منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

المحقق النائيني (١).

الثالث : تقديم وجوب الحج لأنه غير مقيد بالقدرة شرعا فيتقدم على وجوب الوفاء بالنذر لأنه مقيد بما يرفعه وجوب الحجّ.

الرابع : تقديم وجوب الحج على وجوب الوفاء ، مع عدم رافعيّة أحدهما لموضوع الآخر أو رافعيته لوجه فقهي غير صناعي.

وهذان القولان وردا في كلام السيد الخوئي ( حفظه الله ) (٢).

اما الوجه الأول : فقد عرفت تقريبه فلا نعيد.

واما الوجه الثاني : وهو ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره ، فتقريبه : ان وجوب الوفاء بالنذر كوجوب الحج مقيد بالقدرة شرعا المرتفعة بالمانع الشرعي ، ومقتضاه وقوع التمانع بين الحكمين ، إلا أن وجوب الوفاء مقيد أيضا بأن لا يكون متعلّقه في نفسه محللا للحرام ، بمعنى ان لا يكون متعلقه الراجح في نفسه ملازما للوقوع في الحرام وتحقق الحرام منه ، كما لو كانت صلاته على سطح الدار ملازمة للنظر المحرم إلى الأجنبية ، فنذر الصلاة على سطح الدار لا يجب الوفاء به لأن متعلقه محلل للحرام بالمعنى الّذي عرفته وان كان راجحا في نفسه. وعليه فبما ان الزيارة يوم عرفة وان كانت راجحة في نفسها لكنها مستلزمة لتحليل الحرام فهو ترك الحج ، فانه حرام وهو ملازم للزيادة ، فوجوب الحج يكون رافعا لموضوع وجوب الوفاء ، لأنه يستلزم ان يكون متعلقه محللا للحرام ووجوب الوفاء لا يصلح لذلك ، لأنه يتوقف على عدم فعلية التكليف بالحج حتى لا يستلزم منه تحليل الحرام ، فلو كان عدم التكليف بالحج مستندا إلى فعلية وجوب الوفاء بالنذر لزم الدور.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٧٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٢٤٩ و ٢٥١ ـ الطبعة الأولى.

٦١

أقول : بعد الفراغ عن تقييد وجوب الوفاء بالقدرة شرعا ، وتقييده بان لا يكون متعلقه محللا للحرام ، يقع البحث مع المحقق النائيني قدس‌سره في ما أفاده من تقديم الحج على النذر بالبيان الّذي عرفته ، فانه بحسب نظرنا غير مستقيم ، لأن اشتراط عدم تحليل الحرام في وجوب الوفاء يستلزم ان يكون فيما نحن فيه جهتان تقتضيان رافعية وجوب الحج لموضوع وجوب الوفاء. إحداهما اشتراط وجوب الوفاء بالقدرة شرعا. والأخرى اشتراطه بعدم كونه محللا للحرام وعدم انحصار جهة الرّافعيّة باشتراط القدرة. وهذا المعنى لا يلازم تقديم وجوب الحج ، فان الشرط لم يجعل خصوصية أخرى في حكم النذر تجعل وجوب الحج مانعا منه دون العكس ، بل غاية ما يقتضي كون وجوب الحج رافعا لموضوع وجوب الوفاء بالنذر ، وهذا ثابت ولو لم يكن وجوب الوفاء مشروطا بعدم تحليل الحرام فلم لم يقدم وجوب الحج؟.

وبالجملة : لا فرق في حصول التمانع بين ان يكون أحد الحكمين رافعا لموضوع الآخر من جهتين والآخر من جهة واحدة ، بين ان يكون كل منهما رافعا لموضوع الآخر من جهة واحدة ، فانه يقال فيما نحن فيه ان وجوب الحج مشروط بالاستطاعة ، بمعنى تحققها في نفسها ومع قطع النّظر عن وجوب الحج ، ووجوب الوفاء بالنذر رافع لها فلا يكون واجبا ولا يكون متعلق النذر محللا للحرام. وبعبارة أخرى : متعلق النذر انما يكون محللا للحرام لو كان موضوع الحج ثابتا وهو الاستطاعة ، وقد عرفت انه يرتفع بوجوب الوفاء ، فكل من الحكمين يرفع موضوع الآخر ، فانه كما ان وجوب الوفاء مقيد بما يرتفع بوجوب الوفاء وهو الاستطاعة ، وهذا واضح لا غبار عليه.

والحاصل : انه لا نعرف لتقريب المحقق النائيني رحمه‌الله وجه وجيه.

اما اشتراط وجوب الوفاء بالنذر بعدم تحليل الحرام فلا دليل عليه بالمعنى الّذي ذكرناه ، وتحقيقه في الفقه.

٦٢

واما اشتراطه بالقدرة شرعا فقد قرّبه قدس‌سره بان وجوب الوفاء تابع لما نذره الناذر ، وبما ان النذر تعلق بالفعل المنذور لاقتضاء نفس النذر ذلك ، لأن الناذر ينذر الإتيان بما يقدر عليه من الأعمال ، نظير اقتضاء نفس الطلب لاعتبار القدرة في متعلقه ، فتكون القدرة مأخوذة في موضوع وجوب الوفاء قبل تعلّقه به وهذا نفس اعتبار القدرة في متعلق الحكم شرعا اللازم لكون الملاك ثابتا في خصوص المقدور.

وهذا البيان لا يخلو عن مناقشة فان غاية ما يقتضيه اعتبار القدرة عقلا لا شرعا ، إذ قد عرفت ان القدرة الشرعية هي القدرة بالمعنى العرفي واعتبارها يرجع إلى أخذ القدرة في لسان الدليل ، فيفهم العرف من اللفظ ما هو المفهوم العرفي للقدرة. وهذا البيان لا يقتضي أخذ القدرة لفظا بمفهومها العرفي ، بل يقتضي أخذ واقع القدرة ، فليس في المقام فهم وظهور عرفي ، بل يرجع إلى ما يلزم به العقل وهو ليس إلاّ القدرة العقلية في قبال العجز العقلي ، فانه هو الّذي يرى ضرورة تقييد المتعلق به لا أزيد ، فيحتاج اعتبار غيره إلى دليل خاص.

واما الوجه الثالث ـ فتقريبه ـ : ان وجوب الحج ليس مقيدا بالقدرة الشرعية فانه وان أخذت الاستطاعة في موضوعه في لسان دليله ، إلا أنها فسرت في الروايات بالزاد والراحلة وأمن الطريق ، وان المراد منها هو ذلك ليس إلاّ ، وهذا مما لا يرفعه وجوب الوفاء كما لا يخفى ، فموضوع الحج ثابت لا خلل فيه.

واما وجوب الوفاء فهو مقيد بعدم كون متعلقه محللا للحرام ، فيكون وجوب الحج رافعا لموضوعه ، لأنه يستلزم كون متعلق النذر محللا للحرام. فيتقدم الحج لأن المورد يكون نظير تزاحم ما ليس بمقيد بالقدرة شرعا وما هو مقيد بها لأن وجوب الحج رافع لموضوع وجوب الوفاء ولا عكس.

وهذا الوجه غير تام لما عرفت.

أولا : من ان وجوب الوفاء بالنذر غير مقيد بعدم كونه محللا للحرام ، لعدم

٦٣

الدليل عليه.

وثانيا : انه قد حققنا في الفقه ان وجوب الحج مقيد بالقدرة شرعا ، وان المراد بالاستطاعة في الآية الكريمة هو المفهوم العرفي لها ، وانه لا خصوصية للزاد والراحلة.

وثالثا : انه لو ثبت بمقتضى النصوص وجود خصوصية للزاد والراحلة وأمن الطريق وانها دخيلة في موضوع الحكم ، فهذا لا يعني إلغاء موضوعية الاستطاعة وان تمام الموضوع هو ذلك ، بل مرجعه إلى أخذ خصوصية زائدة على الاستطاعة العرفية في موضوع الحج ، فالاستطاعة العرفية مأخوذة في موضوع الحج بزيادة توفر الزاد والراحلة ، بمعنى انه لو كان شخص يتمكن من السفر ماشيا إلى الحج من دون أي مشقة وحرج ولم يكن لديه زاد وراحلة لم يجب عليه الحج وان كان مستطيعا عرفا. فالوجوب المتعلق بالحج مقيد بالاستطاعة عرفا لا ان المقصود بالاستطاعة هو الزاد والراحلة وأمن الطريق ليس إلاّ. وهذا الأمر حققناه في الفقه.

واما الوجه الرابع : فمحصله : انه لو فرض ان وجوب الوفاء رافع لموضوع وجوب الحج ومقدم عليه ، للزم لغوية وجوب الحج ، إذ يتمكن كل مكلف ان يمنع من تحقق موضوع الحج وهو الاستطاعة إلى آخر عمره بواسطة النذر ، فينذر ان يصلي ركعتين في مسجد بلده أو قريته في يوم عرفة من كل سنة. وهذا يتنافى مع جعل الحج بنحو عام وشدة الاهتمام به ، فيعلم جزما بأنه لا يرتفع بمثل وجوب الوفاء بالنذر ، ولا يختلف الحال في ذلك بين ان يكون وجوب الوفاء بحسب الصناعة مقدما على وجوب الحج لرافعيته لموضوعه أو ليس بمقدم.

وقد ذكرنا في الفقه : ان هذا البيان يتأتى في تصحيح المعاملات الربويّة بمصحح ، كالضميمة ونحوها مما يخرجها عن الرّبا المنصوص على حرمته ، فان

٦٤

ذلك يستلزم لغوية التأكيد على حرمة الرّبا وشدة الاهتمام بنفيه ، فان نفس حرمته تكفي في الردع عنه مع إمكان التخلص عنه بمثل هذه السهولة بلا احتياج لشدة التأكيد على حرمته. فالتفت.

هذا تمام الكلام في هذه المسألة.

ويقع الكلام بعد ذلك في الحكمين المتزاحمين المشروطين بالقدرة عقلا ، وما هو المرجح لأحدهما على الآخر؟.

وتحقيق الحال : ان المرجحات التي مرّ ذكرها ثلاثة : وجود البدل وعدمه ، والتقييد بالقدرة شرعا وعدمه ، والأسبقيّة الزمانية.

اما وجود البدل : فقد عرفت ان وجود البدل العرضي لأحدهما دون الآخر يخرج المقام عن مورد المزاحمة. وان وجود البدل الطولي لا يستلزم ترجيح ما ليس له بدل إلاّ بإرجاع جعل البدل الطولي إلى أخذ القدرة الشرعية في موضوع ما له البدل ، فيخرج عما نحن فيه ، إذ المفروض عدم تقييد كل من الواجبين بالقدرة شرعا. ومن هنا يتضح أن ما نحن فيه خارج موضوعا عن الترجيح بالمرجح الثاني.

واما الأسبقية الزمانية : فقد جعلها المحقق النائيني موجبة للترجيح في مورد تساوي ملاكي الحكمين دون أهمية ملاك أحدهما ، فانه هو المقدم حينئذ.

وقد جعل الترجيح بالأسبقية من ثمرات التزامه بالتخيير العقلي.

وتوضيح ذلك : انه قدس‌سره التزم في ما إذا تساوى الحكمان ملاكا بالتخيير العقلي ، بمعنى حكم العقل بسقوط إطلاقي كلا الخطابين وتقييده بصورة ترك الواجب الآخر وهو الترتب ، بدعوى أن التنافي بين إطلاقي الخطابين فيرفع اليد عنهما بمقدار يرتفع به التنافي وهو النحو الّذي عرفته ، وليس التنافي بين أصل الحكمين كي يرفع اليد عنهما ويلتزم بثبوت خطاب مستقل بأحد الفعلين بنحو التخيير تحصيلا لأحد الملاكين ، مع عدم القدرة على تحصيلهما معا

٦٥

وكون الإلزام بأحدهما المعين ترجيحا من دون مرجح ـ كما ذهب إليه بعض ـ (١) فيكون التخيير شرعيا.

إذا تبين هذا فقد أفاد قدس‌سره ان من ثمرات الالتزام بالتخيير العقلي دون الشرعي هو تقديم الأسبق زمانا من الواجبين ، كما لو تزاحم وجوب القيام في صلاة الظهر ووجوبه في صلاة العصر ، فانه إنما يتأتى لو التزم بكون التخيير عقليا ، اما لو التزم بكونه شرعيا فلا وجه لترجيح الأسبق. بيان ذلك : انه لو قيل بان التخيير شرعي لا مانع من تعلق خطاب واحد بكل منهما بنحو البدل ، فيكون كل منهما واجبا تخييريا ، إذ التقدم والتأخر الزماني لا يمنع من صحة ذلك. اما لو قيل بان التخيير عقلي بمعنى الالتزام بالترتب امتنع جريانه هنا لأن أساس التخيير العقلي على كون امتثال أحدهما مسقطا للحكم الآخر ، لأن ثبوت أحدهما مشروط بترك الآخر فإذا لم يترك لم يثبت الآخر ، وبما ان امتثال الواجب المتأخر غير معقول في ظرف المتقدم لم يكن هناك ما يسقط التكليف السابق الفعلي ، وعليه فيكون فعليا من دون مزاحم فيجب الإتيان بمتعلّقه ويحرم تركه (٢).

أقول : هذا البيان لا يفي بالمطلوب لأن الوجوب المتأخر إما أن يكون له تأثير ودعوة في الزمان السابق أو لا يكون له تأثير فعلي الثاني يخرج المورد عن موارد المزاحمة إذ الحكم السابق فعلي لا مانع منه ، لأن الحكم اللاحق ليس بفعلي حالا ولا تأثير له في هذا الحين ، فيلزم امتثال السابق لا لأجل الترجيح بل لأجل عدم المزاحمة ، ولا يختلف الحال حينئذ بين الالتزام بالتخيير العقلي أو الشرعي ، إذ لا موضوع للتخيير الشرعي لعدم التزاحم والتساقط. وعلى الأول

__________________

(١) المحقق صاحب الحاشية والمحقق الرشتي قدس‌سرهما.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٧٩ ـ ٢٨٠ ـ الطبعة الأولى.

٦٦

يقع التزاحم بين الحكمين ، لأن كلاّ منهما يدعو إلى ما يمنع من امتثال الآخر في زمان واحد ، فالحكم اللاحق قابل لأن يمتثل في الزمان السابق لا بمعنى الإتيان بمتعلقه ، بل بمعنى الإتيان بما له تأثير فيه في الزمان السابق وهو حفظ القدرة على متعلقه المسقط للتكليف الآخر. فلا يختلف الحال حينئذ بين القول بالتخيير الشرعي والتخيير العقلي.

هذا ولكن الإنصاف يقتضي بتقديم الأسبق زمانا لبناء العقلاء في أعمالهم بالإضافة إلى أنفسهم وإلى غيرهم على ذلك في مورد التزاحم ، ويرون من يترك الأسبق لأجل امتثال اللاحق ليس جاريا على سيرة العقلاء ، وان فعله سفه. فلو كان عند شخص رغيف خبز واحد وعلم انه مضطر إلى البقاء جائعا يوما مرددا بين يومه وغده من دون امتياز لأحدهما على الآخر في شدّة الجوع وطوله وقصره فلا إشكال في أنه يأكله في يومه ولا يتركه إلى غده لأنه يرى الترك سفها. وهكذا لو كان عنده مقدار ما يضيف به شخصا واحدا وجاء زيد فعلا وعلم انه يجيئه عمرو غدا وكلاهما واجب الضيافة من دون امتياز ، فان عمل العقلاء على صرف ما عنده في ضيافة زيد لا تأخيره وضيافة عمرو به.

ولعل جهة ذلك انه وان علم ببقائه إلى الحكم اللاحق بحسب الموازين العادية ، إلا ان احتمال عدم بقائه عقلا موجود ، وهذه جهة تصلح منشأ لعمل العقلاء.

وبالجملة : فلا إشكال ان بناء العقلاء على تقديم الأسبق ثابت ، وان عدم تقديمه في نظرهم أمر غير عقلائي.

وهذا يوجب الجزم بعدم ثبوت التخيير وتعيين السابق. ولا أقل من احتمال ترجيحه عندهم ، فيكون نظير محتمل الأهميّة متعينا بنظر العقل كما سيجيء. فان كان نظره قدس‌سره إلى هذا البيان كما قد يستشم من عبارته كان ما ذكره متينا ، لكنه لا يستقيم على كلا القولين : القول بالتخيير العقلي والقول بالتخيير

٦٧

الشرعي ، لأنه يرفع موضوع التخيير ، إذ هو يثبت رجحان السابق وان الحكم على طبقه.

وموضوع التخيير عقلا وشرعا هو ثبوت التساوي بين الحكمين ، فيتساقطان ويثبت خطاب آخر بأحدهما بنحو التخيير كما هو مقتضى القول بالتخيير الشرعي ، أو يتقيد كل منهما بترك الآخر كما هو مقتضى القول بالتخيير العقلي.

فقد تحصل مما ذكرناه ثبوت مرجحيّة الأسبقيّة الزمانيّة مع تساوي الحكمين في الملاك. اما إذا كان أحدهما أهمّ ملاكا كان هو المقدم سواء كان متأخرا أم مقارنا ، لحكم العقل بقبح تفويته وتحصيل الغرض المهم ، بل على المولى الإلزام بالأهم تحصيلا له ، وإلاّ كان الحكم بغيره ترجيحا للمرجوح على الراجح وهو قبيح. وهذا أمر واضح لا خلاف فيه ولا نقاش.

وخلاصة ما تقدم : انه مع تزاحم الحكمين المشروطين بالقدرة عقلا يقدّم الأهم منهما إن كان ، وإلا قدّم السابق زمانا إن اختلفا فيه ، وإلا ثبت التخيير بينهما عقلا بالمعنى الّذي عرفته وهو التّرتب ، إذ قد تقدم ثبوت إمكانه ، وعرفت ان إمكانه مساوق لوقوعه ، فلا محيص عن الالتزام به.

بقي شيء نتعرض إليه وان كان استطراديّا لكننا نذكره تبعا للمحقق النائيني قدس‌سره.

وهو انه لو كان أحد الحكمين محتمل الأهميّة ، فهل يقدّم على الآخر أولا؟.

أفاد قدس‌سره : انه لو التزمنا بان التخيير مع التساوي في الملاك شرعي كان المورد حينئذ من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير الشرعيين ، وحكمه محل خلاف بين المحققين ، فمن هو قائل بالبراءة ، ومن هو قائل بالاشتغال. واما لو التزمنا بان التخيير عقلي تعين الأخذ بمحتمل الأهميّة ، إذ

٦٨

يدور الأمر حينئذ بين تقييد كلا الإطلاقين وتقييد خصوص إطلاق غير المحتمل أهميته ، فتقييده معلوم على كلا التقديرين ، وتقييد إطلاق محتمل الأهمية غير معلوم ، فينفي بأصالة عدم التقييد فيؤخذ بإطلاقه. هذا ملخص كلامه (١).

وتوضيح الحال : ان دوران الأمر بين التعيين والتخيير له صور متعددة :

الأولى : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في المسألة الأصولية ، بمعنى دوران الأمر في الدليلين المتعارضين بين التخيير بينهما في مقام الحجيّة وتعيين أحدهما خاصة. ولا إشكال في ان الحكم هو التعيين ، لأن الشك المزبور يرجع إلى التشكيك في حجيّة غير محتمل التعيين والشك في الحجيّة ملازم للقطع بعدمها كما تقرر. واما محتمل التعيين فهو مقطوع الحجية على كلا التقديرين.

الثانية : دوران الأمر بين التعيين والتخيير العقلي في المسألة الفرعيّة ، كما لو تعلق امر بطبيعة ثم شك في ان المتعلق ذات الطبيعة فيكون المكلف مخيرا بين مطلق أفرادها عقلا ، أو ان المتعلق الطبيعة مع الخصوصيّة الكذائيّة؟ والتحقيق : ان المورد من موارد جريان البراءة ، لأنه من مصاديق دوران الأمر بين الأقل والأكثر فتجري البراءة ، عن الخصوصيّة فيثبت التخيير العقلي.

الثالثة : دوران الأمر بين التخيير والتعيين الشرعي في المسألة الفرعيّة ، كما لو علم بتعلق الأمر بفرد وشك في أنه متعلّق للأمر بخصوصه ، أو انه مخير بينه وبين غيره ، وهذه الصورة وقعت محل الخلاف في أنها مجرى البراءة من الخصوصيّة كسابقتها فيثبت التخيير ، وانها مجرى الاشتغال فيثبت التعيين ، لكل احتمال ذهب جمع من المحققين.

الرابعة : دوران الأمر بين التعيين والتخيير في مقام المزاحمة ، كما لو تزاحم حكمان واحتمل أهميّة أحدهما ملاكا. والحكم فيه التعيين ، وذلك لأن

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٧٩ ـ الطبعة الأولى.

٦٩

غير محتمل الأهميّة مما يعلم بسقوط إطلاق دليله على كلا التقديرين تقدير أهميّة الحكم الآخر وتقدير عدمه ، فيخرج إطلاقه عن الحجيّة. اما محتمل الأهميّة فلا يعلم بسقوط إطلاق دليله ، لاحتمال كونه أهم فيكون هو المتعين فيتمسك بإطلاقه عملا بأصالة الإطلاق. ولا يختلف الحال في ذلك (١) على القول بان التخيير مع التساوي عقلي أو شرعي ، لعدم إحراز تقييد إطلاق المحتمل أهميته على الأول

__________________

(١) أفاد صاحب الكفاية قدس‌سره في مبحث التعادل والترجيح عند البحث في تحقيق الأصل عند التعارض بين الدليلين إلى : ان محتمل الأهمية يقدم على مزاحمه في الجملة ، ولم يبين تفصيل ذلك. ونسب إليه بيان التفصيل في حاشيته على الرسائل.

وقد يستشكل فيه بما ذكرناه في المتن من : انه لا فرق بين الصور في تقديم محتمل الأهمية ، لعدم العلم بسقوط إطلاقه والجزم بسقوط إطلاق مزاحمه ، فيعمل بإطلاق محتمل الأهمية.

وتحقيق الحال فيما أفاده قدس‌سره : انه يذهب إلى ان التزاحم بين الحكمين لا يتحقق ، إلاّ إذا فرض وجود الملاك لكلا الحكمين ، كما انه يذهب إلى ان الدليلين في موارد وجود الملاكين إذا كانا لبيان الحكم الاقتضائي ، كان المورد من موارد التزاحم. واما إذا كانا لبيان الحكم الفعلي ، كان المورد من موارد التعارض ، لتحقق التكاذب بين الدليلين بعد عدم إمكان الأخذ بهما معا.

وعلى هذا يكون المرجع مرجحات باب المعارضة لا مرجحات باب التزاحم.

وإذا ظهر ما ذكرناه ، لم يكن مجال للإشكال المزبور عليه ، إذ موضع التزاحم بنظره ما إذا لم يكن إطلاق الدليلين متكفلا للحكم الفعلي كي يؤخذ بإطلاق الأهم أو محتمل الأهمية ، بل الإلزام بإتيان الأهم أو التخيير في مورد التساوي انما هو بحكم العقل من باب لزوم تحصيل غرض المولى.

وعلى هذا المبني نقول : ان صور احتمال الأهمية ثلاثة :

الأولى : أن لا يكون المقتضيان من جنس واحد ، مع احتمال أهمية أحدهما من ناحية احتمال أهميته في التأثير في المصلحة العامة ـ مثلا ـ ، نظير أهمية الصلاة من وجوب ردّ السلام.

الثانية : ان يكون المقتضيان من جنس واحد ، مع احتمال أهميّة أحدهما لاحتمال شدته.

الثالثة : ان يكونا من جنس واحد ، مع احتمال الأهمية في أحد الطرفين لا لشدته ، بل لانضمام ملاك آخر إليه. فاحتمال الأهمية ينشأ من احتمال التعدد.

اما الصورة الأولى ، فالحكم فيها تعيين محتمل الأهمية ، وذلك لأن العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى ولا يرفع اليد عن حكمه ، ولا يحكم بمعذورية العبد إلا بالإتيان ببدله ، ومع احتمال الأهمية لا يقطع بالعذر وصلاحية الغرض الآخر للبدلية ، فيكون من موارد قاعدة الاشتغال.

وهكذا الحال في الصورة الثانية ، لعدم القطع بالعذر مع الإتيان بالغرض المحتمل المضعف.

٧٠

وسقوط دليله على الثاني فيؤخذ به مع إحراز سقوط أو تقييد إطلاق الحكم الآخر.

فجعل المورد ممّا تظهر فيه ثمرة الاختلاف بين القولين لا وجه له ، إذ لا تصل النوبة إلى التخيير بعد احتمال تعيين أحدهما لسلامة دليله من السقوط أو التقييد. فتدبّر جيّدا.

تنبيه : قد يتخيّل البعض ان هذا التقسيم الّذي ذكره المحقق النائيني للحكمين المتزاحمين من كونهما مشروطين بالقدرة شرعا ، أو مشروطين بالقدرة عقلا ، أو أحدهما مشروطا بالقدرة شرعا والآخر مشروطا بها عقلا ، واختلاف الأثر باختلاف الحال في ذلك غير وجيه ، إذ جميع الأحكام الشرعية مقيّدة بالقدرة شرعا ، لأن التقييد بالقدرة الشرعية تارة : يكون في لسان نفس الدليل كتقييد وجوب الحج. وأخرى : بتقييد خاص منفصل ، كما يدعي استفادة تقييد الوضوء بالقدرة الشرعيّة من تعليق الحكم بالتيمم على عدم الوجدان ، بدعوى ان التفصيل قاطع للشركة. وثالثة : يكون ببيان عام منفصل ، وهو الثابت في جميع الأحكام بدليل نفي الحرج والاضطرار ، فانه حاكم على جميع أدلّة الأحكام ومبيّن ان ثبوت الأحكام يختص بغير مورد العسر وغير مورد الاضطرار العرفي وهو

__________________

ـ واما الصورة الثالثة ، فلا يحكم بالتعيين ، لأن الغرض المعلوم المنجز على العبد يعلم بصلاحية الغرض الآخر للبدلية عنه لتساويهما ، وانما يحتمل وجود غرض آخر يفوت بترك محتمل الأهمية ، ومجرد هذا الاحتمال لا ينفع ، كمورد الاحتمال البدوي الصرف ، فانه من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وهذا التفصيل الّذي ذكرناه موافق في الجملة لما حكي عن صاحب الكفاية. وبالبيان الّذي عرفته يندفع عنه بعض ما أورد عليه ، فراجع حاشية المحقق الأصفهاني على الكفاية. ولكنك عرفت ان هذا البيان يتم على الالتزام بما التزم به صاحب الكفاية من تحديد مورد التزاحم ، وكون الالتزام بلزوم الأهم أو التخيير مع التساوي بسبب حكم العقل بلزوم تحصيل الغرض الملزم للمولى.

اما بناء على انه عبارة عن تنافي الحكمين في مقام الامتثال مع الالتزام بتكفل دليليهما الحكم الفعلي ، كان محتمل الأهمية هو المتقدم مطلقا كما أشرنا إليه في المتن.

٧١

مساوق لتقييده بالقدرة الشرعيّة.

وعليه ، فليس للحكمين المتزاحمين الا صورة واحدة ، وهي صورة تقيد المتزاحمين بالقدرة الشرعيّة فلا وقع للتقسيم المزبور.

وهذا التخيّل فاسد ، لأن أثر تقييد الحكم بالقدرة الشرعيّة ودخالتها في موضوعه يظهر بحسب ما تقدم في جهتين :

الأولى : ان ارتفاع القدرة الشرعيّة مساوق لارتفاع ملاك الحكم ، وعليه بني عدم تقديم الأهم لو كان كل منهما مقيدا بالقدرة شرعا.

الثانية : تقديم غير المشروط بالقدرة شرعا على المشروط بها في مورد التزاحم.

فالمتخيل يتخيّل ان ذلك لا يتحقق ، إذ كل من الحكمين مقيّد بالقدرة شرعا فلا معنى لتقديم أحدهما على الآخر ، فمقتضى الدعوى ارتفاع موضوع هذا الترجيح في مطلق موارد المزاحمة.

والتقييد بواسطة دليل نفي الحرج لا يظهر أثره في هاتين الجهتين ، بل يختلف مع التقييد الخاصّ بالقدرة شرعا.

اما جهة انتفاء الملاك : فلان دليل نفي الحرج أو الاضطرار وان تكفل نفي الحكم في صورة عدم التمكن العرفي ، لكنه لا يتكفل رفع الملاك لعدم ظهوره في دخالة عدم الحرج في الملاك ، لو لم نقل بأنه ظاهر في وجود الملاك ، إذ ظاهر الدليل ان ارتفاع الحكم لأجل الامتنان والتسهيل على العباد ، وهو ظاهر في ثبوت الملاك بحيث لو لا هذه الجهة ـ أعني جهة الامتنان ـ لثبت الحكم. وهذا بخلاف تقييد الموضوع رأسا بالقدرة ، فانه ظاهر في دخالة الوصف في ملاك الحكم فيرتفع بدونها. وعلى هذا فيثبت الترجيح بالأهميّة في تزاحم سائر الأحكام لوجود الملاك في نفسه في موارد ارتفاعها بالعسر والحرج.

واما الجهة الثانية : فموضوع الحكم وان تقيد بالقدرة الشرعية وعدم

٧٢

الاضطرار العرفي بواسطة هذه الأدلة ، لكنه لا ينظر فيه التقييد بعدم الاضطرار من جهة الحكم الشرعي المزاحم ، فلا يكون الحكم الشرعي رافعا لموضوع الآخر.

بيان ذلك : ان رفع الاضطرار بمعناه الأولي وهو الاضطرار العقلي لا معنى له ، إذ هو ثابت عقلا لعدم التمكن ، فلا منّة في رفع الحكم في حاله ، لأنه مما يحكم به العقل ، كما لا يحتاج ذلك إلى الاستيهاب من الله سبحانه كما جاء في بعض الآيات الشريفة (١).

اذن فما هو المراد من رفع الحكم حال الاضطرار المصحّح للامتنان؟. ذكر الشيخ في رسائله في مقام دفع هذا الإشكال : ان المقصود بالاضطرار هو الاضطرار العرفي بمعنى المشقة والعسر. ومن الواضح ان رفع الحكم في حالته يكون امتنانا لإمكان جعل الحكم في حالته فيقع العبد في المشقة (٢).

وبهذا الإشكال والجواب يتضح ان رفع الاضطرار انما يصح ويتّجه في مورد لا يكون فيه التكليف ممتنعا ، إذ مع امتناعه في نفسه لا نحتاج إلى بيان ارتفاعه من باب المنّة لأنه مرتفع قهرا بحكم العقل فلا منّة في رفعه.

وعليه ، فلا يشمل الدليل صورة المزاحمة لأن جعل التكليفين ممتنع في نفسه لعدم القدرة على امتثالهما ، فارتفاع كل من الحكمين بوجود الآخر أمر قهري لا بد منه فلا يكون مشمولا لدليل الرفع ، فلا يكون الحكم حينئذ مقيّدا موضوعه بعدم الاضطرار من جهة المزاحم بواسطة دليل الرفع ، بل تقيده بحكم العقل نظير تقيده بالقدرة على متعلّقه.

وعلى هذا فلا يكون أحد الحكمين رافعا لموضوع الآخر بالبيان الّذي

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٨٦.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٦ ـ الطبعة الأولى.

٧٣

تخيّله المتخيّل ، وان جميع صور التزاحم تكون من تزاحم الواجبين المشروطين بالقدرة شرعا. فالتفت ولا تغفل.

هذا تمام الكلام في الجهات الأساسيّة لمبحث التزاحم.

ويمكننا على ضوء ذلك تحديد ضابط التزاحم ، بأنه التنافي بين الحكمين في موضوعين في مقام الداعويّة والتأثير ، بمعنى انه لا يمكن ان يكون كل منهما داعيا فعلا إلى متعلقه ومنشأ ذلك هو عدم القدرة على الجمع بين المتعلقين.

والوجه في ذلك : هو ان لفظ التزاحم لم يرد في لسان آية أو رواية كي يرجع في تحديد مفهومه إلى العرف ، وانما هو اصطلاح أصولي لتحديد بعض الموارد التي يتنافى فيها الحكمان بلحاظ ترتيب بعض الآثار ، وهي الترتب على القول بإمكانه وتقديم الأهم أو الأسبق زمانا في بعض الصور التي مرّ ذكرها. والتخيير مع التساوي اما بنحو الترتب أو الخطاب التخييري بأحد الفعلين.

ولأجل ذلك يلحق بمبحث التزاحم موارد تنافي الحكمين المشروطين بالقدرة شرعا ، فان ضابط باب التزاحم لا ينطبق عليها لعدم كون التنافي من جهة التنافي في مقام الداعويّة ، بل هو من جهة رافعية كل منهما لموضوع الآخر.

إلاّ انه حيث يجري فيها البحث عن جريان الترتب فيها وعدمه ، كما يلتزم فيها بتقديم الأسبق زمانا في بعض الصور والتخيير بنحو الوجوب التخييري ، أدرجت في مبحث التزاحم وعدّت من صوره.

واما تزاحم الحكمين في موضوع واحد المعبّر عنه بتزاحم المقتضيين ، فهو خارج عن التزاحم المصطلح لا لأجل ما ذكره المحقق النائيني من كونه راجعا إلى المولى ، وكونه مبتنيا على رأي العدلية. فقد عرفت دفعه ، بل لأجل ما تقدم ذكره من عدم ترتب الآثار المزبورة فيه ، إذ لا مجال للترتب لأنه لا يجري في الموضوع الواحد كما مرّ تحقيقه ، كما لا معنى للتخيير بمعنى الإلزام التخييري ، إذ مع تساوي الملاكين يحكم بإباحة العمل. كما لا معنى لتقديم الأسبق زمانا ، إذ لا

٧٤

معنى للأسبقية هاهنا.

نعم يقدم الأهم من الملاكين لو كانت مرتبة الأهميّة بمقدار يلزم تحصيله.

واما ما نسب إلى صاحب الكفاية من حصر التزاحم الاصطلاحي في التزاحم بين المقتضيين ، فلا وجه له ولا دليل عليه من كلامه أصلا ، بل هو صرح في مبحث مقدمة الواجب بالتزاحم بين الحكمين كما لا ظهور في كلامه في جعله صورة التزاحم بين المقتضيين من مصاديق التزاحم المصطلح. وقد ذكرنا ذلك في أول المبحث. فراجع.

هذا تمام الكلام في مبحث التزاحم ونعود بعد ذلك إلى البحث في ما يرتبط بموضوع الكلام ـ أعني : « اجتماع الأمر والنهي » ـ. وقد عرفت ان البحث قبل الدخول في صلب الموضوع يقع في جهات تقدم الكلام في جملة منها.

وبقي الكلام في الجهة الأخيرة : وهي ما تعرض إليها صاحب الكفاية في الأمر العاشر ، ومقصود صاحب الكفاية من ذلك بيان بعض الشيء من ثمرة البحث المزبور كما ان مقصوده أيضا بيان ثمرة ما ذكره في الأمرين الثامن والتاسع.

وتوضيح ذلك : انه لو تعارض دليلان أحدهما يقتضي وجوب شيء والآخر يقتضي حرمته ، وكان بينهما عموم من وجه ، وتقدم دليل التحريم ، لا يكون الإتيان بالعمل صحيحا ولا يتحقق به سقوط الأمر ، بل يقع محرما مطلقا علم به أو جهل ، كان الجهل عن قصور أو تقصير ، وهذا أمر لا يختلف فيه اثنان وفي الوقت نفسه يذهب المشهور إلى صحّة الصلاة في الدار المغصوبة مع الجهل قصورا بالحكم مع القول بالامتناع ، وتقديم جانب النهي ، فان هذه الفتوى بظاهرها مناقضة لما تقدم من بنائهم في باب التعارض ، إذ على الامتناع لا يفترق الحال عن باب التعارض ، بل يكون المورد من مصاديق التعارض ، فكيف يلتزم هنا بصحة الإتيان بالمجمع مع الجهل بالتحريم قصورا ولا يلتزم به في باب التعارض؟

٧٥

لأجل دفع هذا الإشكال والإجابة عن هذا التساؤل عقد صاحب الكفاية الأمر العاشر ، وأوضح فيه جهة الفرق بين المقامين بعنوان التعرض لثمرة سائر الاحتمالات في باب اجتماع الأمر والنهي.

فأفاد قدس‌سره : انه بناء على الجواز لا إشكال في صحّة العبادة ، لأن مرجع القول به إلى تعدد متعلق الأمر والنهي وان أحدهما غير الآخر ، فإذا جاء بالمجمع فقد أطاع وعصى ، لأنه جاء بعملين ، فيكون نظير ما إذا نظر إلى الأجنبيّة في أثناء صلاته. واما بناء على عدم الجواز وتقديم جانب الأمر فلا إشكال حينئذ في صحة العمل ، واما لو قدم جانب النهي فلا يصح العمل مع الالتفات إليه ، لأنه عمل محرم ومنهي عنه فلا يصلح للمقربيّة. وهكذا الحال مع الجهل بالحرمة عن تقصير لأن العمل وان لم يكن محرما فعلا إلاّ انه يصدر عن المكلف بنحو غير معذور فيه عقلا ومبغوض فلا يكون صالحا للتقرب به.

واما إذا كان جاهلا بالحرمة عن قصور كان العمل صحيحا ، لأنه صدر بعنوان حسن وهو قصد التقرب ، كما انه صالح للمقربيّة من دون مانع لاشتماله على ملاك الوجوب مع عدم كونه مبغوضا وكون العبد معذورا فيه ، فليس بقبيح لجهله بالحكم قصورا ، فنقطة الفرق الفارق بين المقامين تتّضح في هذه الجهة ، وهي أن المجمع في باب اجتماع الأمر والنهي يكون مشتملا على الملاك لكلا الحكمين فيقع صحيحا مع الجهل ، لأنه صالح للمقربيّة بلا مانع بخلاف مورد التعارض فانه لا ملاك فيه للوجوب فلا يقع صحيحا ، فتظهر ثمرة اعتبار وجود الملاك لكلا الحكمين في المجمع في باب اجتماع الأمر والنهي في هذه الجهة.

وأضاف قدس‌سره إلى هذا الوجه وجهين آخرين لتصحيح العمل ، وهما :

الأول : ان يلتزم بان الأحكام تابعة للمصلحة والمفسدة المؤثرة في الحسن والقبح الفعليين ، فمع عدم القبح الفعلي ليس هناك حكم واقعي وان كان الفعل

٧٦

مشتملا على المفسدة. وعليه فمع الجهل عن قصور حيث لا يحكم العقل بقبح العمل ، بل يحكم بمعذورية الفاعل ، فلا حكم بالتحريم ، فيكون الأمر ثابتا بلا مزاحم ، ويكون الفعل مأمورا به. وهذا الوجه لم يرتضه قدس‌سره وذكر أنه خلاف الأقوى.

الثاني : ان العمل يمكن ان يؤتى به بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة وان لم يشمله بنفسه ، وذلك لأنه واف كغيره بالملاك ، وعدم تعلق الأمر به لمانع لا لقصور المقتضي ، فلا يرى العقل بينه وبين غيره من الأفراد تفاوت من جهة تحقق الامتثال به ، فيصح قصد الامتثال بإتيانه (١).

وهذا المعنى تقدم منه قدس‌سره في تصحيح الإتيان بالفرد المزاحم في الواجب الموسع بقصد امتثال الأمر (٢).

وقد استشكل المحقق النائيني فيما أفاده قدس‌سره ، وذهب إلى ان فتوى المشهور بالصحّة لها وجه آخر غير ذلك هو الصحيح.

اما إشكاله على صاحب الكفاية : فبان هذه الوجوه غير تامّة وليست تنهض على توجيه فتوى المشهور.

اما دعوى عدم الحرمة مع الجهل لتبعية الأحكام للقبح والحسن الفعليين ، فهي دعوى التصويب التي تقرر بطلانها ، لأنها ترجع إلى اختصاص الحكم بالعالم ، وقد ثبت في محله ان الأحكام ثابتة في صورة الجهل وان الأحكام الواقعية يشترك فيها العالم والجاهل.

واما دعوى صلاحية الملاك لصيرورة الفعل مقربا ، فيدفعها بأن ملاك الوجوب في المجمع مزاحم بملاك التحريم وهو المفسدة في الفعل ، وهي بعد

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧٧

ملاحظة الكسر والانكسار وغلبتها على المصلحة توجب تعلق الكراهة والمبغوضية بالفعل ، فلا يكون الفعل محبوبا في حال من الأحوال لأن وجود المفسدة واقعي لا يرتبط بالعلم والجهل فكيف يصلح للمقربيّة؟.

وبتعبير آخر : المصلحة الموجودة في الفعل مقهورة للمفسدة الموجودة فيه ، فلا تكون موجبة للتقرب بالعمل وصيرورته مقربا ، بل يكون العمل مبغوضا للمولى ، كما انه لو تساوت المفسدة والمصلحة يكون العمل مباحا لا محبوبا ولا مبغوضا.

واما دعوى إمكان الإتيان بالعمل بداعي الأمر لوفائه بالغرض ، كغيره ، فهي تندفع بما عرفت من ان العمل لا يصلح للمقربيّة بعد اشتماله على المفسدة الغالبة ، فلا يكون كغيره من الافراد. مضافا إلى ان هذا الوجه مناقش فيه في نفسه كما مرّ.

وعلى هذا فذهاب المشهور إلى صحة العمل مع الجهل بالتحريم لا تلتئم إلا بذهابهم إلى جواز اجتماع الأمر والنهي في نفسه ـ وهو ما عبّر عنه بالجواز من الجهة الأولى ـ ، وامتناع الاجتماع من جهة أخرى ـ وهي ما عبّر عنه بالامتناع من الجهة الثانية ـ.

وبيان ذلك : انه قدس‌سره ذكر في أول المبحث ان البحث يقع في الجواز والامتناع من جهتين :

إحداهما : من جهة سراية كل من النهي والأمر إلى متعلق الآخر وعدمه الّذي يبتني على كون التركيب بين الجهتين اتحاديا أو انضماميا ، فعلى الأول يمتنع اجتماع الحكمين ، لأنه من الجمع بين الضدين في محل واحد. وعلى الثاني لا يمتنع ، لأن موضوع أحدهما غير الآخر فلا يجتمع الضدان في شيء واحد. فالبحث في الجهة في امتناع الاجتماع وعدمه من جهة كون الاجتماع الضدين في شيء واحد وهو محال في نفسه ، وعدم كونه كذلك. ومن الواضح ان اعتبار قيد المندوحة في

٧٨

هذه الجهة لا أثر له أصلا.

ثانيتهما : انه بعد البناء على كون التركيب انضماميّا وعدم اجتماع الضدين ، فهل تقع المزاحمة بين الحكمين أو لا؟ ، وهو يبتني على ان تحقق الامتثال هل يلزم فيه مقدوريّة الفرد ، فلا يمكن الجمع بين الحكمين في الفرد المزاحم لعدم إمكان امتثالهما فيه أو لا يلزم فيه مقدورية الفرد ، بل يكفي فيه مقدوريّة نفس الطبيعة ، فيمكن تحقق الامتثال بالفرد المزاحم وان لم يكن مقدورا شرعا؟. ومن الواضح ان اعتبار وجود المندوحة في الحكم بالجواز من هذه الجهة ضروري ، إذ مع عدم المندوحة لا إشكال في تحقق المزاحمة لعدم التمكن من امتثال الحكمين بأي نحو كان (١).

إذا اتّضح ذلك فنقول : من يلتزم بجواز اجتماع الأمر والنهي من الجهة الأولى بان كان يرى ان الجهتين انضماميتان ، وانما يذهب إلى امتناع اجتماعهما من جهة المزاحمة وتقديم جانب الحرمة ، أمكنه دعوى صحة العمل العبادي مع الجهل بالحرمة عن قصور ، لأن أساس التزاحم على تنافي الحكمين في مقام الداعويّة والتأثير ، فكل منهما يدعو إلى صرف القدرة في متعلقه المانع من إتيان متعلق الآخر ، ومع الجهل بالحرمة لا تكون لها دعوة نحو متعلقها ، لأن العلم دخيل في الفعلية ووصول الحكم إلى مرحلة التحريك. وعليه فيكون الوجوب من غير مزاحم فيصح العمل. ففتوى المشهور تبتني على ما عرفت ، ويشهد لذلك أنهم أخذوا قيد المندوحة في محل الكلام وقد عرفت انه لا يلزم إلاّ في البحث عن الجهة الثانية بعد الفراغ عن الجواز من الجهة الأولى ، وانه لا أثر له في البحث عن الجهة الأولى ، فيكشف أخذهم القيد المزبور عن أن محطّ بحثهم الجواز والامتناع من جهة التزاحم لا من جهة اجتماع الضدين في واحد.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٣١ ـ الطبعة الأولى.

٧٩

وبما ذكرنا يظهر الفرق بين صورة الغسل بالماء الغصبي وصورة الغسل في المكان الغصبي ، فان امتناع الأول من الجهة الأولى ، لأن الغصب يتحقق بنفس الغسل بلا إشكال فيكون الغسل مجمعا للحكمين ، وهو ممتنع ، فإذا قدم جانب التحريم كان العمل باطلا حتى مع الجهل بالحرمة لما تقدم من أنه عمل مبغوض للمولى. واما امتناع الثاني فيمكن ان يدعى بأنه من الجهة الثانية فقط ، وان التركيب بين الجهتين انضمامي ، وليس الغسل محققا للغصب وحينئذ مع الجهل بالتحريم يصح العمل لما عرفت من عدم المزاحمة.

هذه نهاية الكلام في مقدمات البحث ، ويقع الكلام بعد ذلك في موضوع البحث والنزاع ، وهو جواز اجتماع الأمر والنهي في شيء واحد ذي وجهين بأحدهما كان مورد الأمر وبالآخر كان مورد النهي أو امتناعه.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى امتناع ذلك ، وذكر للاستدلال على ذلك مقدمات أربعة وهي :

أولا : ان الأحكام الخمسة متضادة بأسرها.

وثانيا : ان متعلق التكاليف ليس العناوين بما هي كذلك ، ولا الأسماء ، وانما هو فعل المكلف وما يصدر منه في الخارج.

وثالثا : ان تعدد العناوين لا يستلزم تعدد المعنون.

ورابعا : ان الوجود الواحد لا يمكن ان يكون له سوى ماهيّة واحدة.

وعلى هذا يتضح امتناع الاجتماع لأن المفروض ان المجمع وجود واحد وتعدد العنوان لا يجدي في تعدده ، وهو بنفسه يكون متعلق الحكم ، وقد عرفت تضاد الأحكام فيلزم من اجتماع الأمر والنهي اجتماع الضدين وهو محال (١).

هذا ملخّص ما جاء في الكفاية من الاستدلال على الامتناع. ولا بد من

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٨٠