الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي

المؤلف:

عباس غيلان الفياض


الموضوع : التراجم
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-52-2
الصفحات: ١٣٢

ولاة ابن الزبير.

وهكذا استولى المختار على الكوفة ، وأصبح في اليوم التالي يعلن سياسته ، ويخطب في المسجد فيقول : « الحمد للّه الذي وعد وليه النصر وعدوه الخسر ، وجعلها منّة إلى آخر الدهر ، قضاءا مقضيا ووعدا مأتيا ، قد سمعنا دعوة الداعي وقبلنا ، قول الداعي ، فكم من باغٍ وباغية قتل في الواعية ، ألا بعدا لمن طغى وجحد وبغى وعصى وكذّب وتولى. ألا فهلموا ـ عباد اللّه ـ إلى بيعة الهدى ومجاهدة الأعداء والذبّ عن السعداء من آل محمد المصطفى ».

ثم أضاف يقول : « فلا والذي جعل السماء سقفا مكفوفا ، والأرض فجاجا وسبلاً ، ما بايعتم بعد علي بن أبي طالب أهدى منها ».

وبعد ذلك فرّق عماله على الثغور والأمصار كل حسب كفاءته فكانوا على البيان التالي :

١ ـ أرمينية : بعث إليها عبد اللّه بن الحارث الأشتر وعقد له راية.

٢ ـ آذربيجان : بعث إليها رجلاً يقال له محمد بن عمير بن عطارد.

٣ ـ الموصل : بعث إليها عبد الرحمن بن سعيد بن قيس.

٤ ـ المدائن : بعث إليها سعيد بن حذيفة بن اليمان.

٥ ـ الري : بعث إليها يزيد بن بحية.

٦ ـ أصفهان وأعمالها : بعث إليها يزيد بن معاوية البجلي.

٧ ـ بهقباذ الأعلى : بعث إليه قدامة بن أبي عيسى بن ربيعة النصري.

٨ ـ بهقباذ الأوسط : بعث إليه محمد بن كعب بن قرظة.

٩ ـ بهقباذ الأسفل : بعث إليه حبيب بن منقذ الثوري.

وخضعت له جميع الأقاليم الإسلامية سوى الحجاز والشام ومصر

٦١

والبصرة والجزيرة ، وهذا الإقليم صار تحت قبضته فيما بعد عندما استولى عليه إبراهيم بن مالك الأشتر بقتاله عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه وانتصاره عليه ، ولما فرغ من توزيع عماله أخذ ينظّم أعماله الداخلية ، فوضع على شرطته عبد اللّه بن كامل الشاكري ، وعلى حرسه كيسان ـ أبا عمرة ـ مولى عرينة ، وأقرّ شريح القاضي على وظيفته في القضاء ، ولكنه ما لبث أن عزله وأحلّ محلّه عبد اللّه بن عتبة بن مسعود ثم إن عبداللّه مرض ، فجعل مكانه عبداللّه بن مالك الطائي قاضيا (١) ، وذلك حينما علم بأنه خبيث عثماني العقيدة ، ويكفي دليلاً على خبثه ولعنه أنه هو الذي شهد على حجر بن عدي الكندي بالقتل.

ومن أبرز عوامل نجاح هذه الثورة هي :

١ ـ الاعتماد بشكل أساسي على الفئات الشعبية من العرب وغيرهم الذين ضاقوا بالاضطهاد الأموي ثم الزبيري ، ووجدوا في ثورة المختار متنفسا لتحقيق مطالبهم الإصلاحية.

٢ ـ انتساب ثورة المختار إلى محمد بن الحنفية ، الأمر الذي أدّى إلى اقتناع القواعد الشعبية الشيعية ، بمصداقية هذه الثورة ، وبالتالي الإخلاص من أجلها ، ومساندة زعيمها المختار ، الذي كان هو الآخر على استعداد للاستشهاد في سبيل الطلب بدماء أهل البيت عليهم‌السلام.

٣ ـ إنّ الحكم الزبيري لم يقم بأي تغيير سياسي في الكوفة ، ولم يكن لديه أي برنامج إصلاحي ، بل كاد يكون بمناهجه استمرار للحكم الأموي مما أدّى إلى تذمر تلك القواعد منه ، والتفاتهم حول المختار.

٤ ـ إشراك العامل الزبيري بعض قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام في الحكم ، وفي

__________________

(١) تاريخ الطبري ٦ : ٣٥.

٦٢

حرب المختار ، لا سيما أخيه مصعب الذي كان على البصرة فقد آوى قتلة الحسين وأمّنهم. وقد ترك ذلك انطباعا سيئا في صفوف المقاتلين معه ، وأخذت مجموعات منهم تنصرف إلى معسكر المختار.

٥ ـ انضمام ابن الأشتر إلى المختار ، أدّى إلى ترجيح كفّته ، وساعده على تحقيق النصر ، ذلك أن تأثير ابن الأشتر كان نابعا من قوته القبلية ، ومكانته البارزة في قبيلته مذحج ، فضلاً عن امكانياته الشخصية كقائد عسكري ومقاتل شجاع موهوب ومغامر (١).

__________________

(١) المختار الثقفي / الخربوطلي : ٤٣.

٦٣

تمرُّد الكوفيِّين

بعد الانتصار العظيم الذي حقّقه المختار بقيادة قائده إبراهيم بن مالك الأشتر ، وسيطرته على الكوفة كليّا ، وطرده ابن مطيع واليها من قبل ابن الزبير ، راح ابن الزبير ، وعبد الملك بن مروان ، يحسبان ألف حساب للمختار ، فهما يعرفان عنه من الجرأة والأقدام في الأمور الصعبة ما يكفي لتخوّفها منه ، ومن هنا حاولا تخويف العرب من شخصه بقولهما ، إنّما المختار يريد أن يتسلّط على رقاب العرب ، كما وأنه ينوي إذلال أشرافهم.

ومقابل ذلك فإنّ المختار هو الآخر لم يُؤْثِر الراحة والدعة ، إذ ربما يقوم ابن الزبير بتحالف مع مروان للقضاء على المختار ، لذا قرّر أن لا يتوقّف عند مرحلته الأولى ، أي طرد ابن المطيع ، بل يمضي قدما لتقويض حكم ابن الزبير الثعلب المراوغ الذي كان يطالب كذبا بثار الإمام الحسين عليه‌السلام ، قبل تسلّمه دست الحكم ، ولما بويع بالخلافة صار يفكر بنفسه وبتثبيت ملكه حتى وإن أدّى ذلك إلى احتضان قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام!

وكان المختار قد تجاوز بنفوذه منطقة الكوفة ، وما حولها حيث امتدّ إلى مناطق شملت الموصل والبصرة ، وإن أصحبت فيما بعد تحت حكم الزبيريين وغيرها من حواضر الدولة في حينه.

لذا أسرع المختار بتصفية المراكز القريبة منه ، وعمل على توحيد قواته

٦٤

التي ضمّت آلاف الموالي بينها ، فأرسل جيشا بقيادة إبراهيم ، ليتولّى تطهير أرض الجزيرة وما يحيط بها من قبضة الأمويين ، لما علم عبد الملك بن مروان ، أرسل عبيد اللّه بن زياد بثمانين ألفا من أهل الشام لينهب الكوفة ، ويقضي على المختار وأنصاره. وقد وصل عبيد اللّه هذا إلى الموصل ، وكان عامل المختار عليها عبد الرحمن بن سعيد بن قيس ، فوجه إليه عبيد اللّه رجاله ، فانحاز عبد الرحمن إلى تكريت ، وكتب إلى المختار يعرفه ذلك ، فكتب الجواب ، بصواب رأيه ، وبحمد مشورته ، وأن لا يفارق مكانه حتى يأتيه ، أمره إن شاء اللّه.

التقى الجمعان في ٩ ذي الحجة سنة ٦٦ هـ (٦٨٦م) عند الفجر قرب الموصل ، وكان جيش أهل الشام ضعف جيش المختار ، ومع ذلك فقد انتصر جيش المختار انتصارا ساحقا بعد قتال دام يومين.

وكان يزيد بن أنس ، الذي أرسله المختار لنجدة عبد الرحمن بن سعيد ، هو القائد العام لجيش المختار ، فقاد المعركة ، وهو مشرف على الموت ، من مرض أصابه ، وما لبث أن فارق الحياة.

فتولّى أمر الجيش بعده القائد ورقاء بن عازب الأسدي الذي ما لبث أن جمع أصحابه ، وقال لهم : « ماذا ترون ، أنه قد بلغني أن ابن زياد ، قد أقبل إليكم في ثمانين ألفا. وإنّما أنا رجل منكم فأشيروا علي ، فإنّي لا أرى لنا بأهل الشام طاقة على هذه الحال ، وقد هلك يزيد وتفرّق عنّا بعض من معنا ».

فقالوا : نِعْمَ ما رأيت. وتفرّق جند جيش المختار (١).

__________________

(١) الكامل / ابن الأثير ٤ : ٩٧.

٦٥

وعلم المختار ، وأهل الكوفة بما حلّ بهذا الجيش ، وانتشرت في الكوفة إشاعة تقول ، أنّ الشيعة هزمهم أهل الشام «فأرجف الناس بالمختار ، وقالوا ، أن يزيد قُتل ولم يصدقوا أنه مات» (١).

ولكن المختار لم يستسلم للأحدات ، بل ظلّ ثابت الجنان ، وأصرّ على إنزال الهزيمة بالجيش الأموي ، فأسرع في إعداد جيش جديد تألّف من سبعة آلاف جندي ، وولّى على قيادته قائده العربي المشهور إبراهيم ابن الأشتر ، وأمر بأن يسرع السير إلى ميدان المعركة لإنقاذ الموصل.

وقيل : خرج في إثني عشر ألفا ، أربعة آلاف من القبائل ، وثمانية آلاف من الحمراء (٢) ، وشيّع إبراهيمَ مشيا فقال : «اركب رحمك اللّه ». فقال المختار : «إنّي لأحتسب الأمر في خطاي معك ، وأحبّ أن تتغبّر قدماي في نصرة آل محمد عليهم‌السلام ، والطلب بدم الحسين عليه‌السلام ».

نعم ، كانت وجهة المختار خالصة للّه ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لِمَ لا ، وهو الذي أخذ على نفسه عهدا ، أن يقضي على قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام ، فلا بأس أن يكون طريقه مزروعا بالأشواك. ما دامت النتيجة والصفقة رابحةً.

يقول اللّه تعالى :

« يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّه وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّه بَأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) وهم المسلمون من غير العرب.

٦٦

تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللّه وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (١)

ثم أن المختار ، ودّع الجيش وانصرف ، وبات إبراهيم بموضع يقال له ، (حمام أعين) ، ثمّ رحل حتى وافى ساباط المدائن.

فحينئذٍ توسّم أهل الكوفة في المختار القلّة والضعف ، فخرج أهل الكوفة عليه ، وجاهروه بالعداوة ، ولم يبقَ أحد ممن اشترك في قتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، وكان مختفيا إلاّ وظهر ، ونقضوا بيعته وسلو عليه سيفا واحدا ، واجتمعت القبائل عليه من قبيلة بجيلة ، والأزد ، وكندة.

فبعث المختار من ساعته رسولاً إلى إبراهيم وهو في ساباط :

« لا تضع كتابي حتى تعود بجميع من معك ».

فلما جاءهم كتابه نادى بالرجوع ، فواصلوا السير بالسرى ، والمختار يشغل أهل الكوفة بالتسويف والملاطفة حتى يرجع إبراهيم بعسكره.

وبعد ثلاثة أيام من خروجه رجع إبراهيم إلى الكوفة ، ومعه أهل النجدة والقوة ، فلما علموا بقدومه ، افترقوا فرقتين ، ربيعة ومضر على حدة ، واليمن على حدة ، فخير المختار إبراهيم إلى أي الفرقتين تسير ، فقال : إلى أيّهما أحببت.

وكان المختار ذا عقل وافر ، ورأي حاضر فأمره بالسير إلى مضر بالكناسة وسار هو إلى اليمن إلى جبانة السبيع ، فبدأ بقتال رفاعة بن شداد ، فقاتل قتالاً شديد البأس ، حتى قتل ، وقاتل حميد بن مسلم وهو يقول :

__________________

(١) سورة الصف : ٦١ / ١٠ ـ ١٣.

٦٧

لأضربن عن ابن حكيم. مفارق الأعبد والحميم.

ثم انكسروا ، كسرة هائلة ، وجاء البشير إلى المختار ، انهم ولَّوا مدبرين ، فمنهم من اختفى في بيته ، ومنهم من لحق بمصعب بن الزبير ، ومنهم من خرج إلى البادية.

ثمّ أحصوا عدد القتلى فكانوا ستمائة وأربعين رجلاً ثم استخرج من دور الوادعين خمسمائة أسير كما ذكر الطبري وغيره ، فجاؤا بهم إلى المختار فعرضوهم عليه ، فقال :

«كلُّ من حضر فيهم قتل الحسين عليه‌السلام فاعلموني به».

فلا يُؤتى بمن حضر قتله عليه‌السلام إلاّ قيل هذا ، فيضرب عنقه ، حتى قتل منهم مائتين وثمانية وأربعين رجلاً ، وقتل أصحابُ المختار جمعا كثيرا بغير علمه ، وأطلق الباقين ، ثم علم المختار ، أن شمر بن ذي الجوشن لعنة اللّه عليه ، خرج هاربا ومعه نفر ، ممن اشترك في قتل الحسين عليه‌السلام ، فأمر عبدا له ، أسود يقال له رزين ، ومعه عشرة ، أن يتبعه ، فأتاه برأسه.

والغريب في هذا ، إنّ عبد المؤمن بن شبث بن ربعي التميمي ، كان يحارب بشجاعة ضد أبيه الملعون إلى جانب المختار (١).

وعلى الرغم من انتصار المختار العظيم على أشراف الكوفة ، فإنّه لم يستطع القضاء نهائيا على أولئك المتمرّدين ، فقد هرب خلق كثير منهم إلى البصرة ، وانضمّوا إلى مصعب بن الزبير ، وهؤلاء راحوا يحرّضون مصعب ضدّ المختار ، وكانوا عاملاً مهمّا ساعدوا على الإطاحة بثورته.

__________________

(١) الطبري ٢ : ٦٥٤.

٦٨

مقتل ابن زياد لعنه اللّه

كان خطر الجيش الأموي بقيادة عبيد اللّه بن زياد الملعون ابن الملعون قد داهم الموصل ، وأراد المختار كما رأينا أن ينقذ الموصل فبعث قائده إبراهيم ابن مالك الأشتر لصدّ الأمويين ، ولكن المختار اضطرّ إلى استدعاء قائده ليخمد الانقلاب الذي أعلنه أنصار الشجرة الملعونة في الكوفة ، ونجح المختار في القضاء على هذه الفتنة وشعر بالاستقرار والهدوء في الداخل ممّا مكّنه من التفرّغ لعدوه ابن زياد.

وبعد يومين بعث المختار ، قائده الباسل ابن الأشتر ، في أواخر ذي الحجّة سنة ٦٦ه لقتال جيش الشام ، وأمره أن يهاجمهم متى لقيهم ، وأن يجدّ في السير قبل أن يدخل أرض العراق ، وكان ابن زياد قد استطاع بجيشه الكثيف أن يحتل الموصل ، وصحب المختار جيشه إلى نهر الفرات ووعدهم بالنصر ، ممّا رفع روحهم المعنوية وبثّ الحماس فيهم.

التقى جيش المختار بجيش الشام عند قرية (بارشيا) وهي قرية تقع على ضفاف نهر الخازر (١) قرب مدينة الموصل.

وكان ابن الأشتر حسن الحظ ، فقد تقدم إليه سرا أحد قواد ابن زياد وهو

__________________

(١) رافد للزاب الكبير ، وهو فرع من فروع دجلة.

٦٩

عمير بن الحباب السلمي وعرض عليه الانضمام إليه وترك ابن زياد ، ويرجع ذلك إلى أن عميرا كان قيسيا ، وكان الأمويون في ذلك الحين يقرّبون الكلبيّين اليمنيين ، ويُبعدون القيسيين ، وكانت نار العصبية كثيرا ما تشتعل بينهم ، وقد صوّر ابن الأثير الموقف فقال :

« وأرسل عمير بن الحباب السلمي وهو من أصحاب ابن زياد إلى ابن الأشتر أن ألقني. وكانت قيس كلها مضطغنة على ابن مروان ـ أي عبد الملك ـ من وقع مرج راهط وجنّدَ عبد الملك يومئذ كلبا ، فاجتمع عمير وابن الأشتر فأخبره عمير على مسيرة ابن زياد وواعده أن ينهزم الناس. ونفذ ابن الحباب خطّته وبرّ بوعده » (١).

وقال المسعودي : « .. وكان في نفسه ما فعل بقومه من مضر وغيرهم من نزار يوم مرج راهط ، فصاح يا لثارات قيس ، يا لمضر ، يا لنزار فتزاحمت نزار من مضر وربيعة على من كان معهم في جيشهم من أهل الشام من قحطان » (٢).

وفي يوم الواقعة ، عبّأ إبراهيم جيشه منذ الفجر ، ووضع الأمراء مواضعهم ، ودعا بفرس له فركبه ، ثمّ مرّ على أصحاب الرايات كلها ، فكلّما مرّ على راية وقف عليها ، ثم قال : «يا أنصار الدين ، وشيعة الحق وشرطة اللّه ، هذا عبيد اللّه بن مرجانة ، قاتل الحسين بن علي ، ابن فاطمة بنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي حال بينه وبين بناته ، ونسائه وشيعته ، وبين ماء الفرات أن يشربوا منه ، وهم ينظرون إليه ، ومنعه أن ينصرف إلى رحله وأهله ، ومنعه الذهاب في

__________________

(١) الكامل ٤ : ١١٠.

(٢) مروج الذهب ٣ : ٤٢.

٧٠

الأرض العريضة حتى قتله وقتل أهل بيته ، فواللّه ما عمل فرعون بنجباء بني إسرائيل ما عمل ابن مرجانة بأهل بيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، قد جاءكم اللّه به وجاءه بكم. فواللّه إنّي لأرجو أن لا يكون اللّه جمع بينكم في هذا الموطن وبينه إلاّ ليشفي صدوركم بسفك دمه على أيديكم. فقد علم اللّه أنكم خرجتم غضبا لأهل بيت نبيكم » (١).

وهكذا سار في الناس في الميمنة والميسرة ، فرغّبهم في الجهاد ، وحرّضهم على القتال. ثم رجع حتى نزل تحت رايته. وأمر الناس بالزحف.

وبدأت المعركة بين الجيش الأموي ، وجيش المختار وذلك في مطلع سنة ٦٧ للهجرة في أوائل شهر محرم (آب سنة ٦٨٦م). وحمى وطيس القتال وسقطت كثرة من القتلى من الجانبين ، واستطاع جيش المختار أن يحوز النصر رغم أن عدد جيش الشام كان يبلغ عشرة أضعاف عدد الجيش المختاري ، بفضل مهارة قائدهم ، وبفضل حماسة الجند لا سيّما الشيعة منهم ، وسقط رؤساء جند الشام قتلى ، وقتل الكلب اللعين ابن اللعين عبيد اللّه بن زياد قاتل الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام ، وقتل الحصين بن نمير السكوني الذي حاصر ابن الزبير في الكعبة في أواخر عهد يزيد بن معاوية وكان المختار إلى جانب ابن الزبير أثناء الحصار ، كما قتل أيضا من كبار قواد الشام شرحبيل بن ذي الكلاع ، واحتز ابن الأشتر رأس ابن زياد ثم حرق جثته ، وبعد هزيمة جند الشام تتبعهم جند المختار ، فسقط عدد كبير في نهر خازر غرقى ، واستولى المختاريون على كثير من الغنائم ، وبعث ابن الأشتر إلى المختار يبشره بالنصر

__________________

(١) الكامل ٤ : ١١٠.

٧١

العظيم ، وكان المختار مقيما حينئذ في المدائن ، وأرسل إليه أيضا برؤوس ابن زياد وقوّاده ، ودخل ابن الأشتر الموصل ، وبعث أخاه ـ لأمه ـ عبد الرحمن بن عبد اللّه ليتولّى أمور نصيبين. واستطاع فيها أن يسيطر على سنجار ، كما ولّى زفر بن الحارث ، مدينة قرقيسيا ، وحاتم بن النعمان على حران ، وأقام ابن الأشتر في الموصل يحكمها باسم المختار (١). وقد مدح الشعراء ابن الأشتر بانتصاره ، وأنشده شاعره « عبيد اللّه بن عمرو » قصيدة أشاد فيها بفوزه جاء في أولها :

اللّه أعطاك المهابة والتقى

وأحلّ بيتك في العديد الأكثر

وأقرّ عينك يوم وقعة خازر

والخيل تعثر بالقنا المتكسّر

وهكذا أراد اللّه أن ينتقم من قتلة سيد الشهداء عليه‌السلام ، فَقُتلوا جميعا ـ إلاّ من هرب ـ في مثل اليوم الذي لقى فيه استشهاده قبل ذلك بنحو خمس سنوات ، فسبحان المنتقم الجبار.

ولما وصلت الرؤوس إلى المختار ، وضع رأس ابن زياد في سلة وبعث به إلى محمد بن الحنفية وعلي بن الحسين السجّاد عليه‌السلام ، وسائر بني هاشم في الحجاز فلما رأى علي بن الحسين عليهما‌السلام ، رأس عبيد اللّه بن زياد ، ترحّم على الحسين عليه‌السلام ، وقال : « أتى عبيد اللّه بن زياد برأس الحسين عليه‌السلام ، وهو يتغدّى ، وأتيت برأس عبيد اللّه ونحن نتغدّى ».

ولم يبقَ أحد من بني هاشم إلاّ قام خطيبا ، وأطنب في الثناء على المختار والدعاء له وجميل القول فيه ، وكان ابن عباس يقول : «أصاب بثأرنا

__________________

(١) الكامل / ابن الأثير ٤ : ١١.

٧٢

وأدرك وترنا ، وآثرنا ، ووصلنا» ، فكان يظهر الجميل فيه للعامة.

ويروي اليعقوبي (١) ، أن علي بن الحسين عليهما‌السلام ، لم يُرَ ضاحكا منذ قتل أبوه ، إلاّ في ذلك اليوم.

ثم بعث المختار إلى محمد بن الحنفية برسالة جاء فيها :

« إني بعثت أنصاركم وشيعتكم إلى عدوكم ، فخرجوا محتسبين آسفين فقتلوهم. فالحمد للّه الذي أدرك لكم الثار ، وأهلكهم من كلّ فجٍّ عميق ، وأغرقهم في كل بحر ، وشفى اللّه صدور قوم مؤمنين ».

وأرفق المختار رسالته إلى ابن الحنفية بثلاثين ألف دينار ، فخرّ ابن الحنفية ساجدا للّه ودعا للمختار وقال :

« جزاه اللّه خير الجزاء ، فقد أدرك لنا ثأرنا ، ووجب حقّه على كل من ولد عبد المطلب بن هاشم ، اللهمّ واحفظ إبراهيم بن الأشتر سعيه وانصره على الأعداء ، ووفّقه لما تحبّ وترضى ، واغفر له في الآخرة والأولى ».

ويروي المزرباني بإسناده عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ، أنه قال :

« ما اكتحلت هاشمية ولا اختضبت حتى قُتل عبيد اللّه بن زياد ».

وعن فاطمة بنت علي عليه‌السلام : « ما اكتحلت امرأة منّا ولا أجالت في عينيها مرودا ، ولا امتشطت حتى بعث المختار رأس عبيد اللّه بن زياد ».

سطع نجم المختار بعد معركة الخازر (٢) وقضائه على الجيش الأموي ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٣ : ٦.

(٢) وقد حدثت واقعة (الخازر) في يوم عاشوراء من المحرم سنة ٦٧ هجرية ، في يوم ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام ، فقتل ابن زياد في نفس ذلك اليوم ، فسبحان المنتقم الجبار.

٧٣

وقتل الفاسق الكافر اللعين ابن اللعين عبيد اللّه بن زياد ، واستفاد المختار من هذا النصر العظيم فائدة عظمى ، فعلا صيته في أرجاء العالم الإسلامي ، وتنفّست الشيعة الصعداء ، فقد أخذ بثأرها ، وشفى غليلها ، ونحن نعرف حرص العرب دائما على الأخذ بالثأر ، وقد آلَم مقتل الحسين بن علي عليهما‌السلام ، جميع المسلمين ، إلاّ أنصار الشجرة الملعونة من الأمويين والمروانيين وآل زياد لعنهم اللّه. وبرّ المختار بوعده الذي قطعه للشيعة ، فقد تعهّد بالقضاء على قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام جميعا ، كما نال تأييد محمد بن الحنفية وسائر بني هاشم. وكان العراقيون يكرهون عبيد اللّه بن زياد كراهية شديدة نتيجة سياسة القتل والتعذيب التي اتّبعها خلال حكمه لبلاد العراق ، فشعروا بكثير من الارتياح لمقتله وحمدوا ذلك للمختار ، وإن لم يكونوا من أنصاره.

وكانت موقعة (الخازر) ، خير سلاح للدعاية لثورة المختار ، فقد سلّطت جميع الأضواء على المختار.

ولم يبقَ أمام المختار لتأمين نجاحه واستقلاله إلاّ طرد الزبيريين من البصرة من هنا يجب أن نلتفت إلى أهم العوامل التي ساعدت على انتصار إبراهيم بن الأشتر على الجيش الأموي ، رغم التفاوت الكبير بين الجيشين ، ومن أهم هذه العوامل :

١ ـ شجاعة إبراهيم ، وكفاءته العسكرية.

٢ ـ الحماس الديني الذي كان ينتاب الجمع عند نشوب المعركة بين الطرفين ، حيث التقى جيش إبراهيم ، وجها لوجه مع ابن زياد قاتل الإمام الحسين عليه‌السلام.

٣ ـ انسحاب القيسيين من جيش عبيد اللّه بن زياد ، رغم شكنا في ذلك ،

٧٤

لأنّ البلاذري ، والطبري ، وابن الأثير ، والنويري يذكرون ، أن عميرا ، قائد القيسيين ، هرب عندما رأى جيش أهل الشام على وشك الهزيمة ، بينما حارب بكل قوة في بداية المعركة ، ويضيف الطبري هنا ، أن عميرا ، أرسل إلى إبراهيم بن الأشتر عندما رأى تراجع أهل الشام قائلاً : « أجيئك الآن ». فقال : « حتى تسكن فورة شرطة اللّه فإنّي أخاف عليك عاديتهم » (١). ولو صدر هنا منه قبل التحام الجيشين لرحّب به ولما قال له ذلك ، ولكنّه على كل حال ساعد موقف ابن الأشتر في ذلك الحين.

٤ ـ التثقيف الإسلامي ، والأعلام الهادف الذي كان يحثّ جيش ابن الأشتر على الإطاحة بأنصار الشجرة الملعونة ، قبل نشوب المعركة ، ممّا ساعد هذا على انضمام أعداد كثيرة من غير الشيعة إلى قوات المختار.

٥ ـ الانقسامات ، والخلافات العسكرية في قوات ابن زياد ، والتي ساعدت على إضعاف القاعدة المركزية في قوات الأمويين ، والتي سهّلت لإبراهيم أن يستغلّها بشكل ذكي ، في كسر قوات ابن زياد ، وتحقيق النصر عليها.

أما هزيمة (يوم الخازر) ، من وجهة نظر بني أمية وعبد الملك فقد كانت كارثة ، حيث تبدّد جيش الشام ، ومُزِّق شذر مذر ، وقُتل كثير من كبار قوادهم وذهبوا ، إلى جهنّم وبئس المصير.

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٥٥٥.

٧٥

المختار والموالي

لقد جاء الإسلام للقضاء على عبودية الإنسان لأخيه الإنسان ، فعمد إلى ترسيخ هذا المبدأ الأساس على ما هو حدّي ، ولا تساهل فيه على الإطلاق ، ويتمثّل ذلك في كون العبودية المتناهية هي للّه وحده ، وليس لأي أحد من خلقه أن يمتلك البشر. ولأنّ الرقّ كان أمرا طبيعيا وسائدا في المجتمع الجاهلي ، شأنه شأن الخمرة. فقد اعتمد الإسلام من خلال القرآن الكريم وسنّة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لذلك الأسلوب التدريجي حتى ينتزع من عرب الجاهلية ما كان راسخا في عقولهم من تفشّي الرقّ بينهم.

فجعل على سبيل المثال ، عتق العبيد طريقا إلى الخلاص من عقابه سبحانه وتعالى ، حيث جاء في الذكر الحكيم قوله عزّوجلّ :

« فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ » (١).

كما جعل من العتق كفّارة للذنوب. وفرضها على الذين يخالفون أحكام الدين ، كما فرض الصدقات وإطعام المساكين.

عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام : «أنَّ رجلاً من بني فهد كان يضرب عبدا له ، والعبد يقول : أعوذ باللّه ، فلم يقلع عنه ، فقال : أعوذ بمحمد ، فأقلع الرجل

__________________

(١) سورة البلد : ٩٠ / ١١ ـ ١٣.

٧٦

عنه الضرب ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يتعوَّذ باللّه فلا تعيذه ، ويتعوَّذ بمحمد فتعيذه ، واللّه أحقّ أن يجار عائذه من محمد ، فقال الرجل : هو حرّ لوجه اللّه ، فقال : والذي بعثني بالحق نبيّا ، لو لم تفعل لواقع وجهك حرّ النار » (١).

نعم ، جاء الإسلام ، ليردّ لهؤلاء البشر إنسانيتهم. جاء ليقول للسادة عن الرقيق : (بَعْضُكُم مِن بَعْضٍ) (٢) ، جاء ليقرّر وحدة الأصل والمنشأ والمصير « أنتم بنو آدم وآدم من تراب ».

ويذكر ، أن أول من أعتقهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هم بلال ، وعمار ، وصهيب ، وخباب ، فقد آثر عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنه قال عن بلال الحبشي ، أنه أول ثمار الحبشة ، وعن صهيب إنه أول ثمار الروم ، وكذلك قال عن سلمان الذي كان أول من تحوّل من الفرس والذي كان رقيقا أيضا.

وممّا يدلّ على دعوى هموم هذا الدين لكل العالم هذه الرواية التي نقلناها عن الطبري (٣) ، والتي تنصّ على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد أرسل الدعاة لنشر السلام بين جميع الأمم.

وخصّص لفكّ رقاب المستعبدين وجها أو بابا من أبواب صرف أموال الصدقات. قال تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا. وَفِي الرِّقَابِ.) (٤).

وبهذا حبّب الدين الإسلامي السمح ، الناس في الإسراع في عتق

__________________

(١) الوسائل ٢٢ : ٤٠١ / ٢.

(٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٩٥.

(٣) الطبري ٣ : ٨٥.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ٦٠.

٧٧

أرقّائهم ، وعبيدهم ، وأخلى سبيلهم رغبة وطمعا في المغفرة من الذنوب.

نحن نعلم ، أن للإنسان مكانة رفيعة في تعاليم الإسلام ، أساسها أن اللّه خلقه بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وأسبغ عليه نعمه ، وجعل فجاج الأرض ، وآفاق السماء مسخّرة له ، وفي ذلك يقول جلّ شأنه : (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (١).

ولمّا كان مكانة الإنسان على هذا المستوى الرفيع ، فإنّ الشارع ضمن له حقوقا تصونه ، وتدعمه ، وتمنع عنه أسباب الزلل والهبوط ، لعلّ أولها أن يحيا موفور الكرامة عزيز النفس لا يشكو حيفا ولا هوانا.

لقد كان الرقّ قبل الإسلام منتشرا ، ومتمكّنا ، لكن انتصار الإسلام ، هدّم هذه الظاهرة اللا إنسانية ، فأصبح الناس إخوانا كما قال الرسول العظيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يتقاسمون الحياة مطعما ، وملبسا ، وأعمالاً ، وآدابا ، في محبّة خالصة ومشاركة عادلة.

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يعتق من الإرقاء من يُعلم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة ، أو يؤدّي خدمة مماثلة للمسلمين. ونصّ القرآن الكريم على أن كفّارة بعض الذنوب هي عتق الرقاب. كما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحثّ على العتق تكفيرا عن أي ذنب يأتيه الإنسان ، وذلك للعمل على تحرير أكبر عدد ممكن منهم.

فالموالي ، هم المسلمون من غير العرب ، وكانوا في الأصل أسرى حرب

__________________

(١) سورة الإسراء : ١٧ / ٧٠.

٧٨

في منزلة الرقيق ، ثمّ أسلموا فاعتقوا ، وأصبحوا موالي.

فمنهم من أصبحت له منزلة عظيمة أمثال : زيد بن حارثة ، الذي كانت تمتلكه خديجة ، والذي أعتقه وتبنّاه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ زوّجه زينب بنت جحش ، بنت عمّته أميمة ، وكانت من أجمل وأشرف بنات هاشم ، وهذا أول مظهر من مظاهر المساواة بين الناس.

ومنهم ، عمار بن ياسر مولى بني مخزوم ، وبلال بن رباح مولى بني جمح ، وخباب بن الأرت مولى أم أنمار ، وسلمان الفارسي من موالي يهود بني قريظة ، وصهيب بن سنان الروحي ، مولى عبد اللّه بن جدعان. وسالم مولى امرأة من الأنصار ، وقد تبنّاه أبو حذيفة بن عقبة بن ربيعة وأنكحه ابنة أخيه الوليد بن عقبة ، وأمثالهم كثير.

فهؤلاء ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ كانوا أرقّاء ، ومن أوطان وجنسيات متعدّدة ، وذوي ألوان مختلفة ، فلمّا أظلّهم الإسلام ، تحرّروا من أسر الرقّ وصاروا أحرارا!

والموالي كفئة مسحوقة لم تحقّق الحدّ النسبي من حقوقها الاجتماعية ، خاصة حقّها الكامل في المساواة. ولقد عاشت هذا الاستغلال مزدوجا ، سواء تحت قبضة ، ملاكي الأرض ، أو حين التجأت إلى الإسلام تخلّصا من الضرائب ، فاصطدمت بسلطة قمعية على رأسها الحجّاج بن يوسف الثقفي. وكان الموالي قد تلمّسوا بداية الطريق إلى موقعهم الطبيعي من السلطة الأموية ، وذلك مع ثورة المختار الثقفي.

أجل ، لقد كان عصر سيادة المختار في العراق ، بداية مرحلة جديدة في تاريخ الموالي ، فقد بدأ فترة من التسامح ، والمساواة ، والعدل ، وبهذا أعاد

٧٩

المختار رضي‌الله‌عنه ، سيرة الرسول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وآل بيته في معاملة الموالي ، ونبذ سياسة التفرقة التي اتّبعها الولاة والأمويين.

بينما ترى أميرالمؤمنين وأحسن الإمام علي بن أبيطالب عليه‌السلام قد أحسن معاملة الموالي ، وكان جيشه يضمّ ١٦ ألف من الموالي والعبيد (١).

إنّ انخفاض منزلة الموالي الاجتماعية إبان حكم الأمويين أدّت بكثير منهم أن يكونوا مستعدّين للانضمام إلى أيِّ حركة معارضة ضدّ الوضع القائم ، محاولة منهم للحصول على العدالة والمساواة.

حتى إذا ظهر المختار وجد الموالي فيه الزعيم المنشود ، فأسرعوا إلى نبذ طاعة ابن الزبير. وقد رأوا في دعوة المختار فرصة يحقّقون بها آمالهم في التساوي بالعرب.

فانضمّوا إليه ، فساوى بينهم ، وبين العرب في الحقوق والواجبات. وجعل عطاءهم جميعا واحدا. كما أباح لهم مشاركة العرب بالفيء ، وركوب الخيل (٢).

وكان يلقبهم بـ (شيعة الحقّ) وبـ (شيعة المهدي) (٣).

كما أنّه عيّن كيسان أبو عمرة مولى عرينة على حرسه ، وربما كان هذا التعيّن لأنّه يثقّ به أكثر من غيره أو لأنّه كان أكثر نفوذا بين الموالي من مؤيّديه.

وأعلن المختار أن كلّ عبد ينضمّ إليه يكون حرّا (٤) ، وهذا ساعد على

__________________

(١) الفصول المهمة لابن الصباغ : ٨١.

(٢) الطبري ٢ : ٤٣ ـ ٤٤ ، كتاب الفتوح / ابن أعثم الكوفي ٦ : ٢٦٠.

(٣) الأعلام بالحروب الواقعة في صدر الإسلام / البياسي : ١٢٩.

(٤) أنساب الأشراف / البلاذري ٦ : ٤٤٨.

٨٠