منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

هذا كله فيما كان التردد في شمول الحكم العام لأجل اشتباه مفهوم الخاصّ.

اما إذا علم مفهومه بحدوده وشك في انطباق الخاصّ عليه لأجل الاشتباه الخارجي ، المعبر عنه اصطلاحا بالشبهة المصداقية ، فهل يصح التمسك بالعامّ في إثبات الحكم له أو لا؟.

لا إشكال في عدم صحة التمسك به إذا كان المخصص متصلا ، لما عرفت من انه يوجب انقلاب ظهور العام وانعقاده في غير عنوان الخاصّ ، وعليه فالشك في فردية شيء للخاص يلازم الشك في انطباق العام عليه ، فمع الشك في فسق شخص ـ مثلا ـ يشك في انطباق عنوان : « العالم غير الفاسق » عليه الّذي هو معقد ظهور العام بعد تخصيصه بالمتصل. وهذا واضح لا كلام فيه.

وانما الكلام في ما إذا كان المخصص منفصلا ، كما إذا ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم النحويين » ، وشككنا في فرد انه نحوي أو لا من جهة الاشتباه الخارجي كالشك في درسه للنحو ونحو ذلك. ولا يخفى ان هذه المسألة من مهمات المسائل من جهة الأثر العملي لابتناء كثير من الفروع الفقهية عليها ، ومن أمثلتها الظاهرة مسألة تنجس الماء المشكوك كونه كرا بالملاقاة ، فهل يشمله عموم ما دل على نجاسة الملاقي للنجس الّذي قد خرج عنه الماء الكر أو لا يشمله؟.

وقد اختلف الاعلام المحققون في جواز التمسك بالعامّ في مثل ذلك ، فمنهم من ذهب إلى جوازه مطلقا (١) ، ومنهم من ذهب إلى منعه مطلقا (٢) ، ومنهم من ذهب إلى التفصيل ، كصاحب الكفاية فانه فصّل بين ما إذا كان المخصص لفظيا ،

__________________

(١) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ١٩٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٥٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٢١

فمنع التمسك بالعامّ في مورده. وما إذا كان لبّيا فأجاز التمسك بالعامّ في مورده (١).

فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : في ما إذا كان المخصص لفظيا.

وقد قرب جواز التمسك بالعامّ في مورده للشك فيه بوجوه :

منها : ما ذكره في الكفاية من ان العام حجة في مدلوله ما لم تقم حجة أقوى منه تزاحمه وتنافيه ، والخاصّ لا يكون حجة في الفرد المشكوك ، والمفروض انطباق عنوان العام عليه ، اذن فهو حجة فيه لعدم ما يزاحمه في مقام الحجية.

ودفعه صاحب الكفاية : بان الخاصّ يوجب تضييق حجية العام بغير عنوانه ، ففي المثال المزبور يكون العام حجة في العالم غير النحوي. وعليه فالعام وان انطبق على الفرد المشكوك بلحاظ ظهوره لكن لا يحرز انطباقه عليه بما هو حجة ، وانطباق عنوان العام لا ينفع ما لم يكن حجة فيما ينطبق عليه.

وعليه ، فلا يجوز التمسك بالعامّ لعدم إحراز انطباقه بما هو حجة.

بهذا المقدار من البيان دفع صاحب الكفاية وجه المستدل ، وبنى على عدم حجية العام في الشبهة المصداقية للخاص.

وقد أورد عليه : بأنه عجيب منه قدس‌سره لأنّه منع التمسك بالعامّ في هذا المورد ببيان يتأتى في الشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر ، ونفي وجه الحجية هنا مع انه بعينه هو الّذي تمسك به في إثبات حجية العام في الشبهة المفهومية المزبورة (٢).

وهذا الوجه يرد عليه بدوا ، فكان على صاحب الكفاية التعرض إلى نفيه

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الإيرواني الشيخ ميرزا علي نهاية النهاية ١ ـ ٢٨٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٢٢

وبيان الوجه في تقييد دائرة حجية العام بغير عنوان الخاصّ.

وسيأتي بيان عدم صحة هذا الإيراد وتمامية ما أفاده في الكفاية فانتظر.

ومنها : ما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية بانيا له على التزامه بان قوام فعلية الحكم بالوصول وعدم كونه فعليا حال الجهل.

بيان ذلك : انه لو التزمنا بان فعلية الحكم انما تتحقق بوصول الحكم والعلم به وجدانا أو تعبدا ، وذلك باعتبار ان حقيقة البعث والزجر ـ وهما قوام فعليّة الحكم ـ جعل ما يمكن ان يكون داعيا وزاجرا ، ومن الواضح ان الحكم ما لم يصل إلى المكلف ويعلم به لا يمكن ان يكون داعيا له أو زاجرا بحيث يفعل المكلف عن دعوته أو يترك عن زجره.

بناء على هذا الالتزام ، فبما ان الخاصّ لا يكون حجة في الفرد المشكوك لعدم العلم بانطباقه عليه لم يكن الحكم فيه ـ على تقدير كونه من افراده واقعا ـ فعليا فيكون العام فيه حجة ، لأن منافاة الخاصّ للعام وتقديمه عليه بالمقدار الّذي يكون فيه فعليا ، لأن المنافاة بين الأحكام انما هي في مرحلة فعليتها.

وقد أجاب عنه قدس‌سره : بان المخصص كما يكشف نوعا عن ثبوت الحكم لعنوان الخاصّ ، يكشف بالملازمة عن نفي حكم العام عن عنوان الخاصّ للمنافاة بينهما ، ولازمه عقلا قصر حكم العام على بعض مدلوله.

وحجية أحد هذين الكاشفين لا ترتبط بالآخر ، فإذا سقط الأول عن الحجية للجهل بالانطباق كان الآخر على حجيته (١).

وهذا البيان هو مضمون جواب الكفاية عن الوجه الأول ، وان اشتمل على بعض إيضاح كبيان ان تضييق دائرة حجية العام بالملازمة. ولكنه لم تنحل فيه جهة الغموض التي عرفتها ، فكان علينا إيضاح هذه الجهة.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٣٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٢٣

ثم ان هذا المقدار من البيان لا يدفع الوجه الثاني وذلك لأن الخاصّ .. تارة : يكون مدلوله نفي حكم العام عن بعض الافراد مطابقة ، كما لو ورد : « أكرم كل عالم » ثم ورد : « لا يجب إكرام النحويين ».

وأخرى : يكون مدلوله إثبات حكم مضاد لحكم العام ، لبعض الافراد ، كما لو ورد : « يحرم إكرام النحويين » ، فان تضيق حكم العام وقصره على بعض افراده مدلول التزامي للخاص باعتبار تضاد الأحكام ، فإثبات أحدهما يلازم نفي الآخر.

ومحل الكلام في النحو الثاني ، لأنه فرض وجود كاشفين نوعيين أحدهما مطابقي والآخر التزامي ، وهو انما يثبت في النحو الثاني.

وعليه فيتوجه عليه :

أولا : انه حيث ثبت ان التنافي بين الأحكام في مرحلة فعليتها. وثبت ـ بحسب التزامه ـ ان فعلية الحكم تتحقق بالوصول. وثبت ان دلالة الخاصّ على نفي حكم العام عن عنوانه باعتبار المنافاة بين الحكمين ، لم يكن الخاصّ دالا على انتفاء حكم العام الا فيما كان حكمه فعليا لعدم المنافاة بين الأحكام الإنشائية.

وعليه ، فهو يتكفل تضييق حكم العام وقصره على غير النحوي المعلوم ـ في المثال المزبور ـ لا على غير النحوي مطلقا ، لأنه انما يتكفّل نفيه عن النحوي المعلوم ، فمورد الشك يعلم بانطباق العام عليه بلا مزاحم ومعارض.

فمع انتفاء الدلالة المطابقية عن الحجية لا وجود للدلالة الالتزامية كي يدعي حجيتها في هذا الحال.

وثانيا : ان بقاء الدلالة الالتزامية على الحجية مع انتفاء المطابقية عنها ليس من المسلمات ، بل هو محل بحث وكلام وقد تقدم.

مع ان بعض من يرى عدم انفكاك الدلالتين في مقام الحجية ، يلتزم بذلك

٣٢٤

فتدبر جيدا.

وبما انك عرفت ان جواب المحقق الأصفهاني عن الوجه الثاني عبارة أخرى عن جواب الكفاية عن الوجه الأول ، فهو جواب واحد عن كلا الوجهين.

وقد عرفت غموضه وعدم وضوح الحال به ولذا كان مورد النقض بالشبهة المفهومية.

وينبغي علينا إيضاحه وبيان نكتة الفرق بين المقامين.

والّذي نعتقده انه عمدة الوجوه التي تذكر في نفي التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ، وبوضوحه يعرف الحال في بعض كلمات الاعلام ، فنقول ومن الله التوفيق : ان القضايا المتكفلة للأحكام على نحوين :

الأول : ما تتكفل جعل الحكم على الموضوع المقدر الوجود والمفروض التحقق ، فيكون مفادها ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع ، نظير : « أكرم كل عالم ».

الثاني : ما تتكفل جعل الحكم فعلا على موضوع خارجي ثابت نظير : « أكرم من في الدار » أو : « أضف هؤلاء ».

وقد يصطلح على النحو الأول بالقضايا الحقيقية. وعلى الثاني بالقضايا الخارجية.

ولا يهمنا ذلك لوقوع الاختلاف في تفسير الحقيقية والخارجية ، وهو لا يرتبط بما نحن فيه.

والأحكام في القضايا الشرعية من قبيل النحو الأول ، فان مفاد القضايا الشرعية إثبات الأحكام على الموضوع المقدر الوجود.

ومن الواضح ان المولى في مثل ذلك لا نظر له إلى جهة انطباق الموضوع على مصاديقه ولا يتدخل فيها ، ولذا يصح ان يجعل الحكم على موضوع لا وجود

٣٢٥

لأيّ فرد من افراده ، بل بعض الأحكام المجعول في الشريعة يتوخّى من جعلها إعدام الموضوع كأحكام الحدود ونظائرها ، فان المقصود فيها عدم تحقق المحرمات المعينة مع انه مأخوذ في موضوعها.

وبالجملة : فغاية ما يدل عليه الدليل وما يتكلفه من بيان ، هو بيان ثبوت الحكم على تقدير وجود الموضوع لا أكثر.

اما ان الموضوع هاهنا ثابت أولا فلا يرتبط بمدلول الدليل ، بل المكلف إذا أحرز ثبوت الموضوع في مقام يحرز ثبوت الحكم له بواسطة الدليل. فالقضايا تتكفل بيان كبريات لصغريات يحرزها المكلف نفسه.

وإذا ثبت ان مدلول الدليل هو هذا المعنى كان بمقتضى حجية الظهور حجة في انه مراد واقعا ، فيكون الدليل متكفلا بمقتضى أصالة الظهور بيان تعلق الإرادة الواقعية بثبوت الحكم على الموضوع المفروض الوجود ، وحجية الدليل بهذا المقدار.

واما إطلاق ان الدليل حجة في مصداق موضوعه المعلوم فهو لا يخلو عن مسامحة ، إذ عرفت ان ذلك أجنبي عن مدلول الدليل ، وإحراز ثبوت الحكم يكون من باب إحراز انطباق الموضوع العام على فرده ، فيثبت له الحكم بمقتضى الدليل.

وعليه ، فما يتكفله العام ثبوت الحكم على الموضوع العام المقدر الوجود ، والخاصّ يزاحمه في هذا المقام ، لأنه يتكفل إثبات حكم مضاد لحكم العام على تقدير وجود موضوعه ، فلا يجتمع الحكمان ويتقدم الخاصّ لأقوائيته ويوجب تضييق دائرة المراد الواقعي للعام وقصرها على غير عنوانه.

اما المصداق الخارجي للخاص ، فكل منهما لا يرتبط به ، وكما لا يرتبط الخاصّ لا يرتبط به العام ، وإطلاق ان الخاصّ ليس حجة فيه إطلاق مسامحي ، لما عرفت ان مقام حجية الدليل لا ترتبط بالخارج أصلا ، إذ هو حجة بلحاظ

٣٢٦

مدلوله وليس في مدلوله ارتباط بجهة الانطباق خارجا.

وبالجملة : فعدم حجية الخاصّ في المصداق المشتبه لا يصحح التمسك بالعامّ لأنه حجة بلا مزاحم ، لأن مقام مزاحمة الخاصّ للعام لا مساس لها بجهة الانطباق ، وقد عرفت ان الخاصّ بمزاحمته أوجب قصر حكم العام على غير افراد الخاصّ المقدرة الوجود أيضا.

وبذلك يظهر الفرق بين الشبهة المصداقية والشبهة المفهومية الدائرة بين الأقل والأكثر ، فان الخاصّ في مورد اشتباه المفهوم بما انه مجمل لم يكن مزاحما للعام إلاّ بمقدار كشفه عن المراد الجدي ، وهو المقدار المتيقن ، فيبقى العام في غيره بلا مزاحم.

فقصور الخاصّ في مورد الشبهة المفهومية انما هو في مقام المزاحمة وهو مقام الحجية والكشف عن المراد الواقعي. وليس كذلك الحال في مورد الشبهة المصداقية ، فان قصوره ليس في مقام الكشف والحجية ، بل لا قصور أصلا ، إذ التردد في الانطباق ، وهو أجنبي عن مفاد الدليل من حيث المراد التصديقي والمراد الواقعي. فالتفت وتدبر ولا تغفل.

هذا وقد عرفت ان هذا الجواب لا ينهض في نفي الوجه الثاني الّذي ذكره المحقق الأصفهاني.

فالتحقيق في نفيه هو ما تقدم منا في مبحث الواجب المعلق من عدم تقوم الفعلية بالوصول ، وإمكان كون الحكم فعليا مع الجهل به. وعليه فالخاص بعنوانه الواقعي ينافي العام لا بالمقدار الواصل منه ، لأنه يتكفل إثبات حكم فعلي لعنوانه الواقعي مضاد لحكم العام ، فالتنافي بلحاظ المصداق الواقعي للخاص لا بلحاظ المصداق المعلوم ، فتتضيق دائرة حجية العام بغير الخاصّ الواقعي. فلا يصح التمسك به في المصداق المشكوك لما عرفت في توجيه كلام الكفاية.

ومنها : ما ذكره المحقق العراقي ناسبا له إلى الشيخ الأعظم رحمه‌الله.

٣٢٧

وبيانه بتوضيح : ان باب الخاصّ والعام يختلف عن باب المطلق والمقيد ، فان ورود الخاصّ وان أوجب تضييق حكم العام وقصر دائرته ، لكنه لا يوجب تغيير موضوع الحكم العام عما كان عليه ، بل يبقى العام بعنوانه على موضوعيته للحكم من دون تقييد له بشيء.

واما المقيد فهو يوجب تضييق دائرة موضوع الحكم وصيرورة موضوع الحكم مقيدا ولا يبقى على إطلاقه ، ونظير باب التخصيص موت أحد افراد العام في كونه مستلزما لتقليل سعة الحكم من دون تغيير فيما هو موضوع للحكم ، وهو شاهد على ان قصور الحكم وضيقه لا يلازم ضيق الموضوع.

ومما يشهد باختلاف البابين في هذه الجهة هو وقوع التسالم على عدم التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية للمقيد ، وعدم الكلام فيه مع وقوع الكلام في الشبهة المصداقية للمخصص. فلا يتوهم أحد ـ بعد تقييد الرقبة بالايمان في مثل : « أعتق رقبة » و: « أعتق رقبة مؤمنة » ـ جواز التمسك بإطلاق الرقبة في إثبات الحكم لمشكوك الإيمان.

وليس ذلك إلاّ لأن التقييد يوجب قلب عنوان الموضوع عما كان عليه قبله دون التخصيص ، فانه لا يوجب تغيير الموضوع.

وعليه ، فلدينا شبهتان : شبهة حكمية وهي الشك في منافاة عنوان ما لحكم العام كعنوان النحوي لـ : « أكرم كل عالم ». وشبهة موضوعية ، وهي الشك في ثبوت المنافي ـ المفروض منافاته ـ في فرد من افراد العام. ومقتضى أصالة العموم وظهور الكلام في ثبوت الحكم لجميع الافراد نفي كلتا الشبهتين ، فإذا ورد الخاصّ كان مزاحما للعام في حجيته بالنسبة إلى الشبهة الحكمية دون الموضوعية ، فيبقى العام على حجيته بالنسبة إليها بعد ورود المخصص.

وقد يدعي : ان العام لا يكون حجة في الشبهة الموضوعية ، لأن رفع الجهل فيها ليس من شئون المولى ، إذ قد يكون أكثر جهلا من عبده فيها ، فالجهل لا

٣٢٨

يختص بالعبد ، بل مشترك بين العبد والمولى فلا معنى لتصديه لرفع الجهل من جهتها.

وتدفع هذه الدعوى : بأنه لا يشترك في تصدي المولى لرفع الجهل في الشبهة الموضوعية علمه فيها ، بل له نصب طرق وأمارات تتكفل رفع الجهل ولو كان هو جاهلا فيها كما لا يخفى جدا.

هذا ولكن الحق عدم حجية العام في الشبهة الموضوعية في الجملة ، لا لأجل هذا البيان ، بل لأجل ان الحجية موضوعها الظهور التصديقي للكلام ، وهو يتوقف على كون المتكلم بصدد الإفادة والاستفادة ، وفي مقام إبراز مرامه باللفظ وهو يتفرع على التفاته لمرامه ، ومع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه كيف يتعلق قصده بتفهيمه؟.

وعليه ، فما كان من الشبهات الموضوعية ناشئا عن اشتباه الأمور الخارجية لم يكن العام فيه حجة لجهل المولى به وعدم تصديه لتفهيمه باللفظ. وما كان منها ناشئا عن الشبهة الحكمية كان العام حجة فيه لكون مرجع رفع الجهل فيه هو المولى فله ان يتصدى لتفهيم ثبوت الحكم فيه.

وذلك نظير ما ورد من عدم صحة الصلاة في النجس ، فانه مخصص لعموم الأمر بالصلاة ، فإذا شك في نجاسة شيء لأجل الشك في جعل النجاسة له ـ كالحيوان المتولد من طاهر ونجس ـ صح التمسك بعموم الأمر بالصلاة في إثبات صحة الصلاة في جلده.

هذا ما أفاده قدس‌سره بتوضيح منا مع تلخيص وإجمال لبعض كلماته ، إذ المهم ما يختص به من البيان وهو امران :

أحدهما : بيان الفرق بين باب التخصيص وباب التقييد.

وثانيهما : التزامه بحجية العام في الشبهة المصداقية الناشئة عن اشتباه

٣٢٩

الحكم دون الناشئة عن الاشتباه الخارجي ، بالبيان الّذي عرفته (١).

والّذي نستطيع ان نقوله : ان كلامه بكلتا جهتيه غير تام ، ومما لا يمكن المساعدة عليه.

اما الجهة الأولى : فيتوجه عليها :

أولا : ان ما ذكره من الفرق بين التخصيص والتقييد لا يتم على مبنى من يذهب إلى ان التخصيص يرجع إلى تقييد إطلاق المدخول ، وان شأن أداة العموم ليس إلاّ إفادة الاستغراق لا إفادة عموم المدخول ، فانه بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

فان واقع التخصيص ـ على هذا المبنى الّذي اخترناه وذهب إليه المحقق النائيني (٢) واستقربه صاحب الكفاية (٣) ـ لا يختلف عن التقييد ، والفرق بينهما لفظي واصطلاحي لا غير.

وثانيا : انه لا يتم بالنسبة إلى ما كان المخصص أحواليا ـ حتى على مبنى من يذهب إلى ان إفادة العموم بالأداة ـ ، لأنه يتكفل تقييد إطلاق المدخول بلحاظ أحوال الفرد ، وذلك كالمثال المتداول وهو : « لا تكرم فساق العلماء » بالنسبة إلى : « أكرم كل عالم » ، وذلك لأن من يذهب إلى ان إفادة العموم بالأداة انما يذهب إلى ان ذلك بلحاظ التعميم من جهة الافراد ، اما التعميم بلحاظ أحوال الفرد كالفسق وغيره فهو مفاد الإطلاق لا الأداة.

فالمخصص المزبور يصادم إطلاق المدخول ، فيرجع واقعه إلى التقييد وان سمي بالمخصص.

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ٢ ـ ٥١٩ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول ١ ـ ١٤٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٤١ و ٤٥٠ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٠

وهذا المعنى مغفول عنه في كلمات الاعلام ، فالتفت إليه ، وليكن على ذكر منه لعلك تنتفع منه في غير مقام.

وثالثا : ان ضيق الحكم وقصوره مع عموم الموضوع وسعته امر لا يقبل الموافقة ، فان الحكم يتبع موضوعه ان واسعا فواسع وان ضيقا فضيق.

وببيان آخر نقول : ان الموضوع ثبوتا اما ان يكون مطلقا ، أو مقيدا بغير الخاصّ ، أو مهملا. والثالث ممتنع لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. والأول لا يجامع التخصيص فيتعين ان يكون مقيدا.

واما الاستشهاد على ما ادعاه بموت أحد افراد العام ، فهو لا صحة له بعد ما عرفت من ان الأحكام ثابتة على الموضوعات المقدرة الوجود بلا نظر إلى الخارج وتطبيقه على افراده ، فانتفاء أحد الافراد خارجا لا ينافي ثبوت حكم العام للموضوع العام ولا يوجب تغييرا في الموضوع ، وهذا بخلاف التخصيص فانه يزاحم الدليل العام في حجيته على ما تقدم تفصيله.

ورابعا : ان ما ذكره من التسالم على عدم التمسك بالمطلق في مورد الشبهة المصداقية للمقيد ممنوع على إطلاقه.

بيان ذلك : ان موارد التقييد على نحوين :

الأول : ما كان المطلق والمقيد متفقين في الحكم ، والتقييد يكون لأجل إحراز وحدة الحكم المتكفلين لبيانه ، وهذا نظير : « أعتق رقبة » و: « أعتق رقبة مؤمنة » و: « صلّ » و: « صلّ إلى القبلة » أو : « صلّ مع الطهارة ». ويصطلح على هذا النحو بـ : « حمل المطلق على المقيد ».

والثاني : ما كان المطلق والمقيد متنافيين في الحكم ، فيقيد المطلق لأجل أقوائية المقيد أو قرينيته ، نظير : « أكرم العالم ». و: « لا تكرم الفاسق من العلماء ». وقد يصطلح على هذا النحو بـ : « حمل المطلق على المقيد » لكنه بضرب من

٣٣١

التأويل.

والأمر سهل بعد وضوح الفرق الواقعي بين النحوين.

ولا يخفى انه لا يصح التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية في النحو الأول ، لأن موضوع الحكم هو المقيد كما عرفت ، فلا يحرز انطباقه على المشكوك.

اما النحو الثاني فلا دليل ولا شاهد على وقوع التسالم على عدم التمسك فيه بالمطلق في الشبهة المصداقية.

واما ما استشهد به من الأمثلة ، فهو من قبيل الأول لا الثاني ، فلا يصلح شاهدا على مدعاه.

بل يمكننا دعوى : ان الشاهد على خلاف ما ذكره ، فقد نسب إلى المشهور التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية بلحاظ فتواهم بالضمان في مورد الشك في كون اليد يد أمانة أو عادية. ومن الواضح ان ما يدل على الضمان من المطلق لا العام كقاعدة : « على اليد ... » ونحوها.

وسواء تمت هذه النسبة أم لم تتم فهي تشهد لنا ، لأن ظاهرها عدم كون ما ادعاه من الأمور الارتكازية المسلّمة.

كما انك عرفت فتوى البعض بنجاسة مشكوك الكرّية إذا لاقى نجسا تمسكا بإطلاق تنجيس النجس لما يلاقيه المقيد بالكرّ.

وخامسا : لو سلم وقوع التسالم على عدم التمسك بالمطلق في مورد الشبهة المصداقية للمقيد مطلقا وفي كلا النحوين ، فهو لا يقتضي اختلاف البابين فيما ذكره من عدم استلزام التخصيص لتغيير موضوع الحكم واستلزام التقييد لذلك ، وذلك لأنه سيأتي إن شاء الله تعالى بيان ان شأن مقدمات الحكمة ليس إلاّ بيان إرادة الطبيعة المطلقة السارية في تمام الافراد ، واما خصوصية الشمول والبدلية وغيرها فهي تستفاد من قرينة أخرى عقلية أو غيرها ، فعموم

٣٣٢

قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ )(١) لجميع افراد البيع ليس بالإطلاق بل للقرينة العقلية.

وعليه ، فإذا ورد ما يقيد المطلق كما ورد في مثال البيع : « نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن بيع الغرر » وشك في فرد انه غرري أو لا ، لا يمكننا الحكم بشمول الإمضاء له لعدم حكم العقل بذلك بالقرينة المتقدمة ولا دليل آخر على ثبوته فيه.

وبالجملة : مع احتمال الخصوصية من دون رافع لا يحكم العقل بتساوي الإقدام بالنسبة إلى الفرد المحتمل فيه الخصوصية.

اذن فعدم التمسك بالمطلق في الشبهة المصداقية لا يتعين ان يكون من جهة تضيق موضوع الحكم حتى يستكشف من التسالم فيه على العدم ووقوع النزاع في باب التخصيص عدم تضيق موضوع الحكم في باب التخصيص ، بل فيه جهة أخرى يمكن الاستناد إليها لا وجود لها في العام ، لأن الشمول فيه مدلول الكلام فتتساوى فيه الإقدام ، ولا يجدي احتمال الخصوصية في التوقف.

واما الجهة الثانية : فيدفعها ما تقدم منا من ان القضايا التي تتكفل الأحكام إذا كانت بلسان ثبوت الحكم على الموضوع المقدر الوجود من دون تصدي المولى مرحلة التطبيق ، بل يوكل ذلك إلى العبد نفسه ، لم يكن الدليل حجة في الفرد المشتبه للموضوع ، إذ الفرض انه مرتب على الموضوع ولا يتكفل الدليل إثبات موضوعه ، لأنه أجنبي عن مفاده ، بلا فرق بين ان يكون الاشتباه من جهة الشبهة الموضوعية أو من جهة الشبهة الحكمية ، فلو قال المولى : « المالك يجوز له التصرف في ملكه » لم يكن له نظر إلى تعيين المالك بهذا الدليل.

وبما انك عرفت ان ورود المخصص يوجب تضيق موضوع حكم العام

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ٢٧٥.

٣٣٣

وقصره على بعض افراده ، لم يكن العام حجة في الفرد المشتبه ، لعدم كونه ناظرا إلى تشخيص موضوع حكمه ، ولا يختلف الحال بين الشبهة الموضوعية والشبهة الحكمية.

فتلخص ان ما أفاده قدس‌سره مما لا يمكن الالتزام به.

ثم انه قد يتخيل : إمكان التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية إذا كان ثبوت الحكم بنحو القضية الخارجية ، بمعنى ان الدليل العام كان يتكفل جعل الحكم على موضوع محرز محقق من قبل المولى نظير : « أكرم جيراني » ، بدعوى ان الدليل يتكفل إثبات الموضوع وإحرازه وامر تطبيقه بيد المولى فيكون حجة مع الشك (١).

والتحقيق : انه توهم فاسد ، وذلك لأن المخصص تارة يكون بنحو القضية الحقيقية. وأخرى بنحو القضية الخارجية ، فإذا قال : « أكرم هؤلاء » مشيرا إلى جماعة جلوس معينين ، فتارة يقول في مقام التخصيص : « لا تكرم الفاسق منهم » وأخرى يقول : « لا تكرم هؤلاء » مشيرا إلى قسم من الجماعة.

فعلى الأول يكون الحكم فيه كالحكم في القضايا الحقيقية ، وذلك لأنه يكشف عن عدم إرادته إكرام الفاسق من الجماعة عدم تصديه إلى تعيينه ، بل أو كله إلى المكلف نفسه ، فتكون نتيجة التخصيص انقلاب العام إلى قضية حقيقية أو صيرورته مركبا من قضية خارجية وحقيقية ، لأنه يكشف عن عدم تصدي المولى لإحراز الانطباق من جهة عنوان الفسق.

وعلى كل حال فمع الشك في فسق أحدهم لا يثبت له الحكم ، لترتبه على غير الفاسق منهم بنحو فرض الوجود.

ومثل هذا النحو نستطيع ان نقول بأنه خارج عن باب القضية الخارجية

__________________

(١) المحقق الخوئي : السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٥٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٤

كما عرفت.

ومنه تظهر المسامحة في جعله مثال الشبهة المصداقية في القضية الخارجية كما ورد في أجود التقريرات (١) ، والّذي يخطر بالبال انه لم ينتبه لذلك في بعض المباحث التي يتعرض فيها لأقسام القضايا.

والمثال الصحيح هو النحو الثاني ، فانه لا يوجب تغييرا في موضوع الحكم على باقي الافراد ، بل يبقى الموضوع على ما كان عليه فهو نظير إخراج بعض افراد الجماعة عنهم تكوينا ، ولا يضر التخصيص بكون المولى في مقام إحراز الانطباق وتشخيص موضوع الحكم.

ولكن ذلك كله لا ينفع فيما نحن بصدده من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية كما إذا اشتبه فرد في كونه من الباقين أو المخرجين ، فلا وجه لتوهم التمسك بالعامّ في إثبات الحكم له ، إذ الحكم في القضية الخارجية لما كان ثابتا لواقع المعين المشار إليه بعنوان عام ، كان موضوع الحكم العام في الحقيقة مباينا لموضوع الحكم الخاصّ ، فتكون نسبة الدليلين إلى المشتبه على حد سواء.

وبالجملة : إذا قال : « أكرم هؤلاء » فكأنه قال : « أكرم زيدا وعمراً وبكرا وخالدا وباقرا » ، فإذا قال : « لا تكرم هؤلاء » مشيرا إلى باقر وخالد ، كان موضوع الحكم العام زيدا وعمراً وبكرا ، وموضوع الخاصّ خالدا وباقرا ، فمع التردد في شخص انه بكر أو خالد لم يكن وجه لتوهم شمول حكم العام له. وهذا واضح بأدنى تأمل.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

المقام الثاني : فيما إذا كان المخصص لبّيا.

والحق هو التفصيل بين القضية الحقيقية والقضية الخارجية. فإذا قال :

__________________

(١) المحقق الخوئي : السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٦٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٥

« أكرم كل عالم » ثم علم العبد بأنه لا يريد إكرام الفاسق منهم كشف ذلك عن تضيق المراد الواقعي للعام ، فمع الشك في فسق أحدهم لا وجه للتمسك بالعامّ لأنه يتكفل إثبات الحكم على تقدير الموضوع من دون تصدي المولى لتشخيص موضوع حكمه.

واما إذا قال : « أكرم ساكني هذه المدرسة » مع علمه بهم واستقصائه لهم ، فقد تصدى المولى لمرحلة الانطباق وتشخيص موضوع حكمه ، فإذا علمت بأنه لا يريد إكرام الفاسق منهم لم يجدي ذلك في رفع اليد عن الحكم الا فيما قطع بفسقه ، اما مع الشك فليس للعبد التوقف بعد فرض ان المولى أثبت الحكم لكل فرد بعينه بنفسه ، وكان للمولى عتابه وعقابه لو توقف في مورد الاشتباه ، وانه لا حق لك في الاستبداد والاعتناء بالاحتمال بعد ان عينت لك الموضوع وأثبتّ الحكم لك.

ومما ذكرنا يظهر ما في كلام الكفاية حيث ذهب إلى حجية العام في مورد الشك مستدلا ببناء العقلاء وثبوت السيرة على ذلك ، بشهادة ان المولى لو قال لعبده : « أكرم جيراني » وعلم العبد انه لا يريد إكرام عدوّه منهم فليس له التوقف في مورد من يشك في عداوته من الجيران وكان للمولى مؤاخذته (١).

فان ما ذكره قدس‌سره من المثال وان كان الحكم فيه مسلما ، لكنه لا ينفع في إثبات جواز التمسك بالعامّ مطلقا فانه مثال للقضية الخارجية وقد عرفت انه يلتزم بحجية العام فيها. اما القضية الحقيقية فلا وجه للتمسك بالعامّ فيها ولم يثبت بناء من العقلاء على ذلك ، فان الثابت من بناءهم ليس إلاّ التمسك في مورد القضية الخارجية.

وقد قرب المحقق الأصفهاني رحمه‌الله جواز التمسك بالعامّ في الشبهة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٦

المصداقية للمخصص اللبّي ، والفرق بينه وبين المخصص اللفظي ، بان العام كما يدل على عدم منافاة عنوان ما لحكمه كذلك يدل على عدم وجود المنافي من بين افراده ، فأصالة العموم محكمة في كلتا الشبهتين ـ أعني الحكمية والموضوعية ـ. والمخصص اللفظي يدل على منافاة موضوعه لحكم العام كما يدل على وجود المنافي في افراد العام ، وإلاّ لكانت تصدي المولى لبيانه عبثا ولغوا ، فيمنع حجية العام في كلتا الشبهتين اما المخصص اللبّي فلا يكشف الا عن وجود المنافاة دون وجود المنافي كما لا يخفى ، فهو انما يمنع حجية العام في الشبهة الحكمية دون الشبهة الموضوعية (١).

ويتوجه عليه : ان ما ذكره بالنسبة إلى المخصص اللبّي انما يتم بالنسبة إلى ما كان العموم مفاد القضية الخارجية. اما إذا كان الحكم ثابتا بنحو القضية الحقيقية فلا يتم كلامه ، لما عرفت من عدم النّظر فيه إلى مقام تشخيص الموضوع وتطبيقه على افراده ، بل هو ثابت لموضوعه المقدر الوجود ، وتشخيصه لا يرتبط بالمولى ، بل هو موكول إلى المكلف نفسه. فلاحظ تدبر.

ثم ان صاحب الكفاية قدس‌سره ـ بعد ما ذكر حجية العام في الفرد المشكوك للمخصص اللبّي ـ ذكر انه يمكن التمسك بأصالة العموم في إثبات كون المشكوك ليس من افراد الخاصّ ، فيقال في مثل : « لعن الله بني أمية قاطبة » المخصص بالمؤمن منهم ، ان فلانا يجوز لعنه وان شك في إيمانه تمسكا بأصالة العموم ، وكل ما جاز لعنه ليس بمؤمن فينتج فلانا ليس مؤمنا (٢).

ولا يخفى ان هذا المطلب يتأتى في موارد الشبهة المصداقية مطلقا ولو كان المخصص لفظيا ، فيما لو التزم بجواز التمسك بالعموم فيها.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٤١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٧

وهذه المسألة تتحد موضوعا مع المسألة التي ذكرها بعد ذلك التي موضوعها : ما إذا ورد عام ثم علم بعدم ثبوت الحكم لفرد وشك في انه من افراد العام وقد خرج بالتخصيص أو انه ليس من افراده فيكون خارجا بالتخصّص (١). وهي أحد موارد دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص ، وقد وقع الكلام في انه هل يجوز التمسك بأصالة العموم في إثبات عدم التخصيص وخروجه بالتخصص؟.

وبيان اتحادهما موضوعا : ان التمسك بأصالة العموم في إثبات كون الخارج خارجا بالتخصص لا بالتخصيص ، انما هو لأجل دعوى ان العام كما له دلالة على ثبوت الحكم لجميع افراده له دلالة التزامية على ان من لا يثبت له الحكم ليس من افراده ، وهو ما يعبّر عنه في الاصطلاح المنطقي بعكس النقيض. فقول القائل : « كل عالم يجب إكرامه » يدل على ان : « من لا يجب إكرامه ليس بعالم » ، فإذا علم بعدم وجوب إكرام زيد وشككنا في انه عالم أو غير عالم فنتمسك بأصالة العموم المتكفلة لإثبات عكس النقيض فيدل على عدم كون زيد عالما وانه خارج بالتخصص لا التخصيص.

وبنظير هذا البيان توصل صاحب الكفاية ـ فيما نحن فيه ـ إلى إثبات كون الفرد المشكوك ليس من افراد الخاصّ ، وذلك لأن لدينا عاما وهو مثلا : « يجوز لعن بني أمية قاطبة » وخاصا وهو مثلا : « يحرم لعن المؤمن منهم » وهذا الخاصّ يدل بعكس النقيض على : « ان من لا يحرم لعنه ليس بمؤمن » ، فإذا تكفل العام إثبات جواز اللعن كان دالا بضميمة عكس نقيض الخاصّ على عدم كون الفرد مؤمنا وانه خارج عن الخاصّ تخصصا لا تخصيصا. فمراده قدس‌سره من قوله : « وكل من جاز لعنه ليس مؤمنا » بيان عكس نقيض الخاصّ ، إذ لا منشأ

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٨

لها غيره.

وبالجملة : الفرد المشكوك الّذي يثبت له حكم العام يدور امره بين خروجه عن الخاصّ تخصيصا أو تخصصا ، فببركة عكس نقيض الخاصّ يثبت انه خارج بالتخصص لا بالتخصيص.

والخلاصة ان دليل العام في المقام لا يتكفل سوى نفي حكم الخاصّ عنه وإثبات ضده كدليل حرمة إكرام زيد في تلك المسألة.

واما إثبات انه ليس من افراد الخارج عنه في حكمه فهو ببركة عكس النقيض ، فان الأمر هاهنا يدور بين التخصيص والتخصص ولو لا عكس النقيض لا طريق إلى نفي التخصيص وإثبات التخصص.

وإذا ثبت بوضوح اتحاد المسألتين موضوعا وانهما من واد واحد يتوجه على صاحب الكفاية سؤال الفرق الموجب لتمسكه بعكس النقيض هاهنا وتوقفه في تلك المسألة.

ويمكن الجواب : بان المسألتين وان اتحدتا موضوعا وكونهما معا من دوران الأمر بين التخصيص والتخصص ، لكن في البين ما يوجب الفرق.

وذلك لأن توقف صاحب الكفاية عن التمسك بأصالة العموم في تلك المسألة انما كان لأجل ان أصالة العموم ليست حجة في المدلول المطابقي ، وذلك لأنه مع العلم بخروج : « زيد » عن حكم : « كل عالم يجب إكرامه » والشك في انه عالم أو غير عالم لا يمكننا ان نقول ان المراد الواقعي ثبوت الحكم لجميع ما يفرض كونه عالما حتى ولو كان زيدا ، للعلم بخروجه ، اذن فهو ليس حجة في المدلول المطابقي.

والأصول اللفظية وان كانت حجة في مدلول الكلام الالتزامي ، إلاّ ان القدر المتيقن حجيتها فيه في مورد تكون حجة في المدلول المطابقي ، اما مع عدم حجيتها في المدلول المطابقي فلا دليل على حجيتها لإثبات المدلول الالتزامي

٣٣٩

فقط.

وعليه ، فلا يكون العام حجة في عكس النقيض الّذي هو مدلول التزامي له حتى يثبت به عدم كون زيد عالما.

وهذا غير جار في هذه المسألة ـ أعني : مسألة التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية ـ وذلك لأن الخاصّ الّذي يحاول التمسك به في إثبات عكس نقيضه حجة في مدلوله المطابقي ـ ولو بواسطة أصالة العموم ـ ، فيمكننا ان نقول ان المراد الواقعي هو عدم جواز لعن كل مؤمن من بني أمية ولو كان هذا الشخص ـ أعني المشكوك ـ ولا ينافيه ثبوت حكم العام له لأن ثبوته ظاهري لا واقعي ، إذ لو علم بأنه مؤمن خرج عنه جزما ، وإذا كان الخاصّ حجة في مدلوله المطابقي على عمومه كان حجة في مدلوله الالتزامي أيضا ، فيدل على ان من يجوز لعنه ليس بمؤمن ، فإذا ضم هذا إلى صغرى جواز لعن الفرد المشكوك ثبت انه ليس بمؤمن.

وبالجملة : الفرق ان احتمال التخصيص هاهنا ينفي بأصالة العموم ولا يمكن نفيه هناك بها. فيلزم التفكيك بين الدلالة المطابقية والالتزامية في الحجية هناك ولا يلزم هاهنا. وهذا فرق فارق بلا إشكال.

هذا كله فيما يتعلق بتوجيه كلام صاحب الكفاية وهو مما لا نعهد له سابقة بيان.

وبما انك عرفت ان تمامية كلامه فيما نحن فيه تبتني على الالتزام بحجية العام في عكس نقيضه. فلا بد من تحقيق ذلك. فقد أنكرت حجية العام في عكس نقيضه لوجهين :

الأول : ان الأمارة لا تكون حجة في مطلق اللوازم ، بل هي حجة في نحوين منهما :

أحدهما : ان يكون بين المتعبد به ولازمه ملازمة بينة بالمعنى الأخص ،

٣٤٠