منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

التعرض لكل مقدمة والبحث فيها على حدّة. فنقول :

اما المقدمة الأولى ـ وهو حديث تضاد الأحكام : فهو محل الخلاف.

والأقوال فيه متعددة :

أحدها : وهو ظاهر الكفاية هنا ، انها متضادة بنفسها مع غضّ النّظر عن المبدأ والمنتهى.

ثانيها : انه لا تضاد بينها كذلك ، فان الإنشاء خفيف المئونة ولا مانع من إنشاء الحكمين ، وانما التضاد بينها ينشأ من جهة المبدأ والمنتهى. وهو ظاهر ، بل صريح الكفاية في مبحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري (١).

ثالثها : انه لا تضاد بينها أصلا ، وانما التنافي بينها ينشأ من جهة المنتهى ، يعني من جهة مقام الامتثال ، وهو لا يوجب التضاد واستحالة اجتماعها في أنفسها. وهو الّذي التزم به المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (٢).

ولمعرفة ما هو الحق ينبغي ان نستعرض مراحل الحكم ، وهي أربعة :

المرحلة الأولى : مرحلة وجود المصلحة في الفعل أو المفسدة فيه الموجب لحدوث الإرادة أو الكراهة ، وهي المرحلة الثانية.

والمرحلة الثالثة : مرحلة إبراز المولى هذه الإرادة أو الكراهة بمبرز ، ويعبر عنها بمرحلة إنشاء الحكم.

والمرحلة الرابعة : مرحلة فعلية الحكم ووصوله إلى حدّ الداعويّة والتحريك.

اما المرحلة الأولى ـ أعني مرحلة وجود المصلحة أو المفسدة ـ : فقد يدعي تحقق التضاد بدعوى امتناع اجتماع المصلحة والمفسدة في فعل واحد ، لأنها من

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٧٠ ـ الطبعة الأولى.

٨١

قبيل السواد والبياض. ومن الواضح استحالة اجتماعهما في واحد. ولكن هذه الدعوى لا دليل عليها ، إذ لا دليل على كون المصلحة والمفسدة من قبيل المتضادين ، بل يكذبها الوجدان ، إذ نرى ان كثيرا من الأفعال يترتب عليها مصلحة ومفسدة والوقوع دليل الإمكان.

ولكن الحق هو وقوع التضاد في هذه المرحلة ببيان : ان المراد بالمصلحة والمفسدة ليس ذات المصلحة وذات المفسدة بل المراد بهما المصلحة التي تصير منشأ لإرادة الفعل والمفسدة التي تصير منشأ لكراهته ، وهما بهذه الكيفية لا يجتمعان في فعل واحد ، لأن المصلحة التي تصير منشأ للإرادة مع وجود المفسدة هي المصلحة الغالبة على المفسدة بعد ملاحظة حصول الكسر والانكسار فيما بينهما ، والمفسدة التي تصير منشأ للكراهة مع وجود المصلحة هي المفسدة الغالبة على المصلحة بعد ملاحظة حصول الكسر والانكسار فيما بينهما أيضا. ومن الواضح جدّاً امتناع اجتماع المصلحة الغالبة والمفسدة الغالبة في شيء واحد ، فان ذلك يرجع إلى اجتماع الغالبيّة والمغلوبيّة في شيء واحد ، وهو محال ، فإما ان يغلب جانب المصلحة أو يغلب جانب المفسدة وهو ظاهر بمراجعة الوجدان. فالتضاد من حيث المبدأ بمعنى المصلحة والمفسدة ثابت.

واما المرحلة الثانية : ـ وهي مرحلة الإرادة والكراهة ـ : فقد تصدى المحقّق الأصفهاني إلى بيان عدم تحقق التضاد بينهما ، وانهما يمكن ان يتعلقا بأمر واحد ببيان فلسفي دقيق ، محصّله إلى : ان التضاد من صفات الأوصاف الخارجية العارضة للأمور العينية الخارجيّة كالسواد والبياض ، وليست الإرادة والكراهة من الأوصاف الخارجية ، بل من الصفات النفسانيّة العارضة لما هو موجود في النّفس ، فلا تضاد بينهما.

لا من ناحية موضوعهما وهو النّفس ، لأن النّفس من المجردات القابلة لاجتماع الحالات والكيفيات المختلفة في آن واحد ، والشاهد على ذلك إمكان

٨٢

وجود الإرادة والكراهة في النّفس في ان واحد مع اختلاف متعلقيهما.

ولا من ناحية متعلقهما ، لأن متعلقهما ليس هو الفعل الخارجي ، بل هو الوجود الفرضي العنواني ، وذلك لأن ما كان في أفق النّفس يستحيل ان يتقوم بما هو خارج عن أفق النّفس ، وإلاّ لزم انقلاب ما في النّفس إلى الخارج كما انه يحدث الشوق ومتعلقه غير موجود خارجا ، بل لا يمكن حصوله كالشوق إلى المحال ، وحينئذ فلا يتحقق التضاد لأنه في الصفات العارضة على الموجودات الخارجية كما أشرنا إليه (١).

وأنت بعد ان عرفت وقوع التضاد في منشأ الإرادة والكراهة تعرف إننا في غنى عن تحقيق ما أفاده قدس‌سره نفيا أو إثباتا ، إذ لا تصل النوبة أصلا إلى اجتماع الإرادة والكراهة كي يبحث في إمكان اجتماعهما في شيء واحد وعدمه ، لأنه لا يمكن تحقق منشئهما في آن واحد كما عرفت. وعليه فلا يمكن تحقق الإرادة والكراهة لفعل واحد باعتبار استحالة منشأ كل منهما معا ويمتنع تحققهما من دون منشأ فالتضاد في هذه المرحلة بهذا المعنى متحقق أيضا.

واما المرحلة الثالثة ـ وهي مرحلة الإنشاء ـ : فقد يدعي عدم التضاد بين الأحكام فيها ، لأن الإنشاء خفيف المئونة ، فيمكن ان يتحقق إنشاء جميع الأحكام لفعل واحد في آن واحد.

ولكنها دعوى باطلة ، والّذي نراه امتناع إنشاء الحكمين على موضوع واحد بيان ذلك : ان في حقيقة الإنشاء أقوالا أربعة ـ كما تقدم ـ :

الأول : وهو المشهور ، انه إيجاد المعنى باللفظ ، أو استعمال اللفظ في المعنى بقصد التسبيب إلى تحقق الاعتبار العقلائي ، فلا يتحقق بدون القصد ، نظير التعظيم الّذي لا يتحقق من دون قصده ، كما لا يتحقق بما لا يترتب عليه الاعتبار

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٧٠ ـ الطبعة الأولى.

٨٣

كما لا يتحقق التعظيم بالفعل الّذي لا يرى عرفا انه تعظيم وان قصد به التعظيم.

الثاني : وهو رأي صاحب الكفاية : انه إيجاد للمعنى بوجود إنشائي وان لم يترتب عليه الاعتبار العقلائي ولذا يصح الإنشاء من الغاصب مع انه مما لا يترتب عليه الأثر عقلائيا (١).

الثالث : وهو ظاهر المحقق الأصفهاني وان لم يلتزم به عملا ، انه إيجاد المعنى باللفظ لا أكثر ، أو فقل انه استعمال اللفظ في المعنى من دون قصد الحكاية والاخبار (٢).

الرابع : وهو قول السيد الخوئي ، انه إبراز الاعتبار النفسانيّ (٣).

وقد عرفت فيما تقدم ان الصحيح من هذه الأقوال هو القول المشهور. وعليه فلا يمكن إنشاء كلا الحكمين على موضوع واحد ، إذ من المسلم ان اعتبار كلا الحكمين غير ثابت في آن واحد ـ غاية الأمر الاختلاف في منشأ ذلك وانه هو التضاد أو غيره ، وإلا فلم يقل أحد بجواز اجتماع الحكمين فعلا في شيء واحد ـ ، ومعه يمتنع ان يقصد بالاستعمال التسبيب إلى الاعتبار العقلائي ، إذ لا تحقق له بالنسبة إلى كلا الحكمين فكيف يقصد ذلك؟ فإنشاء كلا الحكمين ممتنع لتوقفه على ثبوت اعتبارهما معا وهو غير ثابت ، ومعه يستحيل قصد التسبيب وبدونه لا يتحقق الإنشاء لما عرفت ان قوامه بقصد التسبيب إلى تحقّق الاعتبار العقلائي.

فدعوى ان الإنشاء خفيف المئونة غير وجيهة على الرّأي المشهور والمختار في معنى الإنشاء.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول ـ ٢٨٥ ـ المطبوعة ضمن حاشية فرائد الأصول.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على النهج الحديث ـ ٢٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ١ ـ ٨٨ ـ الطبعة الأولى.

٨٤

واما المرحلة الرابعة ـ أعني مرحلة الفعلية والتأثير ـ : فالحق أيضا استحالة ثبوت الحكمين الفعليين لا لأجل اللغويّة ، بل هو مستحيل في نفسه ولو من غير الحكيم ، وذلك لما تقدم منّا من بيان ان إمكان الداعويّة إما هو مأخوذ في قوام حقيقة التكليف حيث يعرّف بأنه جعل ما يمكن ان يكون داعيا. أو هو الغرض الداعي للتكليف بناء على انه جعل الفعل في عهدة المكلّف ، فيكون التكليف هو الحصّة الملازمة للإمكان المزبور.

لأنه من الواضح اختلاف الحكم التكليفي عن الوضعي ، ولذا لا يقول أحد بجواز تعلقه بالنائم ، فإذا فسر بأنه جعل الفعل في العهدة فلا بد ان يقيد ـ كما التزم به القائل في غير مورد ـ بما يكون الغرض منه إمكان الدعوة والتحريك كي يختلف عن الحكم الوضعي بذلك. وعلى هذا فالحكم التكليفي انما يتحقق في فرض يتصور فيه إمكان الدعوة.

واما في المورد غير القابل للدعوة والتحريك فيمتنع التكليف حقيقة لا انه لغو ، بل لا وجود له لأن تحققه كما عرفت بإمكان الدعوة ، إما لأجل ان ذلك دخيل في حقيقته ، أو انه الغرض منه وان التكليف هو ما يترتب عليه ذلك وغيره ليس بالتكليف وإلاّ لم يكن فرق بين الحكم التكليفي والوضعي.

وبما انه يستحيل الدعوة إلى الفعل والترك في آن واحد كان ثبوت الحكمين في أنفسهما مستحيلا لعدم ترتب الدعوة على كل من الاعتبارين معا ، كما لا يخفى. فظهر من جميع ما تقدم : ان الحكمين متنافيان ولا يمكن اجتماعهما في المراحل الأربعة.

وان ما ذكره المحقق الأصفهاني في بيان إمكان اجتماع الكراهة والإرادة في شيء واحد غير مجد بعد استحالة تحقق علة الوصفين في آن واحد. كما ان ما ذكره من إمكان اجتماع اعتبار الوجوب واعتبار الحرمة ، لأن قوام الاعتبار بالمعتبر لا بالموجود الخارجي. ولا مانع من تعدد الاعتبار في آن واحد غير مجد

٨٥

أيضا بعد ان عرفت ان الحكم ليس مجرد الاعتبار ، بل هو الاعتبار الّذي يترتب عليه إمكان الداعوية ، فمع عدم إمكان الداعويّة يستحيل تحقق الحكم. والمفروض فيما نحن فيه عدم إمكان تحقق الداعوية لكلا الحكمين فيستحيل اجتماعهما معا. هذا تمام الكلام في المقدمة الأولى ، وقد عرفت فيها تضاد الأحكام ، وان شئت فقل تنافي الأحكام واستحالة اجتماعها في أنفسها ، ولو لم يكن ذلك من التضاد الاصطلاحي.

واما المقدمة الثانية : فتقريب ما أفاده صاحب الكفاية : ان العناوين والأسماء لا تكون وافية بالمصلحة والغرض ، فلا وجه لتعلق الحكم بها لأنه لا يتعلق بما لا يكون وافيا بالملاك ، واما نفس ما يصدر من المكلف خارجا فهو واف بالمصلحة فيكون متعلق الحكم.

وهذا الأمر ذكره قدس‌سره في بحث تعلق الأحكام بالطبائع ، وقد عرفت الإشكال فيه وان الحكم سواء قلنا انه الإرادة أو انه الاعتبار لا يتعلق بالموجود الخارجي ، بل هو يتعلق بالموجود التقديري بتعبير والفرضي بتعبير آخر والزعمي بتعبير ثالث وهو الموجود الّذي تخلفه النّفس للشيء. ولأجل ذلك كانت هذه المقدمة محطّ إشكال المحقق الأصفهاني (١).

والّذي يبدو لنا انه لا وقع لهذه المقدمة ، إذ لا أثر لها في المطلوب ، كما انه لا وقع للإشكال عليها لعدم دخالته في نفي الأثر المرغوب.

بيان ذلك : ان صاحب الكفاية بعد ان ذكر في المقدمة الأولى ان الأحكام متضادة فيما بينها صار بصدد ان يثبت وحدة المتعلق ، إذ مع تعدد المتعلق لا ينفع التضاد ، وبذلك صار في مقام أن ينفي تعلق الأحكام بالعناوين الانتزاعية لأنها متعددة مع وحدة الخارج كما هو الفرض ، فلا يلزم اجتماع الضدين في شيء واحد

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٧٣ ـ الطبعة الأولى.

٨٦

لاختلاف متعلق الحكمين.

ولكن بعد ان عرفت بيان تنافي الأحكام وتضادها بما تقدم تعلم انه لا يختلف الحال في امتناع ثبوت الحكمين مع وحدة الوجود خارجا بين كونه هو متعلق الحكم أو كون متعلق الحكم هو العنوان المنطبق عليه ، اما إذا كان هو متعلق الحكم فامتناع تعلق الحكمين به واضح. واما إذا كان متعلق الحكم هو العنوان فمن الواضح ان تعلق الحكم به ليس لأجل ثبوت الغرض ـ الّذي لا بد منه في تعلق الإرادة والكراهة ولو كان غرضا شخصيّا ـ فيه ، بل لأجل وجوده في الوجود الخارجي والالتزام بتعلق الحكم به لأجل امتناع تعلقه بالخارج لبعض المحاذير. وقد عرفت ان الوجود الخارجي لا يمكن ان يشتمل في آن واحد على المصلحة الراجحة والمفسدة الراجحة ، فكيف يتعلق الحكمان بعنوانين ينطبقان عليه لعدم المنشأ لهما؟. فلا يمكن تعلق الإرادة والكراهة بالعنوانين ، كما لا وجه للإنشاء أيضا ، إذ لا يتحقق اعتبار الحكمين مع وحدة الوجود الخارجي لعدم ترتب الأثر عليه وهو إمكان الداعويّة ، لعدم التمكن من الامتثال فيمتنع قصد التسبيب إلى الاعتبار العقلائي مع انه قوام الإنشاء.

ومن هنا تعرف عدم إمكان ثبوت الحكمين الفعليين أيضا فلاحظ.

وبهذا البيان يتضح لديك انه لا أثر لإثبات كون المتعلق للإرادة والكراهة الوجود الفرضي التقديري في نفي التنافي بين الحكمين ، إذ الكلام السابق مع فرض وحدة الخارج يأتي بعينه على هذا التقرير ، فإثبات المقدمة أو نفيها ليس بذي أثر في إثبات أو نفي إمكان اجتماع الحكمين مع وحدة الوجود الخارجي ، بل الحكمان لا يجتمعان مع وحدة الخارج سواء التزم بان المتعلق هو الخارج أو العنوان أو الوجود الفرضي. فتدبر.

واما المقدمة الثالثة : فمحصل ما جاء في الكفاية في تقريبها : ان تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون ولا تنثلم به وحدته ، ويشهد لذلك صدق العناوين

٨٧

المتعددة على ما هو واحد لا تعدد فيه وفارد لا كثرة له كالذات الواجبة التي يصدق عليها عنوان العالم والمريد والمغني والقادر وغيرها من الصفات الكمالية والجلالية ، فعدم تعدد ذات واجب الوجود مع تعدد العناوين المنطبقة عليه شاهد صدق على ان تعدد العنوان لا يستلزم تعدد المعنون.

وقد استشكل المحقق الأصفهاني رحمه‌الله في كلية هذه الدعوى وذهب إلى : ان تعدد العنوان قد لا يستلزم تعدد المطابق خارجا وقد يستلزمه ببيان محصله : ان البرهان قد يقوم على استحالة كون الشيء الواحد مطابقا لمفهومين فيكون المفهومان متقابلين كالعلّية والمعلوليّة ، فان الواحد بما هو يستحيل ان يكون علة ومعلولا. وقد لا يقوم على ذلك فلا يمتنع ان يكون الشيء الواحد مطابقا لمفهومين.

وهذا النحو من المفاهيم.

تارة : يكون مبدؤه في مرتبة ذات الشيء ، فلا يستدعي العنوان ومبدؤه مطابقين ، بل يكون مطابقهما واحدا وهو الذات كالعناوين المنطبقة على ذات البارئ عزّ وجل لأنها تنتزع عن مرتبة ذاته تبارك وتعالى بلا حيثيّة زائدة فذاته تكون مطابقا للعنوان ومبدئه ، ولذلك يقال انه علم كلّه وقدرة كلّه ووجوب كلّه.

وأخرى : يكون مبدؤه في مرتبة متأخرة عن الذات فيكون للمبدإ وجود مغاير للذات قائم بها كالعناوين المنطبقة على الشيء بلحاظ عروض عرض عليه كانطباق الأبيض على الجسم بلحاظ عروض البيان عليه. وانتهى بهذا البيان إلى ان تطابق العناوين المتعددة لا يستدعي وحدة المطابق ولا كثرته ، فلا بد في إيقاع البحث في الصغرى ومعرفة ان الصلاة والغصب ـ مثلا ـ من أي القبيلين (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٧٤ ـ الطبعة الأولى.

٨٨

أقول : لم يتضح لنا المقصود بعبارة الكفاية ، كما لم يتضح لنا مدى ارتباط إشكال المحقق الأصفهانيّ بها.

فان مقصود الكفاية.

ان كان ما هو الظاهر منها من بيان ان الفرد الواحد لا يتعدد بتعدد العناوين المنطبقة عليه ، فذات زيد لا تكون فردين لأجل انطباق عنواني العالم والعادل عليها ، بل تبقى على وحدتها. فهذا أمر واضح لم يتوهم خلافه أحد حتى يصير في صدد دفعه ، إذ لم يتوهم متوهم ان ذات زيد بانطباق العناوين المتعددة تصير متعددة وتصير وجودات متكثرة بكثرة العناوين المنطبقة.

وعلى هذا التقدير لا ارتباط لكلام الأصفهاني به ، إذ ما أفاده قدس‌سره من ان المبدأ إذا كان منتزعا عن مرتبة متأخرة عن الذات كان له وجود آخر غير وجود الذات ، بعيد كل البعد عن محط نظر الكفاية من ان ذات المعنون لا تتعدد بتعدد العنوان. وليس صاحب الكفاية في مقام إنكار الوجود المغاير للمبدإ.

وان كان مقصود الكفاية بيان وحدة مطابق العنوان في قبال من يدعي تعدد الخصوصية المستلزمة للصدق ، وان تعدد العنوان لازمه تعدد الخصوصية في ذات المعنون ، فيروم صاحب الكفاية إنكار هذا المعنى وان مطابق العنوان نفس الذات ، بلا اختلاف في الخصوصية ، فهو متجه ـ بمعنى انه يصلح لأن يكون محل الكلام ـ ، لكن استشهاده بانطباق العناوين المتعددة على ذات الباري جلّ اسمه غير سديد ، إذ بساطة الذات المقدسة وعدم تعدد الخصوصيات فيها امر مفروغ عنه عند الجميع حتى عند من يذهب إلى لزوم التعدد بتعدد العنوان. غاية الأمر انه يوجه ذلك باختلاف نحو الصدق هنا عن سائر المقامات ، أو اختلاف معنى المبدأ هنا عنه في غيره من المقامات فلا وجه لإلزامه به كما لا يخفى.

ومن الواضح بعد ما أفاده المحقق الأصفهاني عن مطلب الكفاية على

٨٩

هذا التقدير ، إذ ليس المنظور في كلامه وحدة المبدأ مع الذات وعدم وحدته.

وان كان المقصود ان انطباق العناوين لا يستلزم تعدد جهات الصدق وجودا ، بل يمكن ان تكون واحدة في الخارج مع تعدد العنوان. فيرجع كلامه إلى وحدة وجود المبادئ خارجا وعدم تعدده وإن تعدد العنوان. فهو محل الكلام ، إلاّ انه خلاف ظاهر عبارته جدا ، وليس الظاهر منها الا الاحتمال الأول ، وظاهر أن كلام الأصفهاني أجنبي عن ذلك لأنه في مقام بيان اختلاف المبدأ مع الذات وصاحب الكفاية في مقام نفي اختلاف المبادئ بعضها مع بعض وجودا.

ومحصل الكلام : إننا نستطيع دعوى عدم ظهور المراد من عبارة الكفاية وعدم ظهور ارتباط كلام المحقق الأصفهاني بمطلبه.

وعلى أي حال فعمدة البحث في محل الاجتماع في جهتين :

الجهة الأولى : وهي التي حرر الكلام فيها المحقق النائيني قدس‌سره تمهيدا للإيراد على صاحب الكفاية وتحقيقا للقول بالجواز ، وهي تحرير البحث في : ان تعدد العنوان هل يقتضي تعدد جهات الصدق ـ وبتعبير آخر : « المبادئ » ـ خارجا أو لا؟. ونحن وان كنا ملتزمين في نهج البحث بطريقة الكفاية ، ومقتضاه تأخير كلام المحقق النائيني وذكره في طي التعرض لأدلة الجواز لكنه بما انه مرتبط بكلام الكفاية ـ على بعض احتمالاته ـ كان المناسب التعرض إليه ، وان كان منافيا بطريقة البحث التي نسلكها.

فنقول ومن الله سبحانه نستمد العصمة : انه قدس‌سره ذكر مقدمات عديدة ، وعمدتها ما تعرض فيها إلى كون التركيب بين المبادئ انضماميا لا اتّحاديا.

وقبل التعرض لذلك أشار قدس‌سره إلى ما هو محل البحث وموضوع الكلام.

فذكر ان موضوع الكلام ما كان مبدأ الاشتقاق فيه من الأفعال الاختيارية لا من الصفات الجسمانية كالبياض والنفسانيّة كالشجاعة ، لأن ما لم

٩٠

يكن من الأفعال الاختيارية لا يكون متعلقا للأمر والنهي ، لأنهما انما يتعلقان بما هو داخل تحت الاختيار لا ما هو خارج عنه. كما انه لا يدخل في محل الكلام ما كان الفعلان اللذان أحدهما يكون متعلقا للأمر والآخر يكون متعلقا للنهي مما لهما وجود وإيجاد متعدد وكان أحدهما مغايرا وجودا للآخر كالصلاة والنّظر إلى الأجنبية ، فانه لا إشكال في جوازه لأنه ليس من اجتماع الأمر والنهي في واحد ، بل متعلق النهي غير متعلق الأمر حتى بالنظر العرفي.

وعليه ، فمحل الكلام ما كان كل من متعلق الأمر والنهي فعلا اختياريا وكانا بحسب الصورة موجودين بوجود واحد سواء كان من المبادئ المتأصلة أو المبادئ الانتزاعية.

فجهة الكلام هو ان التركيب بين المتعلقين انضمامي ، بمعنى ان وجود كل منهما غير وجود الآخر حقيقة ، أو اتحادي ، بمعنى ان وجودهما واحد في الحقيقة وقد ذهب قدس‌سره إلى التفصيل بين مبادئ الاشتقاق والعناوين الاشتقاقية ، فذهب إلى كون التركيب بين المبادئ تركيبا انضماميا والتركيب بين العناوين الاشتقاقية تركيبا اتحاديا.

واستدل على كون التركيب بين المبادئ انضماميا : بان المبدأ هوية واحدة محفوظ بتمام هويته من دون نقصان أين ما سرى ، فالبياض الموجود مع الحلاوة عين البياض الموجود في العاج ، والصلاة مع الغصب عين الصلاة في مكان آخر غير مغصوب ، وهكذا الغصب مع الصلاة لا تختلف هويته عن الغصب مع غير الصلاة. وإذا كانت هوية المبدأ هوية واحدة لا اختلاف فيها أين ما سرت لزم ان يكون التركيب بين المبادئ تركيبا انضماميا.

كما انه استدل على كون التركيب بين العناوين الاشتقاقية تركيبا اتحاديا : بان معروض العنوان وما ينطبق عليه هو الذات ، وهي لا تتعدد بتعدد العنوان وان كان العرض القائم بها متعددا ، فالذات التي ينطبق عليها الأبيض

٩١

والحلو ذات واحدة.

إلاّ ان البيان الّذي ذكره قاصر عن أداء هذا المعنى ، بل هو يتضمن ان وحدة العرض لا توجب وحدة المعروض ، ثم انتهى إلى النتيجة التي ذكرناها.

ثم انه قدس‌سره ذكر بعد ذلك ان جهة صدق العناوين الاشتقاقية على الذات جهة تعليلية ، وهي قيام المبدأ بالذات ، إذ لا تعدد في ذات المعروض ، وانما هو في العرض القائم بها فالمعروض هو نفس الذات. كما ان جهة صدق كل من المبادئ في مورد الاجتماع جهة تقييدية لوجود كل من الهويتين في المورد ، ومن هنا التزم بكون التركيب انضماميا. والمقصود بالجهة التقييدية كون الفرد الواحد مندرجا تحت هويتين حقيقة ، وبذلك تختلف الجهة التقييدية هنا عنها في باب المطلق والمقيد ، فانها هناك توجب تضييق الكلي وهنا توجب التوسعة في الوجود الواحد وتجعله مصداقا لهويتين (١). هذا ملخص ما أفاده.

وهو لا يخلو عن مناقشات نذكرها بالتفصيل :

الأولى : فيما ذكره من الدليل على تعدد المبادئ ، وكون التركيب بينهما انضماميا. فانه غير تام ، لأن مجرد كون المبدأ محفوظا بتمام هويته أين ما سرى لا يوجب عدم اتحاده مع الخصوصية المنضمة إليه ، فان الجنس محفوظ بتمام هويته مع جميع الفصول ، فالحيوانية الموجودة مع النطق عينها موجودة مع غيره من الفصول ، مع انه متحد معها وجودا ، وليس التركيب بين الجنس والفصل تركيبا انضماميا ، بل هو تركيب اتحادي.

فالمتعين في طريقة الاستدلال ان يقال : ان كل مبدأ ماهية مستقلة ومقولة خاصة غير المبدأ الآخر ، والمقولات متباينة يستحيل ان تتحدد فيما بينها ، لأن الوجود الواحد لا يمكن ان يكون له إلا ماهية واحدة ، فتعدد الماهية يستلزم تعدد

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٣٦ ـ ٣٣٨. الطبعة الأولى.

٩٢

الوجود كما أشار إلى ذلك صاحب الكفاية في مقدمته الرابعة (١).

الثانية : فيما ذكره من كون التركيب بين العناوين الاشتقاقية اتحاديا. فانه غير صحيح ، والوجه في ذلك : أنه ..

إما ان يلتزم في باب المشتق بان معنى المشتق بسيط ، بمعنى انه يكون نفس المبدأ ، فالعالم بمعنى العلم وهكذا. غاية الأمر الفرق بينهما ان المعنى المصدري مأخوذ بشرط لا ، فلا يصح حمله على الذات ، والعنوان الاشتقاقي مأخوذ لا بشرط فيصح حمله على الذات وإلاّ فلا فرق بينهما ذاتا.

واما ان يلتزم بكون معناه مركبا من الذات والتقيد بالعرض ، فيكون معنى عالم ذات لها العلم على ان يكون التقيّد داخلا والقيد خارجا.

فعلى الأول : لا فرق بين العناوين الاشتقاقية والمبادئ في كون التركيب بينهما انضماميا ، لأن حقيقة العنوان الاشتقاقي والمبدأ شيء واحد لا اختلاف فيها ، فإذا كان التركيب بين المبادئ انضماميا كان بين العناوين الاشتقاقية كذلك لا محالة ، ويمتنع التفكيك لوحدة معناهما ، فما قيل في وجه الانضمامية في تركيب المبادئ يتأتى بنفسه في تركيب العناوين الاشتقاقية.

ومن الغريب ان المحقق النائيني ممّن يلتزم ببساطة المشتق وكون معناه لا يختلف عن المبدأ ذاتا ، ثم يلتزم هنا بالتفكيك بين المبادئ والعناوين الاشتقاقية في نحو التركيب بينها. فالتفت ولا تغفل (٢).

وعلى الثاني : فالتخصص بالخصوصية وان كان من كيفيات الوجود وليس له وجود منحاز عن وجود الذات ، إلاّ ان كل تخصص واقعا يختلف عن واقع التخصص بالخصوصية الأخرى ، فما ينطبق عليه كل عنوان يختلف عما ينطبق

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٦٥ و ٣٣٧ ـ الطبعة الأولى.

٩٣

عليه العنوان الآخر ، فما ينطبق عليه العالم هو الذات المتخصصة بخصوصية العلم ، وما ينطبق عليه الفاسق هو نفس الذات ، لكن المتخصصة بخصوصية الفسق. ومن الواضح ان المجموع من الذات والتخصص بخصوصية العلم يختلف واقعه عن المجموع من الذات والتخصص بخصوصية الفسق ، وان كان الوجود واحدا.

وهذا الاختلاف قد يصير منشئا لدعوى جواز اجتماع الأمر والنهي مع اختلاف العنوانين ، وهو محل البحث في الجهة الثانية من جهتي الكلام في هذا المبحث. فانتظر.

وجملة القول : ان الالتزام بكون التركيب اتحاديا بين العناوين الاشتقاقية غير سديد.

الثالثة : فيما ذكره أخيرا من كون جهة الصدق في العناوين الاشتقاقية جهة تعليلية وفي المبادئ جهة تقييدية. فانه ـ مع غض النّظر عن إمكان تصور معنى للجهة التقييدية بالنحو الّذي ذكره وعدمه ـ غير دخيل في تحقيق المقام أصلا بعد ان ذكر ان التركيب بين المبادئ انضمامي ، فانه لا يختلف الحال فيه حينئذ بين معرفة كون جهة الصدق فيها جهة تقييدية وعدم معرفته ، فالتعرض إليه كمقدمة من مقدمات المطلب غير متجه ، كما انه تطويل بلا طائل ، ولعله مما يوجب غموض المطلب على الباحث لا إيضاحه.

واما الوجه الّذي بنى عليه القول بالجواز ، وهو كون التركيب بين المبادئ انضماميا ، ومعناه تعدد الوجود في الخارج حقيقة فيختلف متعلق الأمر عن متعلق النهي ولا يكونان شيئا واحدا كي يلزم اجتماع الضدين.

فقد ناقشه السيد الخوئي « مدّ ظلّه » بأنه ممنوع على إطلاقه ، لأنه انما يتم فيما إذا كان المبدءان من المبادئ المتأصّلة ، فان لازم تعدد المبدأ تعدّد الوجود لاستحالة انطباق مقولتين وماهيتين حقيقيتين على وجود واحد ، كالبياض والحلاوة

٩٤

والعلم والعدالة وهكذا. واما إذا كان أحد المبدأين أو كلاهما من المبادئ الانتزاعية فلا يتم ما ذكره ، لأن المبدأ الانتزاعي لا وجود له خارج إلا بوجود منشأ انتزاعه ، فلا بد من ملاحظة منشإ انتزاعه ، فان كان مغايرا في الوجود مع المبدأ الآخر أو منشأ انتزاع الآخر جاز اجتماع الأمر والنهي فيتعلق الأمر بأحدهما والنهي بالآخر ، وان اتحد منشأ الانتزاع مع المبدأ الآخر وجودا بان كان المبدأ الانتزاعي منتزعا عن الفعل المنطبق عليه المبدأ الآخر أو اتحد منشأ انتزاع كلا المبدأين امتنع اجتماع الأمر والنهي ، إذ الوجود الخارجي واحد لا غير.

فمجرد تعدد المبادئ لا يستلزم تعدد كما ذكره قدس‌سره ، بل انما يستلزمه في صورة تعدّد المبادئ المتأصلة.

هذا ملخص مناقشة السيد الخوئي في أصل الكبرى.

ثم انه ( حفظه الله تعالى ) ذكر : ان الغصب من المبادئ الانتزاعية لا المتأصلة ، فهي تنتزع من الفعل بلحاظ كونه تصرفا في مال الغير بدون إذنه ، فهو متحد مع ما ينتزع منه فلا يمكن تعلق الأمر بما ينتزع منه الغصب وتعلق النهي بالغصب ، نظير شرب الماء إذا كان الماء مغصوبا ، فان الغصب ينطبق على نفس الشرب فيمتنع ان يكون الشرب مأمورا به في الوقت الّذي يتعلق النهي بالغصب فانه من باب اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد حقيقة.

وبما ان المحقق النائيني رحمه‌الله اعترف بعدم صحة تعلق الحكمين في مثل المثال المزبور.

لذا أورد عليه السيد الخوئي أيضا : ان هذا مناقض لما تقدم منه من ان تعدد المبادئ يوجب تعدد الوجود ، وانه لا فرق بين الصلاة في الدار المغصوبة وشرب الماء المغصوب في كون كل منهما من باب تعدد المبدأ المستلزم لتعدد الوجود ، فإذا كان التركيب الانضمامي بين المبادئ نافعا في مثل الصلاة في الدار

٩٥

المغصوبة فلما ذا لا ينفع في مثل مثال شرب الماء المغصوب (١).

أقول الحق ان مناقشته الصغروية غير تامة.

ووضوح ذلك يتوقف على ذكر أمرين :

الأمر الأول : ان الانتزاعيات على قسمين :

أحدهما : ما يمكن ان يكون واقعه ومنطبقه من الأمور الحقيقية ذات الوجود المتأصل الحقيقي ، وذلك كالمفاهيم والعناوين الاشتقاقية ، كعنوان إنسان وعنوان ضارب ، وهكذا فانها عناوين انتزاعية لكنها تنطبق على ما له واقع ووجود متأصل.

ثانيهما : ما يقال عنه انه انتزاعي بلحاظ انه بواقعه أمر انتزاعي لا حقيقي فليس له واقع وراء الانتزاع ، وذلك كالقبلية والفوقية ونحوها. وقد اختلف في كون هذا النحو من الأمور من المقولات أو لا ، وقد حقق كونها من المقولات لكن قيل عنها بأنها أضعف المقولات لأنها ذات واقع خاص فلا يمكن ان لا تكون مقولة وان تنفي عنها الواقعية بالمرة ، كما انها ليست بذات واقع ووجود مستقل عن غيره كي تكون في عداد سائر المقولات ، فالانتزاعي يطلق ويراد به تارة ما كان بواقعه كذلك وأخرى يراد به المفهوم الانتزاعي وان كان واقعه من الحقائق المتأصلة. وقد عرفت ان العناوين الاشتقاقية من هذا القبيل ، فهي عناوين انتزاعية قد تنطبق على ما له واقع حقيقي متأصل كالضارب والقائم وقد تنطبق على غيره كالفوق والقبل وغيرهما.

الأمر الثاني : ان المبادئ على أنحاء ثلاثة :

الأول : ما يكون من المسببات التوليدية كالإحراق والقتل.

الثاني : ما لا يكون كذلك وكانت نسبته إلى الخارج نسبة الطبيعي إلى

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٤ ـ ٢٦١ ـ الطبعة الأولى.

٩٦

فرده بان يكون له حقيقة وماهية تنطبق على الخارج باعتبار انه فردها كالضرب والقيام والأكل.

الثالث : ما تكون نسبته إلى الخارج نسبة العنوان إلى المعنون بان لا يكون له حقيقة وواقع يكون الخارج فردا لها ، بل يكون عنوانا لحقائق مختلفة وليس له وراءها واقع مقولي. كالغصب إذا كان بمعنى التصرف ، فان التصرف ليس له واقع غير واقع الأفعال التي ينطبق عليها من قيام وقعود ونحوهما. ونظيره في الجوامد مفهوم : « شيء » فانه لا واقع له أصلا وانما هو مجرد عنوان يعنون به الحقائق المختلفة من متأصلة وغيرها ، فالغصب بمعنى التصرف ليس له واقع وراء ما ينطبق عليه ، كيف؟ وهو ينطبق على الحقائق المقولية المتأصلة كالقيام والقعود ، وعلى الحقائق الاعتبارية كالاستيلاء الاعتباري على مال الغير من دون تصرف خارجي كاستيلاء السلطان على أراضي الغير الشاسعة فانه لا ينضم إلى مجرد الاعتبار شيء من الأفعال الخارجية التي ينطبق عليها التصرف. كما لا يخفى. ومن الواضح انه لا جامع مقولي بين الأمور الواقعية والأمور الاعتبارية كي يدعي انه واقع الغصب وحقيقته كما انه ليس اسما لكل امر ينطبق عليه بحيث يكون كل امر مما ينطبق عليه الغصب له اسمان أحدهما اسمه المختص به والآخر اسم الغصب ويكون الوضع بنحو الوضع العام والموضوع له خاص ، فان هذا مما يكذبه الوجدان. إذن فهو موضوع لعنوان لا واقع له وهو التصرف في ملك الغير لكن لا مطلقا ، بل بلحاظ تخصصه بخصوصية ، وهي عدم كونه برضا المالك أو كونه مع كراهة المالك.

وعلى هذا فالغصب وان كان من المبادئ التي يتفرع عنها العناوين الاشتقاقية كغاصب ومغصوب ونحوهما ، إلاّ انه نظير (١) العناوين الاشتقاقية في

__________________

(١) بل ذهب سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) أولا إلى إمكان دعوى انه ليس من المبادئ ، بل من العناوين نظير

٩٧

سائر الموارد في كونه ليس بذي واقع غير ما ينطبق عليه. وانما ينطبق على مورده بلحاظ تخصصه بخصوصية خاصة. وعليه ، فان كان معنونه وما ينطبق عليه غير المأمور به كان المورد من موارد جواز الاجتماع ومن موارد التركيب الانضمامي ـ بحسب تعبير المحقق النائيني ـ ، كالصلاة في الدار المغصوبة في نظره قدس‌سره ، لأن منطبق الغصب غير الصلاة فانه من مقولة الأين والصلاة من مقولة الفعل أو الوضع. وان كان معنونه نفس المأمور به امتنع اجتماع الحكمين لوحدة متعلقهما كشرب الماء المغصوب إذا كان الشرب مأمورا به.

فالفرق بين الصورتين موجود ونظر المحقق النائيني إلى ما ذكرناه في التفريق ، إذ ليس من المحتمل في حقه أنه يرى ان نفس الغصب من مقولة الأين في مثال الصلاة في الدار المغصوبة.

ويشهد لذلك : انه قدس‌سره جعل خروج مثال الشرب عن محل النزاع من فروع كون التركيب اتحاديا ، نظير : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق » ، من جهة تعنون الشرب نفسه بعنوان الغصب لأنه تصرف في مال الغير. فلا يمكن ان يكون بنفسه واجبا. مما يكشف عن ان الملحوظ في كلامه هو معنون الغصب وانه متحد مع الواجب أو مغاير.

فإشكال السيد الخوئي ناشئ من الخلط في الانتزاعيات بين ما كان من المفاهيم وبين ما كان واقعه انتزاعيا ، فجعل الغصب من الثاني مع انه من قبيل الأول وهو منظور في كلام المحقق النائيني ، فانه لا يرى كون التركيب بين المبادئ مطلقا انضماميا ، كما لا يخفى على من لاحظ كلامه ، بل نتيجة كلامه قدس‌سره هو التفصيل الّذي عرفته بين المبادئ ، فانه يذكر ان الأمر إذا تعلق بالمسبب التوليدي ، فبما ان الحكم حقيقة يتعلق بالسبب فلا بد من ملاحظة ان

__________________

ـ الصفة المشبهة ، وانما المبدأ هو الغصبية كالقبل والقبلية. ( منه عفي عنه ).

٩٨

السبب هو متعلق الأمر أو غيره ، فان كان هو لزم اتحاد متعلق الأمر والنهي ، وان كان غيره تعدد متعلق الأمر والنهي وكان أحدهما غير الآخر.

فلا إشكال على المحقق النائيني قدس‌سره سوى انه أجمل الكلام في ذلك ولم يوضحه من أول الأمر ولم يستثن بدوا ما كان من المبادئ كالغصب. وهو إشكال لفظي.

واما مناقشته الكبروية ، فهي وان كانت تامة في نفسها حيث ان الأمور الانتزاعية لا وجود لها غير وجود منشأ انتزاعها ، فليس التركيب بينها وبين منشأ انتزاعها انضماميا ، بل هو اتحادي ، إلاّ انها لا تنتهي بمجرد ذلك إلى النتيجة المطلوبة في محل البحث وهي امتناع الاجتماع.

بل لا بد من وقوع البحث في ..

الجهة الثانية : وهي ان الوجود الواحد إذا كان له جهتان ، فهل يمكن ان تكون إحداهما متعلقا للأمر والأخرى متعلقا للنهي ، بحيث يكون تعدد الجهة نظير تعدد الوجود أو لا؟. وهذه هي الجهة المهمة في البحث فانها بحث كبروي له أثر في اجتماع الأمر والنهي وعدمه. اما البحث في الجهة الأولى فهو بحث في الحقيقة صغروي ، إذ قد فرض فيه جواز الاجتماع مع تعدد الوجود وامتناعه مع وحدته ، وأوقع البحث في تحديد ضابط للصغرى ، أعني مورد تعدد الوجود ووحدته. وأنه في أيّ مورد يكون الوجود متحدا وأيّ مورد يكون الوجود فيه متعددا؟.

وهذا غير مهمّ في المقام وان كان له أثره ، وانما المهم هو البحث عن ان تعدد الخصوصية مع وحدة الوجود الواقعي هل يجدي في رفع غائلة اجتماع الضدين أو لا؟. وهذا المعنى مغفول عنه في كلامي النائيني والخوئي ، بل كلامهما مركّز على بيان موارد تعدد الوجود ووحدته بنحو الضابطة الكلية.

ومورد البحث في الجهة الثانية هو العناوين الاشتقاقية المنطبقة على ذات

٩٩

واحدة بناء على التركيب ، فان الذات تكون مشتملة على خصوصيتين ـ مثلا ـ والأفعال المتخصصة بخصوصيتين والمشتملة على جهتين وهكذا المبادئ الانتزاعية ، فان البحث فيها من هذه الجهة.

وبما ان العناوين الاشتقاقية كالعالم والفاسق مما تؤخذ في موضوعات الأحكام لا في متعلقاتها ، كانت خارجة عن دائرة البحث فيما نحن فيه ، نعم الفعل الواحد المضاف إلى شخص ذي عنوانين يكون داخلا في محلّ البحث ، لاشتماله على خصوصيتين ، وذلك كإكرام زيد العالم الفاسق ، فهو ذو جهتين.

وعليه ، فنقول : الخصوصية المفروضة ، تارة تكون دخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة. وأخرى تكون دخيلة في وجود مصلحة الفعل وترتبها عليه.

اما النحو الأول : فهو خارج عن محل الكلام لوجهين :

أحدهما (١) : ان الخصوصية إذا كانت دخيلة في اتصاف الفعل بكونه ذا مصلحة ، فمعناه ان الأثر في نفسه يترتب على الفعل ولو لم تكن الخصوصية ، وانما الخصوصية دخيلة في كون الأثر من المصالح التي تتعلق بها الأغراض العقلائية ، وذلك نظير دخالة المرض في كون الدواء ذا مصلحة ، فان أثر الدواء يترتب عليه مطلقا في حال المرض وغيره ، إلاّ انه انما يكون من المصالح في حال المرض فقط اما في غيره فلا يكون أثره متعلقا للغرض العقلائي. وإذا كان الحال كذلك فمعناه : ان المصلحة والمفسدة مما يترتب على نفس الفعل وليست الخصوصية إلاّ مؤثرة في صيرورة الأثر مصلحة أو مفسدة.

__________________

(١) قد يستشكل : بان هذا الوجه لا يختص به النحو الأول ، لأنه مرجعه إلى إحراز كون المصلحة والمفسدة مما يترتبان على العمل بنفسه ، والحال عند ذلك لا يختلف بين القيد الدخيل في الاتصاف بالمصلحة والقيد الدخيل في وجودها. وقد أفاد السيد الأستاذ دام ظله : ان هذا الوجه يذكر في قبال الصورة الثالثة من صور النحو الثاني ، فان القيد في نفسه ذو مصلحة وهو دخيل في ترتب المصلحة على نفس العمل لكنها المصلحة الضمنية. فهو متمم بوجوده للمصلحة ومحصل لمصلحة الفعل الضمنية فلا يجري فيه هذا الوجه من الإشكال. فالتفت. ( منه عفي عنه ).

١٠٠