك ) ؟ .. قال : مطمئن بالايمان. فقال رسول الله (ص) : ( فان عادوا فعُد ) ]

الثالثة : في دلالة هذه الآية على ما نحن فيه حيث قال :

[ لما سمح الله عز وجل بالكفر به ـ [ ظاهراً ] ـ وهو اصل الاكراه ولم يؤاخذ به حمل العلماء عليه فروع الشريعة كلها ، فاذا وقع الإكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يرتب عليه حكم وبه جاء الأثر المشهور عن النبي (ص) :

« رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ... » ]

١١٣

الرابعة : في إجماع العلماء على جواز قول الكفر مع عدم الأثم :

[ أجمع اهل العلم على أنه من اكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه ان كفر وقلبه مطمئن بالايمان ]

وذكر ـ ايضا ـ عدم ترتب الأثر في بعض الفروع كالبيع والطلاق. وعدم ترتيب آثار الكفر عليه.

الخامسة : في عموم التقية للقول والفعل ـ كما سيأتي ـ في البحث الخاص بذلك ... ويرد من خلال هذه النقطة على من يرتب احكاماً على الاكراه الذي هو موضوع التقية بهذه الآية وآية التقية ، وهذا يكشف عن ان موضوعهما واحدكما سيأتي.

السادسة : في مستثنيات التقية. وأحد مصاديقه القتل. كما سيأتي.

وفي ضمن المسائل ٧ الى ١٦. يذكر مصاديق التقية من الفروع في موارد الاكراه.

ويعقب بمسألة في وجوب التورية وستأتي في بحث المندوحة كما هو مفاد المسألة ـ ١٧ و ٢٠ ـ.

وفي مسألة ـ ١٩ ـ يحدد معيار الإكراه المبيح معه ارتكاب التقية والاقدام على المخالفة للمأمور به. (١٨).

٢ ـ الإمام الشوكاني :

[ وإما صح إستثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان مالا يظهر إلا من الكافر لولا الإكراه ].

__________________

(١٨) الجامع لاحكام القرآن ـ له : ج ١٠ ص ١١٨ الى ١٢٠.

١١٤

ثم نقل كلام القرطبي في المسألة الرابعة من اجماع العلماء على عدم الإثم لمن كفر ظاهراً ..

ثم أكد على شمول التقية للقول والفعل ، بعد حكايته القول بعدم الشمول عن الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسُحنون ... ، ويضيف رداً على هؤلاء : [ ويدفعه ظاهر الآية فانها عامة فيمن اكره من غير فرق بين القول والفعل .. ]

ولا دليل لهولاء ـ القاصرين الآية على القول ـ ، وخصوص السبب لا إعتبار به مع عموم اللفظ كما تقرر في علم الاصول.

وجملة ( وقلبه مطمئن بالإيمان ) في محل نصب على الحال من المستثنى ، أي إلا من كفر بإكراه والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته ] (١٩).

٣ ـ ابن كثير :

بعد ان ذكر سبب النزول. وأنهار نزلت في عمار ، رتب على ذلك قائلا :

[ ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يُوالي إبقاءاً لمهجته.

ويجوز أن يأبي كما كان بلال (رض) يأبي عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل .. ]. (٢٠)

٤ ـ الفخر الرازي :

قد اطنب ـ كما هو شأنه ـ في بيان الآية تحت اطار

__________________

(١٩) فتح القدير ـ له : ج ٣ ص ١٩٧.

(٢٠) تفسير القرآن العظيم ـ له : ج ٢ ص ٦٤٨.

١١٥

المسائل ، إذ طرح ما تحوم حوله الآية في عشر مسائل.

الأولى : في اعرابها والإختلاف فيه.

[ الثانية : اجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بالكفر ، يدل عليه وجوه :

أحدها : أنا روينا أن بلالاً صبر على ذلك العذاب وكان يقول أحد أحد ].

وهذا هو المؤيد لعدم التكلم بالكفر ، واما المؤيد لجواز التكلم بالكفر فهو :

[ رُوي أن أناساً من أهل مكة فُتنوا فارتدوا عن الاسلام بعد دخولهم فيه .. وكان فيهم من اكره فاجرى كلمة الكفر على لسانه مع أنه كان بقلبه مصراً على الإيمان ... منهم عمار وأبوه ياسر ... واما عمار فقد اعطاهم ما ارادوا بلسانه مكرهاً ، فقيل يا رسول الله (ص) .... ] (٢١) الخ سبب النزول.

الثالثة : حول الاستثناء في الآية ، حيث ذكر أنه ليس باستثناء ، واظن ان مراده أنه ليس باستثناء متصل ـ كما اشار اليه غير واحد وكما يشير اليه فيما بعد من وجه المناسبة (٢٢).

الرابعة : في بيان الإكراه. وسيأتي ذلك في شروطه.

الخامسة : في وجوب التورية في التلفظ بالكفر وخلوص القلب عن ذلك.

السادسة : نفس مدلول الثانية ـ حسب اعتقادي ـ.

__________________

(٢١) التفسير الكبير. له : ج ٢٠ ص ١٢٢ ، ١٢٣.

(٢٢) نفس المصدر السابق.

١١٦

السابعة : حول مراتب الإكراه. وهو ذاته بيان لحكم التقية كما سيأتي.

الثامنة : في مستثنيات التقية. وسيأتي ذلك.

التاسعة : في مسألة فرعية وهي طلاق المكره.

العاشرة : اشار فيها الى ان قوله تعالى : ( وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) يدل على أن الايمان محله القلب (٢٣).

٥ ـ العسقلاني :

[ هو وعيد شديد لمن إرتد مختاراً ، وأما من اكره على ذلك فهو معذور بالآية ، لأن الاستثناء من الإثبات نفي فيقتضي أن لا يدخل الذي اكره على الكفر تحت الوعيد ... ] (٢٤). ثم يسوق سبب النزول.

٦ ـ السرخسي :

بعد أن ذكر سبب النزول اضاف :

[ فيه دليل أنه لا بأس للمسلم أن يجري كلمة الشرك على اللسان بعد أن يكون مطمئن القلب بالايمان ، وأن ذلك لا يخرجه عن الإيمان لأنه لم يترك اعتقاده بما اجراه على لسانه ].

وفي مكان آخر يربط الآية بالتقية فيقول :

[ وإجراء كلمة الشرك على اللسان مكرها مع طمأنينة القلب بالايمان من باب التقية ، وقد بينا ان رسول الله (ص) رخص فيه لعمار بن ياسر ] (٢٥).

__________________

(٢٣) المصدر السابق : ص ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٢٥.

(٢٤) فتح الباري ـ له : ج ١٢ ص ٢٦٢.

(٢٥) المبسوط : ج ٢٤ ص ٤٣.

١١٧

٧ ـ محمد رشيد رضا :

[ وينقل عن الخوارج أنهم منعوا التقية في الدين مطلقاً وإن اكره المؤمن وخاف القتل ، لأن الدين لا يُقدَّم عليه شيء ....

ويرد عليهم قوله تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا ...).

فمن نطق بكلمة الكفر مكرهاً وقاية لنفسه من الهلاك لا شارحاً بالكفر صدرا ولا مستحباً للحياة الدنيا على الآخرة لا يكون كافراً ، بل يُعذركما عذر عمار بن ياسر ، وفيه نزلت الآبة ... ] (٢٦) وساق الآية السابقة.

وفي موضع آخر يربط الآيتين بمورد واحد ، فيقول :

[ وقصارى ما تدل عليه آية سورة النحل ما تقدم آنفاُ ] (٢٧). في دلالتها.

٨ ـ عبد الكريم زيدان :

[ وهذه الآية [ السابقة ] نظير قوله تعالى : ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ) ، فقد أجازت هذه الآية الكريمة النطق بكلمة الكفر دفعاً للهلاك عن النفس على وجه التقية ].

[ ولكن عند الضرورة يجوز للمسلم النطق بما هو كفر ، كما لو اكره اكراها ملجئاً عليه. والأصل في جواز ذلك قول الله

__________________

(٢٦) تفسير المنار. له : ج ٣ ص ٢٨٠ : وتفسير المراغي ج ١ ص ١٣٦ ، ١٣٧.

(٢٧) نفس المصدر السابق.

١١٨

تبارك وتعالى ( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ ) ... ] (٢٨) الخ الآية ..

٩ ـ الجصاص :

بعد أن ذكر سبب النزول ـ كغيره ـ قال :

[ قال أبو بكر : هذا أصل في جواز اظهار كلمة الكفر في حال الإكراه.

والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه التلف إن لم يفعل ما أمره به ، فابيح له في هذه الحال أن يظهر كلمة الكفر ، ويعارض بها غيره إذا خطر ذلك بباله ، فإن لم يفعل ذلك مع خطوره بباله كان كافراً.

قال محمد بن الحسن : اذا اكرهه الكفار على أن يشتم محمداً (ص) فخطر بباله أن يشتم محمداً آخر غيره فلم يفعل وقد شتم النبي (ص) كان كافراً ، وكذلك لو قبل له : لتسجدن لهذا الصليب فخطر بباله أن يجعل السجود لله فلم يفعل وسجد للصليب كان كافراً ، فإن أعجلوه عن الروية ولم يخطر بباله شيء وقال ما اكره عليه او فعل لم يكن كافراً إذا كان قلبه مطمئناً بالايمان.

قال أبو بكر : وذلك لانه إذا خطر بباله ما ذكرنا ، فقد أمكنه أن يفعل الشتيمة لغير النبي (ص) إذا ـ إذ ـ لم يكن مكرهاً على الضمير ، وإنما كان مكرهاً على القول ، وقد امكنه صرف الضمير الى غيره ، فمتى لم يفعله فقد اختار اظهار الكفر

__________________

(٢٨) مجموعة بحوث فقهية : ص ٢٠٨ ، ٢١٣.

١١٩

من غير اكراه ، فلزمه حكم الكفر. ] (٢٩). وهذا ـ الاخير ـ سيأتي في مبحث « المندوحة ».

ثم نقل ـ مكرراً ـ ما ذكره في آية التقية سابقاً حكاية عن الاصحاب في افضلية الصبر وعدم التلفظ بالكفر.

إكراه أم تقية ..؟!

قد يسبق الى ذهن القارىء ـ المتبصر ـ التساؤل الآتي :

كيف يستدل بالآية على التقية مع أن موردها الإكراه ، اذ عبّر القرآن الكريم ـ بالاكراه ـ فهذه الآية بعيدة كل البعد عن مورد التقية ...؟

ومع ان هذا التساؤل سيتضح بعد قليل ـ وكما هو واضح ـ عند البحث حول القاعد الثانوية ـ عوارض الاهلية والترخيص ـ الا أنه .. ولربط ذهن القارىء بنفس الفكرة الثابتة ـ المستوحاة من هذه الآية ـ نحاول أن نعرض بعض المقتطفات من النصوص ـ السابقة ـ الرابطة للآية بموضع التقية لنكون قد مكنّاها في ذهن القارىء صافية خالصة.

١ ـ [ وقد اقتضت الآية ـ « آية التقية » ـ جواز إظهار الكفر عند التقية ، وهو نظير قوله تعالى. « مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ » ] (٣٠).

٢ ـ [ وهذه الآية ـ آية التقية ـ نظير قوله تعالى : « مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ » ، فقد اجازت هذه الآية الكريمة النطق بكلمة الكفر عند

__________________

(٢٩) احكام القرآن ـ له : ج ٥ ص ١٣.

(٣٠) المصدر السابق : ج ٢ ص ٢٩٠.

١٢٠