منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

ثم انه نقل وجهين آخرين للفرق :

أحدهما : ما في الفصول من بيان ان جهة الفرق هي الاختلاف الموضوعي بينهما ، فموضوع كل منهما غير موضوع الأخرى (١).

وناقشه قدس‌سره : بان اختلاف الموضوع لا يوجب تعدّد المسألة مع وحدة الجهة ، ومع تعدّدها تعدد المسألة وان اتّحد الموضوع.

ثانيهما : ما ذكر من ان الفارق كون البحث هنا عقليا وفي تلك المسألة عن دلالة اللفظ.

وناقشه : بان البحث في تلك المسألة عقلي أيضا ، مع ان هذا الاختلاف لا يستلزم عقد مسألتين ، لأنه تفصيل في المسألة الواحدة كما نراه في بعض المسائل (٢).

ولا يخفى : ان هذه الجهة من البحث وبعض الجهات التالية التي ذكرها في الكفاية لا يترتب على تحقيقها أثر عملي ، ولأجل ذلك أهملنا فيها ذكر المناقشات ، بل نقتصر فيها وفي غيرها على مطلب الكفاية والإشارة إلى جهات الإشكال الواضحة فيه. فانتبه.

الجهة الرابعة : في ان المسألة أصولية أو لا؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى كونها أصولية : لأنها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، وانها كما تشتمل على جهة المسألة الأصوليّة تشتمل على جهة المسألة الكلامية والفقهية والمبادئ التصديقية (٣).

والّذي يبدو للنظر انها غير أصولية ، إذ احتمالاتها ثلاثة وكلّ منها لا يقع في طريق استنباط الحكم مباشرة ولا يكون كبرى لقياس الاستنباط ، وذلك لأنه

__________________

(١) الحائري الطهراني الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية ـ ١٤٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١

اما ان يلتزم بالامتناع لأجل التضاد ، فيقع التعارض بين الدليلين. واما ان يلتزم بالجواز من هذه الجهة لكن يمتنع اجتماع الحكمين لأجل التزاحم ، فتكون النتيجة عدم جواز التمسك بكلا إطلاقي الدليلين ولا بدّ من تقييد أحدهما. واما ان يلتزم بالجواز من كلتا الجهتين ، فتكون النتيجة جواز التمسك بكلا الإطلاقين من دون تقييد أحدهما.

وبالجملة : البحث من هذه الجهة يرتبط بمسألة التزاحم ، فهي على بعض الاحتمالات من المبادئ التصديقيّة لمسألة التعارض ، وعلى الاحتمالات الأخرى من المبادئ التصديقية لمسألة التزاحم.

الجهة الخامسة : في كون المسألة عقليّة.

وهذا واضح ، إذ لا يرتبط باللفظ ، فانّه ليس هناك ما يدلّ على الجواز وعدمه بل تشخيص أحدهما ممّا يحكم فيه العقل.

واما ذهاب البعض إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا ، فهو لا يعني دلالة اللفظ على الامتناع ، بل مرجعه إلى ان الواحد بالنظر العقلي اثنان ، وبالنظر العرفي المسامحي واحد ذو وجهين ، هذا ما أفاده صاحب الكفاية ثمّ قال : « غاية الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع » (١).

أقول : لا يظهر الوجه في قوله هذا ، فانه ان أراد وجود لفظ مخصوص يدلّ على عدم الوقوع فهو واضح البطلان ، إذ لا وجود لمثل هذا اللفظ كما لا وجود للفظ الدال على الامتناع. وان أراد عدم شمول الإطلاقين للمورد لوحدته بنظر العرف ، فغايته عدم الدلالة على الوقوع لا الدلالة على عدم الوقوع فالتفت.

الجهة السادسة : لا يخفى ان الكلام في اجتماع الأمر والنهي يعمّ جميع

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٢

أقسام الوجوب والتحريم لعموم ملاكه ، وتأتي النقض والإبرام في جميع الأقسام.

وقد ذكر ذلك صاحب الكفاية ، كما تعرّض إلى أنه قد يدّعى انصراف لفظ الأمر والنهي المأخوذين في عنوان المبحث إلى خصوص النفسيين التعيينيين العينيين ثم حكم عليها بأنها دعوى تعسفية في مادة الأمر والنهي ، نعم هي غير بعيدة في صيغة الأمر والنّهي ، ثمّ منعها فيها أيضا وذكر ان الثابت ظهور الصيغة في ذلك بالإطلاق وهو غير منعقد هنا لعدم تماميّة مقدّمات الحكمة ، إذ القرينة على العموم ثابتة وهي عموم الملاك وجريان النقض والإبرام في جميع الأقسام (١).

أقول : ظاهر كلامه الأخير ان إطلاق المادّة يقتضي في نفسه إرادة الوجوب النفسيّ التعييني العيني لو لا قيام القرينة على الخلاف ، إذ جعل المانع عدم تماميّة المقدّمات باعتبار وجود القرينة بحيث لولاها لالتزم بإرادة خصوص النفسيّ التعييني العيني.

وهو ـ مضافا إلى منافاته لما في صدر كلامه من ان قضيّة إطلاق لفظ الأمر والنهي العموم ـ باطل ، فان إطلاق المادّة في نفسه لا يقتضي خصوص نحو من الوجوب ، وانما ذلك ثابت في إطلاق الصيغة. والسّر فيه : ان مادّة الأمر تارة تستعمل في مقام الإنشاء وأخرى في مقام الاخبار. والالتزام بأنها تدلّ على الطلب النفسيّ التعييني العيني بمقتضى الإطلاق إذا كانت مستعملة في مقام الإنشاء لا يلازم الالتزام بان مقتضاه ذلك في باب الاخبار ، إذ ليس المقصود في باب الإنشاء إلاّ إيجاد فرد من افراد الوجوب ، وقد عرفت فيما تقدّم ان مقتضى الإطلاق يلازم إرادة النفسيّ التعييني العيني. اما باب الإخبار فيمكن أن يقصد الحكم على الطبيعة بلحاظ جميع افرادها ـ كما فيما نحن فيه ـ ، فمع عدم القرينة يحمل الكلام على إرادة جميع الأفراد ، كما هو الحال في سائر الألفاظ الموضوعة للطبائع

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٣

فتدبّر.

الجهة السّابعة : في أخذ قيد المندوحة.

ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره : ان البعض قيد عنوان النزاع بوجود المندوحة ، إذ مع عدم المندوحة في مقام الامتثال لا إشكال في الامتناع ولا خلاف. ومحل الخلاف مورد وجود المندوحة. وذكر انه ربما قيل ان إطلاق العنوان وعدم تقييده انما هو لأجل وضوح ذلك.

ولكنّه لم يرتض ذلك ، فقد أفاد قدس‌سره : ان المهمّ في المقام هو بيان ان هل يلزم اجتماع الحكمين المتضادّين الّذي هو محال أو لا يلزم المحال؟ وعمدته معرفة ان تعدّد الوجه يجدي في تعدّد ذي الوجه فلا يلزم المحال أو لا فيلزم المحال؟. ومن الواضح ان هذا المعنى لا يختلف الحال فيه بين وجود المندوحة وعدم وجودها كما لا يخفى. نعم ، وجود المندوحة دخيل في الحكم الفعلي بالجواز عند من يرى امتناع التكليف بالمحال كما قد تعتبر بعض الشروط الأخرى (١).

وقد أورد المحقّق الأصفهاني على صاحب الكفاية إيرادين :

الأوّل : ان حيثيّة تعدّد المعنون بتعدّد العنوان وعدمه ليست حيثية تقييدية لعنوان النزاع من الجواز وعدمه ، كي يدعى عدم احتياج تقييد العنوان بوجود المندوحة ، إذ لا دخل له فيما هو محلّ النزاع من الجواز وعدمه من جهة التضادّ وعدمه ، وانما هي جهة تعليلية للعنوان ، فنفس العنوان هو البحث في الجواز وعدمه بقول مطلق ، فيحتاج إلى تقييده بوجود المندوحة. ولا وجه لجعل البحث جهتيا بعد عدم مساعدة العنوان عليه.

الثاني : ان الغرض الأصولي انما يترتب على الجواز الفعلي ـ إذ البحث الأصولي ليس كمباحث الفلسفة يكون الغرض منه نفس العلم والمعرفة من دون

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٤

لحاظ ترتب أثر عملي عليه ـ ، فلا بدّ على هذا من تعميم البحث وإثبات الجواز من جميع الوجوه اللازمة من تعلّق الأمر والنهي بواحد ذي وجهين من تضادّ ومزاحمة ، لا الوجوه المعارضة اتّفاقا ، فلا وجه لقياس عدم المندوحة بغيرها من الجهات الاتفاقيّة المانعة من الحكم بالجواز فعلا.

ثم انه ذكر ـ بعد ذلك ـ وجها لإنكار لزوم التقييد بالمندوحة ، وإليك نصّه : « انه لو كان تعدّد الوجه مجديا في تعدّد المعنون لكان مجديا في التقرب به من حيث رجحانه في نفسه ، فان عدم المندوحة يمنع عن الأمر لعدم القدرة على الامتثال ، ولا يمنع من الرجحان الذاتي الصالح للتقرّب به ، فكما ان تعدّد الجهة يكفي من حيث التضاد كذلك يكفي من حيث ترتّب الثمرة ، وهي صحّة الصلاة فلا موجب للتقييد بعدم المندوحة لا على القول بالتضادّ ، لما عرفت من لكفاية الاستحالة من جهة التّضاد في عدم الصحّة ، ولا على القول بعدم التضادّ ، لما عرفت من كفاية تعدد الجهة من حيث التقرب أيضا » (١).

وتحقيق الحال : انه إن قيل بامتناع اجتماع الأمر والنهي من جهة التضاد لوحدة الوجود ، فلا أثر لوجود المندوحة وعدمها في ذلك وهكذا لو قيل بالجواز من جهة التضادّ باعتبار تعدّد الوجود ، فانّه لا دخل للمندوحة فيه أيضا.

وحينئذ لو قلنا بعدم الجواز للتزاحم في مقام الامتثال ، فبما ان الملاك موجود والمرتفع هو الأمر فقط ، فان قيل بكفاية قصد الملاك في حصول التقرب ، فلا دخل للمندوحة وعدمها في صحة العبادة ، وان لم يلتزم بكفاية الملاك باعتبار وحدة الإيجاد وان تعدّد الوجود ، فلا يختلف الحال أيضا.

وحينئذ فان التزم بما التزم به المحقّق الكركي رحمه‌الله من إمكان الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر بالطبيعة ، كان لوجود المندوحة أثر ظاهر ، إذ

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٦٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٥

مع عدمها لا أمر بالطبيعة كي يقصد لانحصارها بالفرد المزاحم.

وهكذا يختلف الحال لو التزم بما التزم به بعض المتأخّرين من عدم التزاحم بين الموسّع والمضيق (١) ـ خلافا لما هو المعروف بين المتقدّمين ، فان مثالهم للتزاحم غالبا ما يكون بتزاحم الأمر بالصلاة والأمر بإزالة النجاسة عن المسجد ، مع انّهما من الموسّع والمضيق ـ ، إذ مع وجود المندوحة لا يتحقّق التزاحم ، ومع عدمها يقع التزاحم لعدم كون الأمر أمرا بالموسّع ، بل بخصوص الفرد المزاحم لانحصار الواجب به.

فظهر ممّا ذكرنا ان التقييد بالمندوحة انما يظهر أثره على الوجهين الأخيرين ، فأثره على الوجه الّذي تبنّاه الكركي تصحيح العبادة بقصد الأمر ، وعلى الوجه الآخر تعلّق الأمر بها واجتماعه مع النهي لعدم التزاحم. وهذان الوجهان خصوصا الأخير ممّا لا أثر لهما في كلمات الأقدمين ، فكيف يفرض أخذ المندوحة في عنوان النزاع الّذي نحن فيه وكون إهماله اعتمادا على وضوحه؟!. فالحقّ إذن في جانب الكفاية ، ولكن بالبيان الّذي ذكرناه لا ببيانه المزبور ، فانّه لا يخلو عن مناقشة كما عرفت.

الجهة الثامنة : في بيان ارتباط المسألة بمسألة تعلّق الأحكام بالطبائع أو الأفراد.

ذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله : انه قد ادعي انه لا نزاع على القول بتعلّق الأحكام بالافراد. وانما النزاع يبتني على الالتزام بتعلّقها بالطبائع. كما انه ادّعى بان القول بالجواز يبتني على الالتزام بتعلّق الأحكام بالطبائع والقول بالامتناع يبتني على الالتزام بتعلقها بالافراد. ومنشأ كلا الدعويين ان الفرد عبارة عن الوجود الواحد الشخصي. ومن الواضح ان تعلّق الحكمين بواحد شخصي

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٦٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٦

محال ، لأنه من اجتماع الضدّين.

ولكن استشكل في ذلك صاحب الكفاية ، فأفاد : ان أساس النزاع على ان تعدد الوجه يكفي في رفع الغائلة أو لا؟. فمع الالتزام بكفايته وانه يستلزم تعدّد المعنون ، فمتعلّق الحكم وان كان هو الفرد بهذا المعنى إلاّ انه حيث كان ذا وجهين كان مجمعا لفردين من طبيعتين ، أحدهما متعلّق الأمر والآخر متعلّق النهي ، فلا يلزم اجتماع الضدّين. ومع الالتزام بعدم كفايته وانه لا يستلزم تعدّد المعنون ، فالاجتماع محال حتى على القول بتعلّقه بالطبيعة ، لأن وجود كل من الطبيعتين عين وجود الأخرى ، والمطلوب هو وجود الطبيعة ـ كما تقدّم ـ فيلتزم اجتماع الأمر والنهي في واحد وهو محال (١).

وقد قرّبت الدعوى المزبورة بنحو يتّفق مع مسلك صاحب الكفاية من الفرد ، وهو الطبيعة المقيّدة بلوازمها من زمان ومكان ونحوهما. بيان ذلك ، ان الأمر إذا فرض تعلّقه بالفرد ، فهو يعني تعلّقه بالطبيعة مع عوارضها اللازمة ، فيكون تقيّدها بالمكان متعلّقا للأمر ، وهذا ينافي مع تعلّق النهي به ـ في مثل الصلاة في المكان المغصوب ـ لأنه يلزم تعلّق الحكمين في شيء واحد لوجه واحد.

وأجيب عن هذا الإشكال : بان الفرد عبارة عن الطبيعة مقيدة بكلي المكان وكلي الزمان ونحوهما ، لا بخصوص هذا المكان ونحوه ، فهذا المكان الخاصّ لم يتعلّق به الأمر. ولو أنكر ذلك بدعوى ان كلّي المكان لا يوجب التفرد ، فان ضم كلي إلى كلي لا يستلزم الفرديّة وان أوجب تضييق دائرة الصدق. فنقول : ان الفرد وان كان عبارة عن الطبيعة مقيّدة بالمكان الخاصّ ، لكن القيد ذات المكان لا بعنوان انه غصب ـ مثلا ـ ، فهو مأمور به بعنوان انه لازم الطبيعة ، ومنهي عنه باعتبار انه غصب ، فيكون من اجتماع الأمر والنهي في واحد بوجهين وهو

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٧

محلّ الكلام (١).

وأنت خبير انه كان على صاحب الكفاية ان يقرّب الدعوى على هذا المسلك ، لأنه مسلكه لا على تقريب الفرد بما اخترناه سابقا من انه وجود الطبيعة بملاحظة جهة الخصوصية التي بها يباين غيره. وعلى أيّ حال فقد عرفت بطلان الدعوى على كلا المسلكين. فالتفت.

الجهة التاسعة : فيما يرتبط بملاك باب الاجتماع.

وقد ذكر صاحب الكفاية : ان المورد لا يكون من موارد اجتماع الأمر والنهي إلا إذا كان في كل من متعلّقي الأمر والنهي مناط الحكم مطلقا حتى في مورد التصادق.

والوجه فيه هو : ان أحكام باب الاجتماع لا تترتّب إلاّ في مورد وجود الملاكين ، وهي الحكم فعلا بكونه محكوما بكلا الحكمين بناء على الجواز ، وبكونه محكوما بما هو أقوى مناطا من الحكمين ، أو بحكم آخر غيرهما لو تساوى المناطان ، بناء على الامتناع. ولو لم يكن في المورد مناط كلا الحكمين فلا يكون من باب الاجتماع ، ولأجل ذلك لا تترتّب أحكامه ، بل يكون محكوما بأحد الحكمين إذا كان له مناطه ، أو بغيرهما إذا لم يكن لكلا الحكمين مناط سواء قيل بالامتناع أو الجواز. هذا فيما يرجع إلى مقام الثبوت اما مقام الإثبات فإذا أحرز ان المناط من قبيل الثاني ـ يعني لم يكن لكلا الحكمين مناط ـ فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان ، فالمحكم حينئذ قواعد المعارضة من ترجيح أو تخيير. وان لم يحرز ذلك ، بل أحرز وجود الملاكين ، فلا يكون تعارض ، بل يكون المورد من موارد تزاحم المقتضيين. فالمقدّم هو الأقوى منهما ولو كان أضعف دليلا. نعم ، إذا كان كلّ منهما متكفّلا للحكم الفعلي كانت المعارضة ثابتة ، فلا بد من

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٦٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٨

ملاحظة قواعد المعارضة ، إلاّ إذا جمع بينهما عرفا بحمل أحدهما ـ وهو الأضعف ملاكا ـ على بيان الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجّحات باب المزاحمة.

ثم انه قدس‌سره تعرّض في الأمر التاسع لبيان كيفيّة إحراز الملاك ، فأفاد قدس‌سره : انه لو كان هناك دليل خاص على ثبوت الملاك من إجماع أو غيره فهو. ولو لم يكن سوى إطلاق دليلي الحكمين فان كان الإطلاق لبيان الحكم الاقتضائي لكان دليلا على ثبوت المقتضي في مورد الاجتماع فيكون المورد من باب الاجتماع. وان كان لبيان الحكم الفعلي فان قيل بجواز اجتماع الأمر والنهي فيستكشف ثبوت المقتضي في الحكمين إلا إذا علم إجمالا يكذب أحد الدليلين ، فيكونان متعارضين. وان قيل بالامتناع فالإطلاقان متنافيان من دون ان تكون لهما دلالة على ثبوت مقتضى الحكمين ، لأن ارتفاع أحد الحكمين كما يمكن ان يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي كذلك يمكن ان يكون لأجل عدم المقتضي ، إلاّ ان يجمع بينهما بما تقدمت الإشارة إليه. ثم قال : « فتلخّص انه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين كان من مسألة الاجتماع وكلما لم يكن هناك دلالة عليه فهو من باب التعارض مطلقا ... » (١).

هذا كلامه قدس‌سره في الأمرين الثامن والتاسع.

وقد تخيل البعض ـ كما كنّا نتخيل سابقا ـ انه حدّد بذلك ضابط باب التزاحم ، وانه بنظره المورد الّذي يكون فيه ملاكا الحكمين موجودين ، ونسب إليه ذلك فقيل ان التزاحم على رأيه تنافي الحكمين مع وجود ملاكيهما (٢).

إلا ان الّذي يبدو لنا فعلا ان كلامه غير ظاهر في ذلك أصلا ، إذ لم يرد في كلامه ما يشير إلى التزاحم سوى قوله : « تزاحم المقتضيين » ، وهو غير ظاهر في

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٤ ـ ١٥٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٤ ـ ٢٠٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٩

ما نسب إليه ، فانه لا ظهور له في اعتبار وجود الملاكين في التزاحم ، وقد عبر في غير هذا الموضع بتحقق التزاحم بين الحكمين ، فلا دليل على تخصيصه مورد التزاحم بمورد وجود المقتضيين ووقوع التزاحم بينهما.

وعلى كلّ فنقول : ان قصد ذلك ـ أعني تحديد باب التزاحم ـ فهو ينافى ما فرضه من كون بعض صور المقام من موارد التعارض وهي صورة كون الدليلين لبيان الحكم الفعلي. وان لم يقصد ذلك ، بل كان نظره إلى تحديد مسألة الاجتماع ، فيكون اعتباره وجود الملاك في كون المورد من موارد باب الاجتماع ، كاعتبار المندوحة في محلّ النزاع من قبل بعض ، وهو غير وجيه لأن وجود الملاك وعدمه أجنبي أيضا عن الحكم بالجواز أو الامتناع لأجل التضادّ.

كما ان الأثر العملي لا يتوقف ترتّبه على ذلك ، إذ على القول بالجواز لا يلزم لأجل الحكم بثبوت الحكمين فعلا إحراز الملاك ، بل إطلاق الدليلين يكفى في ذلك. ومنه يستكشف ثبوت الملاك ـ كما صرّح به هو قدس‌سره ـ. وعلى القول بالامتناع لا ملزم لترتيب ما ذكره من الأثر المتوقّف على إحراز الملاك.

فليكن المقام من موارد التعارض لو لم يكن الملاك ثابتا.

ثم انه يرد عليه أيضا : انه ذكر في صدر كلامه انه ان أحرز عدم وجود الملاك في أحد الحكمين كان المورد من موارد التعارض ، وان لم يحرز ذلك كان من موارد تزاحم المقتضيين. وذكر في ذيل كلامه بقوله : « فتلخّص ... » هذا المعنى بنحو عكسي ، إذ ذكر انه كلّما أحرز وجود الملاكين كان المورد من موارد باب الاجتماع ، وكلّما لم يحرز ذلك كان من باب التعارض فالتفت.

ثم ان في كلامه بعض موارد للبحث والنقض والإبرام نتعرّض إليها بعد حين إن شاء الله تعالى. وحيث جرى حديث ضابط التزاحم والتعارض فلا بأس بصرف عنان الكلام إلى تحديد ضابط التزاحم وتمييزه عن التعارض فنقول ومن الله نستمد العون :

٣٠

« ضابط التزاحم »

أن من تعرّض لهذا البحث مفصّلا وخاض في شئونه هو المحقّق النائيني قدس‌سره.

ولأجل ذلك نتعرّض لكلامه وإبداء رأينا فيه.

فقد أفاد قدس‌سره : ان التزاحم تارة : يكون في الملاك ، بمعنى ان يكون في فعل واحد جهة توجب وجوبه وأخرى توجب حرمته. وأخرى : يكون في مقام الامتثال وتأثير كلا الحكمين في مرحلة الداعويّة الفعليّة.

وذكر : ان الفرق بين الأوّل والثّاني يرجع إلى ان التزاحم في مقام الملاك يرتبط بعالم جعل الحكم وترجيح إحدى الجهتين على الأخرى ، وملاحظة حصول الكسر والانكسار بينهما ، ولأجل ذلك يكون هذا الأمر بيد نفس المولى ولا يرتبط بعلم المكلّف وجهله بخلاف التزاحم في مقام الامتثال فانه يرجع إلى عالم الامتثال بعد جعل الحكم على موضوعه ولأجل ذلك يكون تعيين الوظيفة بيد المكلّف ، فهو الّذي يعيّن وظيفته بمقتضى عقله وإدراكه من ترجيح أو تخيير.

وقد أفاد قدس‌سره : ان محلّ الكلام هو التزاحم في مقام الامتثال دون التزاحم في مقام الملاك ، وان وقع الاشتباه بينهما لأجل الاشتراك في الاسم.

ثمّ شرع قدس‌سره في المطلوب من بيان الفرق بين التزاحم

٣١

والتعارض فذكر : ان الفرق بين البابين كبعد المشرقين ، ولأجل ذلك كان البحث في ان الأصل عند الشكّ في كون مورد من موارد التزاحم أو موارد التعارض ، هل هو التزاحم أو التعارض؟. ناشئ عن الخلط بينهما وعدم ملاحظة جهة الفرق بينهما ، فانه كالبحث في حصول أصل في الأشياء هل هو الطهارة أو بطلان بيع الفضولي ، فان باب التزاحم يفترق عن باب التعارض من وجوه ثلاثة توجب حصول الفصل البعيد بينهما وهي : افتراقه عنه في مورد التصادم ، وفي الحاكم بالترجيح أو التخيير ، وفي جهة التقديم.

اما افتراقهما في مورد التصادم فبيانه : ان التنافي بين الحكمين :

تارة : يكون في مقام الجعل والإنشاء بحيث كان من المحال جعل كلا الحكمين كالحكمين المتضادين في المورد الواحد ، فانه لا يمكن جعل الوجوب والحرمة على فعل واحد.

وأخرى : يكون في مقام الفعليّة ، بان لا يكون هناك مانع من جعل كلا الحكمين على موضوعهما المقدّر ، إلاّ ان التمانع يكون في مقام فعلية هذين الحكمين وتحقّق موضوعيهما ، كالتمانع الحاصل بين الحكمين الثابتين على موضوعين إذا لم يمكن امتثالهما معا ، كوجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الغريق.

فالنحو الأوّل من التنافي هو التعارض والنحو الثاني هو التزاحم.

ونكتة الفرق بينهما ترجع إلى ان ثبوت أحد الحكمين المتنافيين بالنحو الأول يستلزم تضييق دائرة جعل الحكم الآخر ، فمثلا لو ورد وجوب إكرام العالم وحرمة إكرام الهاشميّ ، فاجتمع الوصفان في شخص ، فانه يمتنع ثبوت الحكمين له ويستحيل شمول جعلهما لمورد التصادق فلا بدّ من رفع اليد عن أحدهما في ثبوت الآخر ، فتضيق دائرة جعله.

وأمّا ثبوت أحد الحكمين المتنافيين بالنّحو الثاني ، فهو لا يلزم منه تضييق دائرة جعل الآخر ، بل دائرة جعله على حالها لا يمسّها شيء ، وانما يكون نفى

٣٢

ثبوت الآخر لانتفاء موضوعه لا لتضييق دائرة جعله.

بيان ذلك : ان التنافي في مقام الفعليّة والامتثال حيث فرض لأجل التنافي في تحقّق موضوع كلا الحكمين ، بمعنى ان امتثال أحدهما يستلزم ارتفاع موضوع الآخر ، فلا محالة يكون تقديم أحدهما ومتابعته موجبا لنفي الآخر ، ولكنه ينتفي لعدم موضوعه من دون ان تتضيق دائرة جعله ، وهي جعل الحكم على الموضوع المقدّر وجوده.

فمثلا إذا تزاحم وجوبا إنقاذ الغريقين ، فان إنقاذ أحدهما يستلزم ارتفاع القدرة عن إنقاذ الآخر ، فيرتفع الحكم لكن لأجل عدم موضوعه ، اما أصل الجعل وهو جعل وجوب إنقاذ كل غريق فلم يمسّ بشيء بل هو على حاله.

ومن الواضح أيضا ان الحكم لا نظر له إلى موضوعه لا حدوثا ولا بقاء ، فما يوجب رفع موضوع الحكم لا يتنافى مع الحكم وكيفيّة جعله.

وعليه ، فإذا قدّم أحد الحكمين ـ في مسألة الغريقين ـ وكان موجبا لرفع موضوع الغير لم يناف الحكم الآخر ، إذ الحكم الآخر لو كان في هذا الحال ناظرا إلى متعلّقه وداعيا إليه لكان مستلزما للنظر إلى حفظ موضوعه ، لأن دعوته إلى متعلّقه وصرف القدرة فيه ملازمة لدعوته إلى عدم صرف القدرة في متعلّق الآخر الملازم لحفظ موضوعه بقاء ، لأن صرف القدرة في متعلّق الآخر ترفع موضوعه على ما عرفت. وقد عرفت ان الحكم لا ينظر إلى موضوعه بقاء وحدوثا.

وبالجملة : فعدم تحقّق الحكمين في الفرض لأجل عدم تحقّق موضوعيهما معا لا لأجل قصور جعلهما ، وكلّ من الحكمين لا يتنافى مع الآخر ، لأنه وان استلزم ارتفاعه لكن لأجل انه استلزم ارتفاع موضوعه ، فدائرة جعل كلّ منهما على حاله والتنافي في مقام الفعلية وثبوت الحكم لموضوعه المقدّر ، لأن كلا منهما يستلزم نفي الآخر بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لا السالبة مع وجود الموضوع كما هو الحال في التعارض.

٣٣

فأساس نكتة التزاحم هي استلزام كل من الحكمين رفع موضوع الآخر ، مع كون الحكم لا نظر له إلى إبقاء موضوع نفسه ، فلا يتنافى كل حكم مع ما يستلزم رفع موضوعه ، وعليه فإذا قدّم أحدهما لا يكون الآخر داعيا إلى صرف القدرة في متعلّقه لأنه يستلزم نظره إلى حفظ موضوعه وهو خلف.

هذا تقريب ما أفاده المحقّق النائيني في بيان جهة التنافي في باب التزاحم (١).

وقد ظهر أنه لا تنافي في مقام الجعل ولا المجعول.

فلا وجه لما قرّب بعضهم كلامه قدس‌سره من : ان التعارض هو التنافي في مقام الجعل ، والتزاحم هو التنافي في المجعول. وأورد عليه : بعدم الفرق بين مقامي الجعل والمجعول إذ عرفت انه لا تنافي بين الحكمين أصلا لأن أحدهما يرفع موضوع الآخر فلا تنافي إلا بمعنى عدم إمكان اجتماعهما في عرض واحد ، لا ان أحدهما ينفي الآخر ويرفعه ، فان كلا منهما لا نظر له إلى الآخر نفسه بل إلى موضوعه.

هذا ولكنّ الإنصاف يقتضي ان المنافاة بين الحكمين في مورد التزاحم تسري إلى عالم الجعل كالتعارض.

وامّا ما أفاده قدس‌سره فهو مخدوش فان أساسه كما عرفت على ان كلا من الحكمين يرفع موضوع الآخر بضميمة ان الحكم لا نظر له إلى حفظ موضوعه وإبقائه فلا منافاة بينهما. وهذا ممّا لا نقرّه ولا نعترف به.

بيان ذلك : ان عدم إمكان نظر الحكم إلى موضوعه حدوثا وبقاء لم يرد في آية أو رواية كي يتمسك بعمومها أو إطلاقها. ونظر الحكم إلى حفظ موضوعه ثابت في بعض الموارد نظير لزوم حفظ الماء للوضوء الّذي ينظر إليه الأمر

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٧٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٤

بالوضوء مع ان الماء موضوع وجوب الوضوء.

وهذا ممّا لا إشكال فيه. ولو سلّم عدم جواز نظر الحكم إلى موضوعه ، فما نحن فيه مستثنى عن هذه القاعدة الكليّة ، لأن موضوع الحكم فيه بنحو ينظر إليه الحكم.

وذلك لأن الحكم يدعو إلى متعلّقه ويطالب بصرف القدرة فيه ، فتأثيره في صرف القدرة مما لا إشكال فيه ، فيمنع قهرا عن صرفها في متعلّق الحكم الآخر ـ لغرض ان القدرة واحدة ـ فيحتفظ بموضوعه. فكلا الحكمين ينظر إلى صرفهما في متعلّقه وهو ملازم للاحتفاظ بموضوعه ، لأن صرفها في غيره يقتضي إعدام موضوعه. فنظر الحكم إلى موضوعه فيما نحن فيه من جهة اقتضائه الدعوة إلى متعلّقه وهو امر لازم لكلّ حكم.

وإذا ثبت ان كلا من الحكمين يقتضي صرف القدرة في متعلّقه ، والمفروض ان القدرة واحدة فلا يتمكن العبد من امتثال كلا الحكمين.

وعليه فيمتنع جعل كلا الحكمين ، فان التكليف بالمحال محال في نفسه ، لأن حقيقة الحكم والتكليف بنحو لا بد من إمكان ترتّب الداعويّة عليه ، سواء قلنا انه عبارة عمّا يقتضي تحريك إرادة العبد ـ نظير ماكنة السّاعة ـ ، ولذا كان أخذ القدرة في موضوعه لأجل اقتضاء التكليف له لا بحكم العقل ، أو قلنا انه عبارة عن امر اعتباري لأجل داعويّة المكلّف نحو العمل ، أو انه جعل الفعل في العهدة ، فان إمكان الداعويّة مأخوذ في قوامه على الأوّل ومن لوازمه على الثاني بحيث يكون عدمه كاشفا عن عدم الحكم ، وهكذا على الثالث ، لأن القائل به لا يلتزم بان حقيقة الحكم التكليفي كالحكم الوضعي بلا اختلاف ، بل يرى الفرق بينهما في ان الغرض من الحكم التكليفي إمكان الداعوية وتحريك العبد نحو العمل. وعليه ففي المورد الّذي لا يمكن ان يترتب على الجعل الدعوة والتحريك لا يكون المجعول هو الحكم ، إذ الحكم ما يمكن ان يكون داعيا.

٣٥

وعليه ، فاعتبار القدرة في متعلّق الحكم انما هو لأجل استحالة تحقق الحكم بدونها لا لأجل لغويته وقبحه من الحكيم فقط ، كما هو المشتهر على الألسنة وفي الكتب.

وإذا ثبتت محالية التكليف بغير المقدور في نفسه ، فإذا امتنع امتثال كلا الحكمين لعدم القدرة على متعلقيهما امتنع جعلهما لا محالة لامتناع المجعول ، إذ يمتنع ثبوت الحكمين بعد ان لا يمكن تحقّق داعويّتهما معا. فتتضيق دائرة جعل أحدهما قهرا.

بل لو التزمنا بان امتناع التكليف بغير المقدور لأجل لغويته وقبحه على الحكيم كان الأمر كذلك ، إذ يمتنع ثبوت كلا الحكمين لعدم القدرة على متعلقيهما ، فثبوتهما معا لغو قبيح على الحكيم. فلا بد من رفع اليد عن أحدهما فتتضيق دائرة الجعل في أحدهما ، فيكون التنافي في مقام الجعل ، بمعنى انه يمتنع جعل كلا الحكمين المتزاحمين كما يمتنع جعل الحكمين في مقام التعارض فتدبّر جيّدا.

ومن هنا يتّضح انه لا فرق في امتناع جعل مثل هذين الحكمين بين ما إذا كان إنشاؤهما بدليل عام أو دليل خاص.

فانه قد ادعي : عدم امتناع الأوّل ، مثل ما إذا قال : « أنقذ كل غريق ، ولا تغصب » ، فتوقف إنقاذ بعض الغرقى على الغصب فانه لا مانع من جعل هذين الحكمين في تلك الحال. بخلاف ما إذا قال في تلك الحال : « أنقذ هذا الغريق ولا تغصب هذا المكان » ، فانه لغو فيكون محالا.

ولا يخفى ما في هذه الدعوى ، فانه إذا كان جعل هذين الحكمين محالا لأنه لغو أو لأنه محال في نفسه ، فشمول الدليل العام لهذه الصورة بحيث يكون الجعل فيها متحقّقا لغو أيضا فيكون ممتنعا. وبعبارة أخرى : عموم الدليل لا يرفع اللغويّة في هذه الصورة ، فإرادتها تكون ممتنعة بنفس الملاك الّذي يمتنع فيه الجعل

٣٦

بدليل خاص. فتدبّر.

فظهر ممّا تقدم ان ما أفاده قدس‌سره لا يخلو عن خدشة ، فان أساسه ـ وهو عدم نظر الحكم إلى موضوعه حدوثا وبقاء ، مع كون كل من الحكمين رافعا لموضوع الآخر ـ ممنوع ، إذ عرفت ان الحكم يمكن ان ينظر إلى موضوعه وبالخصوص فيما نحن فيه هذا أوّلا.

وثانيا : ان إعدام موضوع الحكم على قسمين : قسم يكون جائزا ، نظير السفر في رمضان الرافع لموضوع وجوب الصوم فانه لا مانع منه. وقسم لا يكون جائزا ، نظير رمي الإنسان نفسه من شاهق ، فانه بالرمي يرتفع اختياره عن السقوط على الأرض والموت ، فلا يكون قادرا على حفظ نفسه مع أنه غير جائز.

فإعدام الموضوع ليس بجائز دائما بل هو جائز في بعض صوره وغير جائز في صور أخرى.

وعليه ، فامتثال أحد الحكمين وان كان رافعا لموضوع الآخر ، إلا انه لا بدّ من إيقاع البحث عن ان رفع موضوع الحكم الآخر جائز أو لا؟ وما هو السّر في جوازه. فالبحث لا بد ان يكون في مرتبة سابقة على إعدامه بحيث يكون عدمه جائزا فلا يتنافى الرافع مع الحكم الآخر.

وثالثا : انه قدس‌سره أفاد كما عليه غيره : انه لا علاج للتزاحم وهذا التنافي المقرّر إلاّ بتقييد أحد الحكمين بترك امتثال الآخر أو عصيانه ، وهو المصطلح عليه في هذا الفنّ بالترتب. ومن الواضح ان التقييد المزبور يرجع إلى تضييق دائرة الجعل والإنشاء ، فيكشف عن كون التنافي في مقام الجعل ، وإلاّ لم يكن وجه للتصرف فيه بعد ان كان التنافي في مقام غيره.

ولعلّ السّر في اختياره قدس‌سره الفرق بين المقامين بالنحو المتقدّم هو انه لا إشكال في وجود الفارق بين المقامين في نظر كل مكلّف ، فالمكلّف يجد فرقا بين ما إذا قال له المولى : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم الفسّاق » وتردد

٣٧

في حكم المولى في العالم الفاسق انه الأول أو الثاني. وما إذا قال له : « كلما جاءك زيد فأعطه درهما ». وقال له : « كلما جاءك عمرو فأعطه درهما » فجاءا معا ولم يكن لديه سوى درهم واحد. ووجود الفرق بين المثالين مما لا ينكره أحد فأراد تحديده بما عرفت الخدشة فيه.

ويمكننا ان نحدّد باب التزاحم بلحاظ هذين المثالين ، بأنه المورد الّذي يكون التنافي فيه بين الحكمين من جهة عدم التمكن من امتثالهما وعدم القدرة عليه ، بحيث لا يرى المكلف مانعا من ثبوت كل من الحكمين سوى وجود الحكم الآخر وداعويته إلى امتثال متعلّقه المانع من امتثال ذلك الحكم ، وإلاّ فالمقتضي لكلا الحكمين موجود بنظره ولا نقصد بالمقتضي المصلحة أو المفسدة كي يرد انه تخصيص للبحث على رأي العدليّة ، بل مقصودنا ما يكون منشأ للحكم ولو كان هو الإرادة أو الكراهية ، فان الحكم لا يتحقق من دون منشأ وبنحو جزاف حتى على رأي الأشاعرة. ولعلنا نتوفّق إلى توضيح هذا الاختيار فيما يأتي إن شاء الله تعالى.

ثمّ ان هذا التزاحم المبحوث عنه هل يختصّ بصورة توارد الحكمين على موضوعين ، أو يعمّ صورة تواردهما على موضوع واحد ، كما لو اشتمل الفعل على جهة توجب وجوبه وجهة توجب حرمته؟.

ذهب المحقّق النائيني قدس‌سره إلى اختصاصه بالصورة الأولى دون الثانية وهي التي عبّر عنها بالتزاحم في مقام الملاك ـ على ما تقدّم في صدر الكلام ـ ووجه خروجها عن محل البحث بوجهين :

أحدهما : ان علاج التزاحم في هذه الصورة يرتبط بالمولى نفسه ويكون بيده ، لأنه يرتبط بعالم جعل الحكم وترجيح إحدى الجهتين على الأخرى وملاحظة حصول الكسر والانكسار بينهما ولا يرتبط بحكم العبد نفسه.

وثانيهما : انه يبتني على قول العدليّة بضرورة وجود الملاك للحكم ، مع ان

٣٨

التزاحم المبحوث عنه لا يختص البحث عنه بطائفة دون أخرى ولا يبتني على رأي دون آخر ، فكما نبحث على رأي العدليّة نبحث على رأي الأشاعرة أيضا (١).

وفي كلا الوجهين نظر ..

اما الأوّل : فلان علاج التزاحم في صورة توارد الحكمين على موضوعين بيد المولى أيضا ، والعقل طريق لتشخيص ما يحكم به المولى في هذه الصورة ، فليس العقل هو المرجّح لأحد الحكمين على الآخر ، بل هو يستكشف رجحان أحدهما عند المولى فلا فرق بين الصورتين من هذه الجهة.

واما الثاني : فلأنه إنما يتم لو أريد بالملاك المصلحة والمفسدة ، فان الأشاعرة ينكرون ضرورة وجودها ، ولكن المراد ليس ذلك ، بل المراد ما يكون منشأ للحكم وهو الإرادة والكراهة أو المحبوبيّة والمبغوضيّة وهو ممّا لا ينكره الأشعري كما عرفت.

هذا ولكن التحقيق خروج هذه الصورة عن موضوع البحث ، إلاّ انه ليس لما أفاده المحقّق النائيني قدس‌سره ، إذ عرفت ما فيه ، بل لوجه آخر توضيحه : ان لفظ التزاحم لم يرد في آية أو رواية كي يبحث في تحقيق معنونه العرفي ، وانما هو اصطلاح أصولي يطلقه الأصوليّون على بعض موارد تنافي الحكمين بلحاظ ترتّب آثار خاصة فيها ، فلتحديد مورد تلك الآثار وتمييزه عن غيره من موارد تنافي الحكمين وفصله عنه يعبر عنه بالتزاحم إشارة إليه.

وهذه الآثار هي تقديم الأهمّ أمّا بنحو الترتب ـ لو قيل بإمكانه ـ أو بدونه. والتخيير مع عدم الأهمّ ، بمعنى الإلزام بأحدهما بنحو التخيير نظير الواجب التخييري ، بمعنى ان أحدهما يكون واجبا بنحو التخيير لا التعيين.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٨٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٩

وهذه الآثار لا تترتب فيما نحن فيه.

إذ الترتب فيه ممتنع عند من يلتزم بإمكانه في غيره ، لما تقدم من أن ترك الأهم ـ في هذه الصورة ـ مساوق الإتيان المهمّ ، فيمتنع الأمر به حينئذ. مضافا إلى امتناع اجتماع الحكمين المتضادّين في موضوع واحد في آن واحد عند من يرى تضاد الأحكام في أنفسها لا من جهة عدم القدرة على امتثالها.

واما التخيير ، فهو انما يكون بملاك التساوي بين الحكمين ملاكا.

ومن الواضح ان المقصود بالملاك هاهنا ليس هو الملاك الملزم فعلا ، إذ يمتنع ان يجتمع ملاكا الحكمين في شيء واحد مع كونهما ملزمين معا ، فلا يتصور التزاحم بينهما حينئذ وانما المقصود الملاك الملزم لو لا المانع. وعليه فلا بد من إعمال الكسر والانكسار بينهما والحكم بالغالب منهما ان كان المقدار الزائد فيه ملزما ، ومع التساوي فالحكم هو التخيير ، بمعنى الإباحة وعدم الإلزام بأحدهما لا بمعنى الإلزام بأحدهما بنحو التخيير. فالتخيير الثابت هنا غير التخيير الثابت في موارد التزاحم. فخروج هذه الصورة عن موضوع الكلام لأجل هذا الوجه. فالتفت جيّدا.

ثمّ انه قدس‌سره ذكر : ان التزاحم في مقام الامتثال يكون في الغالب من جهة عدم القدرة على الإتيان بكلا المتعلّقين ، وقد يكون من جهة أخرى غير عدم القدرة.

اما ما كان منشؤه عدم القدرة فله صور خمس :

الأولى : ما إذا كان عدم القدرة اتفاقيّا ، كما إذا تزاحم وجوبا إنقاذ الغريقين لو لم يتمكن المكلّف من إنقاذهما معا.

الثانية : ما إذا كان عدم القدرة لأجل التضادّ الاتفاقي بين الواجبين. اما إذا كان التضادّ بينهما دائميّا فدليلاهما متعارضان.

الثالثة : موارد اجتماع الأمر والنهي في ما إذا كانت هناك ماهيّتان

٤٠