الثائر من أجل الحسين عليه السلام المختار الثقفي

المؤلف:

عباس غيلان الفياض


الموضوع : التراجم
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
ISBN: 978-600-5213-52-2
الصفحات: ١٣٢

قال موسى بن عامر ، فأوّل من بدأ به من الذين وطئوا الحسين بخيلهم ، وأنامهم على ظهورهم ، وضرب سكك الحديد في أيديهم وأرجلهم ، وأجرى عليهم الخيل حتى قطعتهم وحرقهم بالنار ، ثم أخذ رجلين اشتركا في دم عبد الرحمن بن عقيل وفي سلبه ، كانا في الجبانة فضرب أعناقهما ثم أحرقهما بالنار. ثم أحضر مالك بن بشير فقتله في السوق ، وبعث أبا عمرة فأحاط بدار خولي بن يزيد الأصبحي ، وهو حامل رأس الحسين عليه‌السلام ، إلى عبيد اللّه بن زياد ، فخرجت امرأته إليهم وهي النوار ابنة مالك ، كما ذكر الطبري في تاريخه ، وقيل اسمها العيوف ، وكانت محبّة لأهل البيت ، قالت : لا أدري أين هو؟ وأشارت بيدها إلى بيت الخلاء فوجدوه وعلى رأسه قوصره ، فأخذوه ، وقتلوه ثم أمر بحرقه. وكانت امرأته ممن حضر موته ، وكانت تناصبه العداوة حين جاء برأس الحسين عليه‌السلام (١).

كما نجح المختار في قتل اللعين شمر بن ذي الجوشن (٢) ، ورأس الكفر والضلال عمر بن سعد بن أبي وقّاص لعنه اللّه قائد جيش الأمويين في كربلاء ، ولما قتله أحضر المختار ابنه حفص بن عمر ، وأطلعه على رأس أبيه ، سأله

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٥٣٣ ، الإمامة والسياسة ٢ : ١٩ ، تحقيق طه محمد الزيني.

(٢) الشمر لعنه اللّه ، هو أول من حمل على السبط الشهيد الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء. وقد قبض عليه في قرية (سادماه) ، وقيل أنها (المذار) ، قرب البصرة وقتله المختار وبعث برأسه إلى محمد بن الحنفية بالمدينة. ويروي صاحب كتاب (سفينة البحار) ، عن كتاب (المثالب) لهشام بن السائب أن أم (شمر) ، مرت براعي فواقعها ، فحملت بشمر. ثم قال : ولذا قال الإمام الحسين عليه‌السلام يوم كربلاء «يا ابن راعية المعزى أنت أولى بها صليا».

١٠١

عمّا إذا كان يعرف من هو صاحب الرأس ، قال : نعم ولا خير في العيش بعده. فقال له : صدقت ، فإنّك لا تعيش بعده. وأمر المختار بقتل حفص ، ووضع رأسه إلى جانب رأس أبيه عمر بن سعد ، وأشار المختار إلى الرأسين ، وقال : هذا بحسين ، وهذا بعلي بن الحسين ، واللّه لو قتلت به ثلاثة أرباع قريش ما وفوا أنملة من أنامله (١) ثم أن المختار بعث برأس عمر بن سعد ، وابنه حفص إلى علي بن الحسين عليهما‌السلام ، ومحمد بن الحنفية ، وأخبرهما أن اللّه بعثه نقمة على أعدائهم. وأقسم باللّه ، أن لا يبقى من شرك في دم الحسين أحدا (٢).

وبعث عبد اللّه بن كامل إلى حكيم بن الطفيل السنبسي وكان قد أخذ سلب العباس عليه‌السلام ، ورماه بسهم ، فالتجأت نسوته بعدي بن حاتم الطائي ، ليشفع عند المختار ، فأخذوه قبل وصول المختار ، ونصبوه هدفا ، ورموه بالسهام حتى مات ، وبعث إلى قاتل علي الأكبر ، وهو مرّة بن منقذ العبدي لعنه اللّه ، فأحاطوا بداره ، فخرج وبيده الرمح ، وهو على فرس جواد فطعنه عبيد اللّه ابن ناجية الشامي ولم تضرّه الطعنة ، وضربه ابن كامل بالسيف فاتّقاها بيده اليسرى ، فأشرع فيها السيف وتمطرت به الفرس ، فأفلت ولحق بمصعب ، وشلّت يده بعد ذلك ، وأحضر زيد بن رقاد فرماه بالنبل والحجارة وأحرقه ، وهرب سنان بن أنس إلى البصرة فهدم داره ، ثم خرج من البصرة نحو القادسية وكان عليه عيون فأخبروا المختار فأخذه بين العذيب والقادسية ، فقطع أنامله ثم يديه ورجليه ، وجزر حرملة بن كاهل ، ثم قال : النار النار ، فأتى بنار

__________________

(١) تاريخ الطبري ٤ : ٥٣٣ ، الإمامة والسياسة ٢ : ١٩ تحقيق طه محمد الزيني.

(٢) المصدران السابقان.

١٠٢

وقصب فأحرق.

وقطع يدي ورجلي بجدل بن سليم الكلبي ، الذي أخذ خاتم الإمام الحسين عليه‌السلام فلم يزل ينزف حتى مات (١).

وتواصل العدالة الإلهية مؤاخذاتها للظالمين. فقد أرسل المختار رجاله ليأتوا برأس محمد بن الأشعث (٢) ، الذي استعان به زياد بن أبيه ، في تمكينه من أسر حجر بن عدي رضي‌الله‌عنه ـ غدرا ـ فأحاطوا بقصره ، ولكنّه فرّ هاربا ، ولحق بمصعب بن الزبير ، فلما عرف المختار بذلك ، أمر بهدم داره ، وبني بلبنها وطينها دار حجر بن عدي التي كان زياد أمر بهدمها (٣) ، كما وتمكّن إبراهيم بن مالك الأشتر من قتل الحصين بن نمير في وقعة الزاب وهو يقاتل تحت راية ابن زياد فأرسل المختار رأسه إلى الإمام زين العابدين ومحمد بن الحنفية (٤).

وقتل مالك بن النسر ورجلين معه ، وهما : عبد اللّه بن أسد الجهني ، وحمل ابن مالك المجازي.

وحين جيء بهما مخفورين قال المختار لهما : يا أعداء اللّه وأعداء رسوله لماذا قتلتم الحسين بن علي؟

قالا : بعثنا الأمير عبيد اللّه بن زياد ، ونحن كارهون ، فامنن علينا بعفوك.

__________________

(١) البحار ٤٥ : ٣٧٦.

(٢) هو أخو جعدة بنت الأشعث التي سمت الإمام الحسن عليه‌السلام بأمر من معاوية بن أبي سفيان. أنظر : أسد الغابة في معرفة الصحابة ١ : ١١٨.

(٣) الطبري ٥ : ٢٥٤.

(٤) النظرية السياسية للإمام زين العابدين / محمود البغدادي : ٢٨٦.

١٠٣

فقال المختار : فهلاّ مننتم على الحسين ابن بنت نبيكم واستبقيتموه حيّا وسقيتموه ماءا؟!

ثمّ توجّه إلى مالك بن النسر ، وقال له : أنت صاحب برنس الحسين! فسبقه أحد الشيعة وقال : نعم هو هو. فأمر الختار عند ذلك بقطع يديه ورجليه فقطعت والدم ينزف منه حتى هلك وألحق الرجلين به فهلكا لعنهم اللّه.

وبعد ذلك أرسل جنوده إلى شمر بن ذي الجوشن ، وكان أبرصا كريه المنظر يدعي المذهب الخارجي ليحمله حجّة يحارب بها عليا وأبنائه.

وقد اختلف المؤرّخون في قتل هذا الوغد الأثيم ، فبعضهم يرى كما في البحار : إنّه هرب إلى البادية فصادفه (أبو عمرة) أثناء الطريق ودارت بينهما معركة أسفرت عن جرح شمر بجروح بليغة وقيد بعدها إلى الأمير المختار .. ثم قُتل. وقيل : إنّه هرب إلى البصرة ونزل قرية تدعى (الكيسانية) على شاطئ الفرات فقتله (أبو عمر) ، مع طائفة من شيعته وبعث برؤوسهم إلى المختار.

ولم يزل المختار يتبع قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام ، حتى قتل خلقا كثيرا ، وهزّم الباقين ، فهدم دورهم ، وأنزلهم من المعاقل والحصون إلى المفاوز والصحون. وبذلك حقّق المختار هدفه الذي قطعه على نفسه : «الأخذ بثأر الإمام الحسين عليه‌السلام من قتلته».

وأهم أصحاب الدور التي هدمها المختار :

١ ـ دار عبد اللّه بن عروة الخثعمي ؛ وكان هذا قد رمى الحسين عليه‌السلام بإثني عشر سهما.

١٠٤

٢ ـ دار عبد اللّه بن عقبة الغنوي ؛ وكان هذا قاتل أبي بكر بن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

٣ ـ دار أسماء بن خارجة ؛ وقد سعى هذا في قتل مسلم بن عقيل عليه‌السلام.

١٠٥

المختار وولاية علي بن الحسين عليهما السلام

لقد استتب الأمر للمختار في الكوفة ، وامتدتّ سلطته إلى أطراف أخرى من العراق ، ومن ثمّ تجاوزت حتى شملت أجزاء من بلاد فارس (١) ، ويكون بهذا قد أرسى قواعد الدولة التي أراد. وإزاء وضع كهذا يبدو من حق المرء أن يتساءل عن سبب عدم قيامه بتسليم مقاليد السلطة للعلويين ليباشروا الحكم بشكل مباشر ، وهل يعتبر موقفه هذا مُدخلاً للتشكك بصدق نيّته؟ ولماذا لم يبادر الإمام علي السجّاد عليه‌السلام إلى المطالبة بحقّه باعتباره المؤهّل الوحيد لهذه المهمّة بحكم (إمامته) ، كما فهمناها عنهم أهل البيت عليهم‌السلام ، أنّها مجرّد تساؤلات لكن نرى فيها شيئا من الموضوعية.

وللإجابة عليها نقول : أن المرحلة التي سبقت مأساة كربلاء كانت قد أظهرت ملامح الارتداد والنكوص والتردّي في إيمان الأُمّة ، ثم جاءت واقعة الطفّ لتؤكّد ذلك الانحدار ، والهبوط في المستوى الإيماني. الشأن الذي يتطلّب فعلاً روحانيا مزلزلاً للواقع ، لكل ما سيطر عليه من شهوات ومطامع دنيوية على آمال الخلود الأخروي.

فمن يتولّى أداء ذلك الفعل المزلزل وكيف؟

__________________

(١) بحار الأنوار ٤٥ : ٣٤٠.

١٠٦

أننا الآن إزاء حاضر فاسد يتطلّب ولا شك إصلاحا انقلابيا بعمل يناقضه. وما كان لغير الإمام السجّاد عليه‌السلام أن يتولّى هذا ، لذلك نراه عليه‌السلام قد انصرف بكليته في اللجوء إلى اللّه تعالى ليس بدافع الخيبة والحزن الذي ملأ روحه وقلبه ، لأنّ حزن الإمام عليه‌السلام ، لم يكن شخصيا مجرّدا عن الأُمّة ، وإنّما هو حزن إلهي يمتدّ بعنفوانه لينتهي على الأُمّة ذاتها. وعليه فإنّه أراد عليه‌السلام أن يكتب لها سبيل الخلاص من العقد التي التفت حول عنقها حتى ضاقت به الصدور.

فجاءت أدعية الإمام عليه‌السلام في الصحيفة السجادية ، لتمثّل بحقّ مادة الدرس السماوي ، والطريق لإعادة تربية الإنسان ، إذ نراها مشتملة على كل الحالات ذات العلاقة بشؤون الدين والحياة.

والدعاء لون من ألوان العبادة العالية يقرّب الإنسان من اللّه ويرسّخ فيه جذور الإيمان بكونه سبحانه وتعالى ، هو وحده القادر على تغيير الأحوال ، إن شاء لما هو أفضل.

كما أن الدعاء يتضمّن اعتراف المرء بذنوبه ، ومن ثم الاستغفار والتحوّل عما هو حرام وسيء من السلوك إلى ما هو خير.

وهناك معادلة طردية بين الفعل الإلهي التغييري وبين حال الإنسان وسلوكه ، كما هو واضح في قوله تعالى : (إِنَّ اللّه لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (١).

ثمّ نعود إلى القول بأنّه ما دام الإنسان هو الفاعل وإن لم يكن بمعزل عن أمر اللّه بهذا الشكل أو ذاك فينبغي أن يكون بمستوى الطموح الإلهي بغضّ النظر

__________________

(١) سورة الرعد : ١٣ / ١١.

١٠٧

عما يستغرقه ذلك من زمن. لأنّ ردّ الفعل العاطفي الآني قد يأتي بنتائج إيجابية أوّل الأمر ، لكنّه سرعان ما يتبدّد إن لم يكن قويّا وراسخا ، ومتأصّلاً. وهذا ما حصل فعلاً للأُمّة في مجمل الأحداث. فبعد أن انتصر المختار ، وأدّى ما عليه رحمه‌الله ، دفع حياته ثمنا من أجل ما أراد. وببساطة انقلبت موازين القوى من حوله. وتحوّل قسم ممن كانوا معه عليه. لماذا؟ وهل هناك غير الضعف ، والجور الذي أصاب السواد الأعظم من الأُمّة. بكلّ ما تخلّل الظروف من جهل ، واضطهاد ، وتجويع؟

وكان الإمام السجّاد عليه‌السلام ، على بيّنة ممّا ستؤول إليه النتائج والأُمور بالتأكيد ، لأنّه يعرف النتيجة فقد حرص عليه‌السلام على ترسيخ قواعد الإيمان من خلال نشر ما انتهى إليه من علوم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، باعتباره وديعة لديه يتوجّب عليه أداؤها. وأن هذا الوجوب يلجؤهُ إلى المحافظة على حياته أطول مدّة ممكنة بعيدا عمّا يمكن أن يُنهيها ، أو أن يحجبه عن أداء مهمّته العظيمة تلك.

إذن ، ما كان للإمام أن يزجّ نفسه في آتون الحركات الثورية المسلّحة بشكل مباشر حتى لا يكون ضحية وهو إن ذهب مبكرا ستذهب معه ثروة الدين التي ورثها عن بيت النبوة.

فالأمانة ثقيلة جدا ، ولعلّ بقاء الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام بالشكل الذي عرفناه ، ونجاته من مجزرة الجاهلية الأموية يؤكّد لنا صحّة موقفه ، وسلوكه في تلك الفترة.

وهذا ما يفسّر لنا عدم التأييد العلني المباشر لثورة المختار ، ولو فعل لما تيسّر له إنشاء تلك المدرسة العظيمة التي بدأت بالازدهار في عهد ابنه الإمام الباقر عليه‌السلام ، ثمّ لتتوسّع مجالاتها في عهد الإمام الصادق عليه‌السلام ، أن المختار قد

١٠٨

تفهّم ذلك الأمر فهو حتى لم يقم بالدعوة للإمام السجّاد عليه‌السلام ، أو التحدّث باسمه ، أنّما فضّل أن يردّ ذلك إلى عمّه محمد بن الحنفية رضي‌الله‌عنه ، حرصا منه على أبعاد الأنظار عن بقية علم النبوة.

عمل ذلك كلّه رغم ولائه العميق لأهل البيت عليهم‌السلام ذلك الولاء الذي عبّر عنه في كثير من المواقف ذات الدلالات الكبيرة.

وأننا لنجد استشهاده أكبر دليل على ولائه المطلق ، إذ بقي منقادا إلى زعامة الإمام عقائديا من بداية ثورته وانتهاءً برحيله مرورا على جسر انتصاره المؤزر الذي لم يدم طويلاً.

١٠٩

استشهاده

لما علم المختار بخروج مصعب بن الزبير والمهلب ، جمع جنده وأنصاره ، وولي عليهم أحمر بن شميط قائدا عاما للجيش ، وولي أبا عمرة قائدا لفرقة الموالي.

استمرّ مصعب وجيشه في التقدّم نحو الكوفة ، وحتى دخلوها من جهة السبخة (١) وحاصروا المختار. ولأجل منع وصول التجهيزات للأخير وأتباعه أرسل مصعب ، عبيد اللّه بن الجعفي إلى جبانة (٢) الصائديين ، وعباد ابن الحصين الحبطي إلى جبانة كندة ، كما أمر المهلب بحراس الطرق من والي الكوفة (٣) وهجم جيش مصعب على مشاة ابن شميط ، فألحقوا بهم خسارة كبيرة ، وأقبل أشراف الكوفة ، الذي كانوا قد لجأوا إلى البصرة ، بقيادة محمد ابن الأشعث ، يهاجمون جند المختار الموالي ، وابن الأشعث يصيح في فرسانه : دونكم ثأركم.

ودبّت الحماسة في قلوب الموالي ـ جند المختار ـ فأوقعوا الهزيمة بجند

__________________

(١) أي الضيعة ، أو المزرعة المأهولة. انظر خطط الكوفة / ترجمه تقي محمد المصعبي : ١٣٩.

(٢) الجبانة ، أي المقبرة.

(٣) أنساب الأشراف / البلاذري ٦ : ٤٣٩.

١١٠

البصرة فكانوا (لا يدركون منهزما إلاّ قتلوه ، ولا يأخذون أسيرا فيعفون عنه ، فلم ينجُ من ذلك الجيش إلاّ طائفة من أصحاب الخيل ، وأما الرجّالة فأبيدوا إلاّ قليلاً).

ولكن سرعان ما دارت الدائرة على جيش المختار ، ولم يظهر جند مصعب أية رحمة ، وكان أشدّهم قسوة الكوفيين الهاربين إلى البصرة الذين أباد المختار معظمهم ونجا القليل منهم ، وخلال ذلك كتب المختار ، إلى إبراهيم ، يطلب مساعدته ، ولكنّه رفض (١).

كانت هذه النتيجة صدمة عنيفة أصابت المختار ، فرأى أن يقاتل حتى يُقْتَل ، فقال : « ما من الموت بد ، وما من ميتة أحبّ من أن أموت ميتة ابن شميط ».

أي أن يموت في ساحة القتال.

وزحف جيش مصعب إلى الكوفة ، وخرج المختار لقتالهم فنزل (حروراء) بعد أن حصن القصر ومسجد الكوفة.

وكان في القصر مع المختار عدد كبير من الموالي ، وقليل من العرب.

وخلال الحصار الذي استمرّ تبعا لما يذكره الواقدي (٢) أربعة أشهر أو أربعين يوما على ما يذكر الدينوري (٣) ، ترك العرب المخبأ ولجأوا إلى قبائلهم ، بينما بقي الموالي مع المختار حتى استشهاده رحمه‌الله.

وبعد أن أدرك المختار أن هذا الحصار سوف يضعف مقاومتهم حثّ أصحابه على الخروج معه ليقاتلوا حتى يموتوا أو ينتصروا ، إلاّ أنّهم رفضوا ذلك ، وقرّروا الاستسلام والنزول على حكم مصعب بن الزبير دون قيد أو شرط.

__________________

(١) الفتوح / ابن أعثم الكوفي ٦ : ٢٨٧.

(٢) تاريخ الطبري ٢ : ١٢٠.

(٣) الأخبار الطوال / الدينوري : ٤٤٧.

١١١

لذلك خرج المختار وتسعة عشر شخصا من أتباعه فقط للقتال ، وقد قُتل المختار بعد أن أبدى شجاعة نادرة.

وقد ذكر أنّه قال حتى معركته الأخيرة هذه قبل وفاته للسائب بن مالك الأشعري :

« إنّما أنا رجل من العرب ، رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز ، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة ، ومروان على الشام ، فلم أكن دون أحد من رجال العرب فأخذت هذه البلاد فكنت كأحدهم ، إلاّ أني قد طلبت بثأر أهل بيت النبي عليهم الصلاة والسلام ، إذ نامت عنه العرب » (١).

قتله رحمه‌الله أخوان من بني حنيفة قبيلة سجاح التي ادّعت النبوة. وكان استشهاده رضي‌الله‌عنه ، في الرابع عشر من شهر رمضان سنة ٦٧ هـ (الثالث من نيسان سنة ٦٨٧م) ، وكان له من العمر سبع وستون سنة (٢).

وقد وصف المسعودي (٣) ، ساعات المختار الأخيرة ، فقال : « ودخل المختار قصر الإمارة وتحصّن فيه ، وكان يخرج كل يوم لمحاربة مصعب وأصحابه وأهل الكوفة وغيرهم ، فخرج إليهم ذات يوم وهو على بغلة شهباء فحمل عليه رجل من بني حنيفة ، يقال له عبد الرحمن بن أسد ، فقتله واحتزّ

__________________

(١) أنساب الأشراف ٦ : ٤٤٠ ، تاريخ الطبري ٦ : ١٠٧ ، الأخبار الطوال / الدينوري : ٤٤٧.

(٢) تاريخ الطبري ٦ : ١٠٨ و ١١٦ ، وذكر البلاذري ، بأن مقتل المختار كان سنة ٦٩ هـ.

(٣) مروج الذهب ٣ : ٧٢ ويقصد المسعودي بـ (أهل الكوفة) ، الذين هربوا من الكوفة وانضموا إلى قوات مصعب في البصرة ، وأغلبهم ممن اشترك بقتل الإمام الحسين عليه‌السلام.

١١٢

رأسه ، وتنادوا بقتله ، فقطعه أهل الكوفة ، وأصحاب مصعب. وأبى مصعب أن يعطي الأمان لمن بقي في القصر من أصحابه ، فحاربوا إلى أن أضرّ بهم الجهد ، ثم أمّنهم وقتلهم بعد ذلك ». وهكذا خصلة كل مجرم غادر.

وفي اليوم التالي لاستشهاد المختار ، تقدّم جند مصعب إلى القصر ، وحاول أحد أنصار المختار أن يجمع المختارية ليحارب بهم مصعب ، وهو بحير بن عبد اللّه المسكي ، ولكن رجال المختار أبوا إلاّ الاستسلام لمصعب «فأبوا عليه وأمكنوا أصحاب مصعب من أنفسهم ونزلوا على حكمه فأخرجوهم مكتفين ، فأراد إطلاق العرب وقتل الموالي فأبى أصحابه عليه ، فعرضوا عليه فأمر بقتلهم جميعا» (١).

وأمر مصعب بقطع كفّ المختار ، فقُطّعت وسمّرت بمسمار إلى جانب المسجد ، وظلّت هناك حتى قدم الحجّاج بن يوسف الثقفي واليا لعبد الملك بن مروان على الكوفة ، فأمر بنزعها وربّما كان هذا راجعا إلى انتساب كل منهما إلى قبيلة ثقيف (٢).

قتل مصعب بن الزبير جميع من استسلم من رجال المختار ، وكانوا بين ستة وثمانية آلاف ، وأطلق مصعب العنان لانتقام مجرمي الكوفة الذين أرادوا الثأر لدماء آبائهم وأقربائهم من الموالي فاستحقّ من أجل ذلك ، أن يلقّب بلقب (الجزّار) ، وتتبّع شيعة بالقتل كما فعل عبيد اللّه بن زياد من قبل.

وقد وصف اليعقوبي ، المأساة بأنّها :

__________________

(١) ابن الأثير ٤ : ٦٨.

(٢) المختار الثقفي / الخربوطلي : ٣٠٩.

١١٣

« أحد الغدرات المذكورة المشهورة في الإسلام » (١).

وبمصرع المختار رحمه‌الله ، شعر المسلمون وبنوهاشم بشكل خاص بخسارة فادحة. فيذكرابن الأثير ، « أنّه لما قُتل المختار تضعضعت الأُمّة الإسلامية ، واحتاجت إليه » (٢).

رحم اللّه المختار فقد أدّى مهمته. وصدق إذ قال : حين قدم إلى العراق إنّه : « إذا أدرك بثأر النبيّين وشفى صدور المؤمنين لم يحفل بالموت إذا أتى». فمات كريما ، بطلاً ، شجاعا رحمه‌الله (٣).

والآن تبقى بعض الأسئلة المهمّة التي قد تخطر على البال والتي نرى أنّها كانت سببا مساعدا عجّل في سقوط دولة المختار :

أولاً : كان الواجب يقتضي على المختار أن لا يفرّق بين قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام وأعدائه ومناوئيه من أنصار الشجرة الملعونة ، بل يجعل الكلّ في خندق واحد ، ولكنّا نراه قتل قتلة الإمام الحسين عليه‌السلام ، وترك المتحزّبين للدولة الأموية أحرارا في تصرّفهم وغير منصاعين لقوانين دولته ، وهؤلاء شكّلوا قوى وأحزاب معارضة كانت سببا في سقوط دولته.

ثانيا : كان على المختار رحمه‌الله أن يُخرج عن الكوفة وحواضرها أصحاب الضمائر الميتة كالشعبي الخبيث وأمثاله من أنصار الشجرة الملعونة ، وأصحاب القلوب المريضة من الكوفيين وغير الكوفيين الذين انغمسوا في حبّ الدنيا والسلطان والذين شكّلوا طابورا معاديا في إشاعة الفتن وفي تفرّق الناس عن نصرته في أزماته السياسية والحربية ، وكانوا سببا رئيسيا في

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٦٤.

(٢) الكامل ٤ : ١٠٦.

(٣) عبد الملك بن مروان / دكتور ضياء الدين الريس : ١٧٤.

١١٤

دخول قوات مصعب إلى الكوفة دون مقاومة.

ثالثا : إنّه لم يرسل بعيونه إلى الحجاز لتأتيه بكل صغيرة وكبيرة عن آل الزبير ، حيث أن عبد اللّه بن الزبير كان يعتقد أن الكوفة بما فيها هي تبع له ولسلطانه ، وقد روى الطبري (١) أن عبد اللّه بن الزبير أرسل (عمر بن عبد الرحمن بن هشام المخزومي) واليا على الكوفة بدلاً من المختار ، لكن المختار طرده. ومنه يتبيّن أن المجابهة العسكرية حاصلة بين الطرفين شاء المختار أم أبى ، لذلك كان الواجب على المختار أن يبدأ بقتال عبد اللّه بن الزبير قبل أن تدور الدائرة عليه.

رابعا : إنّه رحمه‌الله لم يضع رقابة شديدة من أجل مراقبة الأوضاع داخل وخارج الكوفة بشكل دقيق ، كما وإنّه لم يُعيّن لجان أمنية لملاحقة الغرباء والمشبوهين الوافدين من الأمصار المجاورة لدولته ، فقد ذكر الطبري (٢) أن عبد اللّه بن الزبير وعبد الملك بن مروان وهما من ألدّ أعداء المختار أرسلا مئات الجواسيس للتجسّس ونقل الأخبار عن كل ما يجري في الكوفة.

خامسا : إنّه لم يبثّ خبرا ، مفاده أن إبراهيم بن مالك الأشتر مقبل بقوات لا قبل لقوات مصعب بن الزبير ، ولا لغيرها وذلك ليشدّ من عزم قواته التي راحت تتفرّق عنه سرّا وتسلّم نفسها كأسرى حرب لقوات مصعب.

سادسا : إنّه لم يعطِ إشارة لإبراهيم بن مالك الأشتر قائده العظيم بالعودة إلى الكوفة بعد انتصاره على عبيد اللّه بن زياد في الموصل ليكون له عونا في حال تعرّض عاصمته إلى أيّ خطر خارجي.

__________________

(١) تاريخ الطبري ١ : ١٣٥ غير محقق.

(٢) المصدر نفسه.

١١٥

مسجد الكوفة ، ومرقد المختار

تقع مدينة الكوفة على بعد بضعة أميال (١٠ كم) ، من مدينة النجف الأشرف. وكانت هذه المدينة قد أُسّست من قبل سعد بن أبي وقّاص أحد قادة الفتح الإسلامي في العراق سنة ١٧ هجرية في عهد عمر بن الخطاب ، لتكون مركز الجيش الإسلامي (١). ويقال أنها بُنيت على أثر بناء قديم من عهد نوح عليه‌السلام يسمّى كونان (٢). ويقع المسجد المسمى بإسمها في أبواب المدينة ويحتوي على عدد من المراقد ، والمقامات.

أما المراقد فهي مرقد الشهيد مسلم بن عقيل ، سفير الإمام الحسين بن علي عليهما‌السلام إلى أهل الكوفة ، ويقع بجانبه مرقد المختار الثقفي (٣) ، وعلى مقربة

__________________

(١) ابن خياط : ١٠٩ ، المعارف / ابن قتيبة : ٥٦٥ ، الفتوح / البلاذري : ٢٧٤.

(٢) نخبة الدهر / الدمشقي : ١٨٦.

(٣) أن العلاّمة الشيخ عبد الحسين الطهراني (قدس اللّه سره) لما يمّم الأعتاب المقدسة بالعراق ، ونهض بعمارتها ، فحص عن مرقد المختار في مناحي مسجد الكوفة ليجدد عمارته ، وكانت علامة قبره في صحن مسلم بن عقيل عليه‌السلام ، الملاصق بالجامع ، وفوق الدكة الكبيرة أمام حرم هاني بن عروة رضي‌الله‌عنه.

فحفروها فظهر فيها علامات لحمام وبان أنه ليس بقبره فمحى الأثر ، ثم لم يزل الشيخ يفحص عنه فانهى إليه عن العلاّمة الكبير السيد الرضا بن آية اللّه بحر العلوم الطباطبائي رحمه‌الله ، أن أباه كان إذا اجتاز على الزاوية الشرقية بجني الحائط القبلي من مسجد الكوفة ـ حيث يعرف بقبره الآن ـ يقول لنقرأ سورة الفاتحة للمختار فيقرأها ، فأمر الشيخ بحفر الوضع فظهرت صخرة منقوش عليها : (هذا قبر المختار بن أبي عبيد الثقفي) ، فعلم المكان قبرا له ، وهو خارج عن باحة المسجد ، وإن كان مدخله منه. وكانت سنة عمارته في حدود سنة ١٢٨٥ هجرية ، وقد نقل ذلك عن جماعة من الأعلام منهم العلاّمة الحجة الشيخ ميرزا حسين ابن الميرزا خليل الطهراني النجفي قدس‌سره.

.. انظر كتاب تاريخ الكوفة لمؤلفه السيد حسين البراقي النجفي : ٦٥.

١١٦

منهما يقع ضريح الشهيد ـ هاني بن عروة ـ الذي هو من أبرز أشراف الكوفة وقرائها ، وله منزلة عظيمة في الكوفة ، وكان شيخا لبني مراد ، وهو من المقرّبين للإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قتله عبيد اللّه بن زياد لعنه اللّه ، بسبب مساندته ، وإيوائه للشهيد مسلم بن عقيل عليه‌السلام.

وفي شمال المسجد يقع مقام ضريح خديجة بنت الإمام علي عليه‌السلام ، وهي أُخت العباس عليه‌السلام ، شهيد كربلاء ، توفّيت في سنّ مبكر ، دفنها والدها عليه‌السلام ، في دكان الصحابي الجليل ميثم التمّار (١).

أما المقامات الموجودة في مسجد الكوفة ، فهي :

١ ـ مقام آدم عليه‌السلام (مصلّى التوبة) ، ويقع أمام محراب الإمام علي عليه‌السلام ، على الجهة اليسرى.

٢ ـ مقام جبرئيل عليه‌السلام ، ويقع على يمين مقام آدم عليه‌السلام.

٣ ـ مقام إبراهيم عليه‌السلام ويقع بالقرب من (باب الفيل) (٢) ، على يسار القبلة.

__________________

(١) هذا ما رواه لي خادم ضريح خديجة (رحمها اللّه) ، الحاج عبد الرسول عباس.

(٢) باب الفيل : هذا الباب يدخل منه إلى المسجد اليوم ، وكان يمسى بـ (باب

١١٧

٤ ـ مقام نوح عليه‌السلام ، ويقع في الزاوية الغربية للمسجد ، وهو البيت الذي نجر فيه نوح عليه‌السلام سفينته.

٥ ـ مقام الخضر عليه‌السلام ويقع بجوار مقام إبراهيم الخليل عليه‌السلام على الجهة اليسرى.

٦ ـ مقام الإمام علي عليه‌السلام الذي استُشهد فيه ، ويقع إلى الشمال الشرقي من سور المسجد.

__________________

الثعبان) ، وللتسمية شأن ذكره علماء الحديث مسندا. للحارث الهمداني قال : كان الإمام علي عليه‌السلام ، يخطب في المسجد الأعظم إذ أقبل أفعى من هذ الباب ، واضطرب الناس وماجوا فصعد المنبر وسار مليا صوب الإمام علي عليه‌السلام ثم خرج من هذ الباب ، فسئل علي عليه‌السلام عنه ، قال : «إنّ الجن التبست عليهم مسألة فجاءني هذا يسأل عنها ، واختلف أولياؤه وأعداؤه فمن مؤمن مصدِّق ومن منافق مرتاب». قال المجلسي في مزار البحار ٩٧ : ٤٠٦ ، والسيد هاشم البحراني في مدينة المعاجز ١ : ١٣٩ / ٧٨ ، كان هذا الباب يعرف بباب الثعبان وبعده حدثت التسمية (بباب الفيل) ولزمته.

وحدث البلاذري في فتوح البلدان : ٢٩٦ في سبب ذلك قال : لما فتح المسلمون المدائن أصابوا بها فيلاً اشتراه رجل من أهل الحيرة ، فكان يطوف به القرى ، فرغبت في النظر إليه أم أيوب بنت عمارة بن عقبة بن أبي معيط امرأة المغيرة بن شعبة ، وخلف عليها من بعده زياد بن أبيه وكانت تنزل دار أبيها إلى جنب المسجد الأعظم فأتوا به إليها وربط بباب المسجد ووهبت لصاحبه شيئا وصرفته فلم يخط إلاّ خُطّا يسيرة ومات فاشتهر الباب بـ (باب الفيل).

وفي تاريخ الطبري ٦ : ١٠٣ ، أن زيادا كان يأمر بفيل كان عنده فيوقف فتنظر إليه أم أيوب فسمى بـ (باب الفيل). وللمزيد راجع كتاب زيد الشهيد / المقرم الموسوي : ١٣٦.

١١٨

٧ ـ مقام بيت الطشت ، ويقع على يسار مقام الخضر عليه‌السلام.

٨ ـ مقام دكة القضاء ، ويقع أمام مقام الخضر عليه‌السلام.

٩ ـ مقام السجن.

١٠ ـ مقام درج نوح عليه‌السلام

١١ ـ مقام النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقع في وسط المسجد.

١٢ ـ مقام الإمام الصادق عليه‌السلام.

١٣ ـ مقام زين العابدين علي السجّاد عليه‌السلام ، ويقع أمام مقام نوح عليه‌السلام.

١٤ ـ المزولة (الساعة).

وللمزيد من التوضيح اُنظر المخطط رقم (١) بقلمنا لمسجد الكوفة.

١١٩

١٢٠