منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

وثانيهما : ما يظهر منه من تفسير عبارة الكفاية ، بان العام بعد التخصيص يكون معنونا بكل عنوان غير عنوان الخاصّ.

ولنا معه في كلا الأمرين كلام :

اما الأول : فلان المنظور في الأصل الأزلي أولا وآخرا هو إثبات حكم العام به للمشكوك ، وانه يؤدّي ثمرة أصالة العموم على القول بالتمسك بها في الشبهة المصداقية ويقلل أثر البحث الطويل العريض فيها ، فلا موهم لكون ثمرة الأصل نفي حكم الخاصّ.

هذا مع ان الدليل المخصص قد لا يكون متكفلا لإثبات أي حكم ، بل مفاده ليس إلاّ نفي حكم العام عن بعض افراده ، كما لو قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا يجب إكرام فساقهم » ، ومنه تخصيص دليل نفوذ الشرط بالشرط المخالف للكتاب فان الشرط المخالف لا حكم له ، بل هو غير نافذ. أو يكون متكفلا لما هو نقيض حكم العام فينتفي حكمه قهرا بثبوت حكم العام للفرد المشكوك بواسطة الأصل ، وذلك كالمثال المشهور في ما نحن فيه وهو مثال الحيض. فان العام يتكفل إثبات الحيض لكل امرأة لغاية الخمسين ، والخاصّ يتكفل تحديده إلى ستين بالنسبة إلى القرشية ، فالتنافي بين الدليلين في تحديد الحيض لا في أصل حكمه ، إذ لا تنافي بينهما بلحاظه ، بل الاختلاف في تحديده بالخمسين ـ وهو مفاد العام ـ ونفي تحديده بها ـ وهو مفاد الخاصّ ـ ، فمع إجراء الأصل وإثبات تحديد الحيض بالخمسين للمرأة المشكوكة ينتفي حكم الخاصّ قهرا ، لأن ثبوت أحد النقيضين ملازم قهرا لنفي الآخر.

نعم قد يكون المخصص متكفلا لما هو ضد حكم العام ، كما لو قال : « يجب إكرام العلماء » ثم قال : « يحرم إكرام النحويين » ، ولكنه نستطيع نفي حكم الخاصّ بأصل البراءة بلا احتياج للأصل الأزلي.

فقد ظهر انه لا يحتاج في نفي حكم الخاصّ إلى استصحاب العدم الأزلي

٣٦١

في جميع هذه الصور ، وانما يحتاج إليه في إثبات حكم العام. فلاحظ.

ثم ان ما أفاده من ان ثبوت حكم العام للموضوع المضاد للعنوان الخارج يوجب نفي ضده وحكم الخاصّ. غير مسلم وذلك لأن إثبات حكم العام له ظاهرا اما يستلزم نفي حكم الخاصّ عنه واقعا. أو ظاهرا.

والأول : ممنوع ، إذ لا وجه له إلا عدم إمكان اجتماع حكمين متنافيين ، وهو مندفع بما تقرر في محله من جواز اجتماع الحكمين المتنافيين إذا كان أحدهما واقعيا والآخر ظاهريا.

والثاني : ثابت في نفسه ، إذ يكفي في عدم ثبوت حكم الخاصّ ظاهرا عدم الدليل عليه ، لتوقف الحكم الظاهري على الدليل عليه.

هذا مع ان نفي حكم الخاصّ بالأصل القائم على إثبات حكم العام يتوقف على القول بالأصل المثبت ، للملازمة بين أحدهما وعدم الآخر عقلا. فتدبر.

واما الثاني : فقد وافقه المحقق النائيني ، وحمل عبارة الكفاية على ما عرفت وأورد عليه بإيرادين :

أحدهما : انه يتنافى مع بدء كلامه حديث نفي تعنون العام بعنوان خاص.

وثانيهما : انه يلزم ان يكون العام معنونا بالعناوين المتضادة (١).

ولكن يمكن حمل عبارة الكفاية على ما لا يرد عليه إشكال ، بان يقال : ان مراده انه لا يتعنون بأيّ عنوان الا عدم كونه من الخاصّ ، فالتخصيص لا يستلزم تقييد موضوع الحكم إلاّ بمقدار عدم الخاصّ ، وهذا العدم مأخوذ بنحو العدم المحمولي لا النعتيّ ، وبنحو التركيب لا التوصيف ، بقرينة ما يذكره بعد ذلك من جريان استصحاب العدم الأزلي وترتب حكم العام عليه.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٧٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٢

ثم ان المحقق النائيني استشكل في عبارة أخرى وهي قوله : « أو كالاستثناء من المتصل » ، وجهة الإشكال هي : ان المخصص المتصل يوجب التصرف في الظهور التصديقي ، وانعقاد الظهور رأسا في الخصوص ، فكيف يذهب صاحب الكفاية إلى عدم استلزام التخصيص بالمتصل لتعنون العام وانه كالمنفصل؟! (١).

ويمكن دفع هذا الإشكال بما بيانه : ان المقصود بالتعنون هاهنا ما يرادف من أخذ القيد بنحو التوصيف والنعتية.

وعليه ، فالمخصص المتصل على نحوين :

نحو يتكفل إخراج بعض العناوين عن حكم العام من دون ان يدل على التوصيف إثباتا ، وهو كالاستثناء.

والنحو الآخر يتكفل الإخراج ، ولكن يدل على التوصيف إثباتا نظير : « غير » في مثل : « أكرم العلماء غير النحويين » ، فالنحو الآخر يدل على أخذ العدم بنحو النعتية والتركيب.

اما النحو الأول فلا دلالة له على ذلك ، بل غاية ما يقتضيه التخصيص المتصل هو تقيد العام بالعدم ، اما انه مأخوذ بنحو النعتية فلا دلالة للكلام على ذلك ، وقد عرفت ان التقييد لازم أعم لأخذ العدم بنحو التركيب وأخذه بنحو التوصيف. فمراد صاحب الكفاية من قوله : « أو كالاستثناء » هو النحو الأول ، إذ عرفت ان النحو الثاني يقتضي إثباتا تعنون العام وأخذ العدم فيه بنحو النعتية.

وهذا التفصيل لا يتأتى في المخصص المنفصل لعدم إخلاله بظهور العام.

ثم ان المحقق العراقي ذهب إلى التفصيل في جريان الأصل الأزلي بين ما إذا كان العرض مأخوذا في رتبة متأخرة عن وجود الذات ، وما إذا كان

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٧٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٣

مأخوذا في مرحلة نفس الذات لا وجودها. فيجري في الثاني دون الأول ، وذلك لأن نقيض الوصف الملحوظ عروضه على الوجود هو العدم في تلك المرتبة ، لاتحاد المتناقضين في الرتبة ، فلا يجوز ان يكون أحدهما في رتبة والآخر في رتبة أخرى.

وعليه ، فالعدم الأزلي الثابت في ظرف عدم الوجود لا يكون نقيضا للوصف العارض على الوجود ، كي يكون استصحابه مجديا في نفي الأثر الثابت للوصف.

واما في ما كان الوصف بلحاظ الذات ، فالعدم الأزلي يكون نقيضا له ، لأن نقيض المقيد أعم من نفي القيد والذات والنسبة ، فيترتب على استصحابه نفي أثر الوصف.

ولا يختلف الحال في كلتا الصورتين بين أخذ الوصف بنحو النعتية أو بنحو التركيب والمقارنة.

ثم استشكل فيما أفاده المحقق النائيني بعد حمله كلامه على التفصيل بين أخذ الوصف بما هو شيء في حيال ذاته وأخذه بما هو قائم في الغير ، فعلى الأول يجري استصحاب العدم الأزلي ، لأنه نقيض نفس وجود الوصف ، فينتفي به أثر الوجود. وعلى الثاني لا يجري لأن العدم الأزلي وفي ظرف عدم الموصوف لا يكون نقيضا للوصف القائم بالذات ، لتأخر الوجود القائم بالذات عن وجود الذات فلا يكون نقيضه الا العدم في ظرف وجود الذات (١).

ولا يهمنا بيان جهة استشكاله في هذا الكلام.

والتحقيق : ان ما ذكره أجنبي عما هو محطّ النّظر في الاستصحاب الأزلي ، فان محل الكلام بين صاحب الكفاية والنائيني ـ كما عرفت ـ في ان العدم المأخوذ

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٤ ـ ٢٠٠ ـ ٢٠٣ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٦٤

في موضوع الحكم هل هو مأخوذ بنحو العدم النعتيّ أو بنحو العدم المحمولي؟. فالمفروض في كلامهما أخذ عدم الوصف في نفس الموضوع ، فالاحتياج للاستصحاب المزبور لإثبات الحكم لا لنفي الحكم الثابت لوجود الوصف. فقد عرفت ان المنظور في الأصل الأزلي إثبات حكم العام واستحصال نتيجة أصالة العموم منه ، لا انه من باب نفي موضوع الأثر كما هو محط كلامه ، فالاستصحاب الّذي أوقع البحث فيه يشترك مع ما هو محطّ الكلام في الاسم فقط. ومنه يظهر ما في توجيهه لكلام المحقق النائيني بما عرفت. فانه بعيد كل البعد عما هو محط نظر المحقق النائيني فراجع كلامه.

وإذا ظهر بوضوح عدم ارتباط كلامه قدس‌سره بما هو محط الكلام ، فلا يهمنا حينئذ تحقيق مواقع النّظر في كلامه في هذا المقام الّذي أشرنا إلى بعض قليل منه ، فانه لا يخلو عن إشكال في بعض جهاته :

كالتزامه بلا بدية كون نقيض الوجود النعتيّ هو العدم في ظرف وجود الذات للزوم اتحاد المتناقضين في الرتبة.

فانه التزام بلا وجه ، إذ لا وجه للزوم اتحاد رتبة المتناقضين ، لأن التقدم والتأخر الرتبي يكون بملاك خاص فقد يوجد في أحدهما دون الآخر. وعليه فنستطيع ان نقول : ان نقيض الوجود الرابط هو عدم الوجود الرابط لا العدم الرابط ـ كما عبر به المحقق الأصفهاني في بعض كلماته ـ ، هذا مع استلزامه ارتفاع النقيضين في ظرف عدم الذات ، وامتناع ارتفاعهما كامتناع اجتماعهما من الواضحات.

إيقاظ : لا يخفى ان البحث في جريان استصحاب العدم الأزلي بلحاظ مبحث الاستصحاب صغروي ، إذ بعد تحقيق كبرى الاستصحاب ونفي الأصل المثبت يقع الكلام في ان الأصل الأزلي مثبت أو لا.

واما بلحاظ مبحث العموم ، فهو كبروي ، لأن البحث يقع في ان العدم

٣٦٥

مأخوذ في موضوع حكم العام بنحو العدم النعتيّ فلا يجري الأصل ، أو بنحو العدم المحمولي فيجري الأصل ويثبت حكم العام للمشكوك ، ولأجل ذلك ناسب ذكره في مبحث العموم دون مبحث الاستصحاب.

ومما ذكرنا يظهر وهن ما ذكره بعض مراجع العصر من ان الأصل الأزلي لا يستفاد من أدلة الاستصحاب عرفا ، كيف؟ وقد عرفت ما هو فيه من الدقة والعمق ، فان عدم استفادته عرفا لا يمنع من جريانه لأن العرف مرجع في تشخيص المفاهيم لا في تعيين المصاديق ، وقد عرفت ان البحث صغروي بلحاظ أدلة الاستصحاب.

فلو شخّص بالدقة والتأمل وجود قطرة بول في الإناء حكم بنجاسته وان لم يرى العرف فيه بولا. فلاحظ وتدبر والله سبحانه ولي العصمة والتوفيق.

انتهى مبحث استصحاب العدم الأزلي ، وبه ينتهي البحث العلمي في باب العموم والخصوص ، فان ما يليه من الأبحاث غير علمية دقيقة ، ولأجل ذلك نكتفي بالتعرض في غالبها لمطلب الكفاية فيها وما يدور حوله وفي إطاره.

فصل

ذكر صاحب الكفاية انه قد يستظهر من البعض التمسك بالعمومات مع الشك في فرد من غير جهة احتمال التخصيص ، كما إذا شك في صحة الوضوء أو الغسل بمائع مضاف ، فيستكشف صحته بعموم مثل : « أوفوا بالنذور » إذا وقع متعلقا للنذر ، فيقال : يجب الإتيان بهذا الوضوء وفاء للنذر لعموم وجوب الوفاء ، وكل ما يجب الوفاء به يقع صحيحا للقطع بأنه لو لا صحته لما وجب الوفاء به.

وليس هذا المعنى غريبا ، بل هو واقع شرعا ، فقد ورد صحة الإحرام قبل الميقات والصوم في السفر إذا تعلق بهما النذر بهذا القيد.

وقد ناقشه صاحب الكفاية بان العمومات إذا كانت متكلفة لأحكام

٣٦٦

العناوين الثانوية.

فتارة : يؤخذ في موضوعاتها أحد الأحكام الثابتة بالعنوان الأولي ، كعموم وجوب إطاعة الوالد ، فانه مأخوذ في موضوعه جواز المأمور به من قبل الوالد وعدم حرمته. وكعموم وجوب الوفاء بالنذر ، فانه مأخوذ في موضوعه رجحان متعلقه وكونه طاعة.

وأخرى : لا يؤخذ في موضوعاتها حكم أصلا.

ففي النحو الأول : مع الشك في الحكم المأخوذ في موضوع الحكم الثانوي لا مجال للتمسك بالعموم ولا يتوهم عاقل صحة التمسك به. كيف؟ والشبهة مصداقية بلحاظ نفس العام.

وفي النحو الثاني : يتمسك بعموم الدليل في إثبات حكمه مع الشك في فرد فيثبت له الحكم بعنوانه الثانوي ، فإذا كان محكوما بعنوانه الأولي بغيره وقعت المزاحمة بين المقتضيين ، فيؤثر الأقوى منهما لو كان ، وإلاّ كان محكوما بحكم آخر كالإباحة فيما كان أحد المقتضيين مؤثرا في الحرمة والآخر في الوجوب.

واما مسألة نذر الإحرام قبل الميقات ، والصوم في السفر ، فصحتهما لدليل خاص ، وهو يوجه بأحد وجوه ثلاثة :

الأول : ان يكون الدليل كاشفا عن رجحانهما ذاتا في هذه الحال ، وانما لم يؤمر بهما لمانع يرتفع بالنذر.

الثاني : ان يكون الدليل كاشفا عن تحقق رجحانهما بنفس النذر.

الثالث : ان يكون الدليل مخصصا لعموم ما دل على اشتراط الرجحان في متعلق النذر.

هذا ما أفاده صاحب الكفاية (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦٧

ولا بد من التنبيه على امرين :

أحدهما : انه ما المراد بالعموم الّذي يظهر من البعض التمسك به ، هل هو عموم : « وجوب الوفاء » مثلا ـ كما هو الظاهر ـ ، أو عموم مشروعية الوضوء ، فان كان المراد عموم وجوب الوفاء ، فلا متوهم له ولا يلتزم به أحد. وان كان عموم مشروعية الوضوء فالمقصود من الشك من غير جهة التخصيص ان كان هو الشك في شمول الدليل له في حد ذاته لإجماله وعدم إطلاقه فلا يتمسك به كما هو واضح.

وان كان هو الشك في كونه مضافا وعدمه مع العلم بعدم شمول الدليل للمضاف ، فهو شبهة مصداقية للمخصص ، كما انه خلاف الفرض لأن الفرض انه يعلم انه وضوء بالماء المضاف.

اذن فلم نعرف المقصود من موضوع الكلام نفيا وإثباتا.

وثانيهما : انه قدس‌سره التزم في القسم الثاني لا دلالة الأحكام الثانوية بوقوع التزاحم بين الحكمين الأولي والثانوي.

وهذا لا يتلاءم مع ما سيأتي منه في بحث التعادل والترجيح وغيره من تقدم دليل الحكم الثانوي على دليل الحكم الأولي بالنظر العرفي. فالتفت ولا تغفل.

فصل

في العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص.

وقد حدد صاحب الكفاية محل البحث ، فذكر ان البحث في جواز العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص وعدم جوازه ، انما هو بعد الفراغ عن ان أصالة العموم معتبرة من باب الظن النوعيّ لا الشخصي ، وانها معتبرة في حق المشافه وغيره ، وعدم كون العام من أطراف العلم الإجمالي بالتخصيص ، بعد الفراغ عن هذه الجهات الثلاثة نوقع البحث في جواز العمل بالعامّ قبل الفحص

٣٦٨

وعدمه ، ليكون البحث شاملا لجميع المباني والتقادير.

ومنه يظهر ان الاستدلال على عدم جواز العمل بالعامّ قبل الفحص بعدم حصول الظن الشخصي قبله ، أو عدم إحراز حكم المشافه قبله ، أو لأجل العلم الإجمالي المانع من جريان أصالة العموم ، ليس كما ينبغي لأن البحث كما عرفت بعد الفراغ عن جميع هذه الجهات.

ثم انه ذهب إلى عدم جواز العمل قبل الفحص إذا كان العام في معرض التخصيص كما هو الحال في عمومات الكتاب والسنة ، وذلك لأن العمل بأصالة العموم بلحاظ بناء العقلاء عليها ، ولم يثبت بناء العقلاء على العمل بها قبل الفحص عن المخصص لو لم يقطع بعدمه.

وبالجملة : لو لم يقطع ببنائهم على عدم العمل بالعامّ قبل الفحص ، فلا أقل من الشك فيه ، وهو يكفي في التوقف لعدم الدليل حينئذ على العمل بالعامّ قبل الفحص.

واما إذا لم يكن العام في معرض التخصيص كالعمومات الواقعة في المحاورات العرفية فلا إشكال في ثبوت السيرة على العمل بها قبل الفحص عن المخصص.

وذكر بعد ذلك ان مقدار الفحص في المورد اللازم هو المقدار الّذي يخرج به العام عن المعرضية للتخصيص ، إذ الملاك ـ على ما عرفت ـ في وجوب الفحص هو معرضية العام للتخصيص.

هذا ما ذكره في الكفاية (١) ، وقد أطال المحقق النائيني قدس‌سره الكلام في المقام ، وتعرض إلى بيان وجود العلم الإجمالي وأوقع البحث الطويل في انحلاله (٢) ، ولا حاجة لنا في التعرض إليه ، إذ سيأتي البحث عنه في محله ويوفى

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٨٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٩

حقه ، فما ذكره في الكفاية به الكفاية.

هذا بالنسبة إلى احتمال المخصص المنفصل.

واما بالنسبة إلى احتمال المخصص المتصل ، فقد ذكر صاحب الكفاية ان الظاهر عدم لزوم الفحص عنه ، بل حاله حال احتمال قرينة المجاز ، وقد اتفقت كلماتهم على عدم الاعتناء به مطلقا ولو قبل الفحص. انتهى ما أفاده في الكفاية (١).

وتحقيق الكلام فيه : ان صور الشك في القرينة المتصلة ثلاث :

الأولى : الشك في قرينية الموجود لفقد انه كما لو فقدت بعض كلمات الرسالة الموجهة إلى شخص بحيث يحتمل ان تكون دخيلة في تغيير ظاهر الكلام. وفي هذه الصورة لا إشكال في التوقف عن العمل بظاهر الكلام الباقي.

الثانية : الشك في قرينية الموجود لإجماله ، كما لو كان الكلام محتفا بما هو مجمل في معناه واحتمل اعتماد المتكلم عليه في تفهيم مرامه لصلاحيته للقرينية. والحكم في هذه الصورة هو التوقف كسابقتها وهو مما لا إشكال فيه.

الثالثة : ان يشك في مراد المتكلم ، لاحتمال انه كان في نيّته نصب قرينة وغفل فلم يذكر القرينة ، بل ذكر الكلام مجردا. ولا إشكال في جواز التمسك بالظاهر هاهنا وعدم الاعتناء بالاحتمال المزبور لأصالة عدم الغفلة. ولا معنى للفحص هاهنا للعلم بعدم القرينة ، كما انه قد يتمسك بالكلام مع فقدان المتكلم وانتفاء موضوع الفحص كما في موارد الوصايا.

وإذا تبين حصر موارد الشك في القرينة المتصلة بهذه الصور الثلاث ، وعرفت حكمها ، تعرف انه لا وجه لإنكار لزوم الفحص مع احتمال القرينة المتصلة ، لأنه اما لا يجوز العمل بالعامّ ، واما لا معنى للفحص كي ينفي لزومه.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٠

فتدبر.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر ان الفحص هاهنا يختلف عن الفحص اللازم في باب الأصول العملية ، فانه هاهنا عما يمنع عن الحجية وفي الأصول العملية عما يتم الحجية ، إذ بدونه لا حجة (١). وتابعة على ذلك المحقق النائيني (٢). وقد ناقشه المحقق الأصفهاني بمناقشة متينة (٣). والأمر سهل جدا بعد ان كان هذا البحث عديم الثمرة بالمرّة فلاحظ.

فصل

وقع الكلام في الخطابات الشفاهية في أنها هل تختص بالحاضر مجلس التخاطب أو تعم غيره من الغائبين والمعدومين؟. وقد ذكر صاحب الكفاية ان الكلام يمكن ان يقع في جهات ثلاثة :

الأولى : في صحة تعلق التكليف ـ الّذي يشتمل عليه الخطاب ـ بالمعدومين كما يصح تعلقه بالموجودين.

الثانية : في صحة مخاطبة غير الحاضرين من الغائبين والمعدومين.

الثالثة : في عموم الألفاظ الواقعة عقيب أداة الخطاب لغير الحاضرين من الغائبين ، بل المعدومين ، وعدم عمومها لهم بقرينة الأداة.

وذكر ان النزاع في الجهتين الأوليتين عقلي وفي الثالثة لغوي.

اما الجهة الأولى : فقد أفاد في مقام تحقيقها انه لا يصح تعلق التكليف الفعلي بالمعدوم عقلا ، بمعنى بعثه أو زجره فعلا ، لعدم قابلية المعدوم للانبعاث أو الانزجار فعلا ، نعم يصح تعلق التكليف به بنحوين :

أحدهما : التكليف الإنشائي غير المشتمل على البعث والزجر ، فانه

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٨٠ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ـ ٣٤٥ ـ الطبعة الأولى.

٣٧١

خفيف المئونة ولا مانع من تعلقه بالمعدوم فيصير فعليا حين تحقق شرائطه. وهذا نظير إنشاء الملكية في باب الوقف للبطون اللاحقة لتصير فعلية حين وجودها بنفس الإنشاء السابق.

وثانيهما : ان يتعلق به التكليف الفعلي بقيد الوجود ، بمعنى ان يتعلق التكليف الفعلي بالموجود الاستقبالي بهذا القيد ، نظير الواجب المعلق ، لكنه هاهنا بالنسبة إلى الموضوع لا المتعلق.

ومن هنا يظهر انه لا وجه لإشكال المحقق الأصفهاني على صاحب الكفاية بأنه يصح تعلق التكليف بأمر استقبالي ، وانه لا فرق بين تعلق التكليف بما لا يمكن تحققه الا في الاستقبال ـ كما هو مورد الواجب المعلق ـ وتعلقه بما لا يوجد إلاّ في المستقبل (١) فانه غفلة عن تعرض صاحب الكفاية له وإرادته من قوله : « واما إذا أنشئ مقيدا بوجود المكلف ووجدانه الشرائط فإمكانه بمكان من الإمكان ». فلاحظ وانتبه.

واما الجهة الثانية : فقد ذكر انه لا يصح توجيه الخطاب الحقيقي إلى غير الحاضر ، لأجل التقوم الخطاب الحقيقي بالتفات المخاطب ، وهو مفقود في الغائب والمعدوم.

واما الجهة الثالثة : فقد ذكر في تحقيقها : ان الأدوات ان كانت موضوعة للخطاب الحقيقي كان استعمالها فيه موجبا للتصرف في المدخول وقصره على الحاضرين ، كما ان استعمال المدخول في العموم يكون قرينة على عدم استعمال الأداة في الخطاب الحقيقي. واما إذا كانت موضوعة للخطاب الإنشائي ، فلا تكون موجبة للتصرف في المدخول لصحة تعلق الخطاب الإنشائي بالغائب والمعدوم. والظاهر انها موضوعة للخطاب الإنشائي الإيقاعي ، والاختلاف من

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٤٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٢

حيث الدواعي كما هو الحال في بعض الصيغ الإنشائية ، كأدوات الاستفهام والتمني والترجي كما تقدم منه ذلك.

نعم ، المنصرف منها عند إطلاقها هو الإنشاء بداعي الخطاب الحقيقي ، لكنه مع عدم المانع عنه ، وهو موجود في كلام الشارع للعلم بعدم اختصاص التكاليف المنشأة بمن حضر مجلس الخطاب. وقد استشهد على كونها موضوعة للخطاب الإنشائي بصحة إرادة العموم من مدخولها مع عدم ملاحظة علاقة وعناية.

ودعوى انه أمر ارتكازي تندفع : بأنه لا يلتفت إليه مع الالتفات والتفتيش ، ولو كان ارتكازيا لعلم به بالالتفات ، إذ لا طريق إلى معرفة انه ارتكازي الا ذلك.

ثم تعرض إلى توهم : ان وضع الأداة للخطاب الحقيقي لا يستلزم اختصاص المخاطبين بالحاضرين في خطاباته تعالى ، لإحاطته بالموجود والمعدوم ، والكل لديه على حد سواء.

ودفعه : بان الإحاطة لا تلازم صحة الخطاب ، إذ المانع من صحة الخطاب هو عدم قابلية المعدوم للمخاطبة وهي لا ترتفع بإحاطته جلّ شأنه.

ثم انه بعد كل هذا ذكر ان ما تقدم ، يبتني على القول بان المخاطب بالخطابات الإلهية هو غير النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، واما إذا كان المخاطب حقيقة هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا محيص عن الالتزام باستعمال أدوات الخطاب في الخطاب الإنشائي ـ ولو كان بنحو المجاز ـ إذ مدخولها غير مقصود بالخطاب حقيقة كما هو الفرض ، فلا بد ان يكون موردا لإنشاء الخطاب لا حقيقة.

هذا ما أفاده صاحب الكفاية في المقام (١) ، وقد نحا المحقق النائيني في

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٣

تحقيقه نحوا آخر ، فأفاد قدس‌سره : ان الكلام تارة يقع في القضايا الخارجية. وأخرى في القضايا الحقيقية.

اما القضايا الخارجية ، فالحق فيها اختصاص الخطاب بالمشافهين ، لأن خطاب الغائب فضلا عن المعدوم يحتاج إلى تنزيل وعناية ، وهو خلاف ظاهر الخطابات.

واما القضايا الحقيقية ـ وهي القضايا المحكوم فيها على الموضوع المقدر الوجود كالقضايا الشرعية ـ ، فالحق عموم الخطاب للغائب والمعدوم والحاضر ، كعموم الحكم ثبوتا لهم جميعا ، إذ مخاطبة الغائب والمعدوم لا تحتاج إلى أكثر من تنزيلهما منزلة الموجود وهو حاصل ، إذ به تتقوم القضية الحقيقية ، فلا يدفعه الأصل لأنه ليس أمرا زائدا عن حقيقة القضية الحقيقية (١).

وقد أورد عليه السيد الخوئي (٢) تبعا للمحقق الأصفهاني (٣) بأنه لا يكفى في صحة خطاب المعدوم والغائب تنزيلهما منزلة الموجود ، بل يعتبر تنزيلهما منزلة الحاضر وهو أمر زائد على مقتضى القضية الحقيقية ، فينفيه الأصل مع عدم الدليل عليه.

ثم ان صاحب الكفاية نقل للبحث ثمرتين وناقشهما ، فيكون البحث مما لا ثمرة له عملية ، وهما :

الأولى : حجية ظهور الخطابات للمعدومين والغائبين ـ بناء على عمومها لهم ـ وعدم حجيته بناء على عدم عمومها لهم.

وناقشها :

أولا : بأنه تبتني على اختصاص حجية الظاهر بالمقصود افهامه وقد تقرر

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٩٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٥ ـ ٢٧٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين ـ نهاية الدراية ٣ ـ ٢١٩ هوامش الجزء الأول ـ الطبعة الأولى.

٣٧٤

عدم الاختصاص.

وثانيا : انه لو سلم اختصاص حجية الظاهر بالمقصود افهامه ، فلا يختص المشافهون بكونهم مقصودين بالإفهام ، بل الناس كلهم مقصودون به وان لم يعمهم الخطاب.

الثانية : انه بناء على التعميم يصح التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية للمعدومين إذا وجدوا ولو اختلفوا مع المشافهين بالصنف ، وبناء على عدم التعميم لا يصح التمسك لهم بالإطلاق ، لأنها انما تتكفل حكم المشافهين فقط ، فلا بد من تسرية الحكم لغيرهم من وحدة الصنف ، لأنها موضوع قاعدة الاشتراك في الأحكام ، لأن دليلها الإجماع ولا ثبوت له في غير مورد اتحاد الصنف.

وقد ناقشها : بان المقصود باتحاد الصنف هو الاتحاد في ما أخذ قيدا للحكم ، وعليه فيمكننا إثبات اتحاد الصنف ونفي دخالة الأوصاف الموجودة في المشافهين المفقودة في غيرهم بإطلاق الخطاب من دون تقييد بالوصف ، فان إرادة المقيد واقعا مع عدم البيان يكون مخلا بالغرض بالنسبة إلى الأوصاف القابلة للتبدل.

وعليه ، فسواء قلنا بالتعميم أو بعدمه يمكن إثبات الحكم لغير المشافهين ، ولو مع اختلافهم في الأوصاف التي لم تؤخذ قيدا في الحكم في لسان الدليل ، لإمكان نفيها بالإطلاق (١).

فصل

إذا ورد عام ثم ورد بعده ضمير يرجع إلى بعض افراده ، فهل يستلزم تخصيص العام أو لا؟. وموضوع الخلاف ـ على ما ذكره في الكفاية ـ ما إذا وقعا في كلامين أو في كلام واحد مع استقلال العام بما حكم عليه في الكلام ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٣١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٥

كما في قوله تبارك وتعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ... ) إلى قوله : ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ )(١) ـ فان المراد بضمير بعولتهن المطلقات الرّجعيات ـ واما إذا كان مثل : « والمطلقات أزواجهن أحق بردهن » فلا شبهة في تخصيصه به ، إذ ليس للعام حكم آخر كي يتخيل عمومه ، بل ليس له إلاّ الحكم الخاصّ فيخصص بلا كلام.

وقد ذكر صاحب الكفاية في مقام تحقيق الكلام : ان الأمر يدور بين التصرف في العام بإرادة خصوص المراد من الضمير الراجع إليه ، والتصرف في ناحية الضمير اما بإرجاعه إلى بعض ما يراد من مرجعه ـ وهو العام ـ ، أو بإرجاعه إلى تمامه بنحو المجاز في الإسناد ، فيسند الحكم المسند حقيقة إلى البعض ـ يسند ـ إلى الكل مجازا. والمتعين هو العمل بأصالة العموم وإبقائه على عمومه ، وذلك لجريانها بلا معارض ، إذ لا تجري أصالة الحقيقة في جانب الضمير للعلم بالمراد الجدّي منه ، وأصالة الحقيقة انما تجري مع الشك في المراد ، اما مع العلم بالمراد والشك في كيفية الاستعمال فلا تجري أصالة الحقيقة لأن المتيقن من دليل أصالة الظهور هو الصورة الأولى (٢).

وقد وافقه المحقق النائيني في اختيار جريان أصالة العموم وعدم جريان أصالة عدم الاستخدام ـ التي جعلها هي المعارضة بدوا مع أصالة العموم ـ ، ووجهه بوجوه ثلاثة :

الأول : ان الاستخدام انما يلزم من إرادة خصوص الرَّجعيات من الضمير لو كان العام المخصص مجازا ليكون الخاصّ معنى آخر للعام ، والصحيح خلاف ذلك كما عرفت ، فليس هناك معنى آخر للعام يراد من ضميره كي يستلزم ذلك الاستخدام.

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٢٨.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٣٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٧٦

الثاني : ان أصالة عدم الاستخدام انما تجري مع الشك في المراد لا في كيفية الإرادة.

ثم أورد على نفسه : بأنه إذا كان لجريان أصالة عدم الاستخدام مع الشك في كيفية الإرادة أثر فلا مانع من جريانها ، وان لم يكن لها أثر في تعيين المراد للعلم به ـ وما نحن فيه كذلك ـ ، إذ جريانها يلازم تخصيص العام فيثبت بها ، نظير جريان الأصل العملي لإثبات لازم مجراه ، كما لو كان ثوب نجس فلاقته اليد مع الرطوبة وشك في انه هل طهر قبل الملاقاة أو لا؟. وكان الثوب عند الشك والعلم بنجاسته خارجا عن محل الابتلاء ، فان استصحاب نجاسته يجري لإثبات نجاسة اليد وان لم تكن نجاسته قابلة للتعبد لخروجه عن محل الابتلاء ، وإذا صححنا ذلك في الأصل العملي فليكن الحل كذلك في الأصل اللفظي.

وأجاب عنه : بان نجاسة الملاقي من الآثار الشرعية لنجاسة الملاقى ـ بالفتح ـ ، فاستصحاب نجاسته يترتب عليه نجاسة ملاقيه ويكون حاله حال استصحاب الأمر التكويني لإثبات أثره الشرعي مع انه في نفسه غير قابل للتعبد.

واما تخصيص العام ، فليس أثرا شرعيا لأصالة عدم الاستخدام ، بل هو من ملازماته العقلية ، فيكون أصل عدم الاستخدام بالنسبة إليه مثبتا ، فلا بد من إثبات الملزوم في نفسه كي يثبت لازمه تبعا له ، وقد عرفت عدم جريان الأصل في إثبات عدم الاستخدام في نفسه.

أقول لا ملزم لهذا التطويل في الإيراد والجواب ، إذ لنا ان نقول بان عدم جريان الأصل اللفظي مع العلم بالمراد والشك في كيفية الإرادة ليس من جهة عدم ترتب الأثر عليه ، بل من جهة ان المتيقن من دليله غير هذه الصورة ، وانه لا دليل عليه في هذه الصورة إذ ليس بناء العقلاء على جريانه فيها ، كما أشار إلى ذلك صاحب الكفاية في كلامه.

٣٧٧

الثالث : ان المقال خارج عن مورد الاستخدام ، إذ المستعمل فيه الضمير هو مطلق المطلقات لا خصوص الرجعيات ، وإرادة الرجعيات كان بدليل آخر وهو عقد الحمل ، فلا اختلاف بين المستعمل فيه العام والمستعمل فيه الضمير.

هذا ما أفاده قدس‌سره نقلناه ملخصا (١).

وتحقيق الحال ان يقال : ان المراد بالاستخدام تارة : يكون استعمال اللفظ في معنى وإرادة معنى آخر له من ضميره. وأخرى : يكون عبارة عن اختلاف المراد الجدّي من اللفظ وضميره. فأصالة عدم الاستخدام على الأول تفيد وحدة المستعمل فيه الضمير مع اللفظ. وعلى الثاني تفيد وحدة المراد الجدي منهما ولو مع اختلاف المستعمل فيه.

وعليه ، فنقول : ان أصالة العموم لا تعارضها أصالة عدم الاستخدام بالمعنى الأول ، وذلك لما تقدم من ان الحق ان إرادة الخاصّ جدا من العام لا تستلزم استعمال العام في الخصوص لانفكاك المراد الاستعمالي عن المراد الجدي.

وعليه ، فالاستخدام ثابت سواء أريد من العام العموم أو الخصوص ، لاستعماله في العموم على كلا التقديرين فلا وجه حينئذ لإجراء أصالة عدم الاستخدام ، فأصالة العموم تكون بلا معارض.

واما أصالة عدم الاستخدام بالمعنى الثاني ، فقد ادعى : ان مستندها هو ان وحدة المراد الجدي من الضمير ومرجعه من الظهورات السياقية. وعليه فيحصل التعارض بينها وبين أصالة العموم ، لاختلاف مؤداهما ، فلو لم تكن مقدمة على أصالة العموم كانت معارضه وتكون النتيجة هي التساقط ، والنتيجة تكون هي التخصيص حكما.

ولكن يرد على هذا القول :

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٩٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٨

أولا : ان الاستخدام بهذا المعنى لا يتأتى إلاّ في باب العام والضمير.

اما في مثل : « رأيت أسدا وضربته » فلا وجه لأن يدعي وحدة الاستعمال بان يراد من : « أسد » وضميره هو الحيوان المفترس ، لكن يختلفان في المراد الجدي فيراد من أسد جدا الحيوان المفترس ويراد جدا من الضمير الرّجل الشجاع.

نعم ، في ما نحن فيه يمكن تأتيه ، فيكون المستعمل فيه العام والضمير واحدا ، ولكن يراد جدا من العام العموم ومن الضمير الخصوص. اذن فلا معنى لتفسير الاستخدام بهذا الوجه لعدم تأتيه في مطلق الموارد التي يحتمل فيها الاستخدام.

فان قلت : يمكن تأتي هذا المعنى من الاستخدام في مثل : « رأيت أسدا وضربته » ، إذ يمكن استعمالهما معا في الحيوان المفترس ويراد من الضمير الرّجل الشجاع بنحو الحقيقة الادعائية.

قلت : هذا خلاف الوجدان ، وذلك لأن استعمال اللفظ الموضوع للطبيعي وإرادة الفرد انما هو من باب الإطلاق لا الاستعمال ، إذ لا يستعمل لفظ : « الخبز » في : « أكلت الخبز » في الفرد المأكول بل يطلق عليه ، فالحقيقة الادعائية عبارة عن إطلاق لفظ الأسد المستعمل في معناه الحقيقي على زيد بادعاء انه فرد للحيوان المفترس. ثم ان الواضح ان الضمير لا يستعمل في المعنى المراد من مرجعه ، بل يستعمل في معناه المبهم ويراد به مرجعه بنحو الإطلاق.

فإرادة الرّجل الشجاع من الضمير بنحو الحقيقة الادعائية تستلزم تعدد الإطلاق وان يكون هناك إطلاقان أحدهما إطلاق الضمير على الحيوان المفترس والآخر إطلاق الحيوان المفترس على فرده الادعائي ، والتعدد خلاف المرتكز في مثل هذا الاستعمال. فتدبر.

وثانيا : ان ما ادعي لهذا الأصل من المنشأ وهو الظهور السياقي وعورض به أصالة العموم ، امر لا أساس له عند العقلاء ، بل وحدة المراد الجدي من

٣٧٩

الضمير ومرجعه انما تستفاد في سائر الموارد من البناء العقلائي على مطابقة مقام الإثبات لمقام الثبوت وان المراد الاستعمالي هو المراد الجدي. فانه إذا اتحد المراد الاستعمالي للضمير ومرجعه ، فبضميمة هذا البناء العقلائي يستفاد وحدة المراد الجدي للضمير ومرجعه ، وليس لدينا وراء هذا الأمر أمر آخر نعبّر عنه بالظهور السياقي يبني عليه العقلاء في محاوراتهم ، بل لا معنى له بعد أداء نتيجته بأصل آخر عقلائي لا تشكيك فيه.

وإذا اتضح هذا المعنى فنقول : في المقام حيث يعلم بالمراد الجدي من الضمير وانه يخالف المراد الاستعمالي لو كان عاما ، فلا يجري فيه الأصل العقلائي المزبور ، وانما يجري في طرف العام فقط ، فكانت أصالة العموم في العام محكمة ولا مزاحم لها أصلا.

والنتيجة : ان أصالة العموم جارية ولا تزاحمها أصالة عدم الاستخدام بالمعنى الأول. هذا مع ما تقدم من المحقق النائيني من ان المستعمل فيه الضمير هو العموم فلا اختلاف فيه ، فالمورد أجنبي عن الاستخدام بهذا المعنى. كما عرفت ان أصالة عدم الاستخدام بالمعنى الآخر لا أساس لها. فما اختاره صاحب الكفاية هو المتبع.

ثم ان صاحب الكفاية بعد ما ذكر ما عرفته قال : « لكنه إذا عقد للكلام ظهور في العموم بان لا يعدّ ما اشتمل عليه الضمير مما يكتنف به عرفا ، وإلاّ فيحكم عليه بالإجمال ويرجع إلى ما يقتضيه الأصول » (١). ولم يرتضه المحقق النائيني ببيان : ان ملاك باب اكتناف الكلام بما يصلح للقرينية هو ان يكون في الكلام لفظ مجمل بحيث لو كان المتكلم متكلا عليه في بيان مراده لم يكن مخلا بالغرض ، وهو غير متوفر فيما نحن فيه ، إذ الجملة المشتملة على الضمير تتكفل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٣٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٨٠