منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

حكما غير الحكم الّذي تتكفله الجملة المشتملة على العام ، فلا يصح للمتكلم الاتكال على جملة الضمير في مقام البيان (١).

أقول : تحقيق الصحيح من هذين الكلامين يتضح عند التعرض لتحقيق أصل موضوع احتفاف الكلام بما يصلح للقرينية في مبحث حجية الظواهر فانتظر والله سبحانه الموفق.

فصل :

ذكر صاحب الكفاية وقوع الاتفاق على جواز تخصيص العام بمفهوم الموافقة ، ولعل الوجه فيه ما قيل : من ان المنطوق لا يعارض العموم وانما يعارضه المفهوم ، فتقديم العموم على المفهوم اما ان يكون مع عدم التصرف في المنطوق أو معه ، والأول ممتنع لاستلزام المفهوم للمنطوق بنحو الأولوية ، والثاني يستلزم رفع اليد عما ليس بطرف المعارضة للعموم وهو لا وجه له ، فيتعين تقديم المفهوم على العموم وتخصيصه بغير مورده. كما ذكر قدس‌سره وقوع الاختلاف في جواز تخصيص العام بمفهوم المخالفة وقال : « تحقيق المقام انه إذا ورد العام وما له المفهوم في كلام أو كلامين ، ولكن على نحو يصلح ان يكون كل منهما قرينة متصلة للتصرف في الآخر ، ودار الأمر بين تخصيص العموم أو إلغاء المفهوم ، فالدلالة على كل منهما ان كانت بالإطلاق بمعونة مقدمات الحكمة أو بالوضع ، فلا يكون هناك عموم. ولا مفهوم لعدم تمامية مقدمات الحكمة في واحد منهما لأجل المزاحمة ، كما في مزاحمة ظهور أحدهما وضعا لظهور الآخر كذلك ، فلا بد من العمل بالأصول العملية فيما دار فيه بين العموم والمفهوم ، إذا لم يكن مع ذلك أحدهما أظهر ، وإلاّ كان مانعا عن انعقاد الظهور أو استقراره في الآخر. ومنه قد انقدح الحال فيما إذا لم يكن بين ما دل على العموم وما له المفهوم ذلك

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٩٥ ـ الطبعة الأولى.

٣٨١

الارتباط والاتصال ، وانه لا بد ان يعامل مع كل منهما معاملة المجمل لو لم يكن في البين أظهر ، وإلاّ فهو المعوّل ، والقرينة على التصرف في الآخر بما لا يخالفه بحسب العمل » (١). والمراد من كلامه قدس‌سره واضح لا يحتاج إلى بيان.

لكن يتوجه عليه :

أولا : ان تقديم المفهوم الخاصّ على العام امر مسلم فقهيا ، فإيقاع البحث فيه لا نعرف وجهه ، فهل يتوقف أحد في ان المولى إذا قال : « أكرم كل عالم » ثم قال : « أكرم كل عالم إذا كان عادلا » ان الدليل الآخر يكون مخصصا للعام بمفهومه؟.

وثانيا : ان بيانه إجمالي ولا يتكفل حل المشكلة ، إذ هو يتكفل بيان كبرى معروفة لكل أحد ، والمهم تحقيق صغرى ما ذكره ، فجعله ما ذكره تحقيقا للمقام ليس كما ينبغي.

وثالثا : ان عمدة الوجه في ثبوت المفهوم هو الإطلاق ، فترديده بين ان يكون المفهوم وضعيا أو إطلاقيا مستدرك.

ثم انه كان ينبغي بيان مركز التنافي بين العام والمفهوم ، وهو دلالة المنطوق على الخصوصية الملازمة للمفهوم ، فلا بد من علاج التنافي في هذا المقام ، وستعرف إن شاء الله تعالى عن قريب.

وقد تعرض المحقق النائيني رحمه‌الله إلى هذا البحث وأطال فيه الكلام ، فتعرض أولا لبيان معنى مفهوم الموافقة وانه ما وافق المنطوق سلبا وإيجابا ، ومعنى مفهوم المخالفة وانه ما خالف المنطوق في السلب والإيجاب ، ثم تعرض إلى ان مفهوم الموافقة تارة يكون بالأولوية. وأخرى بالمساواة كما في موارد العلّة المنصوصة ، وذكر الاختلاف في مؤدّى مثل قوله : « الخمر حرام لأنه مسكر » ومثل :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٣٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٨٢

« الخمر حرام لإسكاره » ، وان الأول يستفاد من عموم الحكم لمطلق المسكر دون الثاني ، وبيّن وجه الاختلاف. ولا يهمنا التعرض إليه لعدم ارتباطه بما نحن فيه. ثم تعرض لتحقيق البحث في مفهوم الموافقة بقسميه :

اما مفهوم الموافقة بالأولوية فذكر : انه قد يدعي تقدمه على العموم للوجه السابق الّذي عرفته في صدر البحث ، وناقشه قدس‌سره بان المنطوق كما يدل بالأولوية على حكم آخر مناف للعام كذلك العام يدل بالأولوية على ما ينافي حكم المنطوق. وذلك لأن العام بعمومه ينفي الحكم عن مورد المفهوم فهو يدل بالأولوية على نفي حكم المنطوق. فيتحقق التعارض بين المنطوقين.

وعليه ، فان كان المنطوق أخص مطلقا من العموم كما لو ورد : « لا تكرم الفساق » وورد : « أكرم فساق خدّام العلماء » الدال بالأولوية على وجوب إكرام العلماء ، كان المفهوم مقدما على العام ولو كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه ـ كما في المثال ـ ، لعدم إمكان رفع اليد عن المفهوم بنفسه ، ولا يمكن رفع اليد عن المنطوق لأنه أخص مطلقا من العموم فيقدم عليه ، فيكون المورد من موارد تقديم أحد العامين من وجه على الآخر لمرجح فيه.

وان كان بين المنطوق والعام عموما من وجه كما لو ورد : « لا تكرم الفساق » وورد : « أكرم خدام العلماء » الدال بالأولوية على وجوب إكرام العلماء. فان قدم المنطوق على العموم في مورد التعارض كان المفهوم مقدما على العموم أيضا ، وان قدم العموم على المنطوق فخرج الخادم الفاسق عن المنطوق فلا يثبت بالأولوية الا وجوب إكرام العلماء العدول فلا تعارض بينهما حينئذ.

واما مفهوم الموافقة بالمساواة فقد ذكر : ان الكلام فيه هو الكلام في سابقه بلا اختلاف في الحكم (١).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٩٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٣

وقد أورد عليه المقرر ( دام ظله ) : بأنه لا وجه للتفكيك بين قسمي المفهوم في البيان بعد ان كان حكمهما واحدا (١). ولا يخفى ان هذا الإيراد إيراد أدبي لا يرتبط بواقع البحث ، مع انه لا وجه له لتعارض التفكيك في البيان لغرض الإيضاح ، هذا لو لم يكن التفكيك البياني من المقرر نفسه في تقريره وإلاّ فالإشكال عليه.

والّذي يرد على المحقق النائيني قدس‌سره فيما أفاده في مفهوم الموافقة بالأولوية : ان مفروض الكلام أولا هو عدم المنافاة بين المنطوق والعام بذاتيهما أصلا ، فدعوى المدعي لتقديم المفهوم كانت على هذا الأساس ، ففرضه قدس‌سره كون نسبة المنطوق إلى العام نسبة الخصوص المطلق أو العموم والخصوص من وجه خروج عن مفروض البحث ، إذ التعارض فيما فرضه يكون بين المنطوق والعموم رأسا ، فيتقدم عليه في الأول قهرا ويتساقطان مع عدم المرجح في الثاني. ولا يحتاج حينئذ إلى ما أتعب به نفسه في إثبات منافاة العموم للمنطوق بالأولوية لأنه ينافيه بدلالته اللفظية ومنطوقه. فالمثال الّذي يتناسب مع مفروض البحث هو ما إذا ورد : « لا تكرم العلماء » ثم ورد : « أكرم خدام الفقهاء غير العلماء » فانه يدل بالأولوية على وجوب إكرام أسيادهم الفقهاء ، مع عدم التنافي بين المنطوقين بذاتهما أصلا ، ونسبة المفهوم إلى العموم نسبة الخاصّ إلى العام. ومثل : « لا تقل لها أف » (٢) الدال بالأولوية على حرمة ضرب الوالدين بالنسبة إلى دليل : « يجوز ضرب الأقارب » ، لو فرض وجوده.

وتحقيق الكلام فيه : ان التعارض يكون في الحقيقة بين المنطوق والعام ، إذ دلالة مثل : ( فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ )(٣) عقلا على حرمة الضرب ، انها تكون باعتبار

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٠٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) سورة بني إسرائيل ، الآية : ٢٣.

(٣) سورة بني إسرائيل ، الآية : ٢٣.

٣٨٤

استفادة ان تحريم قول الأف باعتبار انه أضعف افراد الإيذاء ، فانه يلازم عقلا حرمة الأقوى منه من افراد الإيذاء ، وهو بهذه الدلالة المستلزمة عقلا لما عرفت ، يتنافى مع عموم جواز ضرب الأقارب الشامل للوالدين ، فان تجويز الفرد الأقوى يتنافى مع تحريم الفرد الأضعف ـ وإلاّ فلا منافاة بحسب ذات المنطوقين لاختلاف موضوعيهما ـ ، وهكذا الحال في المثال الأول ، فان دليل : « أكرم خدام الفقهاء » حيث دل على وجوب إكرامهم لارتباطهم بالفقهاء لا لخصوصية فيهم ، كان دالا بالملازمة العقلية على وجوب إكرام الفقهاء ومنافيا لأجل ذلك لما دل بعمومه على حرمة إكرامهم.

وعليه ، فإذا كانت المنافاة بين المنطوقين ، فلا بد في تقديم أحدهما من ملاحظة الأقوى منهما وإلاّ فيتساقطان ، كالدليلين الدال أحدهما على وجوب إكرام زيد والآخر على حرمته ، فانهما يتنافيان باعتبار لازمهما العقلي وهو نفى الآخر وإلاّ فمدلولاهما مختلفان.

وبالجملة : ما نحن فيه كسائر موارد المعارضة بالتباين ، فيقدم الأقوى منهما ظهورا لو كان وإلاّ تساقطا. فلاحظ.

واما ما أفاده في المفهوم بالمساواة وعطفه على مفهوم الموافقة. ففيه : ان الدليل المتكفل لحكم المنطوق إذا كان يتكفل بيان التعليل ، راجعا إلى بيان كلي على موضوع كلي ، فالدليل يتكفل بيان حكمين أحدهما على الموضوع الخاصّ والآخر على الموضوع العام. وعليه فلا بد من ملاحظة نسبة الحكم المنشأ بالعلة المنافي لعموم آخر لذلك العام ، وإجراء القواعد المقررة المعلومة ولا وجه لفرض التعارض بين المنطوق والعام فانه خلف الفرض ، إذ الفرض عدم منافاة المنطوق بنفسه للعموم ، كما لو قال : « يحرم الفقاع لأنه مسكر » ثم قال : « يجوز شرب كل ما يتخذ من العنب » ، فان النسبة بينه وبين الحكم بحرمة كل مسكر العموم من وجه ، ولا ينافي المنطوق بوجه كما لا يخفى.

٣٨٥

وبعد ان تعرض قدس‌سره إلى مفهوم الموافقة بما عرفت ، تعرض إلى تحقيق الكلام في مفهوم المخالفة ، فذهب إلى ان المستفاد من ظاهر كلام الشيخ رحمه‌الله التفصيل بين ما إذا كان العموم آبيا عن التخصيص فلا يخصصه المفهوم وما إذا كان غير آب عنه فيخصصه ، وجعل قدس‌سره بنائه على تقدم عموم العلّة في مفهوم النبأ على المفهوم ، وعدم تخصيصه بالمفهوم من هذا الباب ، لأن إصابة القوم بجهالة أمر مرغوب عنه شرعا وغير قابل للاختصاص بمورد دون آخر.

واما بالنسبة إلى سائر العمومات الدالة على عدم جواز العمل بالظن ، فبنى على تقدم المفهوم على العام لحكومته عليها ، لأن خبر الواحد بدليل حجيته يخرج موضوعا عن العمل بالظن (١).

وناقشه قدس‌سره صدرا وذيلا : بان الحكومة تجري في كلا الموردين وإلاّ لامتنع تقديم المفهوم على غير عموم العلة من العمومات.

ثم انه قدس‌سره تعرض لدعوى التفصيل بين صورة اتصال العام بما له المفهوم فيقدم عليه ويمنع عن انعقاد ظهور الكلام في المفهوم. وصورة انفصاله عنه فيقدم المفهوم لأخصيته (٢). وناقشها : بأنه يمتنع تقدم العام على المفهوم في صورة الاتصال ، وانه يستحيل ان يكون العام مانعا عن انعقاد الظهور في المفهوم ، وذكر لذلك وجوها ثلاثة :

الأول : ظهور الكلام في المفهوم وان كان بالإطلاق كظهوره في العموم ، إلاّ ان جريان مقدمات الحكمة في إثبات المفهوم أسبق رتبة من جريانها في العموم ، فيكون ما له المفهوم حاكما على العموم ، واحتفاف الكلام بما يصلح

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٧٢ ـ ٧٤ ـ الطبعة الحجرية.

كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٧٢ ـ ٧٤ ـ الطبعة الحجرية.

كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٦

للقرينية انما يمنع من انعقاد الظهور في غير موارد الحكومة.

الثاني : ان الاحتياج لمقدمات الحكمة في إثبات المفهوم لأجل نفي البدل والشريك ، اما رجوع القيد إلى الحكم لا إلى الموضوع ـ وهو مناط ظهور الكلام في المفهوم ـ فهو يستفاد من ظهور وضعي ، وهو مقدم على الظهور الإطلاقي في جانب العموم ، ولا يصلح هذا لمنع الظهور الوضعي ، فيقدم على العموم لا محالة.

الثالث : ان المفهوم حيث يثبت من جهة ظهور الكلام الوضعي في رجوع القيد إلى الحكم ، وظهوره الإطلاقي في نفي البدل والشريك ، فتقدم العموم عليه لا بد وان يكون منشؤه اما تصرفه في الظهور الأول أو الثاني. وكلاهما منتف ، لأن الأول ظهور وضعي لا يقاومه ظهور العموم لأنه إطلاقي. والثاني لا تعرض للعام لنفيه ، إذ هو يتكفل جعل الحكم على موضوعه المقدر الوجود من دون تعرض لإثبات البدل ونحو ذلك. هذا خلاصة ما أفاده قدس‌سره (١).

تحقيق الكلام : ان جهة الإشكال والشبهة التي كان منشأ لإيقاع البحث في تقدم المفهوم الخاصّ على العام وافراده في الكلام عن سائر الخصوصيات هي : ان المفهوم انما يستفاد من دلالة المنطوق على خصوصية ملازمة للمفهوم كخصوصية العلية المنحصرة في الشرط ، وبما ان الدلالة على هذه الخصوصية بالإطلاق ، لم يناهض المفهوم العام ، لأن الدال عليه هو الإطلاق وهو لا يتقدم على ظهور العموم ، بل مقتضى القاعدة تقدم العموم عليه بناء على كون ظهوره وضعيا ، وتقدم الخاصّ على العام ليس لدليل خاص كي يؤخذ بإطلاقه ، بل لأجل أظهريته وهي منتفية في مورد كون الخاصّ مدلولا للإطلاق ، بل يكون شأنهما شأن العامين من وجه.

والجواب عن هذه الشبهة : ان تعارض الإطلاقين أو الدليلين اللذين بينهما

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٠١ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٧

عموم من وجه لا يلازم دائما سقوطهما ، بل قد يلتزم بتقديم أحدهما لخصوصية ، كما لو كان الالتزام بتقديم أحدهما في المجمع موجبا لإلغاء دخالة خصوصية أحدهما في الحكم بالمرة ، كما يقال بتقديم ما دل على طهارة بول وخرء الطائر على ما دل على نجاسة بول وخرء غير مأكول اللحم مع ان بينهما عموما من وجه ، ببيان : ان الالتزام بنجاسة بول وخرء الطائر غير مأكول اللحم وتخصيص الطهارة بالطائر المأكول اللحم يستلزم إلغاء خصوصية دخالة الطير في الطهارة ، إذ مأكول اللحم طاهر مطلقا بلا خصوصية للطير وغيره ، وهو ينافي ظهور الدليل في دخالة الطير في الحكم بالطهارة الّذي هو أقوى من الظهور الإطلاقي. وهذا البيان لا يتأتى لو قدم دليل طهارة بول وخرء الطير على الدليل الآخر كما لا يخفى. فيقدم هذا الدليل ، لأن تقديم الدليل الآخر عليه يلازم طرحه بالنسبة إلى موضوعية العنوان المأخوذ فيه.

وفيما نحن فيه يجري نظير هذا البيان ، وذلك لأن الدليل المشتمل على الشرط ـ مثلا ـ ظاهر في حد نفسه في دخالة الشرط في ثبوت الحكم بنحو الإجمال ، وإذا انضم إليه الإطلاق الدال على نفي العدل والشريك تتم الدلالة على المفهوم. فإذا فرض تقديم العام كان ذلك ملازما لإلغاء ظهور دليل المفهوم في دخالة الشرط في ثبوت الحكم ، إذ العموم ينفي دخالة القيود ، وهذا الظهور ليس بإطلاقي كي لا يصلح لمصادمة العام.

وبالجملة : العام انما يصادم دليل المفهوم في دلالته على أصل دخالة الشرط في الحكم التي هي أسبق رتبة من دلالته على المفهوم. ودليل المفهوم بلحاظ هذه الدلالة أقوى من دلالة العام على العموم. فلاحظ.

وبهذا البيان ينحل الإشكال ، ولذا لم يتوقف أحد عملا كما عرفت في تقديم دليل : « أكرم العلماء إذا كانوا عدولا » على دليل : « أكرم كل عالم ».

وبهذا البيان لا بد من تحقيق الكلام ، لا بالنحو الّذي سلكه في الكفاية ،

٣٨٨

أو بالنحو الّذي سلكه المحقق النائيني من تعرضه لصغرى من صغريات المورد ، والبحث فيها مع الشيخ مع موافقته له في الكبرى ، وعدم بيان نكتة تقديم الدليل الدال على المفهوم إذا كان منفصلا عن العام ، بل اكتفي بمجرد الدعوى وإرساله إرسال المسلمات مع أنك عرفت قوة شبهة التوقف في التقديم ، وكلامه مع الشيخ وان كان لا تخلو عن بعض المناقشات لكن أهملنا التعرض لها إيكالا ذلك إلى محله فانتظر. فتدبر والله سبحانه العالم الموفق.

فصل

إذا تعقب الاستثناء جملا متعددة ، كما إذا قال المولى : « أكرم العلماء وأكرم التجار وأكرم الأدباء الا الفساق منهم » ، فهل الظاهر رجوعه إلى الكل أو إلى خصوص الأخيرة أو لا ظهور له في أحد الأمرين؟.

وقد ذكر صاحب الكفاية انه لا إشكال ولا خلاف في تخصيص الأخيرة به على كل حال ، إذ رجوعه إلى غيرها بالخصوص على خلاف طريقة أهل المحاورة ، ولا إشكال في صحة رجوعه إلى الكل ثبوتا وان تراءى من كلام المعالم (١) وجود الإشكال فيه ، وعلّل عدم الإشكال ثبوتا في رجوعه إلى الكل بقوله : « وذلك ضرورة ان تعدد المستثنى منه كتعدد المستثنى لا يوجب تفاوتا أصلا في ناحية الأداة بحسب المعنى ، كان الموضوع له في الحروف عاما أو خاصا ، وكان المستعمل فيه الأداة فيما كان المستثنى منه متعددا هو المستعمل فيه فيما كان واحدا كما هو الحال في المستثنى بلا ريب ولا إشكال ، وتعدد المخرج أو المخرج عنه خارجا لا يوجب تعدد ما استعمل فيه أداة الإخراج مفهوما » ، ثم تعرض إلى مقام الإثبات (٢).

أقول : الإشكال الثبوتي بحسب النّظر الأولي قوي ومتين ، وذلك لأنه

__________________

(١) العاملي جمال الدين. معالم الدين ـ ١٣٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٣٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٨٩

بناء على ان الموضوع له الحروف والأدوات هو النسبة الكلامية ـ بتعبير المحقق النائيني (١) ـ ، والوجود الرابط ـ بتعبير المحقق الأصفهاني (٢) ـ وقد عرفت اختياره ، بناء على هذا الرّأي يمتنع استعمال الأداة في الاستثناء من جميع الجمل ، لتعدد الربط بين المستثنى والمستثنى منه بتعدد المستثنى منه ، وأداة الاستثناء موضوعة لخصوصيات الربط وواقعه ، فيمتنع ان تستعمل ويراد بها الربط المتعدد لاستلزام ذلك استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال كما تقدم بيانه.

وبالجملة : الإشكال الثبوتي في رجوع الاستثناء إلى الجمل كلها هو استلزام ذلك لاستعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال.

وقد عبر المحقق الأصفهاني في مقام تقريب الإشكال ، بان الأداة موضوعة للإخراجات الخاصة (٣). وهو لا يتلاءم مع ما ذهب إليه من ان الموضوع له هو الوجود الرابط ، وهو غير الإخراج الخاصّ فيما نحن فيه ، بل هو النسبة الإخراجية الاستثنائية.

وقد يقال في دفع هذا الإيراد : انه انما يلزم لو كان الاستثناء من كل واحد واحد من الجمل على حدة وبنحو العموم الاستغراقي واما إذا كانت العمومات ملحوظة في الاستثناء بنحو العموم المجموعي ، بان يكون الاستثناء من المجموع لا من كل واحد واحد ، فيكون طرف الربط واحدا لا متعددا ، فلا تعدد للربط فلا يلزم المحذور المدعي (٤).

ويرد هذا القول ان أخذ المجموع طرفا للربط اما بلحاظ عنوان آخر منطبق على الكل ، والاستثناء منه. واما بلحاظ نفس العمومات بنحو المجموع ، والاستثناء منها كذلك. والأول : يتنافى مع الوجدان ، إذ لا نرى عنوانا آخر أخذ

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٨ ـ ٢٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٦ ـ ١٩ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٤٨ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٤٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٠

طرفا للاستثناء. والثاني : بعيد عن طريقة المحاورة العرفية ، لاستلزامه ان يلحظ كل واحد من العمومات بلحاظين ، أحدهما استقلالي في مقام تعلق الحكم به ، والآخر ضمني في مقام الاستثناء ، وهو لو لم يكن محالا عقلا فلا أقل من انه تكلف لا دليل عليه.

وتحقيق الحال ان يقال : ان بعض الحروف لا يتكفل في بعض موارد استعماله بيان الربط بين مدخوله والمفهوم السابق عليه في الكلام ، نظير ما يقال في مثل : « زيد في الدار » من ان طرف الربط ليس زيدا ، بل هو مقدر مثل : كائن أو مستقر.

وقد يتكفل في بعض استعمالاته الربط بين المفهوم اللاّحق والسابق في الكلام مثل : « زيد في الدار جاءني » فان : « في » رابطة بين زيد والدار في هذا المثال دون المثال الأول. وعليه فنقول : ان أداة الاستثناء تارة نقول : انها متكفلة لبيان الربط بين المستثنى والمستثنى منه. وأخرى نقول : انها لا تكون متكفلة لربط المستثنى منه ، بل تتكفل بيان ربط المستثنى مع المستثنى ـ بالياء ـ ، نظير الفعل الدال على الإخراج كقوله : « اخرج ». فعلى الأول يتوجه المحذور بالبيان السابق ، وعلى الثاني لا يتوجه الإشكال ، إذ لا تعدد لطرف الربط كما لا يخفى.

والّذي نبني عليه هو الوجه الثاني ، لبداهة صحة الاستثناء من الجميع من دون توقف ، فانه يكشف عن ان وضعها ومفادها يتلاءم مع ذلك ، وليس ذلك إلاّ الوجه الثاني.

وإذا انتفى المحذور الثبوتي في رجوع الاستثناء إلى الجميع ، يقع الكلام في مرحلة الإثبات. ولا كلام في معنى : « الا » والخاصّ ، انما الكلام وما عليه تشخيص الظهور هو معرفة المراد بالضمير وتعيين مرجعه ، فما هو المقصود من الضمير في قوله « الا الفساق منهم »؟ هل الجميع أو العام الأخير أو هو مجمل؟. فنقول : ان الضمير يؤتي به للإشارة إلى معنى متعين ، ولا يصح إرادة المعنى منه

٣٩١

من دون ان يكون معينا. فمع عدم سبق معنى بالمرة لا ذكرا ولا ذهنا ، لا معنى لأن يقال : « هو كذا » إذ يتساءل ما المراد بـ : « هو »؟ ويستنكر عليه مثل هذا الإبهام في مقام التفاهم. فالتعين لا بد منه في صحة استعمال الضمير.

وعليه ، فتارة : يتحد المحمول ويتكرر ذكر العمومات فقط ، بان يقال : « أكرم العلماء والتجار والأدباء الا الفساق منهم ».

وأخرى : يتكرر المحمول سواء اتحد نوعه أم اختلف بدون عطف بان يقال : « أكرم العلماء ، أضف التجار ، احترم الأدباء الا الفساق منهم ».

وثالثة : يتكرر المحمول مع العطف بان يقال : « أكرم العلماء وأضف التجار واحترم الأدباء الا الفساق منهم ».

ففي الصورة الأولى : يكون الضمير راجعا إلى الجميع ، وذلك لأنه المعنى المتعين الصالح لرجوع الضمير إليه ، اما الخصوص الأخيرة فلا تعين له ذهنا من بين العمومات الأخرى ، وكونه اقرب العمومات إلى الضمير لا يوجب التعين ، وإلاّ فالأبعد أيضا فيه خصوصية وهي الأبعدية. فلا يصلح العام الأخير لرجوع الضمير إليه ، فيتعين رجوعه إلى الجميع.

وفي الصورة الثانية : يتعين رجوع الضمير إلى الأخيرة ، إذ بيان كل حكم بجملة مستقلة غير مرتبطة بسابقتها برابط يوجب كون الجملة السابقة في حكم المغفول عنها والمنتهى عن شئونها ، وهذا الأمر يوجب نوع تعين للأخيرة من بين الجمل الأخرى السابقة عليها ، إذ هي المعهودة فعلا دون السوابق لفرضها كالمغفول عنها ، وعلى هذا جرت سيرة العرف ، فانه إذا تعددت مطالب الكتاب أو الكلام الواحد المتصل ، ثم الحق الاستثناء بأحدهما كان راجعا إليه ولا يلتزم برجوعه إلى جميع المطالب السابقة لأجل ذكرها ، إذ الأخير له تعين من بينها يوجب صرف الضمير إليه فقط.

واما الصورة الثالثة : يكون الكلام مجملا ، إذ يحتمل ان يكون استقلال

٣٩٢

الأخير في الحكم موجبا لتعينه عرفا من بينها ، كما يحتمل ان يكون ربط الأخير بحرف العطف موجبا لعدم تعينه لكون الجميع بمنزلة الجملة الواحدة ، فهي من جهة العطف يحتمل كونها كالصورة الأولى ، ومن جهة الاستقلال في الحكم يحتمل كونها كالصورة الثانية ، فيكون الكلام مجملا ، ولكن تخصيص الأخيرة قدر متيقن.

هذا غاية تحقيق الكلام ، وقد عرفت ان موضوعه هو تعيين مرجع الضمير المذكور في الكلام أو المقدر ، لوضوح إرادة استثناء العنوان المضاف إلى العام وان لم يضف إليه لفظا ولأجل ذلك كان خاصا ، فالمراد من : « أكرم العلماء الا الفساق » « الا فساقهم » وإلاّ فعنوان الفساق عام ونسبته إلى العلماء نسبة العموم من وجه ، فلا معنى لتخصيص العام به.

ثم انه لا يخفى على المتأمل ما في كلام المحقق النائيني من النّظر ، حيث ذكر قدس‌سره : ان الموضوع تارة يكون مكررا في الجملة الأخيرة. وأخرى لا يكون مكررا ، بل هو يكون مذكورا في الجملة الأولى ، كما إذا قال : « أكرم العلماء وأضفهم وأطعمهم الا فساقهم ». ففي الصورة الأولى حيث ان عقد الوضع ذكر في الجملة الأخيرة فقد أخذ الاستثناء محلّه فيحتاج تخصيص غيرها إلى دليل آخر. وفي الصورة الثانية رجع الاستثناء إلى الجميع لعدم ذكر الموضوع الا في صدر الكلام ، فلا يصلح الاستثناء للرجوع الا إليه وإذا رجع إليه خصص الجميع لا محالة (١).

فإن ما ذكره غير تام في كلتا الصورتين. اما ما ذكره في الصورة الأولى فلان أخذ الاستثناء محله ليس امرا يحكم في باب الظهور وما يفهم عرفا من الكلام كما لا يخفى ، فهو استدلال خارج عن الطريقة الصناعية. واما ما ذكره

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٩٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٣

في الصورة الثانية فقد أورد عليه المحقق الأصفهاني : بأنه خلط بين « الا » الوصفية و « الا » الاستثنائية ، فان الأولى لا ترجع إلى الضمير لأن الضمير لا يوصف. اما الاستثناء منه فلا مانع منه (١).

واما ما ذكره صاحب الكفاية من تشبيه المقام بصورة تعدد المستثنى (٢). فهو ليس كما ينبغي وذلك : لأن المستثنى تارة : يكون متعددا مصداقا ، لكنه واحد بالعنوان ، كعنوان : « الفساق ». وأخرى : يكون متعددا عنوانا. فالأوّل : لا إشكال فيه لوحدة طرف الربط ولكنه لا يشبه المورد. الثاني : تارة يكون مع العطف كان يقول : « أكرم العلماء الا الفساق والنحويين ». وأخرى بدون العطف.

فالأوّل : لا إشكال فيه ، لأن الربط وان تعدد لكن الدال متعدد أيضا ، إذ هو في الأول أداة الاستثناء وفي الثاني أداة العطف. فهو لا يشبه المورد من جهة تعدد الربط ووحدة الدّال المذكورة في الإشكال.

والثاني : لم يثبت جوازه ، بل محذور تعدد المستثنى منه يسري إليه ويرد فيه بلا تفاوت لتعدد الربط ووحدة الدال. فتدبر.

والخلاصة : ان ما ذكرناه هو الّذي ينبغي ان يقال فان فيه تحقيق المقال (١).

فصل :

وقع الكلام في جواز تخصيص العام الوارد في الكتاب بخبر الواحد

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٢٩٤ من هوامش الجزء الأول ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٣٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

تنبيه : قد عرفت ان الإشكال الثبوتي لا ينحل بما ذكر من رجوع الاستثناء إلى المجموع ، لأنه يتصور بأحد نحوين كلاهما بعيدان عن طريقة المحاورة.

ولكن سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) عدل عن ذلك ـ بعد البحث معه ( مد ظله ) ـ والتزم بإمكان رجوع الاستثناء إلى المجموع ، لوجود عنوان واحد جامع للعمومات ، وهو الضمير ، فانه عنوان مبهم قابل للانطباق على الجميع كما عرفت. وعليه فيندفع المحذور الثبوتي بهذا الوجه أيضا ، وينحصر البحث حينئذ في تعيين مرجع الضمير. فلاحظ وتأمل جيدا والله سبحانه الموفق. ( منه عفي عنه ).

٣٩٤

غير المحفوف بالقرينة القطعية ، مع الاتفاق بجواز تخصيصه بالكتاب وبالخبر المتواتر وبخبر الواحد المحفوف بالقرينة القطعية.

وقد التزم صاحب الكفاية بجوازه بلا ارتياب لوجهين :

أحدهما : قيام سيرة الأصحاب على العمل بخبر الآحاد في قبال عمومات الكتاب إلى زمن الأئمة عليهم‌السلام.

وثانيهما : لزوم إلغاء الخبر أو ما بحكمه لندرة خبر لا ينافي عموم الكتاب لو سلم وجود ما لم يكن كذلك.

وقد قرب عدم جواز التخصيص به بوجوه :

أولها : ان العام الكتابي قطعي الصدور ، والخبر ظني السند فلا يقاوم العام.

ورده صاحب الكفاية : بان ذلك لا يمنع التصرف في دلالته الظنية ، وإلاّ لامتنع تخصيصه بالخبر المتواتر مع انه جائز بلا كلام.

وذكر ان السرّ فيه : ان المعارضة بين أصالة العموم ودليل حجية الخبر ، وبما ان الخبر بدلالته وسنده صالح للتصرف في أصالة العموم ، لحكومته أو وروده عليها ، لأنه رافع لموضوعها تعبدا ، ولذا لو تيقن بمضمون الخبر يرتفع موضوع أصالة العموم تكوينا ، كان الخبر مقدما على العام. وأصالة العموم لا تصلح للتصرف في أصالة الحجية لأنها لا ترفع موضوعها كما لا يخفى.

وثانيهما : ان ما يدل على حجية الخبر هو الإجماع ، والقدر المتيقن منه ما لا يوجد على خلافه دلالة ولو كان مثل عموم الكتاب.

ورده في الكفاية : بان الدليل لا ينحصر بالإجماع ، كيف؟ وقد عرفت قيام السيرة على العمل بخبر الواحد في قبال عمومات الكتاب.

ثالثها : ما دل من الاخبار على وجوب طرح المخالف للكتاب من الاخبار ، وضربه عرض الجدار ، وانها زخرف ، ومما لم يقله الإمام عليه‌السلام ، وهي كثيرة جدا.

٣٩٥

ورده في الكفاية بوجوه :

الأول : ان المراد بالمخالفة هي غير المخالفة بنحو العموم والخصوص ، لأنها ليست مخالفة بنظر العرف ، ولا يرى العرف تنافي الدليلين إذا كانا كذلك.

الثاني : انه لو لم نقل بانصراف المخالفة عن المخالفة بالعموم والخصوص ، فلا بد من كون ذلك للقطع بصدور الاخبار الكثيرة المخالفة للكتاب بهذه المخالفة.

الثالث : قوة احتمال كون المراد انهم عليهم‌السلام لا يقولون بغير قول الله تعالى واقعا وان خالفه ظاهرا ، لاطلاعهم على مراده الواقعي ، وما يرى من كونه مخالفا لا يعدو سوى التخيل لا الواقع.

رابعها : انه إذا جاز التخصيص جاز النسخ بخبر الواحد ، لأنهما من واد واحد ، إذ النسخ في الحقيقة تخصيص أزماني ، وقد قام الإجماع على عدم جواز النسخ به ، فيدل على عدم جواز التخصيص به.

وردّه في الكفاية : بان عدم جواز النسخ به لقيام الإجماع ، وهو لا يلازم الإجماع على عدم جواز التخصيص به وان اشتركا في كونهما معا من التخصيص ، لوجود الفرق وهو توفّر الدواعي إلى نقل النسخ وضبطه دون التخصيص ، فلا يكتفي في النسخ بالظن دون التخصيص.

هذا توضيح كلام الكفاية ، وليس فيه ما يحتاج إلى تطويل البحث الا ما ذكره في تفسير الروايات الآمرة بطرح المخالف للكتاب ، وبما انه يقع البحث فيها في مبحث حجية خبر الواحد ومبحث التعادل والتراجيح فنوكل الكلام فيه إلى محله منهما. فتدبر (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٣٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٩٦

فصل :

في دوران الأمر بين النسخ والتخصيص. وقد ذكر في الكفاية ان الخاصّ والعام المتخالفين يختلف حالهما من حيث التخصيص والنسخ ، فتارة يكون الخاصّ مخصصا. وأخرى يكون ناسخا. وثالثة يكون منسوخا بالعامّ ، وذكر في بيان ذلك ـ بعد تسليم أمرين : أحدهما : امتناع التخصيص بعد وقت العمل بالعامّ لاستلزامه تأخير البيان عن وقت الحاجة. وثانيهما : امتناع النسخ قبل حضور وقت العمل ـ ان الخاصّ ان كان مقارنا مع العام أو بعده قبل حضور وقت العمل به كان مخصصا ، وان كان بعد حضور وقت العمل به كان ناسخا ، إذ التخصيص يستلزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، نعم يستثنى من ذلك صورة ما إذا لم يكن العام واردا لبيان الحكم الواقعي كما هو الحال في غالب العمومات الواردة في لسان الشرع ، فانه يكون الخاصّ مخصصا له. وان كان العام واردا بعد حضور وقت العمل بالخاص دار الأمر بين كون الخاصّ مخصصا وكونه منسوخا ، ويتحقق التصادم بين ظهور العام في العموم وظهور الخاصّ في الدوام والاستمرار ، وبما ان التخصيص اشتهر وذاع كان ظهور العام ولو كان وضعيا أضعف من ظهور الخاصّ الإطلاقي ، وبذلك يتعين الالتزام بالتخصيص.

ثم انه تعرض لصورة الجهل بتاريخ ورود الخاصّ بعد العام وانه بعد العمل به أو قبله ، وحكم بها بالرجوع إلى الأصول العملية ، ولا تنفع كثرة التخصيص في ترجيحه ، إذ غاية ما تستلزم ، الظن بالتخصيص بلحاظ الغلبة ولا دليل على اعتبار هذا الظن.

ففرق بين الصورة السابقة وهذه الصورة ، فان شهرة التخصيص تستلزم أقوائية أحد الظهورين على الآخر ـ في الصورة السابقة ـ. وليس الأمر كذلك في صورة الجهل بالتاريخ لعدم الدوران بين الظهورين والتصادم بينهما.

٣٩٧

ثم انه بعد ذلك ذكر ان تعين الخاصّ للتخصيص فيما لو ورد قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، أو ورد العام قبل وقت العمل بالخاص ، يبتني علي امتناع النسخ قبل حضور وقت العمل ، وإلاّ فلا يتعين التخصيص ، بل يدور امره بين النسخ والتخصيص ، ولكن يلتزم بالتخصيص لأقوائية الظهور في الدوام من الظهور في العموم من جهة شهرة التخصيص وندرة النسخ.

هذا ما أفاده صاحب الكفاية في المقام (١).

تحقيق الكلام : ان المراد من تأخير البيان عن وقت الحاجة المحكوم بالقبح أحد وجوه ثلاثة :

الأول : تأخير البيان عن وقت العمل والامتثال ، كالإنشاء الفعلي لوجوب الجلوس في المسجد أمس ، فانه عبث لغو ، إذ الحكم المذكور لا يترتب عليه شيء من الداعوية فيكون قبيحا.

الثاني : تأخير البيان عن وقت البيان ، بمعنى تأخير البيان عن الوقت الّذي يكون المتكلم في مقام البيان ، فانه قبيح أيضا لأنه خلف.

الثالث : تأخير البيان المفوت للمصلحة واستيفاء الغرض ، فانه قبيح لأجل تفويت الغرض. وهذا غير مرتبط بالعامّ والخاصّ ، بل هو وجه سار في كل مورد من موارد عدم البيان المستلزم لذلك. كما لا يخفى.

والعمدة في وجه الإشكال في تأخير الخصوصيات هو الأول ، فانه لا معنى للإنشاء الفعلي للأحكام الخاصة في الزمان الماضي ، فتأخير التخصيص عن وقت الامتثال والعمل قبيح سواء كان الخاصّ متكفلا لحكم إلزاميّ أو ترخيصي ، إذ بعد مضي الوقت لا يبقى مجال لإنشاء الإلزام أو الترخيص فيه لعدم ترتب الأثر المرغوب من جعل الحكم عليه.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٣٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٩٨

ولكن هذا الوجه مع أهميته ومتانته مغفول عنه في كلمات الاعلام ، وانما يتعرضون لوجهين الآخرين.

والّذي يظهر من صاحب الكفاية إرادة الوجه الثاني ، فان ما ذكره من تعين الخاصّ للنسخ إذا ورد بعد وقت العمل بالعامّ إذا كان العام واردا لبيان الحكم الواقعي دون ما إذا لم يكن واردا لذلك ، ظاهر جدا في كون نظره في تأخير البيان هو الوجه الثاني.

وهكذا المحقق النائيني فانه تابعة في ذلك ، لأنه وان أورد عليه بعدم إمكان تكفل العام لبيان الحكم الظاهري ، لكنه وافقه في ما هو المهم ، وهو عدم تكفل العام لبيان الواقع فانه مشترك بينهما (١).

وعلى كل ، فقد عرفت ان صاحب الكفاية ذهب إلى تعين الخاصّ للتخصيص في مورد دوران الأمر بين كونه مخصصا وناسخا أو مخصصا ومنسوخا ، وعلّله بأقوائية الظهور في الدوام على الظهور في العموم لشهرة التخصيص وندرة النسخ.

وأورد عليه المحقق النائيني بوجوه عديدة :

منها : ان أصالة العموم من الأصول اللفظية ، وأصالة عدم النسخ من الأصول العملية لأنها مفاد استصحاب عدم النسخ لا انها مفاد الإطلاق ، إذ الدليل المتكفل لأصل الحكم لا يمكن ان يكون بنفسه متكفلا لإثبات استمراره لتأخر الاستمرار رتبة عن الحكم. وعليه فعند التعارض يتقدم الأصل اللفظي على العملي لحكومته عليه ، فلا بد من الحكم بالنسخ لا بالتخصيص.

وقد اختار قدس‌سره التخصيص بوجه آخر ، فانه بعد ان قدم مقدمات ثلاث ، تعرض في الأولى منها بكلام الكفاية المرتبط بتكفل العام لبيان

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٠٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٩

الحكم الظاهري. وفي الثانية لبيان ان النسخ قبل وقت الحاجة معقول في الجملة وفي بعض صور جعل الأحكام. وفي الثالثة لبيان عدم قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة إذا كان من عادة المتكلم ذلك ، لمصلحة هناك ، كما هو الحال في المولى الشرعي. بعد ذلك ذكر ان مجيء الخاصّ المتأخر يمنع من جريان مقدمات الحكمة في العموم لصلاحية الخاصّ للتخصيص ، ومع وجود ما يصلح للتخصيص وتقييد موضوع العام لا تتم مقدمات الحكمة ، فأصالة العموم لا تكون جارية في نفسها عند ورود المخصص ، لعدم المقتضي وهو مقدمات الحكمة لا لوجود المانع. ولا يختلف الحال بين ان يكون الخاصّ متأخرا أو متقدما ، بل فيه أولى لأبعدية احتمال النسخ فيه ، إذ قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة لو سلم المانع من الالتزام بتخصيص الخاصّ المتأخر فلا يسلم قبح تقديم البيان عن وقت الحاجة. فلاحظ (١).

ولكن ما أفاده لا يمكننا الالتزام به.

اما التزامه بان نفي النسخ مفاد الاستصحاب لا الإطلاق ، فهو محل منع كما سيأتي الكلام فيه في محله ، وخلاصة ما يدفع به : ان الدليل كما يتكفل بإطلاقه ثبوت الحكم لافراده الدفعيّة ، كذلك له إطلاق يتكفل ثبوته لافراده التدريجية وهو معنى استمراره وهذا الوجه ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله أيضا (٢).

واما ما ذكره من ان مخصصية الخاصّ لأجل عدم تمامية مقدمات الحكمة ، فلو سلم على مبناه من ان عدم النسخ والاستمرار يثبت بالاستصحاب لا بالإطلاق ـ في الخاصّ المتأخر ، فلا يسلم في الخاصّ المتقدم على العام ، وذلك لأن التنافي بين الخاصّ والعام انما يتحقق إذا كان زمان الحكمين متحدا ، وعليه فلا

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٠٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٢٩٥ من هوامش الجزء الأول ـ الطبعة الأولى.

٤٠٠