منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

متّحدتان في الخارج كالصلاة والغصب بناء على عدم سراية الحكم من الطبيعة إلى مشخّصاتها. اما إذا كانت ماهيّة واحدة كإكرام العالم الفاسق المنطبق عليه إكرام العالم المحكوم بالوجوب وإكرام الفاسق المحكوم بالحرمة كان الموارد من موارد التعارض.

الرابعة : ما إذا كان الحرام مقدّمة لواجب ، فيما إذا لم تكن المقدميّة دائمية ، نظير توقف إنقاذ الغريق على الغصب. اما إذا كانت المقدّمية دائميّة كان المورد من موارد التعارض.

الخامسة : ما إذا كان الحرام والواجب متلازمين من باب الاتفاق كالتلازم بين استقبال القبلة واستدبار الجدي لمن سكن العراق ، فيقع التزاحم بينهما لو كان أحدهما واجبا والآخر حراما واما لو كان التلازم دائميّا وقع التعارض بين دليلي الحكمين.

واما التزاحم من غير جهة عدم القدرة : فمثاله ما إذا كان المكلّف مالكا للنصاب الخامس من الإبل وهو خمس وعشرون ناقة الّذي يجب فيه خمس شياة ، ثم ملك بعد مضي ستة أشهر ناقة أخرى فصار المجموع ستّ وعشرين ناقة وهو النصاب السادس وفيه بنت مخاض ، فالمكلّف قادر على دفع خمس شياة عند تمام السنة عملا بما دلّ على لزومها في خمس وعشرين ناقة ، وعلى دفع بنت مخاض عند مضيّ ثمانية عشر شهرا عملا بما دل على لزومها في ستّ وعشرين ناقة ، لكن دلّ الدليل على ان المال الواحد لا يزكى في العام الواحد مرّتين ، فيقع التزاحم بين الحكمين حينئذ من جهة الدليل المزبور لا من جهة عدم القدرة على الامتثال (١).

وأورد السيد الخوئي ( حفظه الله ) على هذا التقسيم بوجوه :

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٨٤ ـ الطبعة الأولى.

٤١

الأول : فساد جعل القسم الثاني قسيما للأول ، فانه راجع إليه ، لأن التضاد الاتفاقي بين أمرين لا يكون إلاّ من جهة عدم القدرة على إتيانها معا من باب الاتفاق ، فليس القسم الثاني في الحقيقة مغايرا للأول (١).

وفيه : ان التضاد الاتفاقي لا ينحصر منشئه بعدم القدرة على الأمرين اتفاقا. بيان ذلك : ان المقصود من التضادّ الاتفاقي هاهنا ما كان تحقق كلا الأمرين محالا في نفسه ولا يتمكن عليه أي شخص مهما بلغت قدرته. وبالتعبير الكلامي « ما كان العجز فيه من ناحية المقدور » نظير ما إذا أمر المولى عبده بان يكون في الصحن وأمره بملازمة زيد الموجود في الصحن ، فإذا خرج زيد عن الصحن امتنع الإتيان بكلا المتعلّقين ، وهما الكون في الصحن ، وملازمة زيد لامتناع وجود الجسم الواحد في مكانيين ، وهذا لا يرتبط بعدم القدرة الاتفاقيّة ، فانه ممتنع مطلقا من كلّ أحد ولا يتحقّق من أي شخص كان ، فعدم القدرة هاهنا ناشئ من التضاد ، لا ان التضاد ناشئ من عدم القدرة الاتفاقي. بخلاف ما إذا كانت العجز اتفاقيّا راجعا إلى القصور في نفس القدرة لا في متعلّقها ، كإنقاذ الغريقين فانه يتصوّر تحقّقه من شخص ذي قوة عالية فينقذ كلا الغريقين معا كل منهما بيد من يديه ـ مثلا ـ ، فالفرق بين القسمين واضح.

الثاني : ـ وهو ما جاء في المحاضرات ـ انه لا أثر لهذا التقسيم أصلا ، ولا تترتب عليه أي ثمرة فيكون لغوا محضا (٢).

وفيه ما لا يخفى : فان هذا التقسيم بلحاظ إجراء أحكام التزاحم ، فان هذه الأقسام تختلف في ذلك ، فمنها ما يجري فيه الترتب ومنها ما لا يجري فيه ، وقد نصّ على ذلك المحقق النائيني وتعرض إليه مفصّلا فهذا الإيراد من الغرائب.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٨٤ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٢١٣ ـ الطبعة الأولى.

٤٢

الثالث : ان التزاحم ينحصر بما كان منشؤه عدم القدرة على الامتثال ولا يتصور تحققه من جهة أخرى.

وامّا ما ذكره من المثال ، فهو ليس من مصاديق باب التزاحم ، بل من مصاديق باب التعارض ، والوجه في ذلك : ان ما دل على ان المال الواحد لا يزكى في السنة الواحدة مرتين يوجب العلم الإجمالي يكذب أحد الدليلين ، وهما الدليل الدال على وجوب خمس شياة على من ملك خمس وعشرين من الإبل ومضى عليه الحول ، والدليل الدال على وجوب بنت مخاض على من ملك ستّ وعشرين من الإبل ومضى عليه الحول فلا بد من إعمال قواعد المعارضة ولا ارتباط للمثال بباب المزاحمة ، فهو نظير ما دل على عدم وجوب ست صلوات في اليوم الواحد الموجب للتعارض بين ما دل على وجوب صلاة الجمعة في يومها ، وما دل على وجوب صلاة الظهر في يومها. وقد ذكر أن ما ذكره قدس‌سره غريب وعجيب صدوره من مثله ، فانه بعيد عن مقامه ولكن العصمة لأهلها (١).

وفيه : انه يمكن ان يكون المثال المزبور من موارد باب التزاحم ، وليس الأمر كما ذكره من وضوح عدم انطباق باب التزاحم عليه ، فلتصوير التزاحم وجه يخرج الدعوى عن غرابتها وبعدها عن مقام مثل المحقق النائيني. وموضوع الكلام ـ وهو الضابط الكلّي للمثال المتقدّم ـ هو ما إذا كان المكلف واجدا لأحد النصب الزكاتيّة ثم بعد مضي ستّة أشهر مثلا ملك مقدارا يتمم النصاب الآخر الّذي يلي للنصاب الّذي كان تجب زكاته ـ ولم يكن المملوك ف الأثناء نصابا مستقلا كخمسة من الإبل بعد الخمسة الأولى فان فيه بحثا آخر ـ فهل يجب عليه ان يدفع زكاة النصاب الأول عند تمامية الحول ثم يبتدئ حولا للجميع ، أو يدفع زكاة النصاب الآخر عند تماميّة حوله ، أي بعد مضي ثمانية عشر شهرا؟.

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٢١٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٣

اما دفع زكاتين زكاة النصاب الأول بعد مضي اثني عشر شهرا وزكاة النصاب الثاني بعد مضي ثمانية عشر شهرا فلا يلتزم به لقيام الدليل على عدم وجوب زكاتين في مال واحد في عام واحد. والّذي يلتزم به المشهور هو الأول ، وهم وان لم يصرحوا بان المورد من موارد التزاحم لكنهم يلتزمون بما هو نتيجة جعل المورد من موارد التزاحم وهو تقديم الأسبق زمانا ، فليس هذا المعنى أمرا مستبعدا جدّاً اما إدراجه في باب التزاحم فيقال فيه وجوه ولكنه يتّضح بتمهيد مقدمتين :

المقدّمة الأولى : ان التزاحم في نظر المحقق النائيني يتحقق بلحاظ رافعيّة أحد الحكمين اما بامتثاله أو بوجوده لموضوع الحكم الآخر ، إذ يمتنع وصول كل منهما إلى مرحلة الفعليّة والداعويّة كما مرّ بيانه.

والمقدّمة الثانية : ان نفي تحقق الشيئين تارة : يكون مفاده بيان عدم اجتماع الشيئين في الوجود من دون إفادة أخذ عدم أحدهما في موضوع الآخر ، بل لا نظر له إلى ما هو موضوع كل منهما ، نظير ما إذا قال المولى لعبده : « ان زيدا وعمرا لا يجوز ان يكون كلاهما في الدار بل أحدهما » ، فانه لا تعرض له إلى ما هو موضوع دخول كل منهما في الدار وانه في أي ظرف يجوز لأحدهما ذلك ، بل هو انما يدل فقط على ان هذين الشخصين لا يجوز اجتماعهما في الدار. وأخرى : يكون مفاده أخذ عدم أحدهما في موضوع الآخر كما إذا قال له : « ـ مع فرض وجود زيد في الدار ـ لا يجوز دخول عمرو ، أو انه ما دام زيد في الدار يجوز دخول عمرو » ، وهكذا العكس ، فانه يدل على ان عدم الموجود منهما مأخوذ في موضوع الآخر ، فيكون وجوده رافعا لموضوع الآخر قهرا. بخلاف النحو الأول فان عدم الاجتماع لا يستلزم أخذ عدم أحدهما في موضوع الآخر وإلاّ كان عدم أحد الضدّين مأخوذا في موضوع الضد الآخر وهو مما لا يلتزم به المحققون.

إذا عرفت ذلك فنقول : ان الدليل الدال على نفي تكرّر الزكاة في العام الواحد في المال الواحد كان مفاده بالنحو الثاني من نحوي نفي اجتماع

٤٤

الشيئين ، فانه ظاهر في نفي الزكاة ثانيا بعد ثبوتها أولا ، فان مفاده ان المال لما ثبتت فيه الزكاة أولا لم تثبت فيه مرّة أخرى في عام واحد ، فيكون ثبوتها أولا رافعا لموضوع ثبوتها ثانيا ، فينطبق التزاحم على ما نحن فيه ، لأنه كما عرفت بلحاظ رافعية أحد الحكمين لموضوع الآخر وهي متحقّقة. ومن هنا ظهر تقديم الأسبق لأنه رافع لموضوع المتأخر ولا عكس. فقد اتّضح بهذا البيان ان دعوى المحقق النائيني ليست بدعوى غريبة ، وهي وان توقفت على الاستظهار الّذي عرفته من أدلة نفي تكرر الزكاة لا على استظهار كون الدليل المذكور يفيد نفى اجتماعهما فيه ، إلا انها تكون متّجهة بوجاهة هذا الاستظهار واحتماله ولا تكون بعيدة كما ادعي. وان كان المختار ان المورد ليس من موارد التزاحم ، وتحقيقه موكول إلى محلّه من الفقه كما حرّرناه سابقا في كتاب الزكاة.

ويقع الكلام بعد ذلك في مرجّحات باب التزاحم التي يحكم بها العقل ، بخلاف مرجحات باب التعارض ، فان المرجع فيها هو المولى نفسه وهذه هي جهة الفرق بين البابين في الحاكم بالتقديم والتخيير. كما ان الفرق بين البابين في جهة التقديم فهي محل الكلام ، إذ تقديم أحد المتعارضين على الآخر يكون بأقوائيّة الدلالة والسند بالشهرة أو موافقة الكتاب أو غير ذلك ممّا يذكر في مبحث التعارض ، ويقع الخلاف هناك في تعيين بعضها دون بعض.

واما تقديم أحد المتزاحمين على الآخر ، فهو بأمور مترتبة ذكرها المحقق النائيني قدس‌سره (١) وهي :

المرجح الأول : تقديم ما ليس له بدل على ما كان له بدل فيما إذا كان أحدهما له بدل والآخر ليس له بدل. وله صورتان :

الأولى : ما إذا كان لأحدهما بدل في عرضه كما إذا كان واجبا تخييريا

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٧١ ـ الطبعة الأولى.

٤٥

شرعيا كان كخصال الكفارة ، أو عقليا ، كالواجب الموسّع ، وكان الآخر واجبا تعيينا مضيقا كما إذا تزاحم وجوب أداء الدين مع الإطعام أو العتق الّذي يكون إحدى خصال الكفارة التخييرية ، وكما لو تزاحم وجوب إنقاذ الغريق مع وجوب الصلاة في أثناء الوقت بحيث لا تفوت الصلاة بامتثاله فانه في مثل هذه الحال يقدّم الواجب التعييني على الواجب التخييري.

ووجه التقديم واضح وهو : ان الواجب التخييري لا اقتضاء له بالنسبة إلى خصوص الفرد المزاحم ، لأن المكلف مخيّر في مقام الامتثال بين افراد التخيير. والواجب التعييني له اقتضاء ودعوة إلى خصوص ما فيه التزاحم ، لأن الامتثال منحصر فيه. ومن الواضح انه لا تزاحم بين ما له اقتضاء نحو شيء وبين ما لا اقتضاء له نحوه ، فيقدّم ما له الاقتضاء على ما ليس له الاقتضاء.

هذا ما أفيد ولا يخفى ان هذا الوجه نتيجة نفي التزاحم بين الواجبين في هذه الصورة ، لا انه وجه للتقديم مع فرض المزاحمة ، إذ عرفت أن التزاحم هو التنافي في مقام الداعويّة بحيث يمتنع ان يصل كلا الحكمين إلى مرحلة الفعلية والبعث ، وهذا لا أثر له في هذه الصورة بعد ما عرفت من كون أحدهما لا اقتضاء له بالنسبة إلى خصوص مورد المزاحمة. فالتفت.

الثانية : ما إذا كان لأحدهما بدل طولي ، كالطهارة الحدثية المائية فان لها بدلا في طولها وهو التيمم ، فلو تزاحم وجوبها مع وجوب ما ليس له بدل كالطهارة الخبثية بان كان هناك ماء لا يكفي لكلتا الطهارتين مع احتياجه إليهما لأجل الصلاة ، قدّم ما لا بدل له على ما له البدل. ولم يتعرض قدس‌سره لذكر وجه التقديم والمنقول في الأفواه في جهته وجه استحساني وهو : ان التقديم سيرة العرف باعتبار ان الأمر إذا دار بين إهمال أصل المصلحة وتحصيل مصلحة أخرى بتمامها ، أو بين تحصيل أصل المصلحة وإهمال بعض المصلحة الأخرى كان الثاني هو المتعيّن ونتيجته تقديم ما لا بدل له على ما له البدل.

٤٦

ولكن هذا الوجه ـ لو سلم جواز الاستناد إليه مع غض النّظر عن عدم الدليل على اعتبار النّظر العرفي ـ لا يمكن البناء على تماميته فانه غير مطّرد ، إذ قد يكون ذلك المقدار الفائت من المصلحة أهمّ في نظر العرف وأشد أثرا من نفس المصلحة الأخرى المتحفظ بها بتمامها ، فيقدم عليها لا محالة. مثال ذلك عرفا : إذا كان الشخص يملك عباءة وقباءين ، أحدهما جديد والآخر متهرئ عتيق. وكان ملزما بلبس العباءة والقباء الجديد ، ولكنه مع عدم التمكن من لبس القباء الجديد ، كان عليه أن يلبس القباء المتهرئ ، إذ لا يمكنه أن يبقى من دون قباء ، فإذا دار أمره بين ان يتلف العباءة ، فيلبس القباء الجديد بلا عباءة ، أو يتلف القباء الجديد ويلبس القباء المتهرئ مع العباءة ، لكن كان الهوان الّذي يلحقه ونظرة الازدراء التي تلاحقه من لبس القباء أكثر مما كان في لبس القباء الجديد بلا عباءة ، فانه في هذا الحال يلزمه عرفا إتلاف العباءة مع عدم وجود البدل لها وإبقاء الجديد مع وجود البدل له. فالتفت.

فالوجه الصحيح في التقديم هو : ان ما يكون له بدل في طوله يكون وجوبه مقيّدا بالقدرة الشرعيّة ، فيكون المورد من مصاديق المرجح الثاني وهو ما إذا كان أحد الحكمين مقيّدا بالقدرة الشرعية والآخر غير مقيد بها ، فان غير المقيد بها يقدم على ما هو مقيّد بها كما سيأتي بيانه. فتحصل ممّا ذكرنا : ان المرجح الأول ليس من المرجحات لأن الصورة الأولى خارجة عن باب التزاحم والصورة الثانية داخلة في مصاديق المرجح الثاني ، ولا تكون جهة عدم البدلية مرجحة. فلاحظ.

ثم انه قدس‌سره تعرض لفرع فقهي وهو ما إذا دار امر المكلف بالصلاة بين إدراك تمام الوقت مع الطهارة الترابية وعدم إدراك تمامه مع الطهارة المائية. والتزم بترجيح الأول على الثاني ببيان : ان الطهارة المائية لها بدل وهو الطهارة الترابية بخلاف تمام الوقت فانه لا بدل له. وقد عرفت تقديم ما لا بدل له على ما له

٤٧

البدل.

وأورد على نفسه : بان تمام الوقت له بدل أيضا وهو إدراك ركعة منه كما هو مقتضى بعض الروايات (١) ، فيكون كل من المتزاحمين له بدل فلا وجه لترجيح تمام الوقت على الطهارة المائية.

وأجاب عنه : بان بدليّة إدراك ركعة عن تمام الوقت انما هي في فرض العجز عن إدراك تمام الصلاة فيه ، والمكلّف في الفرض قادر على إتيان مجموع الصلاة في الوقت فلا موجب لسقوط التكليف بإتيان تمام الصلاة في وقتها ، فيسقط التكليف بالطهارة المائية للعجز عنه شرعا فيثبت التكليف بتمام الصلاة في الوقت مع الطهارة الترابية ، لأنها بدل الطهارة المائية (٢).

وفيه : ان الكلام بعينه ننقله في طرف التيمم ، فنقول : ان بدليّة التيمم انما هي في فرض العجز عن الإتيان بالصلاة مع الوضوء أو الغسل والمكلف قادر على الإتيان بها كذلك ، فيبقى التكليف بالصلاة مع الطهارة المائية ويسقط التكليف بإيقاع تمام الصلاة في الوقت للعجز عنه شرعا ، فيثبت حينئذ التكليف بالصلاة مع إدراك الوقت بمقدار ركعة مع الطهارة المائية.

وأساس الجواب : هو ان بدلية كل من البدلين المفروضين ثابتة في حال العجز الشرعي ، فيقع التمانع بينهما ، ويكون وجوب المبدل منه لكل منهما رافعا لبدلية البدل الآخر. فالتفت.

وتحقيق الحال في هذا الفرع الّذي وقع محلا للبحث والنقض والإبرام : انه لا يتصور التزاحم بين الوجوبين الضمنيين ، إذ العجز عن الإتيان بكلا الجزءين

__________________

(١) منها : رواية عمار بن موسى عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : فان صلى ركعة من الغداة ثم طلعت الشمس فليتم وقد جازت صلاته.

وسائل الشيعة ٣ ـ ١٥٨ باب : ٣٠ من أبواب المواقيت ، حديث : ١.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٧٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٨

أو الشرطين أو الجزء والشرط يستلزم سقوط الأمر بالكل للعجز عن متعلّقه وهو الكل ، فلا تصل النوبة إلى تزاحم الوجوبين الضمنيين لسقوطهما بسقوط الأمر بالكل ، فإذا دل الدليل على تعلق الأمر بالناقص عند العجز عن التام تقع المعارضة بين إطلاقي دليل كل من الجزءين أو الشرطين.

وحينئذ فاما ان يلتزم بشمول الأدلة العلاجية للعامين من وجه المتعارضين ، فيكون الحكم هو التخيير شرعا بينهما. واما ان يلتزم بعدم شمول الأدلة العلاجية لمثل هذه الصورة ، فالقاعدة تقتضي التساقط في المتعارضين ، إلاّ انه حيث يعلم إجمالا يعدم سقوطهما معا بل أحدهما معتبر قطعا فالعقل يحكم بالتخيير ، فالنتيجة هي التخيير اما شرعا أو عقلا. وبذلك يتضح الكلام فيما نحن فيه فان الأمر بالوضوء والأمر بإيقاع الصلاة في تمام الوقت أمران ضمنيان فلا مزاحمة بينهما ، بل يسقط الأمر بالصلاة التامة بجميع اجزائها وشروطها ، ويحدث الأمر بالناقص ويدور الأمر بين اعتبار الوضوء أو تمام الوقت ، فيقع التعارض بين دليليهما والنتيجة هي التخيير بينهما من دون وجه لتقديم أحدهما على الآخر ، فان المورد ليس من موارد التزاحم ، ومن هنا يظهر ان التمثيل لبعض موارد التزاحم بالواجبين الضمنيين ليس متّجها.

وبهذا البيان تعرف انه لا وجه للتطويل الّذي جاء في المحاضرات من ذكر مقدمة طويلة لبيان كيفية استفادة اشتراط الوقت والطهارة ونحو اعتبارهما ، ثم التعرض لبيان ما يستفاد من دليل البدل في كل منهما ثم الانتهاء إلى ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من ان بدليّة إدراك ركعة عن تمام الوقت انما هي في فرض العجز عن إدراك تمام الصلاة فيه ولو مع الطهارة الترابية (١). وقد عرفت ما فيه وان كلا من الشرطين مقيد بالتمكن. ومن الغريب ان بيانه المزبور كان

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٢٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٩

بنحو الإيراد على المحقق النائيني رحمه‌الله. وأساس هذا الاختيار منهما هو نقلهما الكلام إلى دليل البدل الاضطراري لكل من الشرطين ، وهو دليل التيمم ودليل إدراك ركعة. مع انك عرفت ان النوبة لا تصل إليه بل الكلام رأسا في دليل الوضوء ودليل تمام الوقت وبيان نتيجة المعارضة بينهما فتدبّر جيّدا.

المرجّح الثاني : ما إذا كان أحد الحكمين مشروطا بالقدرة العقلية والآخر مشروطا بالقدرة الشرعيّة ، فيقدّم المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعيّة.

والمراد بالقدرة الشرعيّة ليس مفهوما شرعيا في قبال المفهوم للقدرة عقلا ، بل المراد بها القدرة العرفية التي هي أخصّ من القدرة العقليّة ، فان القدرة بنظر العرف هي التمكن على الفعل من دون ان يكون فيه عسر ومشقة ، فان العرف يسلب القدرة في مورد العسر والمشقة ، ولأجل ذلك ترتفع القدرة عرفا بالمنع الشرعي عن العمل ، لأن الإتيان به يوقع المكلف في تبعات مخالفة المنع الشرعي وهو امر حرجيّ عليه ، فمع المنع شرعا يصدق عرفا انه غير متمكن.

اما تحقق اشتراط الحكم بالقدرة العرفية ، فهو منوط بأخذ القدرة في موضوع الحكم في لسان دليله ، فتكون ظاهرة في القدرة العرفية ، إذ المحكّم في باب الألفاظ هو العرف ، فإذا قيّد الحكم في دليله بالقدرة كان ظاهرا في إرادة القدرة العرفية ، لأن المفهوم العرفي للقدرة غير المفهوم العقلي. اما إذا لم يقيد الحكم في دليله بالقدرة ، فيكون مطلقا من ناحيتها. نعم حيث انه في صورة الامتناع عقلا لا يثبت الحكم لاستحالته في نفسه أو لغويّة كان مقيدا بالقدرة العقليّة.

وإذا عرفت المقصود من القدرة الشرعية وانها القدرة التي اعتبرها الشارع في موضوع الحكم فيراد بها المفهوم العرفي للقدرة ، وانها أخص من القدرة التي يعتبرها العقل في موضوع الحكم إذا ـ عرفت ذلك ـ يتضح ذلك الوجه في

٥٠

الحكم بتقديم الحكم المقيد بالقدرة العقلية على الحكم المقيد بالقدرة الشرعية. بيان ذلك : ان ثبوت الحكم المقيد بالقدرة العقلية يكون رافعا لموضوع الحكم المقيد بالقدرة الشرعية لما عرفت من ارتفاع القدرة عرفا بالحكم الشرعي المانع من العمل واما المقيد بالقدرة الشرعية ، فلا يكون رافعا لموضوع الآخر ، إذ المنع الشرعي لا يرفع القدرة عقلا على العمل. وإذا كان الأمر كذلك تقدم المشروط بالقدرة العقلية بعين الوجه الّذي ذكره الشيخ (١) ، وأوضحه صاحب الكفاية (٢) بتلخيص في تقديم الوارد على المورود من : ان تقديم المورد إما ان يكون بلا وجه أو على وجه دائر ولا عكس. فانه يقال هاهنا : ان الالتزام بالحكم المقيد بالقدرة العقلية لأجل تمامية موضوعه وعدم الإخلال بجهة من جهات ثبوته سوى وجود الحكم الآخر المشروط بالقدرة الشرعية ، وهو غير صالح للمنع ، لأنه يتوقف على ثبوت موضوعه ، وقد عرفت انه يرتفع بالحكم الآخر. فحينئذ اما ان يلتزم به مع عدم موضوعه وهو فاسد ، أو نلتزم بأنه يمنع من الحكم الآخر فيثبت موضوعه وهو يستلزم الدور ، لأن مانعيته عن الحكم الآخر تتوقف على تمامية موضوعه ، وتمامية موضوعه تتوقف على عدم الحكم الآخر ، فيمتنع استناد عدم الحكم الآخر إليه فالتفت.

ومن هنا تعرف ان المورد ليس من موارد المزاحمة أصلا ، كما لا معارضة بين الوارد والمورود ، فان نسبة الحكم المقيد بالقدرة العقلية إلى الحكم المقيد بالقدرة الشرعية ، نسبة الدليل الوارد إلى الدليل المورود ، فلا يقع التمانع بين الحكمين.

وعليه ، فلا وجه لفرض المقام من مصاديق باب المزاحمة.

أو فقل : لا وجه لفرض المرجح المزبور من مرجحات باب المزاحمة ، لأنه

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٢٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤٣٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥١

يسري إلى غيرها ، فانه وجه يتأتى ذكره في باب التزاحم وباب التعارض كما عرفت.

واما توجيه المحقق النائيني قدس‌سره لتقدم الوجوب المشروط بالقدرة العقلية على المشروط بالقدرة الشرعية ، بان المشروط بالقدرة عقلا تام الملاك فعلا فيكون وجوبه فعليا مانعا من تمامية ملاك الآخر للعجز عنه شرعا ، بخلاف المشروط بالقدرة شرعا ، فان وجوبه يتوقف على تمامية ملاكه ، وهي تتوقف على عدم الوجوب الآخر ، فلو استند عدم وجوبه إلى الوجوب المشروط بالقدرة شرعا لزم الدور المحال. كما لا يخفى (١).

فهو بظاهره لا يخلو عن مناقشة ، إذ تكرر منه قدس‌سره ان البحث في مسألة التزاحم لا تبتني على وجهة نظر العدلية القائلين بلزوم توفّر الملاك للحكم الشرعي ، بل يقع الكلام فيه على جميع وجهات النّظر من دون اختصاص بإحداهما.

ولعل مراده قدس‌سره ما أوضحناه ، وقد صرّح به في غير مورد. وقد عرفت انه يخرج المورد عن موارد التزاحم.

فقد ثبت ان المرجحين الأولين ليسا من المرجحات ، بل مما يستلزم خروج المورد عن موارد المزاحمة.

المرجح الثالث : ما إذا كان أحد الواجبين أسبق زمانا من الآخر ، وهذا المرجح يختص بما إذا كان كل من الحكمين مشروطا بالقدرة الشرعية ، فانه أفاد قدس‌سره ، بان المتقدم زمانا يرجح على المتأخر ، لأن المتقدم في الفعلية يكون مستقرا في محله من دون مانع ، ويكون رافعا للتكليف الآخر ، لأنه يرفع موضوعه ، فلا يبقى له محل ومجال في ظرفه.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٧٢ ـ الطبعة الأولى.

٥٢

وتحقيق الحال في الحكمين المشروطين بالقدرة شرعا ومرجحية الأسبقية الزمانية فيهما : ان المورد ليس من مصاديق باب التزاحم المصطلح ، لأنا قد أشرنا إلى ان حقيقته هو التنافي بين الحكمين في مقام الداعويّة والتأثير ، بمعنى انه لا يمكن ان يكون كلاهما ـ في زمان واحد ـ داعيين إلى متعلّقيهما ، بحيث لو لم تكن هذه الجهة ارتفع التزاحم ، ولم يمتنع ثبوت الحكمين معا. والتنافي في المورد الّذي نحن فيه ناشئ من رافعية كل من الحكمين لموضوع الآخر ، لأن كلا منهما مانع شرعي فيرفع القدرة الشرعية المأخوذة في موضوع الآخر ، وليس ناشئا عن التنافي في مقام الداعوية وان كان مفروضا ، ولذا لو ارتفع ذلك ، بأن كان المكلّف قادرا عقلا على امتثال الحكمين لا شرعا ، كان التمانع بين الحكمين متحقّقا بالوجه الّذي ذكرناه. فلا ينطبق عليه التزاحم بالمعنى المصطلح نعم يصح إطلاق التزاحم عليه بمعناه اللغوي وهو التمانع ، لأنه متحقّق بين الحكمين ، كما عرفت.

وبعد هذا نقول : ان أحد الحكمين اما ان يكون أحدهما أسبق زمانا من الآخر ، أولا يكون :

فان كان أحدهما أسبق زمانا ، فتحقيق الكلام : ان الصور المتصورة في مورد السبق الزماني أربعة :

الأولى : ان يكون أحد الحكمين سابقا على الآخر بموضوعه وامتثاله ، بمعنى ان موضوع الحكم الآخر وامتثاله لا يتحقق إلاّ بعد زمان امتثال ذلك الحكم ، نظير ما إذا كان عند الإنسان في شهر رجب مال يكفيه للحجّ ، ولكنه كان فاقدا للاستطاعة من الجهات الأخرى ـ بان كان مريضا ـ ويعلم انها تحصل في شهر شوال. وثبت عليه واجب مشروط بالقدرة شرعا في ذلك الحين ـ أعني شهر رجب ـ كما لو وجب عليه زيارة الحسين عليه‌السلام في رجب بنذر ونحوه وكانت متوقفة على صرف المال المزبور.

وحكم هذه الصورة هو ترجيح الأسبق زمانا ، فيتقدم وجوب الوفاء بالنذر

٥٣

على وجوب الحج في المثال المزبور ، وذلك لأن الوجوب السابق فعلي تام الموضوع ، إذ لا مانع منه عقلا ، لأنه المفروض ولا شرعا إذ المانع الشرعي المتصور ليس إلاّ الوجوب الآخر وهو ليس ثابتا فعلا لعدم موضوعه كما فرض ، فلا يصلح للمانعية ، وإذا لم يثبت المانع عقلا وشرعا لزم امتثاله ، فيرتفع به موضوع اللاحق ، وبهذا البيان يمكننا ان ندعي ان هذه الصورة خارجة عن محل الكلام ، فانه لا تزاحم بين الحكمين ولا تمانع ، إذ الأول في ظرفه لا مانع منه كما عرفت ، والثاني لا موضوع له ، فلا ثبوت له ان امتثل الأول ، وان لم يمتثل كان فعليا لتحقق موضوعه ، لكنه لا مانع منه إذ الحكم سقط بعصيانه.

وبالجملة : الحكمان لا يكونان في هذه الصورة فعليين في زمان واحد. فالتفت.

الثانية : ان يكون أحد الحكمين سابقا بموضوعه وامتثاله إلا انه كان بنحو الواجب الموسّع ، بمعنى انه إذا لم يمتثل في ظرفه يستمر الحكم ويثبت في زمان اللاحق ، كالمثال المتقدم فيما إذا لم يقيد نذره الزيارة بشهر رجب بل مطلقا ، ولكن كان تحقق الشرط المعلّق عليه المنذور في رجل فيصير الحكم من ذلك الحين فعليا.

وحكم هذه الصورة يتضح مما تقدم ، فلا مزاحمة بين الواجب الموسع والواجب المضيق ، لعدم التزاحم ، بين ما له اقتضاء وبين ما لا اقتضاء له. نعم ، إذا تضيّق وقت الموسع في وقت المضيق وقع التزاحم بينهما لكون كل منهما مضيقا.

الثالثة : ان يكون أحد الحكمين سابقا في امتثاله على امتثال الآخر ، لكنه مقارن في موضوعه لموضوع الآخر ، كما لو نذر قبل الاستطاعة ان يزور الحسين عليه‌السلام اليوم السابع من ذي الحجة ان جاء أخوه من السفر فتقارن مجيء أخيه مع حصول الاستطاعة المالية أو البدنية للحجّ ، أو تعاقبا من دون فصل زماني طويل ، بحيث لم يتمكن من الإتيان بالمقدمات المفوتة للسابق قبل حصول

٥٤

اللاحق.

والحكم في هذه الصورة وقوع التزاحم بين الحكمين بلا ترجيح ، وعدم تقديم الأسبق منهما زمانا بحسب الواجب ، إذ بعد فرض ان الموضوع لكل من الحكمين في نفسه ثابت يلزم المكلف حفظ القدرة على كل منهما بملاك وجوب المقدمات المفوتة ، فيحدث من جهة وجوب الحج حكم فعلي بلزوم صرف المال في الحج والسير مع القافلة المتوجهة إلى مكّة. كما يحدث من جهة وجوب الوفاء بالنذر لزوم السير إلى كربلاء ان كان بعيدا عنها والبقاء فيها وعدم إتلاف القدرة ان كان من سكنتها ، فيكون كل من هذين الحكمين رافعا لموضوع الحكم الآخر ولا أثر للسبق الزماني في مقام الامتثال حينئذ ، لأن وجوب المقدمة المفوتة للواجب اللاحق يرفع موضوع الوجوب السابق في امتثاله. ولا يختلف الحال في ذلك بين الالتزام بالواجب المعلق أو المشروط وعدمه ، لأن وجوب المقدمات المفوتة لازم اما بملاك لزوم حفظ الغرض الثابت في كل من الحكمين في نفسه ، أو بملاك الوجوب المقدمي لو التزم بالواجب المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر.

الرابعة : ان يكون كل من الحكمين متقارنين زمانا بحسب الامتثال. لكن أحدهما أسبق موضوعا من الآخر ، بنحو يستطيع المكلف المحافظة عليه قبل حدوث موضوع الآخر ، كما لو نذر قبل حصول الاستطاعة ان يزور الحسين عليه‌السلام في يوم عرفة إن جاء أخوه من السفر ، فجاء أخوه وكان متمكنا من السفر إلى كربلاء فعلا ، ولكنه غير متمكن من السفر إلى الحج ، فهو فعلا غير مستطيع للحج.

والحكم في هذه الصورة تقديم الأسبق زمانا وهو النذر في المثال ، لأنه ينشأ منه فعلا حكم بوجوب المقدمة المفوتة ، فيلزمه المحافظة على القدرة فعلا ، فيصرف المال في شئون الزيارة أو يسافر فعلا للزيارة ، فيرتفع بذلك موضوع الحج ، ولا حكم يمنع من ذلك ، لأن موضوع الحج لم يتحقق بعد ، فلا نظر له إلى

٥٥

حفظ مقدماته المفوتة ولذا يجوز له إتلاف المال قبل الاستطاعة لو لم يكن هناك وجوب آخر يدعو للمحافظة عليه ، فتكون الصورة نظير الصورة الأولى.

ومن هذا البيان يظهر انه لا أثر لتقارن وقت الامتثال ، بل الحكم المذكور جار حتى مع أسبقيّة الآخر موضوعا في امتثاله. فالتفت.

لكنه قد يشكل : بأنه وان جاز صرف المال في طريق الوفاء بالنذر ، لكنه غير واجب لأنه إذا أراد ان لا يصرفه يتحقق موضوع الواجب الآخر في ظرفه فيثبت وجوبه حينئذ فيكون رافعا لموضوع وجوب الواجب السابق زمانا من حيث الموضوع فيكشف عن عدم تحققه ، فلا تكون المقدمات واجبة لأن تركها يؤدي إلى انكشاف عدم توفر الملاك لا إلى تفويت الملاك.

ويمكن ان نشير إلى ضابط الصورتين بان الحكمين اللذين يكون أحدهما أسبق زمانا إما موضوعا أو امتثالا. إما ان يكون لكل منهما دعوة إلى مقدماته المفوتة بملاك وجوب المقدمات المفوتة ، اما لأجل حفظ الغرض الملزم أو لأجل كون الوجوب بنحو الوجوب المعلق أو المشروط بالشرط المتأخر ، فيقع التزاحم بينهما في وجوب المقدمات ويكون وجوب كل مقدمة رافعا لموضوع وجوب ذي المقدمة الأخرى ، فلا أثر لسبقه زمانا وعدمه. واما ان لا يكون لكل منهما دعوة نحو مقدماته المفوتة ، بل كان ذلك لأحدهما فقط ، كان ما له نظر مقدم على الآخر لأنه فعلي ولا مانع منه ، إذ ما يتصور كونه مانعا لا يصلح للمانعية فعلا ولا اقتضاء له بالنسبة إلى مقدماته المفوتة ، ولكن عرفت الإشكال في هذا البيان.

ومن هنا تعرف ما في كلام المحقق النائيني قدس‌سره من التسامح من إطلاق القول بتقديم الأسبق زمانا ، مع انك عرفت انه ينحصر بالصورة الأولى.

مع ان مثاله ظاهر في كون محط نظره الصورة الرابعة وهي ما كان السابق هو الوجوب لا الواجب ، وهو غير مرجح إلا بتقريب غير خال عن الإشكال ، كما عرفت.

٥٦

وبالجملة : ما ذكره قدس‌سره في تقريب تقديم الأسبق زمانا لا ينطبق إلا على الصورة الأولى. وقد عرفت ان المورد في الحقيقة لا يكون من موارد التزاحم. فالتفت.

هذا كله فيما إذا كان أحدهما أسبق زمانا من الآخر.

وان كانا متقارنين زمانا موضوعا وامتثالا :

فقد يدعى تقديم الأهم منهما باعتبار ان المتزاحمين ان كانا متساويين في الأهمية ثبت التخيير بينهما. وان لم يكونا متساويين قدم الأهم منهما بحكم العقل ، فانه يرى ان المولى لا بد من حكمه بالأهم ملاكا ، وإلاّ كان حكمه بالمهمّ ترجيحا للمرجوح على الراجح وهو قبيح في نظره.

ولكن المحقق النائيني قدس‌سره أنكر ذلك بتقريب : ان هذا البيان انما يتأتى فيما كان ملاك كل حكم ثابتا في نفسه وحتى في صورة التزاحم ولم يكون كل منهما رافعا لملاك الحكم الآخر ، فيكون الحكم على طبق الملاك المرجوح تفويتا للغرض الأهم وهو ترجيح المرجوح على الراجح.

واما فيما نحن فيه فالامر ليس كذلك ، لأن ثبوت ملاك كل من الحكمين مشروط بعدم المانع عقلا وشرعا من متعلّق الحكم ، فثبوت المانع الشرعي يرفع ملاك الحكم في الممنوع.

وعليه ، فلو قدّم المهم وحكم بوجوبه لم يلزم تفويت الغرض الأهمّ ، بل يلزم نفي الغرض الأهمّ وعدم تحققه ، وهو لا قبح فيه على المولى ، فمع وجوب الأهمّ لا ملاك في الطرف الآخر الأهم كي يلزم تفويته ، ولا يلزم المولى المحافظة على ثبوت الملاك وعدم نفي تحققه بمانع.

وعليه ، فلا ملزم بالحكم بالأهمّ ، فانه ترجيح بدون مرجح ، إذ كما يمكنه ان يحكم على طبق الأهمّ ولازمه نفي تحقق الملاك المهم ، يمكنه ان يحكم على طبق المهم ولازمه نفي تحقق الملاك الأهمّ من دون لزوم أيّ محذور. وهكذا الحكم بالمهم

٥٧

ترجيح بلا مرجح ، فإذا كان الحكم بكل منهما بعينه ترجيح بلا مرجح ، بمعنى انه لا وجه للإلزام بأحد الطرفين بعينه ، فيتعين تعلّق الحكم التخييري بهما ، اما بنحو وجوب أحدهما لا بعينه أو بنحو وجوب كل منهما مشروطا بترك الآخر. بيان ذلك : انه إذا ثبت عدم إمكان الجمع بين الحكمين لرافعية كل منهما لموضوع الآخر ، وثبت عدم إمكان الحكم بأحدهما بعينه ، لأنه ترجيح بدون مرجح ، فان التزمنا بالترتب وصححنا رفع التزاحم بين الحكمين بإجراء الترتب تعين هاهنا الالتزام به ، فيقيد إطلاق كل منهما بصورة ترك الآخر ، فيكون كل منهما ثابتا في صورة ترك الآخر فانه يرتفع التزاحم بينهما بذلك ، وتكون النتيجة تخيير المكلّف بين الفعلين. وان لم نلتزم بالترتب وأنكرنا إمكانه مطلقا أو التزمنا به في الجملة لكن أنكرنا ثبوته في مورد تزاحم الواجبين المشروط كل منهما بالقدرة شرعا ، تعين فيما نحن فيه الالتزام بسقوط كلا الحكمين في مورد التزاحم ، والتزام بثبوت وجوب تخييري متعلّق بأحدهما لا بعينه لثبوت أحد الملاكين لا بعينه ، فالمكلّف مخوّل في تحصيل أحدهما لعدم إمكان الجمع بينهما (١).

ومن هنا يتّضح الوجه في ذهاب المحقق النائيني إلى ان التخيير هاهنا شرعي ، بمعنى ثبوت خطاب شرعي بأحد العملين لا بعينه ، لأنه وان التزم بالترتب لكنه أنكر ثبوته في مثل المورد مما كان التزاحم فيه بين حكمين مشروطين بالقدرة شرعا ، فلا يتجه الحكم ببطلانه ـ كما في المحاضرات ـ (٢) وان النتيجة هي الالتزام بخطاب مشروط بترك الآخر في كل منهما ، إلاّ ان يرجع الإيراد إلى الإشكال المبنائي لا العلمي. فالتفت.

والمتحصل : انك عرفت السّر في ذهاب المحقّق النائيني إلى عدم تقديم

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٧٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٢٦٧ ـ الطبعة الأولى.

٥٨

الأهمّ ، كما عرفت السّر في التزامه بكون التخيير شرعيا بالمعنى الّذي عرفته ، وهو حق لا إشكال فيه.

واما ما جاء في المحاضرات من تقريب تقديم الأهم فيما نحن فيه من : ان الأهم لا مانع من تقديمه عقلا للقدرة عليه تكوينا ، ولا شرعا لأن المانع الشرعي المتصور ليس إلاّ وجوب المهم الّذي يستلزم صرف القدرة في غير الأهمّ ، وهو لا يصلح للمانعية لأنه بمزاحمته بالأهمّ غير مقدور شرعا ، والمفروض ان القدرة دخيلة في متعلقه فلا يكون الأمر به فعليا مع عدم القدرة عليه شرعا ، ومع عدم فعلية امره لا يكون مانعا من الأهم (١).

ففيه ما لا يخفى : لأن المفروض ان كلا من الحكمين مشروط بالقدرة شرعا فيكون كل منهما رافعا لموضوع الآخر ، لأنه مانع شرعي عن الآخر ، فكيف يفرض مانعية الأهم عن المهم دون العكس؟ ، فانه مما لا نعرف له توجيها صحيحا.

ونفس الأهمية لا تصلح فارقا ـ كما قد يظهر من العبارة ـ لأنها محل الكلام فلا يمكن الاستدلال على الدعوى بنفس الدعوى. فالتفت.

وقد يدعي : تقديم الأهمّ بحكم العقل ببيان : ان المفروض ثبوت ملاك كل من الحكمين في نفسه ، ومع قطع النّظر عن المزاحم. فإذا التزم بسقوط كلا الحكمين فلا يخلو الحال من صور ثلاث : اما ان يحكم على طبق الأهمّ وهو المطلوب. واما ان يحكم على طبق المهم وهو ترجيح بدون مرجح. واما ان يحكم بالتخيير بينهما ، بمعنى وجوب أحدهما لا بعينه ، وهو يستلزم ثبوت كل من الملاكين لعدم منافاته للقدرة الشرعيّة على كل من الفعلين ، فيحكم العقل بلزوم الإتيان بالأهمّ ملاكا نظير حكمه بلزوم تحصيل أصل الغرض الملزم لو لم يتمكن

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٢٦٤ ـ الطبعة الأولى.

٥٩

المولى من الأمر كأن كان غافلا. فهاهنا الأمر كذلك ، لأن المولى لا يتمكن من الإلزام بالأهمّ بخصوصه لأنه ترجيح بلا مرجح ، فيحكم العقل بلزومه ترجيحا للأهم.

وهذه الدعوى فاسدة : لأن العقل لا يتمكن من الإلزام بالأهمّ بعينه كما لا يتمكن الشارع ، والمحذور الّذي يمنع من تعيين الأهمّ شرعا بنفسه يمنع من تعيينه عقلا ، لأن الإلزام العقلي كالشرعي رافع لموضوع الآخر ، فالعقل يمكنه ان يلزم بالمهم فيرفع موضوع الأهم ويكشف عن عدم ثبوت الملاك الأهمّ ، فما هو المرجح لحكمه بالأهمّ ، مع انه لا محذور في حكمه بالمهم من جهة تفويت الغرض الأهمّ ، لأنه لا يتحقق الغرض الأهمّ بحكمه بلزوم المهم؟. فالتفت.

هذا تمام الكلام في الواجبين المشروطين بالقدرة شرعا.

يبقى الكلام في الفرع الّذي ذكره المحقق النائيني مثالا للواجبين المشروطين بالقدرة ، مع كونه أحدهما أسبق زمانا ، وهو مثال تزاحم النذر والحج ، كما لو نذر قبل حصول الاستطاعة ان يزور الحسين عليه‌السلام يوم عرفة ، ثم حصلت الاستطاعة ، فقد وقع الاختلاف في ان أيهما المقدم هل يقدم وجوب الوفاء بالنذر أو وجوب الحج؟ وفي المسألة أقوال :

الأول : ما عن صاحب الجواهر رحمه‌الله من تقديم النذر ، لأنه غير مقيد بالقدرة شرعا ، فيتقدم على الحج لأنه مقيد بالقدرة شرعا ، كما هو مقتضى القاعدة في تزاحم الحكمين اللذين أحدهما مقيد بالقدرة شرعا والآخر غير مقيد بها شرعا (١).

الثاني : تقديم وجوب الحج ، لأن كلا من الوجوبين مقيد بالقدرة شرعا ، لكن في وجوب الوفاء بالنذر جهة تقتضي ترجيح وجوب الحج عليه وهو قول

__________________

(١) النجفي الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام ١٧ ـ ٣٤٧ ـ الطبعة السابعة.

٦٠