منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

بحيث يكون الدليل الدال على المتعبد به دالا بالملازمة العرفية على ثبوت لازمه.

وثانيهما : ان يكون اللازم مفاد أمارة كالمدلول المطابقي ، فيكون الدليل حجة فيه بالعنوان الّذي يكون حجة في مدلوله المطابقي كموارد الخبر ، فان الاخبار بالشيء اخبار بلازمه ، فهناك خبران أحدهما باللازم والآخر بالملزوم.

وليس عكس النقيض بالنسبة إلى العام من أحد النحوين.

الثاني : ما ذكره المحقق العراقي في مقالاته من ان العام لا نظر له إلى تعيين المصاديق وتشخيصها ، بل هو انما يتكفل الحكم على تقدير الموضوع (١).

وفي كلا الوجهين نظر :

اما الأول : فلان عكس النقيض لازم بيّن للحكم العام ، فانه من الواضح ان ثبوت الحكم واقعا لجميع افراد العام يلازم نفي العام عما لا ثبوت للحكم فيه. وعليه ، فالدليل الدال على ثبوت الحكم واقعا لجميع الافراد دال بالملازمة على نفي العموم عن غير مورد الحكم. فعكس النقيض بواقعه ـ لا بلفظه وبهذا الاصطلاح ـ امر لا ينكره أحد وتشهد له الأمثلة العرفية في مختلف الموارد ، فمثلا لو عرف أهل بلدة بالسخاء وجاء شخص ادعى انه من أهل تلك البلدة ولم يكن سخيا فانه يكذب في دعواه بدعوى ان أهل تلك البلدة أسخياء وأنت لست بسخي. ونظير ذلك كثير.

واما الثاني : فلان عدم نظر العام إلى تشخيص مصاديقه مسلم لكنه بالنسبة إلى مدلوله المطابقي وبلا واسطة ، فانه عبارة عن الحكم على تقدير ، ولا يسلم عدم نظره أصلا ولو بوسائط كما فيما نحن فيه ، فانه يتكفل بالدلالة الالتزامية العرفية بيان كبرى كلية لتعيين المصداق ، فينشأ تشخيصه من ضم صغرى إلى هذه الكبرى. فتدبر.

__________________

(١) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول ١ ـ ١٥٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٤١

وخلاصة الكلام : ان دلالة العام بوضوح على عكس النقيض لا تقبل الإنكار.

وقد اتضح لك من مجموع ما تقدم : حكم صورتين من صور دوران الأمر بين التخصيص والتخصص.

تبقى صورة تعرض لحكمها المحقق النائيني وهي : ما إذا ورد عام ثم ورد ما يدل على ثبوت خلاف حكمه بالنسبة إلى فرد مردد بين فردين أحدهما من افراد العام والآخر من غير افراده ، كما لو قال : « أكرم كل عالم » ثم قال : « لا تكرم زيدا » وكان هناك زيدان أحدهما عالم والآخر غير عالم ولم يعرف المراد به هل هو غير العالم فيكون من باب التخصص أو العالم فيكون من باب التخصيص؟. وقد ذهب قدس‌سره إلى التمسك بأصالة العموم في إثبات وجوب إكرام زيد العالم ، وبها يثبت ان المحكوم بالحرمة هو غير العالم ، فتكون أصالة العموم موجبة لانحلال العلم الإجمالي وتعيين المعلوم بالإجمال في أحد طرفيه (١).

والّذي نريد ان نقوله هنا : ان ما ذكره انما يتم لو بنى على حجية أصالة العموم ـ بلحاظ أنها إمارة ـ في مطلق اللوازم العقلية ، أو ان دلالتها على ثبوت الحرمة في غير العالم بالدلالة الالتزامية العرفية ، ولكنه قدس‌سره لا يلتزم بالشق الأول ، كما ان الشق الثاني ممنوع ، إذ الملازمة اتفاقية ناشئة من العلم الإجمالي ، فلا تكون سببا للظهور العرفي الّذي هو موضوع الحجية. فلاحظ جيدا ولتكن على ذكر منه لعله ينفعك في مقام آخر.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٥٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٢

استصحاب العدم الأزلي :

ثم انه يمكن إثبات حكم العام للفرد المشكوك بواسطة نفي عنوان الخاصّ عنه بالأصل إذا كان مسبوقا بعدمه ، فيقال في العالم المشكوك الفسق انه لم يكن فاسقا ، فمع الشك يستصحب عدم فسقه فيثبت حكم العام له.

ولكن هذا واضح بالنسبة إلى الاعراض المتأخرة عن وجود الذات والواردة عليه ، بحيث تكون الذات غير متصفة بها في بعض الأحيان كالفسق والعدالة والعلم والجهل ونحوها.

اما بالنسبة إلى الأوصاف الأزلية المقارنة لوجود الذات المستمرة باستمرارها ، فيشكل الأمر فيها ، إذ ليس للذات حالة سابقة يتيقن فيها بعدم الوصف كي يستصحب عدمه ، ولأجل ذلك عقد الاعلام بحثا اصطلحوا عليه بـ : « بحث استصحاب العدم الأزلي » بحثوا فيه إمكان جريان أصالة عدم الوصف الأزلي لإثبات حكم العام للفرد المشكوك وعدم إمكانه ، ومثاله : ما ورد من ان المرأة تحيض إلى خمسين المخصص بالقرشية فانها تحيض إلى ستّين ، فمع الشك في كون امرأة قرشية ، فلا مجال للقول بأنها لم تكن قرشية فيستصحب العدم ، لأنها حين وجدت اما قرشية أو غير قرشية ، نعم يمكن إجراء استصحاب عدم قرشية المرأة ولو بلحاظ عدم الموضوع في السابق ، وهذا هو محل الكلام بين الاعلام.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى جريان الاستصحاب وإثبات حكم العام للمشكوك بواسطته ، فقال : « ان الباقي تحت العام بعد تخصيصه بالمنفصل أو كالاستثناء من المتصل ، لما كان غير معنون بعنوان خاص ، بل بكل عنوان لم يكن ذاك بعنوان الخاصّ ، كان إحراز المشتبه منه بالأصل الموضوعي في غالب

٣٤٣

الموارد الا ما شذ ممكنا ، فبذلك يحكم عليه بحكم العام وان لم يجز التمسك به بلا كلام ضرورة انه قلّما لا يوجد عنوان يجري فيه أصل ينقح به انه مما بقي تحته ، مثلا إذا شك ان امرأة تكون قرشية أو غيرها فهي وان كان إذا وجدت اما قرشية أو غير قرشية ، فلا أصل يحرز به انها قرشية أو غيرها ، إلاّ ان أصالة عدم تحقق الانتساب بينها وبين قريش تجدي في تنقيح انها ممن لا تحيض الا إلى خمسين ، لأن المرأة التي لا يكون بينها وبين قريش انتساب أيضا باقية تحت ما دل على ان المرأة انما ترى الحمرة إلى خمسين ، والخارج عن تحته هي القرشية ، فتأمل تعرف » (١).

والمراد من قوله : « أو كالاستثناء من المتصل » الإشارة إلى ان المخصص على قسمين :

فمنه : ما يكون مؤدّاه بيان منافاة بعض الأوصاف لحكم العام فيتكفل إخراجه. وذلك كالاستثناء نظير : « أكرم كل عالم الا الفاسق » وكالشرط في مثل : « أكرم العلماء إذا لم يكونوا فساقا ».

ومنه : ما يكون مؤدّاها دخالة وصف آخر في الحكم نظير : « أكرم كل عالم عادل » أو : « إذا كان عادلا ».

ومحل البحث هو القسم الأول ، لوضوح ان القسم الثاني يوجب تضييق موضوع الحكم وتعنونه بعنوان زائد على عنوان العام.

ثم إن كلامه ـ مع قطع النّظر عن أصل دعوى جريان الاستصحاب ـ وقع موردا للإشكال من جهات عديدة نتعرض إليها فيما بعد إن شاء الله تعالى ، وانما المهم فعلا البحث في موضوع الكلام ، أعني جريان استصحاب العدم الأزلي. وقد عرفت انه قدس‌سره ذهب إلى جريانه.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٤٤

ولكن المحقق النائيني خالفه في ذلك وذهب إلى عدم جريانه.

وقد ذكر قبل تحقيق المطلب : ان كلام صاحب الكفاية انما يتم بناء على أخذ عدم الخاصّ في موضوع الحكم بنحو العدم المحمولي الراجع إلى فرض موضوع الحكم مركبا من جزءين ، أحدهما عنوان العام ، والآخر عدم عنوان الخاصّ من دون فرض اتصاف العام بعدم الخاصّ ، بل يؤخذ عدم الخاصّ بمفاد ليس التامة لا الناقصة. واما بناء على أخذ عدم الخاصّ في الموضوع بنحو العدم النعتيّ الراجع إلى فرض موضوع ، هو العام المتصف بعدم الخاصّ ، فيكون عدم الخاصّ مأخوذا بمفاد ليس الناقصة ، فلا يتم ما ذهب إليه لعدم سبق اتصاف الذات بعدم الخاصّ ، لأنها حين توجد توجد امّا متصفة به أو بعدمه. واما العدم المحمولي الأزلي ، فهو وان كان في نفسه مجرى الأصل لكنه لا ينفع في إثبات العدم النعتيّ إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت.

وبالجملة : فالبحث يبتني على أخذ عدم عنوان الخاصّ بنحو التركيب أو بنحو التوصيف.

وقد ذهب قدس‌سره إلى الثاني وقدّم لذلك مقدمات ثلاث (١) :

المقدمة الأولى : ان التخصيص سواء كان بدليل منفصل أو متصل ، استثناء كان أو غيره ، يوجب تقيد موضوع الحكم العام ، بنقيض عنوان الخاصّ ، فإذا كان الخاصّ وجوديا تعنون العام بعنوان عدمي وإذا كان عنوان الخاصّ عدميا تقيد الموضوع بعنوان وجودي.

والوجه في ذلك : هو ان موضوع الحكم أو متعلقه بالنسبة إلى انقساماته الأوّلية لا بد ان يلحظ اما مطلقا بالنسبة إليها أو مقيدا بوجودها أو بعدمها ، ولا يجوز ان يكون مهملا لامتناع الإهمال في مقام الثبوت وتردد الحاكم الملتفت من

__________________

(١) لم يذكر هنا إلا مقدمتين.

٣٤٥

جهة التقسيمات الأولية.

وعليه ، فإذا خصص العام فالباقي تحت العام اما ان يكون مقيدا بنقيض الخارج ، واما ان يكون مطلقا. والثاني ممتنع للزوم التدافع والتهافت بين دليل العام والمخصص ، إذ لا يجتمع الحكم بحرمة إكرام النحوي ـ مثلا ـ مع وجوب إكرام العالم سواء كان نحويا أو لا. فيتعين الأول فيكون موضوع الحكم مقيدا بغير عنوان الخاصّ وهو المدعى.

ولا فرق بين المخصص المتصل والمنفصل من هذه الجهة ، وانما الفرق بينهما من جهة أخرى ، وهي ان المخصص المتصل يوجب التصرف في ظهور العام ، فلا ينعقد له ظهور أولا الا في الخصوص فهو يتصرف في الدلالة التصديقية للعام ، واما المخصص المنفصل فهو يوجب التقييد في المراد الواقعي لا في الدلالة التصديقية لانعقاد ظهور العام قبل وروده. وهذا الفرق غير فارق في جهة البحث لاشتراكهما في تقييد المراد الواقعي (١).

أقول : ما ذكره أخيرا من عدم ثبوت الفرق بين المخصص المتصل والمنفصل من جهة ان المتصل يتصرف في الدلالة التصديقية ، والمنفصل لا يتصرف إلاّ في المراد الواقعي ، غير تام ، بناء على ما التزم به من رجوع التخصيص إلى تقييد مدخول أداة العموم ، لما سيأتي منه من ان التقييد المنفصل يوجب الإخلال بظهور المطلق في الإطلاق ، بلحاظ انه يرى ان مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الواقعي ، فيكون معلقا على عدم البيان إلى الأبد (٢) ، كما هو رأي الشيخ الأعظم قدس‌سره (٣) ، ورتب على ذلك آثارا متعددة في باب

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٦٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٥٢٩ ـ الطبعة الأولى.

(٣) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٢١٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٦

التعادل والترجيح كالتزامه بانقلاب النسبة (١). فالتفت.

واما ما ذكره أولا من استلزام التخصيص تقييد موضوع الحكم بغير عنوان الخاصّ ، فهو محل الكلام ، وقد عرفت فيما تقدم إنكار المحقق العراقي لذلك ووافقه المحقق الأصفهاني وأقام البرهان على امتناعه.

والّذي نراه ان الاختلاف بينهما مبنائي ، فكل منهم على حق في دعواه بناء على ما التزم به في مدلول أدوات العموم.

توضيح ذلك : انه إذا التزم برجوع العام إلى المطلق ، وان شأن أدوات العموم ليس إلاّ إفادة الاستغراقية أو المجموعية أو البدلية ، وعموم المدخول مستفاد من جريان مقدمات الحكمة فيه ـ كما التزم به المحقق النائيني وقرّبناه ـ ، كان التخصيص مستلزما للتقييد بلا تردد ، وذلك لأن الملحوظ في العام ثبوتا وفي مقام تعلق الحكم هو الطبيعة الشاملة ، فإذا خرج بعض الافراد عن الحكم امتنع لحاظ الطبيعة حينئذ بنحو الشمول ، وهذا هو معنى امتناع الإطلاق ، فيتعين ان تلحظ مقيدة بعدم عنوان الخاصّ.

وان التزم بان العام يختلف عن المطلق ، وان العموم مدلول الأداة نفسها والمدخول هو الطبيعة المهملة ، فيكون مفاد العموم إرادة جميع افراد الطبيعة المهملة ، لم يكن التخصيص مستلزما للتقييد ، لأنه لم يلحظ في مقام تعلق الحكم ، الطبيعة القابلة للإطلاق والتقييد كي يتأتى فيها الترديد المزبور ، بل لوحظ جميع افراد الطبيعة المهملة ، ولا معنى للإطلاق والتقييد فيه كي يتأتى الترديد المتقدم بعد التخصيص ، لأن الإطلاق والتقييد شأن الطبيعة ، وواقع « جميع الافراد » ليس كذلك ، ولو تصورنا الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى الباقي لالتزمنا بأنه مطلق لا مقيد ، بمعنى ان الحكم ثابت للباقي ثبت الحكم لغيره أم لم يثبت.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ٢٧٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٤٧

وبالجملة : العموم على الالتزام الأول مستفاد من فرض الموضوع هو الطبيعة السارية ، فيتأتى فيها حديث الترديد بين الإطلاق والتقييد بعد ورود التخصيص. وعلى الالتزام الآخر لم يستفد من ذلك ، بل لوحظت الافراد جميعها رأسا لا بتوسط لحاظ الطبيعة بنحو السريان ، فهو بمنزلة ان يقال : « جميع افراد الطبيعة المهملة » ، ومن الواضح انه لا معنى لأن يقال : ان جميع الافراد لوحظ اما مقيدا أو مطلقا ، ولو سلمنا إمكانه فقد عرفت انه يتعين الإطلاق لا التقييد.

هذا هو تحقيق المقام ، ولا إشكال لنا على كل من هؤلاء الأعلام لاختلاف مبناهم ، وانما إشكالنا على من يرى ان العموم بالأداة ويقرّ هذه المقدمة للوجه المزبور. فلاحظ.

ثم انه قد أشرنا إلى ان المحقق الأصفهاني أقام البرهان على امتناع تعنون العام بعد التخصيص بعنوان زائد على عنوان العام.

وبيانه : ان موضوع البعث الحقيقي الموجود بوجود منشأ انتزاعه لا مقام له سوى مقام الإنشاء ، فما يكون موضوعا للحكم في البعث الإنشائي يكون هو الموضوع للبعث الحقيقي ، لأن الإنشاء انما يكون بداعي جعل الداعي ، ويستحيل الإنشاء بداعي جعل الداعي إلى غير ما تعلق به ، فإنشاء الحكم المتعلق بالصلاة يستحيل ان يكون داعيا للصوم ، كما ان إنشاء الحكم المتعلق بإكرام العالم يستحيل ان يكون داعيا لإكرام غيره.

وعليه ، فبما ان الحكم المنشأ بالدليل العام أنشئ على الموضوع العام ، فيستحيل ان يتقيد بورود المخصص بقيد آخر لاستلزامه اختلاف موضوع البعث الإنشائي عن موضوع البعث الحقيقي ، وقد عرفت انه ممتنع. وقد ذكر بعد ذلك : بان يشهد لما ذكرنا مضافا إلى البرهان ، ان المخصص إذا كان مثل : « لا تكرم زيدا العالم » لا يوجب إلا قصر الحكم على ما عداه ، لا على المعنون

٣٤٨

بعنوان ما عدا زيد أو شبهه (١).

وما أفاده قدس‌سره لا يمكننا الالتزام به لوجهين :

الأول : النقض عليه بما إذا كان الوصف المأخوذ في الكلام غير دخيل في ثبوت الحكم أصلا ، وانما كان معرفا لما هو الموضوع الحقيقي ، فان مثل ذلك يقع كثيرا في الأحكام.

الثاني : انه لا مانع من ان يكون موضوع الحكم الواقعي غير المذكور في الكلام إذا كان ممّا يتعارف تفهيم الواقع به وقابلا لإرادته منه ، وذلك كقول القائل : « أكلت الخبز » وهو يقصد أكل الفرد الخاصّ من الخبز ، لأنه هو الّذي يقع عليه الأكل لا الطبيعي ، مع ان لفظ الخبر موضوع للطبيعي ، فأراد الفرد الخاصّ من باب إطلاق الكلي على فرده.

وعليه ، ففيما نحن فيه حيث ان العام يدل على الباقي ، ولذا كان حجة فيه بعد التخصيص بلا كلام ، أمكن ان يكون موضوع الحكم هو الباقي بما انه معنون بعنوان خاص كالفقيه أو نحوه وان لم يؤخذ ذلك لفظا ، لقابلية اللفظ لتفهيم هذه الحصة ـ كما هو المفروض ـ فيمكن ان تراد منه من باب إطلاق الطبيعي وإرادة فرده ، فان الفقيه ـ مثلا ـ فرد الباقي.

وممّا ذكرنا يظهر انه لا مجال للنقض بان يستحيل الانبعاث نحو الصوم إذا أمر بالصلاة ونحو ذلك ، لأن الصوم لا يقبل التفهيم بلفظ الصلاة ولا يصح إرادته منه فلا يتحقق الانبعاث نحوه قهرا للجهل بإرادته وعدم ما يدل عليه. هذا كله فيما يرتبط بالبرهان.

واما ما استشهد به قدس‌سره من المثال على عدم التعنون ، فان كان ناظرا إلى كون التخصيص بغير زيد بنحو القضية الخارجية ، فهو مسلم ولكنه

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٤١ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٩

ليس محل البحث. وان كان ناظرا إلى كونه بنحو القضية الحقيقية ، فهو أول الكلام ، بل لمدّع ان يدعي بتعنون العام بعنوان زيد. فلاحظ.

واما تنظير المحقق العراقي ـ في بحث التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ـ باب التخصيص بصورة موت أحد افراد العام فقد تقدم ما فيه فلا نعيد.

تنبيه : قد تقدم منا الإيراد على المحقق العراقي ، بان قصر الحكم يلازم تضييق الموضوع بالبيان المتقدم الّذي ذكره المحقق النائيني ، وقد عرفت انه لا يتم بناء على مذهب العراقي في العموم من كونه مفاد الأداة لا مقدمات الحكمة.

وعليه ، فنرفع اليد عن هذا الإيراد ، لكنه لا ينفع المحقق العراقي في تقريب التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، إذ يعلم بقصر الحكم على بعض افراد العام وان لم يكن بعنوان زائد على عنوان العام ، ويعلم بخروج بعضها عن حكمه ، فمع التردد في فرد أنه من الخارج أو الباقي لا يكون العام حجة فيه ، لأنه حجة في غير عنوان الخاصّ. فتدبر جيدا.

المقدمة الثانية : ان العنوان الخاصّ إذا كان من قبيل الأوصاف القائمة بعنوان العام ، سواء كان من العناوين المتأصلة أو الانتزاعية ، فلا محالة يكون موضوع الحكم بعد التخصيص مركبا من المعروض وعرضه القائم به ، أعني به مفاد ليس الناقصة المعبر عنه بالعدم النعتيّ.

والسرّ في ذلك : هو ان انقسام العام باعتبار أوصافه ونعوته القائمة به انما هو في مرتبة سابقة على انقسامه باعتبار مقارناته ، فإذا كان المخصص كاشفا عن تقييد ما بمقتضى المقدمة الأولى ، فلا بد من ان يكون هذا التقييد بلحاظ الانقسام الأولي ، أعني به الانقسام باعتبار أوصافه ، فيرجع التقييد إلى ما هو مفاد ليس الناقصة ، إذ لو كان راجعا إلى التقييد بعدم مقارنته لوصفه بنحو مفاد ليس التامة ليكون الموضوع في الحقيقة مركبا من عنوان العام وعدم عرضه

٣٥٠

المحمولي ، فاما ان يكون ذلك مع بقاء الإطلاق ، بالإضافة إلى جهة كون العدم نعتا ، ليرجع استثناء الفساق من العلماء في قضية : « أكرم العلماء الا فساقهم » إلى تقييد العلماء بان لا يكون معهم فسق سواء كانوا فاسقين أم لا. أو يكون ذلك مع التقييد من جهة كون العدم نعتا.

وكلا الوجهين باطلان :

اما الأول : فلأنه محال ، للتدافع بين الإطلاق من جهة العدم النعتيّ والتقييد بعدم المحمولي.

واما الثاني : فلان التقييد بالعدم المحمولي لغو بعد التقييد بالعدم النعتيّ لكفايته عنه (١).

وقد أورد على ذلك بوجهين :

الأول : انه يستلزم إنكار جميع الموضوعات المركبة التي يمكن إحراز أحد اجزائها بالوجدان والآخر بالأصل ، لجريان الترديد المتقدم فيها ، فلا يكون هناك موضوع مأخوذ بنحو التركيب ، بل تكون الموضوعات دائما مأخوذة بنحو التوصيف.

بيان ذلك : ان مقارنة كل جزء مع الجزء الآخر أو تعقبه به من أوصافه ونعوته ، فيكون الانقسام باعتبارها متقدما رتبة على ذات الجزء ، لأنه من مقارناته. وعليه ، فنقول : ان تقييد الجزء بوجود الجزء الآخر اما ان يكون مع بقاء إطلاقه من جهة مقارنته للجزء الآخر ، فيكون الجزء الآخر معتبرا سواء قارنه الجزء أو لا أو مع تقييده بمقارنته بالجزء الآخر. فعلى الأول يتحقق التدافع بين الإطلاق من جهة المقارنة والتقييد من جهة نفس الجزء. وعلى الثاني يكون التقييد بنفس الجزء لغوا ، لكفاية التقييد بالمقارنة عنه ، مثلا ـ في باب الصلاة ـ إذا قيد الركوع

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٦٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٥١

بالسجود اما ان يكون مطلقا من جهة تعقبه بالسجود ، فيتحقق التدافع. أو مقيدا بتعقبه بالسجود ، فيكون التقييد بنفس السجود لغوا.

الثاني : ان تقييد موضوع الحكم أو متعلقه بما يلازم امرا آخر خارجا ، لا يبقى مجالا لتقييده بذلك الأمر ، ولا إطلاقه بالإضافة إليه ، فمع تقييد الصلاة بان تكون إلى القبلة فلا مجال لتقييدها بعدم كونها إلى دبر القبلة ، كما لا مجال لإطلاقها بالإضافة إليه ، بل يرتفع مجال التقييد والإطلاق بذلك ، وعليه فإذا كان التقييد بالعدم المحمولي ملازما للعدم النعتيّ ، فلا مجال حينئذ للتقييد به ، ولا الإطلاق بالإضافة إليه ، بل ترتفع بذلك قابلية المورد للإطلاق والتقييد ، كي يتأتى الترديد المزبور. كما هو الحال بالنسبة إلى التقييد بالعدم النعتيّ ، فانه يرفع قابلية المورد للإطلاق والتقييد من جهة العدم المحمولي (١).

أقول : إذا كان المراد من كلامه ما هو ظاهره من ان رتبة الوصف أسبق من رتبة المقارن ، فمع التقييد بالمقارن اما ان يكون مقيدا بالوصف بنحو التوصيف. أو مطلقا. والأول لغو والثاني مستلزم للتهافت والتدافع. توجه عليه الإيرادان المذكوران ، كما يتوجه عليه ثالثا : ان دعوى كون لحاظ الوصف أسبق رتبة من لحاظ المقارن دعوى بلا شاهد ولا مستند ، إذ لا وجه للتقدم الرتبي للاتصاف على المقارنة.

ولكن يمكن توجيه كلامه بنحو لا تتوجه عليه هذه الإيرادات ، بل تندفع بحذافيرها.

بيان ذلك : ان مرتبة الجزء المتقدمة على مرتبة الكل بلا إشكال ، والأمر الّذي يؤخذ جزء لا بد ان يلحظ في مرحلة جزئيته بالإضافة إلى جميع صفاته ، لاحتمال دخل بعضها في جزئيته وترتب أثره الضمني ، إذ قد لا تكون ذات الجزء

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٦٩ ـ هاشم رقم (١) ـ الطبعة الأولى.

٣٥٢

بدون وصف خاص جزء وذات أثر ضمني.

ثم بعد تكميل جهة جزئيته وأخذه جزء مطلقا أو مقيدا ببعض الصفات تصل النوبة إلى لحاظه بالإضافة إلى الاجزاء الأخرى وأخذه معها بلحاظ ترتيب أثر الكل ، لما عرفت ان الجزء أسبق رتبة من الكل ، فلحاظه بخصوصياته بما هو جزء في نفسه أسبق من لحاظه مع الاجزاء الأخرى الّذي هو عبارة أخرى عن لحاظ الكل.

وعليه ، فيمكن ان يكون نظر المحقق النائيني ـ وان لم يظهر من عبارة التقريرات ـ إلى هذا المعنى ، وان أخذ الموضوع مع عدم وصفه بنحو التركيب يستلزم أولا لحاظ الموضوع بكامل خصوصياته وفي مرحلة جزئيته ، فإذا فرض دخالة عدم الوصف في تأثيره كان مقيدا به ولم يكن مطلقا ، ومع تقييده به أغنى عن أخذ عدم الوصف جزء ، ولحاظه كذلك أسبق رتبة من لحاظه مع عدم الوصف بنحو المقارنة ، لما عرفت من أسبقية الجزء رتبة من الكل.

وعليه ، فلا يرد عليه الوجه الأخير ، إذ عرفت الوجه في التقدم الرتبي المفروض فيما نحن فيه ، وليس المراد ان الشيء بلحاظ أوصافه أسبق رتبة منه بلحاظ مقارنته كي يقال انه دعوى بلا دليل ، بل مقصوده ان لحاظ الجزء بالإضافة إلى عوارضه أسبق من لحاظه بالإضافة إلى الاجزاء الأخرى.

كما يندفع الوجه الثاني ، فان التقييد بكل منهما وان أوجب رفع قابلية المورد للإطلاق والتقييد بالإضافة إلى الآخر ، إلاّ انه عرفت ان ملاحظته بالإضافة إلى أوصافه وتقييده بها وجودا أو عدما أسبق رتبة من ملاحظته بالإضافة إلى مقارناته ، فلا تصل النوبة إلى أخذ العدم جزء.

واما الوجه الأول ، فيندفع بان وصف المقارنة وصف انتزاعي لا دخل له في التأثير إلاّ بلحاظ منشأ انتزاعه ، وهو ليس إلاّ عبارة عن وجود أحد الجزءين عند وجود الآخر ، وهذا ليس إلاّ تركّب الموضوع من الجزءين.

٣٥٣

هذا مع ان ما ذكر من لحاظ المقارنة يتأتى في كلا الجزءين ، فانه كما يقال ان هذا الجزء بلحاظ مقارنته مع ذلك الجزء اما مطلقا فيلزم التدافع أو مقيدا فتلزم اللغوية كذلك يقال ان ذاك الجزء بلحاظ مقارنته مع هذا الجزء اما مطلقا فيلزم التدافع أو مقيدا فتلزم اللغوية. وبذلك يتعين الأمر بكلا الجزءين ، لأن تخصيص أحدهما بالأمر ترجيح بلا مرجح ، وهذا كما لو كان في كل من المتلازمين مصلحة ملزمة فانه يتعين الأمر بكليهما ، لأن الأمر بأحدهما بالخصوص مع وجود المصلحة أيضا في الآخر ترجيح بلا مرجح ـ ولو كان كافيا ـ وهو ممتنع.

هذا ولكن يرد على التوجيه المزبور وجهان :

الأول : ان ملاحظة الموضوع مع عدم الوصف لا يلازم تقييده به ، وان كان دخيلا في التأثير ، إذ يمكن ان لا يكون دخيلا في تحقق أثر الجزء ، ولكنه دخيل في تحقق أثر الكل ، فيكون الجزء مطلقا بالإضافة إليه بلحاظ جزئيته واثره الضمني ، ولكنه مقيد به لأخذه جزءا آخر بلحاظ أثر الكل ودخالته في تحققه ، فلا ملازمة بين لحاظه وبين أخذه قيدا. كما لا منافاة بين إطلاق الجزء بلحاظ جزئيته بالإضافة إليه وتقييده به بلحاظ أثر الكل.

الثاني : ان عدم الوصف لو فرض انه دخيل في تأثير الجزء بما هو جزء ، فغاية ما يقتضي ذلك هو تقييد الجزء به ، اما انه يؤخذ بنحو التوصيف أو بنحو التركيب فهو أجنبي عن مفاد هذا البرهان ، ولا ملازمة بين التقييد وبين أخذه بنحو التوصيف ، كما اعترف به قدس‌سره ، إذ عقد المقدمة الثانية لأجل إثبات ان التقييد بنحو التوصيف مع إثباته بالمقدمة الأولى ضرورة التقييد ، فلو كان التقييد ملازما للتوصيف كانت المقدمة الثانية لغوا محضا.

وبالجملة : وقع الخلط بين الوصف والاتصاف ، والّذي لا بد من ملاحظته في الجزء سابقا على لحاظ الكل هو أوصاف الجزء وهو لا يلازم أخذها ـ على تقدير دخالتها ـ بنحو الاتصاف. فتدبر جيدا.

٣٥٤

ثم ان السيد الخوئي ( حفظه الله ) التزم بما ذكره المحقق النائيني من : ان الموضوع المقيد بعرضه القائم به لا بد ان يؤخذ بنحو التوصيف في خصوص الوصف الوجوديّ ، ببيان : ان العرض بما ان وجوده في نفسه عين وجوده في موضوعه ، لأنه متقوم بالغير في قبال الجوهر القائم بنفسه ، فإذا أخذ في موضوع الحكم فاما ان يؤخذ بلا تقييد له بموضوع خاص ، كأن يكون موضوع الحكم زيد والعدالة أينما وجدت ولو في غيره. واما ان يؤخذ مقيدا بموضوع خاص ، كأن يكون موضوع الحكم زيد وعدالته. فعلى الأول يترتب الحكم عند وجود زيد ووجود العدالة ولو في غيره ، لكنه خارج عن محل البحث ، لأن محل البحث أخذ الشيء وعرضه القائم به في الموضوع. وعلى الثاني فانما يترتب الحكم على تقدير وجود الوصف في ذلك الموضوع الّذي هو في الحقيقة وجود نعتي ، لأن وجود العرض في نفسه عين وجوده في موضوعه ، فوجود العدالة في زيد هو بعينه ثبوت العدالة له المعبّر عنه باتصاف زيد بالعدالة ، وما هو مفاد كان الناقصة (١).

وهذا الكلام مخدوش لوجهين :

الأول : ان قيام العرض بموضوعه إذا كان ملازما لأخذ الموضوع بلحاظ عرضه بنحو الاتصاف لجرى هذا الكلام في النحو الأول ، وذلك لأن المفروض أخذ العرض في موضوع الحكم ، والمفروض انه يتقوم بغيره ، فالمأخوذ هو العرض المتقوم بمحل ما ، وهذا ملازم لأخذه بنحو الاتصاف بلحاظ مطلق المحلّ لا محل خاص.

الثاني : ان تقوم العرض بالذات لا يلازم أخذ الذات متصفة به وبنحو النعتية ، فان حقيقة النعتية هي الوجود الرابط ، وهو جهة زائدة عن أصل وجود العرض المعبر عنه بالوجود الرابطي.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٦٦ هامش رقم (١) ـ الطبعة الأولى.

٣٥٥

ولأجل ذلك وقع البحث في مبحث المشتق فيما هو المصحح لحمل المبدأ على الذات ـ إذا كان المشتق بمعنى المبدأ ـ ، مع بداهة قيام المبدأ بالذات ، فانه يكشف عن ان جهة تقوم المبدأ بالذات تختلف عن جهة النعتية والاتصاف المصححة للحمل.

ويمكننا تقريب المقدمة الثانية ، ولكن ببيان لا ظهور له من عبارة التقريرات ، وهو : ان الدليل المخصص لو كان يتكفل إخراج المبدأ ، لكان للبحث في ان المأخوذ في عنوان العام بعد التخصيص عدمه النعتيّ أو المحمولي مجال ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان المخصص يتكفل إخراج العنوان الاشتقاقي ، فهو مثلا يخرج عنوان الفاسق عن دليل وجوب إكرام العلماء لا الفسق ، وعنوان الشرط المخالف للكتاب عن دليل نفوذ الشروط لا مخالفة الشرط.

وعليه ، فإذا كان مقتضى المقدمة الأولى تقييد موضوع حكم العام بنقيض الخاصّ ، فنقيض الفاسق « لا فاسق » ونقيض المخالف « اللامخالف » ، والموضوع يتقيد به لا بعدم الفسق أو عدم المخالفة.

ومن الواضح ان تقيد الموضوع به يرجع إلى أخذه فيه بنحو الاتصاف النعتية كما هو ظاهر.

مع ان الإطلاق معناه ثبوت الحكم للموضوع كالعالم سواء كان فاسقا أو لم يكن فاسقا ، فإذا خرج الفاسق ثبت الحكم لغيره جزما لأنه إذا ألغيت « السوائية » كان الحكم ثابتا للعالم إذا لم يكن فاسقا.

ولو تنزلنا والتزمنا بان التقيد بنقيض العنوان الاشتقاقي لا يلازم أخذه بنحو النعتية ، فهو يكفي في منع استصحاب العدم الأزلي كما سيتضح إن شاء الله تعالى.

والّذي نذهب إليه هو منع استصحاب العدم الأزلي.

٣٥٦

ولكن لا بالتقريب المزبور ، بل ببيان آخر.

وتوضيح ذلك : انه اما ان يلتزم بان العموم مفاد الأداة لا مقدمات الحكمة.

أو يلتزم بأنه مفاد الإطلاق ومقدمات الحكمة.

فعلى الأول ، قد عرفت ان التخصيص لا يلازم تعنون العام بغير عنوان الخاصّ ، بل غاية ما يتكفله الدليل المخصص هو إخراج بعض الافراد الموجب لقصر حكم العام على البعض الآخر من دون تغير في موضوع الحكم.

وعليه ، فلدينا حصتان ، إحداهما محكومة بحكم العام. والأخرى محكومة بحكم الخاصّ. والفرد المشكوك يدور امره واقعا بين ان يكون من افراد الحصة المحكومة بحكم العام ، وان يكون من افراد الحصة المحكومة بحكم الخاصّ ، ومن الواضح ان استصحاب العدم الأزلي لا يعين كون الفرد من إحدى الحصتين ، وانه من الحصة المحكومة بحكم العام ، الا على القول بالأصل المثبت.

وعلى الثاني ، قد عرفت ان التخصيص يستلزم تقييد موضوع حكم العام ، ولكن ذلك على إطلاقه ممنوع ، لأن العنوان المأخوذ في دليل الخاصّ تارة : يكون من أحوال الفرد الواحد كعنوان الفاسق. وأخرى : يكون مفرّدا كعنوان الفارسية في العقد. وبعبارة أخرى : التخصيص تارة يكون أحواليا. وأخرى يكون افراديا.

ففي الصورة الأولى ، يتقيد موضوع الحكم ، فانه مع إخراج بعض حالات الفرد عن الحكم يمتنع ملاحظة الطبيعة بنحو الإطلاق ، بل لا بد من ملاحظتها مقيدة بغير تلك الحال.

وبتعبير آخر : ان الفرد بما ان له حالتين ، فلا بد من التفريق بينهما بتقييده بغير عنوان الخاصّ ، فيكون موضوع الحكم هو العالم غير الفاسق ، لعدم وجود الفرق ذاتا فيما بين ما هو محكوم بحكم العام وما هو محكوم بحكم الخاصّ إلاّ بلحاظ اختلاف الحالين وهو يلازم التقييد.

٣٥٧

وفي الصورة الثانية ، لا يستلزم التخصيص نقيد موضوع حكم العام ، بل يكون حكم العام واردا على جملة من الافراد وحكم الخاصّ واردا على جملة أخرى من الافراد والفرق بينهما ذاتي فلا يكون التقييد قهريا ضروريا ، فلا يتكفل التخصيص سوى إخراج بعض الحصص فيبقى حكم العام ثابتا للحصص الأخرى بعنوانه من دون تقيد بخصوصية أخرى. ولا يرد الترديد المزبور ـ أعني : « اما ان يكون مطلقا أو مقيدا » ـ ، إذ لا معنى للإطلاق والتقييد في موضوع الحكم بلحاظ الافراد الأخرى ، ولو كان له معنى تعين الإطلاق كما تقدم.

وبما ان موضوع الكلام هو الخصوصيات المفردة ، لأن موضوع الكلام في الأوصاف اللازمة للذات من حين وجودها ، لم يكن الدليل المتكفل لإخراج العنوان الأزلي موجبا لتقيد موضوع الحكم بخلافه وبنقيضه ، وعليه كان الحال فيه هو الحال على المبنى الأول والكلام فيه هو الكلام على الأول. فلا ينفع الأصل الأزلي في إثبات حكم العام للفرد المشكوك على كلا المبنيين في باب العموم.

وبالجملة : فأساس منع الأصل بهذا البيان هو منع المقدمة الأولى.

ولو تنزلنا وسلمنا استلزام التخصيص تقييد موضوع الحكم بنقيضه ، فلا نسلم أيضا ـ جريان الأصل ، لما عرفت من ان التخصيص يتكفل إخراج العنوان الاشتقاقي ، وقد عرفت ان نقيضه مأخوذ بنحو النعتية ، فنقيض المخالف للكتاب هو اللامخالف ، فيتقيد موضوع النفوذ باللامخالف ، واستصحاب العدم الأزلي لا ينفع في إثبات العنوان بنحو النعتية ، بل عرفت الإشارة إلى انه يكفينا التشكيك في كيفية أخذه ، وانه مأخوذ بنحو النعتية أو التركيب.

بيان ذلك : ان إثبات أخذ العدم بنحو التركيب إذا فرض انه عدم المبدأ كعنوان : « عدم المخالفة » أو : « عدم الفسق » ـ مع تردد الأمر فيه ثبوتا بين أخذه

٣٥٨

بنحو العدم النعتيّ وأخذه بنحو العدم المحمولي ـ. وترجيح الثاني على الأول انما يكون ببيان أنّ أخذه بنحو العدم النعتيّ يحتاج إلى مئونة زائدة ، وذلك لعدم صلاحية عدم الفسق في حد ذاته لأن يكون نعتا للذات ، فيتوقف على ملاحظة التقييد بوصف انتزاعي ، كوصف المقارنة للعدم ، فيكون الموضوع هو الذات المقارنة لعدم الفسق ـ مثلا ـ. بخلاف ما إذا كان مأخوذا بنحو العدم المحمولي وبنحو التركيب لا التوصيف ، فانه لا يحتاج إلى هذه المئونة ، فمع تردد الأمر بين ما لا مئونة فيه وما فيه المئونة يرجع الأول.

وهذا البيان لا يتأتى بالنسبة إلى عدم الوصف ، كعدم الفاسق وعدم المخالف ، إذ أخذه بنحو التوصيف لا يحتاج إلى مئونة زائدة ، إذ يمكن ان يكون في نفسه نعتا للذات ومحمولا عليها.

وعليه ، فمع تردد الأمر بين أخذه بأحد النحوين ـ التوصيف والتركيب ـ لا طريق إلى تعيين أحدهما ، ومعه لا ينفع استصحاب العدم الأزلي ، لعدم إحراز إثبات جزء الموضوع به للشك في أخذ العدم جزء أو وصفا.

هذا مع ما في البيان المتقدم من الإشكال ، فان ترجيح ما لا مئونة فيه على ما فيه المئونة انما هو بلحاظ مقام الإثبات ، بمعنى ان مقام الإثبات إذا تردد بين ما لا مئونة فيه وما فيه مئونة إثباتا ، كالتردد بين إرادة المطلق والمقيد من اللفظ ، تعين الأخذ بما لا مئونة فيه إثباتا من الاحتمالين. واما التردد بين ما لا مئونة فيه وما فيه المئونة ثبوتا لا إثباتا ، بان يكون أحد المحتملين مشتملا على خصوصية زائدة ، فلا يلازم الأخذ بما لا مئونة فيه لعدم الدليل عليه ، كما عرفت تحقيق ذلك أيضا في ما تقدم من صورة دوران امر العموم بين المجموعي والاستغراق. فراجع.

وقد ذكر المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية بعد الإيراد على نفسه : بان الحاجة إلى الأصل انما هو للفراغ عن حكم الخاصّ ، لا للإدخال تحت العموم ، لصدق عنوان العام بلا حاجة إلى الأصل ، وعنوان الخاصّ لا ينتفي

٣٥٩

بالأصل المذكور ، إذ الانتساب وكون المرأة من قريش لا يكون موضوعا بوجوده المحمولي بل بوجوده الرابط ، فنفي كونه المحمولي ليس نفيا لعنوان الخاصّ حتى ينفي به حكمه ، بل ملازم له ، فالأصل بالنسبة إلى عنوان الخاصّ مثبت. ـ ذكر قدس‌سره بعد هذا الإيراد ـ ان الغرض من الأصل هنا وفي أمثاله ليس نفي عنوان الخاصّ بدوا ، بل الغرض هو إحراز عنوان مضاد لعنوان الخاصّ يكون داخلا في العموم فيثبت له حكم العام ، وبمضادة هذا العنوان لعنوان الخاصّ ينفي حكم الخاصّ لكونه محكوما بخلاف حكمه ، فالمترتب على الأصل مباشرة هو حكم العام الثابت بأي عنوان غير العنوان الخارج ، وثبوت حكم العام لهذا الموضوع المضاد للعنوان الخارج يوجب نفي ضده وهو حكم الخاصّ. ثم أورد على نفسه وأجاب عنه بما لا يهمنا نقله. ولكن بعد جميع ذلك استشكل فيما أفاده صاحب الكفاية فقال : « التحقيق ان ما أفاده قدس‌سره من كفاية إحراز العنوان الباقي تحت العام في إثبات حكمه لا يخلو عن محذور ، لأن العناوين الباقية ليست دخيلة في موضوع الحكم العمومي بوجه من الوجوه ، فلا معنى للتعبد بأحدها ليكون تعبدا بالحكم العمومي حتى ينفي حكم الخاصّ بالمضادة ».

ومرجع كلامه قدس‌سره إلى ان الإطلاق ليس في الحقيقة جميعا بين القيود ، كي يرجع إلى دخالة كل قيد في الحكم ، بل هو رفض القيود الّذي يرجع إلى نفي دخالة أيّ قيد في الحكم (١).

والّذي نستفيده من كلامه امران :

أحدهما : ما فرضه من كون النّظر إلى نفي حكم الخاصّ ولو بواسطة نفى إثبات حكم العام.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٤٢ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٠