منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

الشمولي على البدلي ـ محلا للكلام ، ويتعرض له مسهبا في مبحث التعادل والترجيح ، كما يشار إليه في مبحث دوران الأمر بين تقييد المادة وتقييد الهيئة ، وقد استشكل في تقديم المطلق الشمولي على البدلي ، لكن تقدم منا تصحيح ما أفاده المحقق النائيني فراجع تعرف.

الأمر الرابع : ما ذكره في تحقيق ان التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ، ببيان : ان الوجود والعدم تارة يلحظان بالإضافة إلى نفس الطبيعة والماهية ، فيكونان متناقضين فلا يمكن اجتماعهما كما لا يمكن ارتفاعهما. وأخرى يلحظ العدم بالإضافة إلى ما يقبل الاتصاف بالوجود فيكون الملحوظ هو العدم الخاصّ وهو العدم الناعتي ، ففي مثل ذلك يكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة ، فعدم الملكة هو العدم فيما يقبل الاتصاف بالوجود ، كالتقابل بين البصر والعمى فان العمى هو عدم البصر في مورد يقبل الاتصاف بالبصر ، ولذا لا يقال للجدار انه أعمى ، والمتقابلان تقابل العدم والملكة يرتفعان عن المورد غير القابل للاتصاف.

وعليه ، فنقول : ان الإطلاق عبارة عن عدم التقييد في مورد يقبل التقييد فيكونان من موارد العدم والملكة ، والوجه في ذلك هو ان الإطلاق عبارة عن تسرية الحكم لمورد القيد وغيره ، في قبال التقييد الّذي هو عبارة عن اختصاص الحكم بمورد القيد ، فلا بد من كون المطلق مقسما للمقيد وغيره ، وإذا لم يكن مقسما لها امتنع الإطلاق ، إذ لا معنى لتسرية الحكم لمورد القيد وغيره بعد ان لم يكن مورد القيد من اقسامه ، وعليه ففي كل مورد يمتنع فيه التقييد يمتنع فيه الإطلاق ، ولذا لا يصح الالتزام بإطلاق متعلق الوجوب في إثبات انه توصلي لامتناع تقييده بقصد القربة.

ثم ردّ على الشيخ في التزامه بالإطلاق في هذا المورد بعد التزامه بامتناع التقييد ، وفي التزامه بالإطلاق في إثبات عموم الحكم للعالم به والجاهل لامتناع

٤٢١

تقييده بالعلم به ، والتزامه به في إثبات عموم الوجوب الغيري لمطلق المقدمة وعدم اختصاصه بالموصلة لامتناع تقييده بالإيصال.

فانه التزام بالإطلاق في مورد يمتنع فيه التقييد. وقد عرفت امتناع الإطلاق مع امتناع التقييد (١).

أقول : هذا التحقيق منه قدس‌سره لا يخلو عن إشكال ، وذلك : لأن المراد من كون المطلق هو المقسم للمقيد وغيره اما ان يكون ما هو ظاهر عبارته من انه اللابشرط المقسمي ، وان معنى المطلق هو اللابشرط المقسمي فيتوجه عليه :

أولا : ان كون موضوع الحكم هو اللابشرط المقسمي التزام بكون موضوع الحكم امرا مهملا ، لإهمال اللابشرط المقسمي وتردده ـ كما عرفت ـ بين أنواع ثلاثة ، وقد صرح قدس‌سره مرارا بامتناع الإهمال في مقام الثبوت ، فلا بد من كون الموضوع معينا ويمتنع كونه مهملا (٢).

وثانيا : ان اللابشرط المقسمي يجتمع مع التقييد الّذي هو البشرطشيء ، لأنه الجامع بينه وبين اللابشرط القسمي والبشرطلا ، فكيف يجعل مقابلا للبشرط شيء بنحو العدم والملكة. فهذا الاحتمال باطل جدا وبوضوح.

واما ان يريد به اللابشرط القسمي ، وهو يتوقف على كون الذات قابلة في نفسها للتقييد ، فان عدم التقييد في المورد غير القابل للتقييد لا يكون لا بشرط قسمي ، إذ معنى كونه قسما ثبوت قسم آخر وهو التقييد وهو ممتنع على الفرض ، فمع امتناع التقييد يمتنع الإطلاق بمعنى اللابشرط القسمي.

أو فقل : انه مع امتناع الحكم على الحصة المقيدة يمتنع الحكم على غير

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٢٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٦٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٢

المقيد ، لفرض وجود الجامع في ضمنه ، فالحكم عليه حكم على الجامع ، والمفروض امتناع الحكم على الجامع.

وهذا الوجه ليس بطلانه من الوضوح كالوجه السابق ، لكنه غير صحيح أيضا ، وذلك لأنه يرد على البيان الثاني : ان امتناع الحكم على بعض حصص الجامع لا ينافي ثبوته لغيره من حصصه ، فمثلا لو امتنع الحكم على عمرو وامتنع كونه فردا فعلا للإنسان لزم امتناع الحكم على زيد وغيره ، لوجود الطبيعي في ضمنه ، ولا يلتزم بذلك أحد. وعليه فامتناع الحكم على البشرطشيء القسمي ، وهو المقيد ، لا يلازم امتناع الحكم على اللابشرط القسمي.

وعلى البيان الأول : ان المأخوذ في الجامع والمقسم وتعدد الأقسام ليس الانطباق الفعلي كي يكون امتناع أحد الافراد موجبا لانتفاء فردية الأخرى وكونها قسما من الجامع ، بل الملحوظ هو الانطباق الشأني وقابلية الصدق ، وهي متحققة ولو امتنع الحكم فعلا على الفرد المعين.

والنتيجة : ان ما أفاده في تقريب بيان كون التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة لا يمكن الالتزام به.

والتحقيق : ما ذكرناه سابقا في مبحث التعبدي والتوصلي من : ان امتناع التقييد تارة يلازم امتناع الإطلاق ، وهو ما إذا امتنع الحكم على الخاصّ. وأخرى يلازم ضرورة الإطلاق ، وهو ما إذا كان الممتنع تخصيص الحكم بالفرد الخاصّ. فالتقابل تارة يكون من تقابل العدم والملكة. وأخرى من تقابل السلب والإيجاب فراجع ما تقدم تعرف حقيقة المطلب.

الأمر الخامس : ما ذكره من خروج الاعلام الشخصية عن محل الكلام ـ وهو ان الإطلاق بالوضع أو بمقدمات الحكمة ـ ، لعدم الإطلاق فيها الا من جهة الحالات ولا يحتمل الوضع فيها من هذه الجهة ، وخروج الهيئات التركيبية

٤٢٣

أيضا بناء على عدم ثبوت الوضع المستقل لها ، وإلاّ كانت داخلة في البحث كأسماء الأجناس (١).

أقول : ما ذكره من وقوع البحث في الهيئة التركيبية بناء على ثبوت الوضع المستقل لها غير وجيه ، وذلك لأن البحث في ثبوت الإطلاق وعدمه انما هو بلحاظ الأثر الشرعي المترتب ، سواء كان الإطلاق في موضوع الحكم أم في متعلقه ، اما مع عدم الأثر الشرعي فإثبات الإطلاق والبحث فيه بلا محصل. وعليه فنقول : انه بناء على كون الهيئة التركيبية موضوعة لمجموع المعنى المستفاد من المفاهيم الإفرادية من هيئة أو مادة ، فلا أثر يترتب على إطلاق الهيئة التركيبية ، وذلك لأن الأثر انما يترتب بلحاظ مقام تعلق الحكم ، سواء كان الشيء متعلقا أو موضوعا ، ومن الواضح ان المفهوم التركيبي لا يكون في حال من الحالات موضوعا للحكم أو متعلقا له ، فمثلا المفهوم التركيبي لقول الآمر : « صلّ » ، نتيجة هو وجوب الصلاة ، ووجوب الصلاة بنحو المجموع لا يكون موردا للحكم ، كيف؟ وهو نتيجة تعلق الحكم بشيء وينتزع عن ثبوت الحكم فالبحث في إطلاقه لا محصل له ، نعم نفس الوجوب يصح فيه البحث عن الإطلاق ، وهكذا نفس الصلاة ، ولكن كل منهما مفهوم افرادي.

وخلاصة الحديث : ان ما ذكره في هذه المقدمات غير متين في أغلبه. فلاحظ.

ثم ان صاحب الكفاية قدس‌سره بعد ما أنهى الكلام عن الألفاظ المطلقة تعرض إلى أمر وهو : الّذي أفاده بقوله : « إذا عرفت ذلك ... » (٢). وما ذكره لا يخلو عن غموض وخلط ، ولتوضيحه لا بد من التكلم في جهتين :

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٢١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٢٤

الجهة الأولى : انه قد عرفت وقوع البحث في الموضوع له اسم الجنس ، وانه هل هو الطبيعة المهملة ، أو انه الطبيعة المقيدة بالإرسال بنحو البشرطشيء أو اللابشرط القسمي؟ وقد عرفت ان الإنصاف يقتضي وضعها لذات الماهية الموجودة في جميع التعينات والاعتبارات ، لشهادة الوجدان والارتكاز العرفي.

وقد أضاف المحقق النائيني إلى ذلك وجها آخر وهو : ان الحكمة تقضي بالوضع للماهية المهملة ، لأن حكمة الوضع هي التفهيم والتفهم ، وبما ان الماهية المهملة كثيرا ما تقع مورد التفهيم فلا بد ان يكون قد وضع لها ما يدل عليها ، وليس لدينا لفظ سوى اسم الجنس (١).

وهذا وجه خطابي لا بأس به والعمدة ما ذكرناه.

ويترتب على البحث في هذه الجهة ثمرتان :

الأولى : انه بناء على الوضع للماهية المهملة لا يكون التقييد مستلزما للتجوز إذا كان بنحو تعدد الدّال والمدلول ، وذلك لاستعمال اسم الجنس في معناه الموضوع له ، والخصوصية استفيدت من القيد. واما بناء على الوضع للماهية بقيد الإرسال ، فيكون التقييد مستلزما للتجوز لمنافاة القيد مع الإرسال ، فلا بد من استعمال اسم الجنس في غير معناه الموضوع له.

الثانية : انه بناء على الوضع للطبيعة المرسلة ، لو ورد اسم الجنس في الكلام وشك في إرادة الإطلاق منه كان المحكم أصالة الحقيقة ، فيستفاد إرادة العموم من اللفظ نفسه لوضعه له ، فالأصل الأولي هو العموم. واما بناء على الوضع للطبيعة المهملة ، فلا مجال لأصالة الحقيقة لإفادة الإطلاق ، بل يستفاد العموم بواسطة قرينة خارجية خاصة أو عامة كمقدمات الحكمة. وهذا أثر مهم جدا في مقام الاستنباط.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٢٧ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٥

الجهة الثانية : ان لفظ : « المطلق » هل يصح إطلاقه على اسم الجنس بالمعنى الّذي ذكرناه أو لا؟. وقد ذكر صاحب الكفاية ان المعنى اللغوي لا يأبى مع إطلاقه على اسم الجنس ، ولم يثبت للقوم اصطلاح جديد فيه ، نعم لو تم ما نسب إلى المشهور من انه موضوع لما قيد بالإرسال والشمول البدلي لم ينطبق على اسم الجنس بالمعنى المذكور. ولا يخفى ان هذا البحث لغوي واصطلاحي صرف لا أثر له عملا أصلا ، وانما المهم البحث الأول.

إذا عرفت ذلك ، فقد ذكر صاحب الكفاية ان لفظ المطلق لو كان موضوعا للطبيعة المقيدة بالإرسال والشمول البدلي كان تقييد اسم الجنس موجبا للتجوز في الاستعمال.

وواضح ان ما ذكره خلط بين مقامين ، مقام المفهوم ومقام المصداق ، إذ التجوز يرتبط بتعيين الموضوع له في اسم الجنس كما عرفت ، ولا يرتبط بمفهوم المطلق والمراد من لفظ المطلق. فأيّ شيء كان الموضوع له لفظ المطلق لا علاقة له بحصول التجوز في اسم الجنس ، بل ما يرتبط بالمجاز هو تعيين الموضوع له في اسم الجنس ، لأنه هو الّذي يطرأ عليه التقييد ، فالتفت ولا تغفل وهذا المعنى لم نعهد أحدا تنبه إليه قبل الحين. فاحفظه.

٤٢٦

مقدمات الحكمة

ثم انه إذا تبين ان اسم الجنس ونحوه موضوع للطبيعة المهملة ، فلا بد من استفادة إرادة الإطلاق منها من قرينة خاصة أو عامة تفيد ان الموضوع هو مطلق الافراد.

والبحث يقع هاهنا في القرينة العامّة ، فقد ادعي ثبوتها بنحو عام إذا تمت بعض المقدمات ، ويصطلح عليها بمقدمات الحكمة.

وهي ـ بحسب ما ذكره صاحب الكفاية ـ ثلاثة :

الأولى : كون المتكلم في مقام البيان.

الثانية : انتفاء ما يوجب التعيين.

الثالثة : عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، ويراد به ما تكون نسبة الكلام إليه بنحو لو أريد غيره كان مستهجنا عرفا وبحسب المتفاهم العرفي ، كالمورد الّذي يقع محط السؤال ، فان إرادة غيره من الجواب المطلق مستهجن عرفا. وليس كذلك الحال في القدر المتيقن من الخارج ، فانه لا يرتبط بالكلام ، بل هو قدر متيقن ثبوتا ، فلا تكون إرادة غيره من الكلام امرا مستهجنا عرفا بالنظر إلى الأساليب الكلامية.

فإذا تمت هذه المقدمات الثلاثة ثبتت إرادة الإطلاق ، وذلك لأنه لو أراد المقيد لبيَّن ، لأنه في مقام البيان والمفروض انه لم يبين ، فإرادته المقيد مع عدم البيان خلف الفرض ونقض للغرض ، وهو امر لا يتحقق من الحكيم.

اما إذا انتفت إحدى هذه المقدمات لم يثبت الإطلاق.

فلو لم يكن في مقام البيان أصلا ، بل صدر منه الكلام لا بقصد التفهيم ، أو كان مقام البيان من غير الجهة المشكوكة الدخل في الحكم ولم يكن في مقام

٤٢٧

البيان من تلك الجهة ، لم تكن إرادته المقيد مع عدم البيان خلف ، لأنه ليس في مقام بيانه مراده.

ولو كان في مقام البيان وكان هناك ما يوجب التعيين ، فعدم ثبوت الإطلاق واضح.

ولو كان في البين قدر متيقن في مقام التخاطب ـ وان كان في مقام البيان ولم يكن هناك ما يوجب التعيين ـ فلا يثبت الإطلاق ، وذلك لأنه لو كان مراده هو القدر المتيقن لم يكن عدم التنصيص عليه نقضا للغرض وخلفا ، لاستفادته من الكلام ، فمثلا إذا كان القدر المتيقن من قوله : « أكرم العالم » هو الفقيه ، كان وجوب إكرام الفقيه مستفادا من مقام المحاورة ، فلو كان هو تمام مرامه لم يكن مخلا ببيانه ، ولا يكون عدم التنصيص عليه منافيا لكونه في مقام بيان تمام مرامه.

ثم انه ذكر انه إذا كان بصدد بيان انه التمام كان مخلا ، وتوضيحه : ان المتكلم تارة : يكون في مقام بيان ذات المراد وواقعه ، ولو لم يعلم المخاطب انه تمام المراد ، وبعبارة أخرى : ما كان بالحمل الشائع تمام المراد. وأخرى : يكون في مقام بيان تمام المراد بما هو كذلك ، يعني مع بيان انه تمام المراد وإعلام المخاطب بذلك ، بعبارة أخرى : ما هو بالحمل الأولي تمام المراد.

فعلى الثاني : لا ينفع وجود القدر المتيقن في نفي الإطلاق ، إذ غاية ما يقتضيه التيقن هو اليقين بإرادة هذا المتيقن ، واما انه تمام المراد أو لا فلا يعرف بالقدر المتيقن ، بل يبقى ذلك مجهولا لدى المخاطب ، فلا يعلم إلاّ ان المتيقن مراد اما غيره فلا يحرز عدم إرادته ، فيمكن التمسك بالإطلاق وعدم التقييد ان المطلق هو المراد.

وعلى الأول : كان وجود القدر المتيقن مخلا بالإطلاق ، لأن تمام المراد لو كان هو المتيقن لم يكن عدم التنصيص عليه خلف الفرض ، لفرض فهمه في مقام الكلام ، كما ان جهل المخاطب بعدم كونه التمام لا يضر بعد ان لم يكن على المولى

٤٢٨

رفع الجهل من هذه الناحية ، إذ ليس عليه الا بيان تمام المراد بواقعه لا بوصف التمامية.

وبما ان المتكلم في مقام بيان واقع تمام المراد لا وصف التمامية كان وجود القدر المتيقن مخلا بالتمسك بالإطلاق. فلاحظ.

هذا تمام مطلب الكفاية بتوضيح منا (١).

وقد استشكل في ما أفاده من مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب للإطلاق. وبالنقض بالقدر المتيقن من الخارج ، وانه إذا التزم بمانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب فلا بد من الالتزام بمانعية القدر المتيقن من الخارج ، وبأنه يستلزم عدم صحة التمسك بالمطلقات الواردة بعد السؤال عن حكم مورد خاص. وكلاهما لا يلتزم به صاحب الكفاية (٢).

أقول : الإنصاف ان النقض عليه بالقدر المتيقن من الخارج غير وارد ، إذ لا يتأتى البيان المذكور في وجه مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب فيه ، إذ لا دلالة للكلام عليه بوجه من الوجوه ولا يفهم منه أصلا ، فإرادته من الكلام من دون التنصيص عليه خلف فرض كونه في مقام البيان.

ثم ان النقض به لا يرفع الإشكال بل يوسّع دائرته ، كما ان عدم التزام صاحب الكفاية بما أفاده في بعض الموارد لا ينفع في نفي المطلب إذا تم من الناحية البرهانية الصناعية ، فالمهم هو تحقيق انه تام في نفسه أو غير تام.

والحق انه غير وجيه لوجهين :

الوجه الأول : انه على تقدير تماميته ، فهو انما يتم في المطلق الشمولي لا البدلي ، وذلك لأن إرادة بعض الافراد في المطلق الشمولي لا يختلف الحال فيها

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٣٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٩

عملا بين إرادتها بالخصوص أو في ضمن المجموع ، إذ يجب إكرام كل فرد ولا يرتبط امتثال أحدها بامتثال الأخرى ، وهذا بخلاف المطلق البدلي ، فانه يختلف الحال عملا بين تعلق إرادته بالبعض وتعلقها بالمجموع ، إذ تعلقها مثلا بإكرام خصوص الفقيه ـ وهو القدر المتيقن فرضا ـ يلازم عدم صحة الامتثال بإكرام غيره ، بخلاف تعلقها بإكرام مطلق العالم فانه يصح معه الامتثال بإكرام غير الفقيه.

ومرجع هذا إلى التردد في ان الملحوظ في متعلق الحكم هو خصوصية الفقيه ، أو مطلق العالم ، فيتردد الأمر في مراده بين الخصوصيّتين.

وبالجملة : فيختلف الحال في الحكم البدلي بين إرادة المقيد والمطلق عملا وواقعا ، ووجود القدر المتيقن لا ينفع في إثبات الخصوص ، فلا يكتفي به في مقام البيان فيثبت الإطلاق بذلك.

ومن هنا نستطيع ان نقول : بعد مانعية القدر المتيقن في مورد الإطلاق الشمولي ، بعد فرض ان الحال في سائر المطلقات بنحو واحد ، بضميمة ان الشمولية والبدلية تستفاد ان من قرينة خارجية ، ومقدمات الحكمة تجري في مرحلة سابقة عن نحو تعلق الحكم ، وفي موضوع الشمول والبدلية ـ كما سيصرح به صاحب الكفاية فيما بعد ـ ، فإذا صح التمسك بالإطلاق في موارد الإطلاق البدلي مع وجود القدر المتيقن صح التمسك به في موارد الإطلاق الشمولي.

الوجه الثاني : ان ما أفاده غير تام في نفسه ، وذلك لأن ثبوت الحكم للقدر المتيقن يختلف بحسب الواقع بين ان يكون ثبوته له بخصوصه وبين ان يكون ثبوته له في ضمن المطلق ، إذ ثبوته له بخصوصه يقتضي دخالة عنوانه في ثبوته ، واما إذا كان ثابتا له في ضمن المطلق فلا يكون عنوانه دخيلا في ثبوته ، بل ثبوته له بما انه من افراد المطلق ، وهذه جهة واقعية وان لم يترتب عليها أثر عملي في

٤٣٠

الإطلاق الاستغراقي.

وعليه ، فيتردد في ان موضوع الحكم هل هو الفقيه ـ مثلا ـ أو العالم؟ ، ووجود القدر المتيقن لا يرفع الشك من هذه الجهة ، بل غاية ما ينفع فيه هو ثبوت الحكم للفقيه ، اما انه بعنوانه أو بعنوان العالم ، فلا دلالة له على شيء منه ، فإذا لم يرد القيد يثبت ان موضوع الحكم هو المطلق لا المقيد.

ونتيجة ما ذكرناه هو : ان أخذ عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب في عداد مقدمات الحكمة لا وجه له ، لعدم إخلاله بثبوت الإطلاق.

وقد التزم المحقق النائيني قدس‌سره بثلاثية المقدمات أيضا ، لكنه أنكر كون عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من المقدمات ، والتزم بان أولى المقدمات لزوم كون اللفظ بمعناه مقسما للمقيد وغيره ، وإلاّ فمع عدم كونه كذلك لن يصح التمسك بعدم البيان في نفي التقييد (١).

والّذي نراه ان إدراج هذه المقدمة في مقدمات الحكمة غير متجه ، كإدراج عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب.

وذلك لأن المراد من كون المعنى مقسما ...

ان كان هو اللابشرط المقسمي ، وهو الطبيعة الملحوظة بالنظر إلى ما هو خارج عن ذاتها وذاتياتها في قبال الماهية من حيث هي ، فاعتباره لا إشكال فيه لتوقف الإطلاق والتقييد على لحاظ الماهية بالإضافة إلى الخارج عن ماهيتها من القيود ، فمع امتناع ذلك يمتنع الإطلاق قهرا ، لكنه لا يتلاءم مع تشبيهه وتنظيره لذلك بمثل مورد عدم إمكان أخذ قصد القربة وعدم إمكان أخذ العلم بالحكم ، إذ لا يمتنع لحاظ الماهية بالإضافة إلى هذه القيود ، وانما الممتنع أخذها في متعلق الحكم وموضوعه ، وهو غير امتناع لحاظ الماهية مضافة إليها.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٢٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٣١

وان كان المراد اشتراط كون مجرى الإطلاق مقسما فعليا للمقيد وغيره ، بمعنى انه ينقسم فعلا إليهما ، ففي مورد يمتنع الانقسام الفعلي ـ كمورد أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بناء على امتناعه ـ يمتنع الإطلاق.

ان أراد هذا المعنى ، فهو مما لا دليل عليه أصلا ، وقد عرفت المناقشة فيه فيما تقدم من البحث عن نوع تقابل المطلق والمقيد.

ونتيجة مجموع ما ذكرناه : هو ان مقدمات الحكمة ثنائية لا ثلاثية ، كما ذهب إليه المحقق صاحب الكفاية والمحقق النائيني ، إذ عرفت المناقشة فيما أفاداه. فمقدمات الحكمة عبارة عن كون المتكلم في مقام البيان ، وانتفاء ما يوجب التعيين.

ثم انه قد يشكل استفادة الإطلاق من مقدمات الحكمة ، وذلك باعتبار ان اللفظ موضوع للطبيعة المهملة ـ كما هو الفرض ـ ، والإطلاق والتقييد خصوصيتان تردان عليها ، فكما يحتاج التقييد إلى بيان زائد على اللفظ ، كذلك يحتاج الإطلاق إلى البيان الزائد ، لكون نسبة اللفظ إليهما على حد سواء ، فلا وجه لدعوى ان عدم ذكر القيد يكشف عن إرادة الإطلاق وإلاّ لزم الخلف ، إذ هذا يمكن عكسه فيقال : عدم ذكر الإطلاق يكشف عن إرادة المقيد وإلاّ لزم الخلف.

ولا يندفع هذا الإشكال إلاّ بدعوى ثبوت بناء عقلائي عرفي على انه إذا كان في مقام البيان ولم يذكر القيد كان مراده الإطلاق ، وبدون ذلك لا يمكن الالتزام بان هذه المقدمات تنفع في إثبات إرادة الإطلاق. فتدبر.

كما انه بشكل أيضا ما قيل في هذا الباب من : ان الإطلاق بمقدمات الحكمة لا بالوضع ، هو ان كون المتكلم في مقام البيان ـ بمعنى عدم إحراز انه في مقام جهة أخرى ـ مما يحتاج إليه في مطلق الظهورات حتى الوضعيّة ، فانه لا يمكن الاستناد إلى كلام المتكلم في تشخيص مراده ما لم يحرز انه في مقام البيان ،

٤٣٢

وإلاّ فلو كان نطقه باللفظ الموضوع لأجل تجربة صوته لا يمكننا ان نقول ان مراده هو معنى اللفظ. وهكذا الحال في عدم القرينة ، فان وجود القرينة المنافية لمقتضى الوضع توجب الإخلال بظهور اللفظ في معناه وصرفه إلى معنى آخر.

فاذن هاتان المقدمتان لا بد منهما في تشخيص المراد الوضعي من اللفظ الموضوع لمعناه ، ولا اختصاص لهما في باب المطلق بحيث لا يحتاج إليهما في غير مورده.

والتحقيق : هو تعين الالتزام بان استفادة الإطلاق ليس بمقدمات الحكمة ، بل من ظهور الكلام في كون الطبيعة تمام الموضوع.

بيان ذلك : ان اللفظ المأخوذ في موضوع الحكم موضوع للطبيعة بما هي ـ كما عرفت ـ. وظاهر أخذ الطبيعة في موضوع الحكم انها تمام الموضوع ، كما ان ظاهر أخذ : « زيد » في الموضوع في قوله : « أكرم زيدا » انه تمام الموضوع. وهكذا ظاهر قوله : « أكرم ابن عمرو » ان : « ابن عمرو » تمام الموضوع. وهذا الظهور تصطلح عليه الظهور السياقي وهو ثابت لا كلام فيه ، وإذا كان الطبيعة تمام الموضوع ثبت الحكم في كل مورد تثبت فيه وتوجد ، فثبوت الإطلاق واستفادته من جهة أخذ الطبيعة في الموضوع وظهور ذلك في كونها تمام الموضوع ، ومما يؤيد ان الإطلاق يستفاد مما ذكرناه هو الاصطلاح على ظهور المطلق بالظهور الإطلاقي ، فانه ظاهر في وجود ظهور للمطلق ، وهو انما يتلاءم مع ما ذكرناه ، إذ ليس مرجع مقدمات الحكمة إلى ظهور اللفظ في شيء.

وعليه ، فلا نقع في الإشكال السابق وهو : ان الإطلاق خصوصية زائدة كالتقييد ، فكيف يثبت بعدم التقييد؟. كي نضطر إلى التخلص عنه بدعوى بناء العقلاء على الإطلاق عند عدم التقييد.

إذ ما التزمنا به يرجع إلى التمسك بظهور وضعي وظهور سياقي.

كما لا نقع في إشكال آخر من جهة لزوم إحراز كون المتكلم في مقام

٤٣٣

البيان من جميع الجهات ، وسيأتي الكلام فيه. فانتظر.

ثم انه وقع الكلام في ان مجرى مقدمات الحكمة هل هو المراد الاستعمالي أو المراد الجدي الواقعي؟. فهل تجري في تنقيح المراد الاستعمالي بمعنى ما قصد المتكلم تفهيمه للمخاطب وإحضاره من المعنى في ذهن السامع لا ما اراده من نفس اللفظ ـ فلا يرد حينئذ بأنه لا معنى لأن يكون المراد الاستعمالي هو المطلق لعدم استعمال اللفظ فيه قطعا ، بل هو مستعمل في معناه وهو الطبيعة ـ؟ أو تجري في تنقيح المراد الواقعي ، وبيان ان المراد جدا هو المطلق؟. الّذي ذهب إليه صاحب الكفاية هو الأول (١). خلافا للشيخ رحمه‌الله حيث ذهب إلى الثاني (٢). وتبعه عليه المحقق النائيني (٣).

ولا تخفي ثمرة هذا الخلاف العملية ، حيث تظهر في موارد البحث عن انقلاب النسبة ، إذ المقيد المنفصل لا يخل بظهور المطلق في الإطلاق على رأي صاحب الكفاية ، بل يزاحمه في مقام الحجية.

ولكنه يخل بإطلاق المطلق على رأي الشيخ ، لكشفه عن تقيد المراد الجدي وعدم إطلاقه.

وقد استشهد صاحب الكفاية على مدّعاه : بان ما ذهب إليه الشيخ يلازم عدم إمكان التمسك بالمطلقات إذا قيدت بقيد منفصل ، لأنه يكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان في كلامه ، فتنهدم أولى المقدمات بورود المقيد المنفصل ، وهذا اللازم باطل إذ لا يلتزم به أحد ، فيكشف عن بطلان المبنى الّذي يبتني عليه (٤).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطابع الأنظار ـ ٢١٨ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٢٩ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٣٤

واستشكل فيما ذكره قدس‌سره : بان غاية ما يكشف عنه المقيد هو عدم كونه في مقام البيان من جهة القيد وعدمه ، اما سائر جهات المطلق فلا يرتبط بها المقيد ولا ينظر إليها ، فيمكن التمسك بالإطلاق من سائر الجهات.

ولم يفرض كونه في مقام البيان بالنسبة إلى تمام مراده بنحو العموم المجموعي من جهة الخصوصيات ، بل بنحو العموم الاستغراقي ، فانكشاف عدم كونه في مقام البيان من جهة لا يلازم انكشاف عدم كونه في مقام البيان من سائر الجهات (١).

ويمكن ان يوجه كلام صاحب الكفاية : بان الإطلاق من سائر الجهات في فرض التقييد موضوعه الحصة الخاصة ، فهو في طول المقيد ، لا ان الإطلاق والقيد يرد ان على الطبيعة في عرض واحد ، فإذا ثبت الحكم للعالم العادل ، فإطلاق الموضوع من حيث السيادة وعدمها موضوعه العالم العادل لا ذات العالم ، إذ لا معنى للإطلاق من حيث السيادة الا في حدود وإطار العالم العادل ، إذ لا يثبت الحكم ـ مع فرض موضوعه العالم العادل ـ للعالم المطلق من جهة السيادة وعدمها ولو لم يكن عادلا.

وبعبارة أخرى : ان الإطلاق بلحاظ تمام الموضوع لا بلحاظ كل جزء جزء ، وتمام الموضوع في الفرض هو الحصة الخاصة وذات الطبيعة جزء الموضوع وهو ليس مجرى الإطلاق الا في موارد خاصة ، ولذا لا يجري الإطلاق بالنسبة إلى كل جزء من اجزاء الصلاة ، بل إلى مجموع الصلاة في موارد تعلق الحكم بها.

وعليه ، فإذا ورد المقيد الكاشف عن كون الموضوع هو الحصة اختل التمسك بالإطلاق من جميع الجهات ، لأن ما ينبغي ان يكون مجرى المقدمات وموضوع الإطلاق هو الحصة لأنها تمام الموضوع ، والمتكلم لم يكن في مقام البيان

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٥٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٥

من جهاتها وخصوصياتها ، إذ لم يكن في مقام ذاتها. وما كان في مقام بيانه ـ وهو الطبيعة ـ ليس مورد الإطلاق بعد ورود المقيد لأنه ليس موضوع الحكم.

وقد يتوهم : ان هذا البيان مستلزم لمنع التمسك بالإطلاق مع كون المتكلم في مقام البيان من جهة دون أخرى ، وذلك لاحتمال ان يكون مراده الواقعي من الجهة التي ليس في مقام منها هو الحصة الخاصة فيكون الإطلاق من الجهة الأخرى في طولها ، ومع هذا الاحتمال يمتنع التمسك بالإطلاق ، لأنه لا يحرز انه في مقام بيان الموضوع هو الطبيعة كي يتمسك بإطلاقها ، لأنه في مقام بيانها. وهو ليس في مقام بيان الحصة ، فان المفروض انه مهمل من هذه الجهة.

وبالجملة : إذا فرضنا انكشاف ان كون المراد الواقعي هو المقيد مانع عن التمسك بالإطلاق من سائر الجهات لعدم كونه في مقام بيان المقيد ، فاحتمال ذلك ـ مع عدم كونه في مقام بيانه ـ يكفي في المنع عن التمسك بالإطلاق ، لأنه انما يصح التمسك بإطلاق الموضوع الواقعي إذا كان المتكلم في مقام بيانه ، وهو مشكوك على الفرض ، فمثلا : لو قال : « أكرم العالم » ولم يكن في مقام البيان من جهة العدالة والفسق ، لم يصح التمسك بإطلاق العالم بالنسبة إلى السيادة وعدمها ، لعدم إحراز انه تمام الموضوع ، لاحتمال انه العالم العادل وهو ليس في مقام بيانه.

مع ان هذا اللازم لا يقول به أحد ، فان التفكيك في مقام البيان بين الجهات يلتزم به الكل ولا يرون فيه إشكالا.

ويندفع هذا التوهم : بالفرق بين مقام الحدوث والبقاء ، فانه مع الالتفات حدوثا إلى ان المتكلم في مقام البيان من جهة دون أخرى كما لو صرح بذلك ، فمرجع ذلك إلى تصريحه ـ مثلا ـ بأنه مقام البيان من هذه الجهة ـ كجهة السيادة ـ بالنسبة إلى الموضوع الواقعي على واقعه المردد بين المطلق من الجهة الأخرى والمقيد ـ كالمردد بين العادل ومطلق العالم ـ من دون تعرض لبيان ما هو الموضوع

٤٣٦

الواقعي ، فلو انكشف انه المقيد لم يضر بالإطلاق ، لأنه كان في مقام بيانه من الجهة الأخرى ، وهذا بخلاف ما لم يكن حدوثا كذلك ، فلا ظهور يدل على انه في مقام بيان الموضوع الواقعي على واقعه ، إذ لم يكن الكلام حدوثا ظاهرا في الإجمال ، بل ظاهرا في الإطلاق من هذه الجهة أيضا ، فإذا ورد القيد كشف عن كون الموضوع هو الحصة ولم يكن في مقام البيان بالنسبة إليها ، بل في مقام الذات لا غير فيكشف عن عدم كونه في مقام البيان بالنسبة إلى الموضوع الواقعي ، وإلاّ لنبّه على ذلك بعد ان لم يكن للكلام ظهور فيه. فالتفت فانه لا يخلو عن دقة.

وعليه ، فإيراد الكفاية موجه بالبيان الّذي عرفته.

ولكن هذا لا يصحح كلام الكفاية واختيار صاحبها ، أعني كون مجرى المقدمات هو المراد الاستعمالي فانه غير سالم عن الإشكال.

بيان ذلك : ان الواقع في باب الإنشائيات يختلف عنه في باب الإخباريات ، فان وجود واقع وراء الاستعمال امر متصور في باب الاخبار يحكي عنه الخبر ، يطابقه أو لا يطابقه ، وليس كذلك الحال في باب الإنشاء ، فان الأمور الإنشائية لا واقع لها سوى مقام الإنشاء ، والأحكام منها ، اذن فما هو المراد من المراد الواقعي في باب الأحكام في قبال المراد الاستعمالي ، بناء على ان واقع الحكم ليس إلاّ الإنشاء ، وهو استعمال اللفظ بقصد إيجاد المعنى بوجود إنشائي أو اعتباري؟. لا يقصد من ذلك إلاّ مقام الداعي للإنشاء ، فإذا أنشأ الطلب بداعي البعث حقيقة كان وجوبا حقيقة ، وان إنشاءه بداعي غير البعث لم يكن وجوبا حقيقة ، فاتفاق المراد الواقعي مع المراد الاستعمالي معناه صدور الإنشاء بداعي البعث جدا واختلافه معناه صدور الإنشاء بداعي غير البعث كالتهديد.

وعليه ، فنقول إذا فرض ان المراد الاستعمالي هو المطلق ، بان أنشئ الحكم على جميع الافراد ، ولكن كان المراد الجدي على طبق المقيد بان كان الواجب حقيقة بعض الافراد فما هو الأثر من تفهيم المطلق؟. الّذي ذكره صاحب

٤٣٧

الكفاية ان إنشاء الحكم على الكل بداعي ان يكون قاعدة وقانونا (١).

وقد تقدم الإشكال فيه في مبحث العموم : بأنه ان أريد قاعدة وكاشفا عن حكم الخاصّ بعد التقييد بما انه عام ، فهو خارج عن طريقة المحاورة ، إذ لا معنى لإنشاء الحكم على الكل وإرادة البعض ، فهو نظير ان يقول : « أكرم عشرة » ثم يبين انه يريد إكرام خمسة ، وبالخصوص إذا كان معنى الإطلاق ثبوت الحكم للطبيعة من دون أي خصوصية ، فانه ينافي التصريح بدخول الخصوصية بعد ذلك منافاة توصل الكلام الأول إلى حد الاستهجان. وان أريد كونه كاشفا عن حكم الخاصّ بما انه بعض مدلوله ، فهو يبتني على حجية الدلالة التضمنية لو سقطت المطابقية عن الحجية ، كما انه ما الملزم للاستعمال في العموم؟ مع إمكان ان ينشئ الحكم على المقيد رأسا.

هذا مضافا إلى ما أورده المحقق الأصفهاني من : ان الإنشاء بداعي البعث جدا بالنسبة إلى الجميع ممتنع لفرض إرادة المقيد لا المطلق ، والإنشاء بداعي البعث بالنسبة إلى البعض ، وبداعي آخر بالنسبة إلى البعض الآخر يستلزم صدور الفعل الواحد وهو الإنشاء عن داعيين وهو محال (٢).

وان كان ما ذكره قابل للرد. فتأمل.

نعم ينحل الإشكال على صاحب الكفاية بالالتزام بكون الإنشاء بداعي البعث جدا بالنسبة إلى الجميع فيثبت الحكم الحقيقي للجميع ، ولكنه يرتفع عن البعض بورود المقيد لانتهاء مصلحته.

ولكنه التزام بتعدد الحكم وبالنسخ وهو غير صحيح قطعا لبداهة وحدة الحكم وعدم تعدده.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٣٧ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٨

ونتيجة مجموع ما ذكرناه ان كلا المذهبين لا يخلو ان من إشكال.

والّذي نراه ان منشأ إشكال صاحب الكفاية على المذهب الآخر والجواب غير الصحيح عنه الّذي عرفته ، هو الغفلة عن شيء ، وهو : ان المدعي لكون المتكلم في مقام بيان المراد الجدي وجريان المقدمات في ذلك المقام يرى ان من المقدمات عدم القرينة إلى زمان لا يقبح تأخيرها عنه ، لا عدم القرينة في حال الخطاب.

وعليه ، فلا يكون ورود القيد كاشفا عن عدم كونه في مقام البيان واختلال الإطلاق المنعقد بدوا ، بل لا ينعقد الإطلاق أصلا قبل ورود القيد ، نعم ينعقد بعد مرور زمان يقبح تأخير البيان عنه. فإذا ورد القيد قبل مرور هذا الزمان كان موجبا للإخلال بالمقدمة الثانية ، أعني عدم ما يوجب التعيين ، ولا يكون مخلا بالمقدمة الأولى ، إذ لا تنافي بين تأخير البيان عن الخطاب وكونه في مقام البيان. فإذا كان المتكلم في مقام بيان مرامه بالتدريج لم ينعقد الإطلاق قبل مرور الزمان الّذي يفرضه لبيان مرامه ، ولم يكن ورود القيد في الأثناء منافيا لكونه في مقام البيان ، فورود القيد في أثناء هذا الزمان يوجب انعقاد الظهور الإطلاقي في المقيد والحصة الخاصة ، لأنه كان في مقام بيانها.

وبالجملة : القيد المنفصل على هذا المذهب كالقيد المتصل يوجب انعقاد الظهور في المقيد.

ومنشأ إشكال الكفاية هو : تخيل ان المفروض انه في مقام البيان في مقام الخطاب ، ورود القيد المنفصل يستلزم الكشف عن عدم كونه في مقام البيان ، فيلزم المحذور السابق ، فإشكال الكفاية متجه بناء على هذا التخيل لكنه تخيل غير صحيح.

ويتلخص من مجموع ما ذكرناه مسالك ثلاثة :

الأول : ما قربناه من ان استفادة الإطلاق بواسطة ظهور أخذ الطبيعة

٤٣٩

المدلول عليها باللفظ في موضوع الحكم في كونها تمام الموضوع ، وهذا الظهور يكون حجة على المراد الواقعي بمقتضى أصالة الظهور.

الثاني : ان استفادة الإطلاق بواسطة مقدمات الحكمة الجارية في تشخيص المراد الاستعمالي ، ويكون الظهور الإطلاقي حجة على المراد الواقعي بمقتضى حجية الظهور.

الثالث : ان استفادة الإطلاق بواسطة جريان مقدمات الحكمة في تشخيص المراد الواقعي رأسا.

والجميع يشترك في أمر ، وهو ان الدليل المقيد يتقدم على المطلق إذا لم يمض وقت بيان المراد الواقعي.

لكنه لا يتصرف في أصل الظهور على الأولين ، بل ينفي حجيته. ويتصرف فيه على الأخير بحيث ينعقد الإطلاق في المقيد رأسا.

والوجه في تقدم المقيد على المطلق في الفرض المزبور : اما على الأخير فواضح كما تقدم تقريبه ، انه كالقيد المتصل واما على الأولين ، فالظهور وان كان حجة على الواقع لكنه في مقام لا يكون من شأن المتكلم بيان الواقع ببيان متعدد ، اما إذا كان من شأنه ذلك كما هو الحال بالنسبة إلى الشارع الأقدس ، فلا يكون الظاهر حجة على الواقع ما لم يمض زمان البيان ، إذ مع عدم مضيه يكون الكلام في معرض التقييد ، ولا يكون حجة مع كونه كذلك.

ومن هنا يقال : بأنه يلزم على هذا عدم انعقاد الإطلاق للكلام ، أو عدم حجيته قبل انتهاء زمان الأئمة عليهم‌السلام لأن كلامهم بمنزلة كلام واحد ، ومن الواضح ان المطلق الّذي يصدر من السابق منهم عليهم‌السلام في معرض التقييد ممن يلحقه منهم عليهم‌السلام ، فلا يمكن الكشف عن المراد الواقعي بالتمسك بإطلاق كلامهم عليهم‌السلام ما لم ينته زمان البيان منهم.

وتحقيق الحال : ان لدينا صورا ثلاث :

٤٤٠