منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

الأولى : ان يكون السائل للمعصوم عليه‌السلام ممن لا يرجو لقاءه أو لقاء أحد الرّواة عادة ، كما إذا كان من البلاد البعيدة ، فلا معنى لأن يقال في مثل هذا الفرض ان الإمام عليه‌السلام في مقام بيان مرامه بكلام متعدد ، بل لا بد ان يكون في مقام بيان مرامه بنفس كلامه مع السائل ، فله التمسك بإطلاق الكلام واستكشاف المراد الواقعي به. فإذا ورد مقيد بعد حين كان معارضا للمطلق لا مقدما عليه رأسا ، بل تلحظ قواعد المعارضة بينهما.

الثانية : ان يكون السائل من يجتمع مع الإمام عليه‌السلام كثيرا وسؤاله لمعرفة الحكم وتعلمه كمثل زرارة. ففي مثل هذا الفرض يمكن ان يقال ان العادة على عدم بيان تمام مرامه في مجلس واحد وكلام واحد بل في مجالس متعددة.

وعليه ، فلا يمكنه التمسك بإطلاق كلامه الأول ما لم يمض وقت البيان عادة ولم يرد القيد ، فإذا ورد القيد في الأثناء كان مقدما على الإطلاق جزما.

الثالثة : ان يكون السائل كذلك ، لكن القيد يأتي من المعصوم اللاحق ، وفي مثله لا يمكننا ان نقول بان العادة على تأخير البيان والاعتماد على الإمام اللاحق عليه‌السلام بحيث يظهر ذلك من حال الإمام السابق عليه‌السلام.

وعليه ، فيمكن التمسك بالإطلاق ويكون المقيد معارضا له كما في الصورة الأولى ، ولا يصح تقديمه عليه إلاّ إذا كان أظهر ، على إشكال ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى.

فظهر انه لا معنى للجزم بتقديم المقيد على المطلق رأسا ، حتى بناء على كون مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الواقعي ، لانعقاد الإطلاق إذا مضى وقت البيان ولم يرد القيد.

وسيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث الجمع بين المطلق والمقيد مزيد تحقيق وتوضيح. فانتظر.

٤٤١

في الشك في كون المتكلم في مقام البيان

ثم انه إذا أحرز كون المتكلم في مقام البيان فلا إشكال. ولو شك في كونه في مقام البيان فلدينا صورتان :

الأولى : ان لا يحرز انه في مقام البيان من أيّ جهة من الجهات ، بل يحتمل انه في مقام الإهمال من جميع الجهات.

الثانية : ان يحرز انه في مقام البيان من جهة ويشك في كونه في مقام البيان من جهة أخرى ، كما لو قال : « أكرم العالم » وأحرز انه في مقام البيان من جهة العدالة والفسق وشك فيه من جهة السيادة وعدمها.

اما الصورة الأولى : فلا إشكال في ان بناء العقلاء على حمل المتكلم على كونه في مقام البيان ، وحينئذ فيجوز التمسك بالإطلاق من جميع الجهات لعدم المرجح لإحداها على الأخرى.

واما الصورة الثانية : فظاهر الكفاية ثبوت البناء العقلائي على ان المتكلم في مقام البيان ، واستشهد على ذلك بالتمسك بالإطلاقات من دون فحص وإحراز لكون المتكلم في مقام البيان (١). وخالفه المحقق النائيني قدس‌سره فذهب إلى عدم الدليل على إثبات انه في مقام البيان من الجهة المشكوكة ، لارتفاع اللغوية بكونه في مقام البيان من الجهة الأخرى ـ كما هو الفرض ـ (٢).

أقول : استدلاله قدس‌سره بعدم اللغوية في غير محله ، إذ لم يكن البناء على ان المتكلم في مقام البيان من جهة صون كلامه عن اللغوية ، كيف؟ وقد التزم قدس‌سره بإمكان ورود الكلام في مقام التشريع لا أكثر.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٢٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٢

وتحقيق الحال : انه ان قلنا بان استفادة الإطلاق من مقدمات الحكمة أشكل الجزم بأحد الرأيين لعدم الطريق إلى تعيين الحق منهما ، وانّا إذا قلنا بان استفادة الإطلاق من ظهور ترتيب الحكم على الطبيعة في كونها تمام الموضوع ـ كما قرّبناه ـ فلا يعتبر إحراز كون المتكلم في مقام البيان ، وذلك لأن مقتضى أصالة الحقيقة هو إرادة المعنى الظاهر من الكلام ، ومقتضى حجية الظاهر مطابقة المراد الواقعي للظاهر ، ومقام الثبوت لمقام الإثبات.

وعليه ، فيكون الكلام دليلا على ثبوت الحكم للطبيعة بلا دخل الخصوصية ، وان شك في كون المتكلم في مقام البيان من جهتها ، لأن بناء العقلاء ـ بلا تشكيك ـ على العمل بظاهر الكلام بلا توقف وتردد ، وقد عرفت ان الظاهر هو ترتيب الحكم على ذات الطبيعة بلا دخل الخصوصية ، ومع الشك في إرادة الظاهر يرجع إلى أصالة الحقيقة كما هو الحال في كل مورد يشك في إرادة ظاهر الكلام منه.

نعم إذا أحرز انه ليس في مقام البيان من بعض الجهات ، وانه في مقام الإهمال من تلك الجهة ، لا يكون الظاهر حجة على مراده من تلك الجهة وهو واضح. فان بناء العقلاء على حجية الظاهر ما لم يحرز انه لا يقصد الكشف عن مراده الواقعي به.

فظهر ان ما اخترناه في بيان استفادة الإطلاق أمر عرفي خال عن بعض التكلفات ، كتكلف دعوى بناء العقلاء على إرادة المطلق لو لم ينصب قرينة على التقييد ، مع ان الإطلاق خصوصية زائدة كالتقييد ، وتكلف دعوى بناء العقلاء على كونه في مقام البيان ، مع الشك في جهة وإحراز انه كذلك من جهة أخرى.

ولكن ما ذكرناه انما ينفع في استفادة الإطلاق في موارد يؤخذ المعنى المقصود إثبات تعميمه لافراده في موضوع الحكم ، كي تتأتى دعوى ان أخذه في موضوع الحكم ظاهر في انه تمامه.

٤٤٣

واما لو لم يكن ذلك ، فلا ينفع ما ذكرناه ، كما في المثال المذكور في أجود التقريرات (١) ، وهو قوله تعالى : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ )(٢) حيث يشك في انه في مقام البيان من جهة نفي الحرمة الثابتة للميتة ، أو أعم منها ومن نفي الحرمة من جهة النجاسة باعتبار ملاقاة محل الإمساك. فان عدم الحرمة له فردان ، عدم الحرمة من جهة الميتة ، وعدم الحرمة من جهة النجاسة.

فإذا شك في ان المقصود بيانه هل هو عدم الحرمة من جهة الميتة أو الأعم ، لم ينفع البيان الّذي ذكرناه.

اما بالنسبة إلى إجرائه في نفس عدم الحرمة المدلول عليه بالهيئة ، فمضافا إلى انه معنى حرفي غير قابل للحاظ الاستقلالي ، انه لم يؤخذ في موضوع الحكم ، كي يقال بان ظاهر ترتيب الحكم عليه دخالته بنفسه من دون دخل خصوصية فيه ، بل لا معنى لذلك ، لأن مدلول الهيئة ليس مفهوم الحكم ، بل هو النسبة وهي معنى حرفي.

واما بالنسبة إلى إجرائه بالنسبة إلى الأكل بان يقال : ان الحكم ثابت لطبيعة الأكل ولم يقيد بما قبل الغسل وعدمه فيدل على ان ذات الأكل هو متعلق الحكم ، فلأنه لا يقتضي ان الحكم هو الأعم ، إذ نفي الحرمة من جهة الميتة ثابت للأكل قبل الغسل وبعده ، فإثبات إطلاق المتعلق أو الموضوع لا يلازم إثبات ان المنفي هي الحرمة من كلتا الجهتين.

وفي الحقيقة ان المورد ليس من موارد الإطلاق على جميع المسالك ، فانه لا معنى للالتزام بمقدمات الحكمة في إثبات الجواز الفعلي. لأنها ان لوحظت بالنسبة إلى مدلول الهيئة ، فقد عرفت ان مدلولها ليس مفهوم عدم الحرمة كي

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٢٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) سورة المائدة ، الآية : ٤.

٤٤٤

يتمسك بإطلاقه في إثبات كلا فرديه ـ أعني الجواز من جهة النجاسة ومن جهة الميتة. فيلازم الجواز الفعلي ، بل مدلولها النسبة الّذي لا يتصور فيها العموم ، مضافا إلى انه معنى حرفي ملحوظ آلة فلا تتم فيه مقدمات الحكمة.

وان لوحظت بالنسبة إلى المتعلق أو الموضوع ، فقد عرفت ان نفى الخصوصية لا يثبت الجواز من جميع الجهات فتدبر.

نعم لو كان الدليل متكفلا للجواز الفعلي تم ما ذكر ، لكنه هو محل الإشكال وهو موضوع النزاع. اذن فلا طريق لدينا إلى إثبات ان الآية تتكفل نفي الحرمة بالمعنى الأعم ، لا خصوص عدم الحرمة من جهة الميتة ، فتدبر ولا تغفل.

٤٤٥

الانصراف

ثم انه بعد ان تقدم من ان استفادة الإطلاق بمقدمات الحكمة أو بما ذكرناه ، يقع الكلام في مانعية الانصراف إلى بعض الافراد أو الأصناف عن التمسك بالإطلاق.

وقد ذكر صاحب الكفاية للانصراف افرادا ثلاثة :

الأول : الانصراف البدوي الزائل بالتأمّل ، ومثل له بانصراف لفظ الماء إلى ماء الفرات أو دجلة في الموضع القريب منهما.

الثاني : الانصراف الملازم لظهور اللفظ في المنصرف إليه.

الثالث : الانصراف الملازم لتيقن المنصرف إليه ، مع عدم كونه ظاهرا فيه بخصوصه.

وقد حكم بعدم مانعية الأول من الإطلاق ، ومانعية الأخيرين من التمسك فيه (١).

وقد أوقع المحقق النائيني الحديث عن الانصراف ، وذكر له صورا ثلاثة أيضا :

الأول : الانصراف البدوي وهو الناشئ عن غلبه خارجا.

الثاني : الانصراف الناشئ من التشكيك في الماهية بحسب متفاهم العرف ، بحيث يرى العرف خروج بعض الافراد عن كونه فردا للطبيعة ، كانصراف لفظ ما لا يؤكل لحمه عن الإنسان.

الثالث : الانصراف الناشئ من التشكيك في الماهية ، بحيث يشكك العرف

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٤٦

في مصداقية بعض الافراد ، كانصراف لفظ الماء إلى غير ماء الذاج والكبريت.

وقد ذكر ان القسم الأول لا مجال لتوهم مانعيته عن الإطلاق.

واما القسم الثاني فهو يمنع من التمسك بالإطلاق ، لأن المورد يكون من قبيل احتفاف الكلام بالقرينة المتصلة ، فلا ظهور الا في غير ما ينصرف عنه اللفظ.

وهكذا الحال في القسم الثالث ، فانه يمنع من الإطلاق ، لكون المطلق فيه يكون من قبيل احتفاف الكلام بما يصلح للقرينة (١).

أقول : حصره الانصراف غير البدوي بالناشئ عن التشكيك في غير محله ، إذ قد يتحقق الانصراف في غير موارد التشكيك ، كما قد يدعي انصراف قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(٢) إلى البيع الصادر من المالك لا مطلق البيع.

ثم ان جعله انصراف لفظ ما لا يؤكل لحمه عن الإنسان من موارد الانصراف الناشئ من التشكيك يمكن ان يكون من جهة القوة وان يكون من جهة الضعف ، بان يقال ان الإنسان باعتبار انه أقوى افراد الحيوان ورافعها انصرف عنه لفظه ، أو يقال ان الحيوانية العرفية فيه ضعيفة فينصرف عنه لفظ الحيوان إلى البهيمة.

وعلى كل فهذا ليس بمهم وانما المهم تحقيق الكلام فنقول : لا كلام فيما ذكره المحققان من عدم مانعية الانصراف البدوي ، لعدم إخلاله بما يعتبر في باب الظهور ، كما لا كلام فيما ذكراه من مانعية القسم الثاني من الإطلاق على أي مسلك من مسالكه ، لأن وجود ما يوجب تعيين بعض الافراد يتنافى مع استفادة الإطلاق على جميع مسالكه وهو واضح.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٣٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٥.

٤٤٧

واما مورد الانصراف لأجل التشكيك في صدق المفهوم على بعض الافراد ، فقد عرفت تعليل مانعيته في كلام المحقق النائيني بأنه يكون من قبيل الاحتفاف بما يصلح للقرينية.

وتحقيق صحة هذا المعنى يأتي في محله إن شاء الله تعالى. فالأولى تعليل المانعية بان الإطلاق إنما ينفع فيما إذا أحرز انطباق المعنى على المشكوك ثبوت الحكم له. فمع الشك فيه ـ يعني في الانطباق ـ لا ينفع الالتزام بان المراد هو المطلق ، إذ لا يتوصل إلى إثبات الحكم له مع الشك في كونه فردا للطبيعي.

ومن هنا يظهر ان مراد صاحب الكفاية في مانعية تيقن المنصرف إليه ان كان ما ذكرناه ، فيكون مراده تيقن الفردية دون غيره ، فهو تام لا إشكال فيه. وان كان من جهة وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، فيكون مراده تيقن الإرادة مع إحراز ان غيره فرد للطبيعة ، فقد عرفت الإشكال في مانعيته عن التمسك بالإطلاق فراجع.

ثم ان التعبير الوارد في تقريرات النائيني بان الانصراف ينشأ من رؤية العرف خروج بعض الافراد عن مصداقية الطبيعة (١) ، لا يخلو من تسامح ، إذ العرف مرجع في تعيين المفاهيم ، اما تشخيص المصاديق للمفهوم المحدود عرفا فلا يرجع إليه فيه. فلا بد ان يكون المراد ان العرف يرى ان مفهوم اللفظ بنحو لا ينطبق على هذا الفرد. فتدبر.

فصل

في المطلق والمقيد المتنافيين

إذا ورد المطلق وورد مقيد ينافيه ، فهل يقدم المقيد على المطلق أو لا؟.

وتحقيق المقام : ان الدليل المقيد على نحوين :

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٣٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٨

الأول : ما يكون متكفلا لحكم إرشادي من امر أو نهي ، فيكون الأمر فيه للإرشاد إلى جزئية أو شرطية ، متعلقة لموضوع الحكم ، والنهي فيه للإرشاد إلى مانعيته ، نظير الأوامر الواردة في باب المركبات الاعتبارية ، فانها ظاهرة في الإرشاد إلى أخذ متعلقها في المركب.

الثاني : ما يكون متكفلا لحكم مولوي متعلق بالمقيد.

ولا إشكال في تقديم المقيد ـ إذا كان بالنحو الأول ـ على المطلق ، فإذا ورد دليل يأمر بالصلاة بقول مطلق ، وورد دليل يأمر بها مع الركوع ، وكان ظاهرا في الإرشاد إلى جزئية الركوع ، قدم المقيد بلا كلام. وسنشير إلى وجه تقديمه.

وعلى كل ، فليس هذا النحو محل الكلام فيما نحن فيه ، وانها محل الكلام هو النحو الثاني ، كما إذا قال : « أكرم العالم » ثم قال : « يحرم إكرام العالم الفاسق » أو : « يجب إكرام العالم العادل ». فقد وقع الكلام في تقديم المقيد على المطلق وفي وجه تقديمه.

وعليه ، فما يظهر من أجود التقريرات من ابتناء التقديم وعدمه على النحوين في كيفية المقيد ، بمعنى انه ان كان ظاهرا في الإرشاد يقدم. وان كان ظاهرا في المولوية لا يقدم (١).

غير صحيح ، إذ محل الكلام في التقديم وعدمه ، وفي مسألة حمل المطلق علي المقيد هو : ما إذا كان المقيد واردا بالنحو الثاني فالتفت.

وعلى كل ، فقد تعرض المحقق النائيني قدس‌سره قبل الدخول في أصل البحث إلى أمر ذكره كمقدمة للبحث وتوطئة لتوضيح الحال فيه.

وهو : ان ظهور القرينة يتقدم على ظهور ذي القرينة من دون ملاحظة أيهما الأقوى.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٩

ولذا يقدم ظهور : « يرمي » في رمي النبل على ظهور : « الأسد » في الحيوان الخاصّ في قول القائل : « جاء أسد يرمي » ، مع ان ظهور يرمي انصرافي ، وظهور أسد وضعي ، وهو أقوى من الانصرافي.

ووجّهه بان الشك في إرادة ما يظهر فيه ذو القرينة مسبب عن الشك في إرادة ما تظهر فيه القرينة ، فالأخذ بظاهر القرينة يستلزم رفع الشك في المراد بذي القرينة وحمله على خلاف ظاهره الأوّلي ، لأن مؤدى القرينة بنفسها يرجع إلى تشخيص المراد بذي القرينة وتعيينه ، وليس الأمر كذلك بالعكس ، فان الأخذ بظاهر ذي القرينة لا يستلزم تعيين المراد من القرينة إلاّ بالملازمة العقلية ـ بلحاظ التنافي بين الظهورين ـ ، والأصل اللفظي وان كان حجة في اللازم. العقلي لمجراه ، لكنه انما يثبت به اللازم العقلي على تقدير جريانه في نفسه ، وأصالة الظهور في ذي القرينة لا تجري الا على وجه دائر ، لأن جريانها فيه يتوقف على عدم جريان أصالة الظهور في القرينة ـ إذ جريانها في القرينة يلغي الشك في ذي القرينة فلا مجال للأصل فيه ـ ، فلو كان عدم جريان أصالة الظهور في ناحية القرينة مستندا إلى جريانه في ذي القرينة لزم الدور.

وبهذا البيان يلتزم بتقدم الأصل الحاكم على الأصل المحكوم.

ولا يختلف الحال فيما ذكر بين القرينة المتصلة أو المنفصلة ، وان كان هناك فرق بينهما من ناحية أخرى ، وهي : ان القرينة المتصلة تصادم أصل الظهور التصديقي لذي القرينة ، المعبر عنه بالمراد الاستعمالي فتوجب التصرف فيه.

واما القرينة المنفصلة ، فهي تصادم كاشفية الظهور التصديقي لذي القرينة عن المراد الواقعي فتوجب التصرف في حجيته وكاشفيته لا فيه نفسه (١).

هذا ما أفاده قدس‌سره ، وقد ذكره مقدمة لبيان ان تقديم المقيد على

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٠

المطلق من جهة قرينية المقيد.

وهذا البيان منه لا يخلو من مناقشات من جهات عديدة.

الأولى : ما يظهر منه قدس‌سره من فرض ظهورين للقرينة ولذي القرينة ، يقع التصادم بينهما ويقدم أحدهما للحكومة بالوجه الّذي عرفته.

فان ذلك غير سديد ، فانه ليس لدينا في موارد القرينة المتصلة الا ظهور واحد ينعقد للكلام رأسا بلا ملاحظة ما ذكره من جهة التصادم والتقديم.

اما في مثل موارد التقييد مثل : « أكرم العالم العادل » فواضح ، بداهة عدم وجود ظهورين متصادمين يدور الأمر بين تقديم هذا أو ذاك منهما ، لعدم تصادم الظهور الأولي للعالم مع الظهور الأولي للعادل ، ولذا لا ينتقل السامع من الكلام رأسا إلا إلى الحصة الخاصة ، ويرى ان للكلام ظهورا واحدا منعقدا فيها وليس هناك أي تصادم بين ظهورين.

واما في مثل موارد المجاز نحو : « جاء أسد يرمي » فكذلك ، فان السامع ينتقل ذهنه رأسا إلى معنى واحد وهو الشجاع ، بحيث يرى الكلام ظاهرا فيه رأسا بلا ان يرى تصادما ويعمل ترجيحا لأحد الظهورين على الآخر.

ولعل السرّ فيه ، هو : انه وان كان للفظ : « أسد » ظهور طبعي لا يتلاءم مع ظهور لفظ : « يرمي » ، لكن الملحوظ في مقام التصادم ليس الظهور الطبعي للفظين ، إذ الظهور الطبعي لأي لفظ ثابت فيه ولو مع الجزم بإرادة خلافه ، كما انه ليس موضوعا لأي أثر وبناء عقلائي ، وانما التصادم ـ على تقدير وجوده ـ يكون بين الظهورين التصديقيين ، بمعنى يقع التصادم بين بناء العقلاء على إرادة كلا الظهورين الفعليين. ولكنه فيما نحن فيه غير ثابت ، إذ لا يتحقق بناء العقلاء على إرادة ظاهر أي لفظ ما لم يتم كلام المتكلم ، لأن موضوعه هو الظهور الفعلي لا الظهور الطبعي ، وهو لا ينعقد قبل تمامية الكلام ، فقبل ورود القرينة لا بناء للعقلاء على إرادة ظهور ذي القرينة ، وبعد ورودها في الكلام لا يكون للكلام

٤٥١

الا ظهور واحد يتناسب مع القرينة ، وهو موضوع بناء العقلاء ، فأين هو التصادم بين الظهورين ، وأين دوران الأمر بين تقديم هذا أو ذاك؟. بل ليس للكلام بملاحظة مجموعه إلا ظهور واحد يكون موضوعا لبناء العقلاء.

وبالجملة : الظهور الذاتي ليس موضوعا لبناء العقلاء كي يقع التصادم والدوران بين ترجيح ظهور القرينة وظهور ذيها ، بل هو الظهور الفعلي ، وهو ليس إلاّ ظهور واحد بملاحظة مجموع الكلام.

ومما يشهد لما ذكرنا من وحدة الظهور الفعلي هو : انه لو صدر الكلام من الغافل كالنائم ، ينتقل الذهن إلى المعنى المجازي.

وهذا يكشف عن ان ظهور اللفظ في المعنى المجازي أجنبي عن مسألة ترجيح الظهورين ، إذ لا مجال لاعمال قواعد الترجيح في الفرض لغفلة المتكلم.

وبعبارة أخرى مختصرة نقول : ان حديث ترجيح أحد الظهورين لا ربط له كلية بانعقاد ظهور الكلام في المعنى ، إذ لا ربط للبرهان العقلي في تشكيل ظهور اللفظ وحكايته عن المعنى فعلا الّذي هو موضوع أصالة الحقيقة.

وبهذا يندفع ما قد يتخيل من : ان مقصود القائل هو تصادم الظهورين.

الاقتضائيين في مقام انعقاد الظهور الفعلي ، إذ الظهور الاقتضائي يصير فعليا ما لم تقم قرينة على خلافه ، فيحصل التدافع بين ظهور القرينة وذيها.

وجه الاندفاع : ان حديث انعقاد الظهور لا يرتبط بالبرهان العقلي المزبور. فالتفت.

الثانية : ما ذكره من تطبيق الوجه العقلي في تقديم الحاكم على المحكوم على مورد القرينة ، وبيان ان تقدمها بهذا الوجه.

وهذا الوجه مأخوذ من الشيخ (١). ونقحه المحقق الخراسانيّ (٢).

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٣٢ ـ الطبعة الحجرية.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥٦ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٢

وهو ـ مع غض النّظر عن صحته وعدمها في نفسه ، فان لذلك مجالا آخر ـ لا ينطبق على ما نحن فيه.

وذلك لأنه انما يتأتى في الحاكم بلحاظ انه ينظر إلى موضوع المحكوم نفيا أو إثباتا ، وفيما نحن فيه ليس كذلك ، لأن القرينة وان رفعت الشك في ذي القرينة ، لكن ذلك بلحاظ نظرها إلى المراد بذي القرينة لا بلحاظ ان مدلولها إلغاء الشك فيه ـ كما هو الحال في مثال الأمارة مع الأصل بناء على الحكومة ـ.

وعليه ، فيتوجه عليه الإشكال الّذي ذكره هو وهو : ان الالتزام بظاهر ذي القرينة يوجب التصرف بظاهر القرينة بالملازمة. وتفصّيه عنه بما عرفت في غير محله ، إذ لا وجه لفصل المدلول الالتزامي عن المدلول المطابقي ، بحيث يلزم ان يجري الأصل بلحاظ أثر المدلول المطابقي أولا ثم يثبت المدلول الالتزامي ، بل يصح جريان الأصل بلحاظ المدلول الالتزامي رأسا ، وعليه فيلزم التحاكم من الطرفين ، فيقال أيضا : ان أصالة الظهور في القرينة تتوقف على عدم جريانها في ذي القرينة ـ لاستلزام جريانها فيه التصرف في ظهور القرينة ـ ، فلو توقف عدم جريانها في ذي القرينة على جريانها فيها لزم الدور.

الثالثة : ما ذكره من الفرق بين القرينة المتصلة والمنفصلة ، في ان الأولى تتصادم مع أصل الظهور التصديقي. والثانية تتصادم مع كاشفيته وحجيته.

فانه مشكل من وجهين :

الأول : انه لا يتلاءم مع ما يذكره ويلتزم به من ان مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الواقعي ، بحيث لو ورد المقيد كشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان من جهة القيد ، فانه يستلزم كون المقيد المنفصل مخلا بالظهور الإطلاقي نفسه ، فكيف يقول : ان القرينة المنفصلة لا تصادم نفس الظهور؟ فما ذكره لا يتم في موضوع البحث على مسلكه قدس‌سره.

الثاني : ان هذا لا يلتزم به في موارد الأظهر والظاهر المؤديين لحكمين في

٤٥٣

موضوع واحد ، كما لو قال : « أكرم زيدا » ثم قال : « يجوز ذلك ترك إكرامه » ، فانه يلتزم بحمل الأمر على الاستحباب وصرفه عن الوجوب ومن الواضح ان ما يلتزم به هو التصرف في المراد الاستعمالي لا خصوص المراد الجدي ، فلا يلتزم بان المستعمل فيه الصيغة هو الوجوب ، لكن المراد الواقعي هو الاستحباب لأن ذلك مستهجن لأهل المحاورة.

ثم انه قدس‌سره بعد ان ذكر : ان أساس حمل المطلق على المقيد على ثبوت التنافي بينهما وهو يتوقف على استفادة وحدة التكليف ـ في المتوافقين ـ التزم بتقديم المقيد للقرينية.

ولنا معه كلام في جهتين :

إحداهما : التزامه بان حمل المطلق على المقيد للقرينية.

وثانيتهما : التزامه بان وحدة التكليف تستفاد من نفس الدليلين لا من الخارج.

وهو في كلتا الجهتين يختلف مع صاحب الكفاية لأنه التزم بان حمل المطلق على المقيد للأقوائية ، كما التزم بان وحدة التكليف تستفاد من الخارج.

وعلى كل فما ذكره المحقق النائيني في كلتا جهتيه لا يمكننا الالتزام به.

اما تقديم المقيد على المطلق بملاك انه قرينة ، فلان الملاك في تقديم القرينة على ذي القرينة هو نظر القرينة إلى مدلول ذي القرينة وتصرفها فيه ، إذ من الواضح ان الدليل الّذي يكون ناظرا يتقدم على ما ينظر إليه بحسب بناء العقلاء بلا نظر إلى قوة مدلوله أو غير ذلك ، بل لا يعد منافيا للدليل الآخر ، وانما يستفيد العرف من المجموع حكما واحدا ، ولا فرق في النّظر بين ان يكون بمدلوله المطابقي ، كما إذا قال : « أكرم العالم » ثم قال : « أعني به العالم العادل » ، أو كان بالملازمة العقلية كدلالة الاقتضاء نظير : « لا شك لكثير الشك » بالنسبة إلى أدلة أحكام الشك ، فانه لو لا نظره إليها كان لغوا ، إذ نفي الشك أو إثباته لا

٤٥٤

أثر له إذا لم يكن بلحاظ ما للشك من آثار.

وبهذا الملاك يتقدم الدليل الحاكم على المحكوم ، لأنه يتكفل بمدلوله النّظر إلى مدلول الدليل الآخر.

وبالجملة : كل دليل يكون ناظرا إلى الآخر ومتكفلا لبيان المراد منه يتقدم عليه عرفا وبحكم بناء العقلاء ، ولا معنى للتوقف في مراد المتكلم بعد تصريحه بان مرادي كذا. فالملاك في الحقيقة هو النّظر إلى الدليل الآخر.

وبذلك يلتزم بتقديم المقيد إذا كان يتكفل الأمر الإرشادي ، لأنه ناظر إلى المطلق ومبين للمراد منه فيكون حاكما عليه.

وإذا ظهر هذا الأمر وعرفت ان ملاك التقديم ليس عنوان القرينية ، بل نظر أحد الدليلين إلى الآخر ، فلا وجه للالتزام بتقديم المقيد على المطلق فيما نحن فيه بملاك القرينية ، إذ لا ظهور للدليل المقيد في كونه ناظرا إلى الدليل المطلق ، بل هو دليل مستقل يتكفل حكما مولويا على موضوع خاص كان هناك غيره أولا ، فأيّ نظر لدليل : « يحرم إكرام النحوي » إلى دليل : « أكرم العالم » ، كما لا نظر لدليل : « أكرم العالم العادل » إلى دليل : « أكرم العالم » ، ودليل : « أعتق رقبة مؤمنة » إلى دليل : « أعتق رقبة » ، ولم لا يلتزم بالعكس؟.

ثم انه لو كان المقيد قرينة على المطلق فلم لا يلتزم بالتقييد في المطلقات الشمولية ، وأيّ فرق بينها وبين المطلقات البدلية؟ كما لا حاجة إلى سرد البيان الطويل مقدمة لبيان تقديم المقيد على المطلق. فالتفت ولا تغفل.

فيتحصّل : ان ملاك تقديم المقيد على المطلق ليس هو القرينية ، بل هو أمر آخر نحققه فيما بعد إن شاء الله تعالى.

واما ان وحدة التكليف تستفاد من نفس الدليلين ، فقد قرّبه ـ كما في أجود التقريرات ـ بان الأمر بالمطلق بما انه يتعلق بصرف الوجود ، فهو ينحل إلى حكمين ، حكم بالإلزام بنفس الطبيعة. وحكم بالترخيص في تطبيق الطبيعة على

٤٥٥

كل فرد من افرادها. ومن الواضح ان الأمر بالمقيد يقتضي تعيين المقيد ، فيتنافى مع الحكم الترخيصي في المطلق الراجع إلى ترخيص المكلف في الإتيان بأيّ فرد من افراد الطبيعة ، لاستلزامه توارد النفي والإثبات على مورد واحد ، وهي الامتثال بغير المقيد ، فالإطلاق يجوّزه والمقيد ينفيه ، فلا يمكن الالتزام بحكمين ، بل بحكم واحد متعلق بالمقيد أو بالمطلق (١).

وهذا الوجه لا ينهض لإثبات غرضه ، فانه واضح الإشكال.

وذلك لأن ما ذكره من منافاة وجوب المقيد مع ترخيص تطبيق الطبيعة على أي فرد من افرادها لا يثبت وحدة التكليف ، بل هو متفرع على ثبوت وحدته ، فانه إذا ثبت ان التكليف واحد امتنع ترخيص الشارع في امتثاله بالإتيان بأيّ فرد كان وإلزامه بالمقيد.

واما إذا كان التكليف متعددا فترخيص الشارع في امتثال أحد التكليفين بأي فرد من افراد الطبيعة لا يتنافى مع إلزامه في امتثال الآخر بالإتيان بفرد معين ، لعدم توارد النفي والإثبات على موضوع واحد بل موضوعين.

فجعل هذا البيان طريقا لإثبات وحدة التكليف ، مع انه متفرع عليه ، عجيب منه قدس‌سره.

هذا مع ما تقدم منا في مبحث كراهة العبادة ، من منع ثبوت حكم آخر للمولى يتكفل الترخيص في تطبيق الطبيعة على جميع افرادها ، وان التزم به قدس‌سره ورتب عليه أثر في ذلك المبحث. فراجع (٢).

وقد يدعي في مقام بيان طريقية التنافي المذكور لإثبات وحدة التكليف ، بان التكليف إذا كان متعددا ، فمقتضى الدليل المطلق وفاء المقيد بملاك التكليف

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٣٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣١٦ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٦

المتعلق بالمطلق ، إذ هو لازم الإطلاق ، فيكون المقيد وافيا بكلا الملاكين ، وعليه فمع لزوم الإتيان به بمقتضى الدليل الآخر ، لا يبقى مجال لبقاء المطلق على إطلاقه ، إذ الإلزام بالمقيد يتنافى مع الترخيص في الإتيان بغيره ، فلا بد من صرف الأمر المطلق إلى خصوص الخالي عن القيد ، ولكن بنحو التخيير ، بمعنى لزوم الإتيان به على تقدير عدم الإتيان بالمقيد ، وهذا المعنى تعسف يحتاج إلى مئونة زائدة ، فتعدد التكليف يلازم ما فيه تعسف.

ويرد هذا التوجيه بوجوه :

الأول : ما عرفته من عدم ثبوت حكم آخر للمولى يتكفل الترخيص ، بل لا حكم له إلاّ بلزوم الطبيعة من دون دخل خصوصية فيها.

الثاني : ان الترخيص في التطبيق ليس ترخيصا فعليا كي يتنافى مع الإلزام بالمقيد ، بل هو ترخيص طبعي ، بمعنى انه ترخيص في تطبيق الطبيعة على غير المقيد من جهة امتثال الأمر بالطبيعة ، فلا ينافيه إلزامه بالمقيد من جهة أخرى.

والثالث : انه لا مانع من الالتزام بلازمه من الوجوب التخييري ، وليس هو تكلفا زائدا بعد كونه مقتضى الدليل ، فإذا فرض ان مقتضى تعدد التكليف ـ الّذي هو ظاهر الدليلين ـ ذلك فيلتزم به ، كجميع موارد دلالة الاقتضاء ، فهو نظير الالتزام بالترتب.

والنتيجة : فما ذكره المحقق النائيني من ان استفادة وحدة التكليف من نفس الدليلين ، لا يمكننا الالتزام به ، فالصحيح ما أشار إليه صاحب الكفاية من انها تستفاد من دليل خارجي كإجماع ونحوه (١).

ثم انه لا يخفى انه لا يترتب على تحقيق هذا الأمر مزيد أثر عملي ، إذ ليس تشخيص موارد وحدة التكليف مما ـ لو لم تكن من نفس الدليل ـ يحتاج

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٥٧

إلى مئونة زائدة في الفحص والسبر ، كي يكون إثبات ان وحدة التكليف تستفاد من نفس الدليلين مما يوفر علينا هذه المئونة ، بل هو امر معلوم في غالب الموارد الا ما شذّ وندر ، كيف؟ والكثير من المطلقات والمقيدات واردة في موارد بيان الشروط والاجزاء (١) ، فانه يعلم وحدة الشرط أو الجزء ويدور امره بين المطلق والمقيد ، ولا يحتمل تعدد الجزء أو الشرط. ثم انه قدس‌سره ذكر في مقدمة استفادة وحدة التكليف امرين :

إحداهما : لزوم كون الحكمين مطلقين أو معلقين على أمر واحد ، وقد تعرض فيه إلى ما إذا كان أحد الحكمين مقيدا دون الآخر ، وانه هل يحمل المطلق على المقيد أو لا؟

وما ذكره في هذا الأمر قدس‌سره أولا في محله ، فان محل البحث فعلا والقدر المتيقن منه ما إذا اختلف المتعلقان بالإطلاق والتقييد. واما صورة اختلاف الحكمين في ذلك ، فيقع الكلام فيه بعد ذلك ، فتعرضه إليه سابقا إخراج عن الأسلوب الصناعي.

وثانيهما : كون الحكمين إلزاميين ، فلو كان الحكم المقيد استحبابيا لم يحمل عليه المطلق. وقد تعرض لذلك في ضمن تنبيهات المبحث وهو أنسب ، إذ لا بد من معرفة ملاك حمل المطلق على المقيد أولا ، ثم معرفة جريانه في المستحبات ، أو انه يختص بالواجبات. فتقديم التعرض إلى نفي حمل المطلق على المقيد في المستحبات خارج عن أسلوب البحث الصناعي أيضا. والأمر سهل.

__________________

(١) لا يتوهم : ان هذا خارج عن موضوع البحث ، لأن أوامر الشروط إرشادية ، وذلك لأن ما هو خارج عن موضوع البحث ما إذا كان المقيد إرشادا إلى أخذ القيد في المطلق. وليس الحال كذلك في الفرض ، بل كل من المطلق والمقيد يتكفلان الإرشاد إلى أخذ متعلقهما في متعلق الوجوب. فيقع التنافي بينهما.

وليس المقيد إرشاد إلى أخذ القيد في متعلق الدليل المطلق ، كي يكون خارجا عن موضوع البحث ، فمثلا ليس ما يدل على وجوب سورة التوحيد ناظرا إلى ما يدل على وجوب مطلق السورة ، بل هو

٤٥٨

ثم انه قدس‌سره في مقام بيان حمل المطلق على المقيد ، ذكر ان الأمر يدور بين احتمالات ثلاثة ـ على تقدير عدم التقييد ـ :

أحدها : حمل المقيد على الاستحباب ، وهو يتنافى مع ظهور الصيغة في الوجوب.

ثانيها : حمله على انه واجب في واجب ، وهو يتنافى مع ظهور كون الموضوع هو المجموع لا خصوص القيد ، مع ان ذلك نادر جدا.

ثالثها : حمله على انه واجب مستقل ، وهو يتنافى مع ظهور الدليلين في وحدة التكليف. فيتعين التقييد للقرينية.

ولا يخفى انه قدس‌سره وان أطال في بيان ذلك ، لكنه لا يختلف عن صاحب الكفاية الا في الأمرين اللذين عرفتهما ـ أعني : التقديم بالقرينية. وكون وحدة التكليف مستفادة من نفس الدليلين ـ. فالتفت والأمر هيّن. هذا كله فيما يرتبط بما أفاده المحقق النائيني ، فقد عرفت الخدشة فيه بجهاته.

واما صاحب الكفاية ، فقد ذكر في وجه الجمع وحمل المطلق على المقيد ـ بعد ان تعرض لما قيل من ان في الحمل جمعا بين الدليلين ، وللإيراد عليه : بان في حمل المقيد على الاستحباب جمعا بينهما أيضا ، ولما استشكل في الإيراد من ان التقييد ليس تصرفا في المطلق بخلاف الحمل على الاستصحاب ولإيراده على هذا الإشكال بان التقييد تصرف في المطلق لانعقاد ظهوره ـ ذكر بعد كل هذا مفصلا ، بان الأمر يدور بين ظهور الصيغة ـ في الدليل المقيد ـ في الإيجاب التعييني ، وظهور المطلق في الإطلاق ، لأن الإطلاق يتنافى مع تعيين وجوب المقيد ، بل يتلاءم مع التخيير بينه وبين غيره ، بما ان ظهور الصيغة في الإيجاب التعييني

__________________

ـ ناظر رأسا إلى دليل وجوب الصلاة ، كنفس ما يدل على وجوب مطلق السورة ، فيتصادمان في مقام تقييد الصلاة. فالتفت ولا تغفل ( منه عفي عنه ).

٤٥٩

أقوى من ظهور المطلق في الإطلاق يقدم عليه (١).

وفيه :

أولا : ان ظهور الصيغة في الوجوب التعييني ليس ظهورا وضعيا ، بل هو ظهور إطلاقي أيضا ، كما مرّ تقريبه فيما سبق ، فقد تقدم ان الوجوب التعييني مقتضى الإطلاق.

وعليه ، فيدور الأمر بين الإطلاقين ولا ترجيح لأحدهما على الآخر ، وما هو الوجه في أقوائية أحدهما على غيره.

وثانيا : ان هذا الوجه لو تم فهو يقرب حمل المطلق على المقيد في المتوافقين.

اما في المختلفين سلبا وإيجابا فلا يتأتى هذا الوجه ، وموضوع هذا الوجه وان كان هو المتوافقين إلاّ انه كان ينبغي عليه ان يتعرض لما به يقدم المقيد على المطلق في جميع الموارد. فالتفت.

والّذي يتعين ان يقال في المقام هو : ان المقيد إذا كان واردا قبل انتهاء زمان البيان كان مقدما على المطلق ، كما لو كان من عادة المتكلم بيان مرامه الواقعي في زمان محدود ، فورد المقيد قبل انتهائه ، وإذا كان واردا بعد انتهاء زمان البيان كان معارضا للمطلق.

اما تقديمه على المطلق لو كان واردا قبل انتهاء وقت البيان ، فبيان وجهه :

انك عرفت ان في الإطلاق مسالك ثلاثة :

الأول : ما سلكه الشيخ رحمه‌الله من إجراء مقدمات الحكمة في المراد الواقعي بحيث يكون ورود المقيد مخلا بالإطلاق (٢).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٢١٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٦٠