منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

عن الكلام بنهي عن صرف وجوده ، بحيث لو تحقق صرف الوجود لم تكن سائر الوجودات مبغوضة لعدم تأثيرها في حاله بعد استفاقته من نومه.

الجهة الثانية : ان هذا البيان لا يتأتى في النكرة الواقعة في سياق النفي ، إذ تعلق النفي بصرف الوجود في مثل قوله : « لا رجل في الدار » مما لا معنى له محصل.

وعليه ، فما هو ظاهر الكفاية والمحقق الأصفهاني من كونهما من واد واحد في دلالتهما على العموم فيه مناقشة ظاهرة. فان المحقق الأصفهاني وان ناقش صاحب الكفاية في دلالتهما على العموم ، لكنه لم ينبه على اختلاف ملاك دلالتهما ، فظاهره تقرير صاحب الكفاية. فالتفت.

اذن فما هو الوجه في دلالة مثل : « لا رجل في الدار » على العموم ، بحيث حصل الفرق به بين هذا القول وبين قوله : « في الدار رجل؟.

يمكن ان يقال : ان المراد بلفظ ، « رجل في كلا المثالين أقل مراتب وجود الرّجل لا بما هو أقل بل ذات الأقل ، ولا يخفى ان نفي ذات أقل المراتب ملازمة لنفي الجميع ، إذ ذات الأقل موجودة في كل مرتبة تفرض للوجود ، اما إثبات أقل المراتب فهو لا يلازم ثبوت الجميع كما لا يخفى.

الجهة الثالثة : ان دلالة النفي والنهي على العموم بالنحو المزبور تتبع في السعة والضيق سعة المدخول وضيقه ، وإحراز سعة المدخول انما يكون بمقدمات الحكمة ، ولولاها لم يكن وجه لدعوى إرادة نفي جميع الافراد أو النهي عنها ، إذ لعل مراده بقوله : « لا رجل في الدار » هو الرّجل الأبيض.

وبالجملة : النفي والنهي يدلان على عدم جميع افراد المنفي ، اما تعيين حدود المنفي من إطلاق أو تقييد فهذا يحتاج إلى دليل آخر.

وعليه ، فالعموم فيها يتوقف على جريان مقدمات الحكمة في المدخول ليحرز ان المراد به المطلق. فلاحظ. وهذا الأمر لا إشكال فيه ، وقد أشار إليه

٣٠١

صاحب الكفاية في مبحث النواهي وفي هذا المبحث (١).

الجهة الرابعة : ان العموم الثابت في هذين الموردين يختلف عن سائر موارد العموم فلا تترتب عليه آثاره ، ومن جملتها التخصيص ، فان ما يدل على وجود زيد في الدار أو وجود العالم فيها يعارض قوله : « لا رجل في الدار » بخلاف مثل : « لا تكرم فساق العلماء » فانه مخصص لدليل : « أكرم العلماء » ولا يعارضه ، بل يقدم عليه بلا كلام. وهذه نكتة مهمة مغفول عنها في كلمات الاعلام ، وسيأتي تحقيقها في المبحث الآتي إن شاء الله تعالى.

الثالثة : صيغة : « كل » فانها تدل على العموم بلا كلام ، وانما الكلام في كونها تابعة في السعة والضيق لما يراد من مدخولها ، أو انها تدل على سعة المدخول وعمومه.

والّذي يظهر من صاحب الكفاية (٢) وصريح المحقق النائيني الأوّل (٣).

وهذا البحث ذو أثر مهم في باب الاستنباط ، ويظهر واضحا فيما لو تعارض العام والمطلق ، فانه لو كانت دلالة العام تابعة لعموم مدخوله ، وكان عموم المدخول مستفادا من مقدمات الحكمة ، لم يتقدم العام على المطلق لصلاحية كل منهما لأن يكون بيانا للآخر ، بخلاف ما لو كان لفظ : « كل » دالا بنفسه على عموم المدخول ، فان العام يتقدم على المطلق لصلاحيته لأن يكون بيانا على المطلق دون العكس ، لأن دلالة المطلق تعليقية ودلالة العام تنجيزية ، وسيأتي ذلك مفصلا في مبحث التعادل والتراجيح ، وانما غرضنا الإشارة إلى الأثر.

وعلى كل حال ، فقد ذهب المحقق النائيني ـ وهو ظاهر الكفاية ـ إلى ان :

« كل » لا تدل على عموم المدخول ، بل هي تدل على عموم ما يراد من المدخول ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٠ و ـ ٢١٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٤١ و ٤٥٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٢

فلا بد في تعيين المراد من المدخول من دليل ، وما يدل على عمومه هو الإطلاق ومقدمات الحكمة.

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه الله ) ـ بما يتضمنه كلام الأصفهاني في حاشية الكفاية (١) ـ من ان ذلك يستلزم لغوية : « كل » ، لأنه إذا أحرز عموم مدخولها بمقدمات الحكمة فلا يبقى لـ : « كل » أي أثر (٢).

ويمكن دفع هذا الإيراد : بان جريان مقدمات الحكمة في المدخول لا يلازم لغوية : « كل » ، فانه يمكن ان يلتزم بدلالتها على الشمول في قبال البدلية.

إذ عرفت ان في العموم مقامين ، مقام لحاظ الطبيعة منطبقة على جميع افرادها. ومقام تعلق الحكم بجميع الافراد ـ بنحو الاستغراق أو المجموعية ـ في قبال تعلقه بفرد على سبيل البدل. فمقدمات الحكمة تعين المقام الأول. و « كل » تعين المقام الثاني.

وبالجملة : إن لدينا مراحل ثلاثة :

الأولى : الطبيعة الصالحة للانطباق على جميع افرادها.

الثانية : الطبيعة المنطبقة فعلا على جميع الافراد.

الثالثة : أخذ جميع الافراد في موضوع الحكم في قبال الفرد على سبيل البدل.

فالنزاع في ان الدال على المرحلة الثانية هل هو لفظ : « كل » ، فتدل عليها كما تدل على المرحلة الثالثة أو انه مقدمات الحكمة ، فلو عبَّر عن « كل عالم » بمفهوم تفصيلي فقيل : « جميع افراد العالم » فهل يقصد بيان إرادة افراد العالم بلفظ : « كل » أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة؟.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٣٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٤٠ هامش رقم (١) ـ الطبعة الأولى.

٣٠٣

ولا نستطيع الجزم بأحد الوجهين فعلا لعدم الدليل على كل منهما. وسيأتي في المبحث الآتي ما لعلنا نستطيع الجزم به بأحد الطرفين.

واما قول الكفاية : « نعم لا يبعد ان يكون ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع افرادها » (١). فلا نعرف المراد منه ، وهل هو عدول عما استظهره أولا والتزام بتكفل : « كل » للدلالة على المرحلة الثانية. أو هو مجرد احتمال وبيان قيل؟. فلاحظ وتأمل.

الرابعة والخامسة : الجمع والمفرد المحلى بالألف واللام ، والكلام فيهما من جهتين :

الأولى : في دلالتهما على العموم ، وسيأتي الكلام فيها في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى. فانتظر.

الثانية : في انهما لو كانتا دالتين على العموم ، فهل يدلان على عموم المدخول أو على عموم ما يراد من المدخول؟. ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني ، فالتزم بان تحديد المراد فيهما تابع لسعة المدخول وضيقه. وان إطلاق التخصيص على ذكر القيد المتصل من قبيل قول القائل : « ضيّق فم الرّكية » (٢). ولا يخفى ان هذا البحث انما يتأتى في الجمع بناء على ان الدال على العموم هو أداة التعريف ، فتكون مثل : « كل » ، فيبحث في دلالتها على عموم المدخول أو عموم ما يراد منه ، واما بناء على ان دلالته على العموم من باب دلالة اللام على العهد وتعين آخر مراتب الجمع ، فلا معنى للبحث المزبور والترديد المتقدم ، إذ لا موضوع له.

نعم لا بد من ملاحظة المدخول وحدّه لبيان ما هو المتعين من أنواع الجمع. فالتفت ولا تغفل.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٠٤

العام المخصص

إذا خصص العام فلا إشكال في عدم حجيته في مصداق الخاصّ المعلوم.

واما غير مصداق الخاصّ فقد وقع الكلام في حجية العام بالنسبة إليه بعد التخصيص. مثلا إذا قال المولى : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم النحويين » ، فهل هو حجة في العالم غير النحوي فيجب إكرامه أو لا فلا يجب إكرامه بمقتضاه؟.

الّذي عليه جلّ الاعلام هو حجيته في غير مورد التخصيص.

وقد استشكل في حجيته بان العام إذا خصص كان استعماله مجازيا ، وبما ان مراتب المجاز متعددة ولا معين لأحدها ، فلا يكون العام حجة في أحدها لاحتمال استعماله في كل منها ، وتعيين تمام الباقي ترجيح بلا مرجح.

وقد تصدى صاحب الكفاية رحمه‌الله لحل هذا الإشكال بما بيانه : ان التخصيص تارة بالمتصل ، كما إذا قال : « أكرم كل عالم الا النحويين ». وأخرى بالمنفصل ، كما إذا قال : « أكرم كل عالم » ثم قال بعد حين : « لا تكرم النحويين ».

فان كان التخصيص بالمتصل ، فقد تقدم انه لا تخصيص في الحقيقة ، لأن تضييق المدخول لا ينافي استعمال أداة العموم في العموم ، لأنها موضوعة لإفادة عموم ما يراد من مدخولها ، فلا فرق بين قوله : « كل رجل و: « كل رجل عالم » في كون : « كل » مستعملة في العموم والاختلاف في المدخول.

وان كان التخصيص بالمنفصل ، فالتخصيص لا ينافي ظهور العام في العموم ، وانما يزاحمه في حجيته على المراد الجدي ويتقدم عليه لكونه أظهر منه. فالعام مستعمل في العموم قاعدة وقانونا والخاصّ انما ينافيه في حجيته لا في ظهوره ، فيكون حجة في غير الخاصّ لعدم ما ينافيه ، ولا وجه لدعوى استعمال

٣٠٥

العام في الخصوص وكون المخصص قرينة عليه ، بعد إمكان إبقائه على ظهوره في العموم وفرض التنافي في مقام الحجيّة ، لاستقرار ظهور العام في العموم قبل ورود المخصص ولم يثبت ما يرفعه ، إذ الثابت من منافاة الخاصّ منافاته في مقام الحجية لا غير (١).

هذا تفصيل مطلب الكفاية ، وهو لا يخلو من نوع إجمال ستعرفه فيما بعد.

وقد أورد المحقق الأصفهاني على ما أفاده بالنسبة إلى المخصص المنفصل بوجهين مبنيين على اختياره فيما تقدم من عدم كون الإنشاءات الشرعية متقومة بالإرادة التشريعية الملازم لكون الحجية بلحاظ كاشفية الإنشاء عن كونه بداع البعث الجدي :

الأول : ان صدور الإنشاء الواحد الوارد على موضوع عام ، اما ان يكون بداعي البعث الجدي بالإضافة إلى جميع افراده ، وهو خلف فرض التخصيص. واما ان يكون ناشئا عن داعيين وهو محال ، لاستحالة صدور الشيء الواحد عن داعيين مستقلين بلا جهة جامعة. والحجية وان كانت جهة جامعة لترتبها على الكاشف عن البعث لا على المنكشف ، إلاّ انها لا تترتب بعد انكشاف عدم صدور الحكم بداعي البعث ، بل بداعي جعل القاعدة ، لأنها تتقوم بالكاشف عن البعث والمفروض انه انكشف عدم الإنشاء بداعي البعث بل بداعي جعل القاعدة.

الثاني : انه يدور الأمر بين رفع اليد عن أحد ظهورين ، ظهور العام في استعماله في العموم. وظهور الإنشاء في كونه بداعي البعث لا بداعي جعل القاعدة ، فاما ان نرفع اليد عن ظهور العام في العموم ونلتزم باستعماله بداعي البعث الجدي في الخصوص. واما ان نلتزم باستعماله في العموم بداعي ضرب

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٠٦

القاعدة فنرفع اليد عن ظهور الإنشاء في كونه بداعي البعث ، ولا مرجح لأحدهما على الآخر.

ثم انه قدس‌سره بعد هذا النقاش ذكر امرا يندفع به الإيراد فقال : « ويمكن ان يقال : ان المخصص المنفصل اما ان يرد قبل وقت الحاجة أو بعدها ، فإذا ورد قبلها فالإنشاء وان كان بداعي البعث جدا إلاّ انه بالإضافة إلى موضوعه الّذي يحدده ويعينه بكلامين منفصلين ، فانه لو علم ان عادة هذا المتكلم إفادة مرامه الخصوصيّ بكلامين لم يكن ظهور كلامه في العموم دليلا على مرامه ، وإذا ورد بعدها فالإنشاء بداعي البعث الجدي بالإضافة إلى الجميع. غاية الأمر ان البعث المزبور منبعث في بعض افراد العام عن المصالح الواقعية الأولية ، وفي بعضها الآخر عن المصالح الثانوية بحيث ينتهي أمدها بقيام المخصص » (١).

أقول : يمكن ان يتوجه على صاحب الكفاية بأنه ما المراد من استعمال العام في العموم قاعدة وقانونا ، وليكون حجة ونحو ذلك مما ورد في التعبيرات في مختلف المقامات؟. فان المراد منه يحتمل أحد وجهين :

الأول : انه يستعمل في العموم ليكون حجة عليه إذا لم يرد مخصص.

الثاني : انه يستعمل فيه ليكون حجة على الباقي عند ورود المخصص ـ كما فسره المحقق الأصفهاني ـ.

فان أريد منه الوجه الأول : فهو انما يستقيم إذا كان ورود المخصص بعد وقت العمل بالعامّ ، فان العام يكون حجة في العموم حين العمل قبل ورود المخصص.

اما إذا كان ورود المخصص قبل وقت العمل بالعامّ ـ كما هو الغالب في زماننا ـ فلا يتم ما ذكره ، لأن حجية العام في العموم من باب أصالة العموم ، وهي

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٣٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٧

انما تجري مع احتمال المخصص عند حضور وقت العمل ، اما قبله فلم يقم بناء العقلاء على جريانها ، وسيأتي ما يوضح ذلك في بحث العمل بالعامّ قبل الفحص عن المخصص.

وان أريد منه الوجه الثاني : فان أريد انه يستعمل في العموم ليكون حجة على الخصوص بلحاظ ان مدلوله العام ، فهو مما لا يتفوه به أحد. وان أريد انه يكون حجة على الخصوص من باب ان الخاصّ جزء مدلول العام ، فيدل عليه بالدلالة التضمنية ، ففيه :

أولا : انّ استعمال العام مع إرادة الخاصّ يكون لغوا ، وكان يمكنه التعبير عن الخاصّ باللفظ الدال عليه.

وثانيا : انه يبتني على عدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية كتبعيتها في الوجود ، وإلاّ سقط العام عن الحجية بالنسبة إلى الباقي لسقوطه عن الحجية بالنسبة إلى العموم.

والّذي عليه التحقيق : هو تبعية الدلالة التضمنية للمطابقية في الحجية.

ولا يخفى ان هذا الإشكال الأخير لا يرد على خصوص صاحب الكفاية فقط ، بل يرد على كل من ذهب إلى كون العام مستعملا في العموم ، وهو حجة على الباقي بعد التخصيص ، كما هو ظاهر المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي (١).

والّذي يندفع به أصل الإشكال على حجية العام في الباقي : هو الالتزام بما التزم به المحقق النائيني (٢) قدس‌سره من ان أداة العموم لا تفيد عموم مدخولها وانما تفيد عموم واستغراق ما يراد من المدخول ، واستفادة عموم المدخول انما تكون بمقدمات الحكمة.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم : أجود التقريرات ١ ـ ٤٥٢ هامش رقم (١) ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم : أجود التقريرات ١ ـ ٤٤٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٨

فانه على هذا لا يكون المخصص منافيا للأداة أصلا ، وانما شأنه بيان المراد بالمدخول ، فقول المولى : « لا تكرم النحويين » بعد قوله : « أكرم كل عالم » لا نظر له الا إلى تقييد العالم وبيان المراد منه ، فلفظ : « كل » قبل التخصيص وبعده مستعملة في معنى واحد وهو إفادة الاستغراق أو المجموعية ـ في قبال البدلية ـ ، ولم يتغير المراد الاستعمالي فيها ولا المراد الواقعي.

وبالجملة : المخصص اما يضيق دائرة المدخول ولا يرتبط بمدلول الأداة أصلا ، فيكون التخصيص من باب تقييد المطلق.

ولم يقل أحد ان تقييد المطلق يستلزم المجازية ، كي يرد الإشكال المتقدم وستأتي إن شاء الله تعالى في باب المطلق والمقيد توضيح ذلك.

وإذا انحل الإشكال المتقدم بهذا البيان ولم ينحل بالبيان السابق كان ذلك قرينة وشاهدا على تعيين أحد الطرفين في معنى : « كل » الّذي وقفنا منه موقف المتردد سابقا ، وعليه فيمكن ان يقال : ان « كل » لا تدل الا على استغراق افراد ما يراد من المدخول ، اما عموم المدخول وشموله فهو يثبت بمقدمات الحكمة.

ولو لا هذا الالتزام أشكل اندفاع الإشكال بالبيان السابق ، لابتنائه على حجية الدلالة التضمنية مع عدم حجية الدلالة المطابقية ، وهو مما لا يلتزم به ، وإلاّ فلو أردنا الالتزام به فيما نحن فيه كان علينا الالتزام به في العموم المجموعي بعد التخصيص ، ومعه فلا بد من الالتزام به في موارد الأوامر المتعلقة بالمركبات الارتباطية إذا ارتفع الأمر الضمني بأحد اجزائها كالصلاة ، مع انه لا يلتزم به أحد ، ولذا لم يتمسك أحد في إثبات تعلق الأمر بالصلاة بباقي اجزائها عند تعذر البعض بالدلالة التضمنية ، بل الّذي يلتزم به ان ارتفاع الأمر بالجزء يلازم ارتفاع الأمر بالكل ويحتاج وجوب الباقي إلى دليل آخر من استصحاب أو الإجماع القائم في باب الصلاة على ان : « الصلاة لا تسقط بحال » وبنحو ذلك.

٣٠٩

وبالجملة : لا محيص عن الالتزام بما التزم به المحقق النائيني ، وهو كما يجري في لفظ : « كل » يجري في المحلى باللام بناء على ان « اللام » بنفسها تفيد العموم كما أشرنا إلى ذلك. نعم هناك بحث في الجمع المحلّى وهو ان اللام ـ على تقدير أنها تفيد الاستغراق ـ هل تفيد استغراق الهيئة والمفهوم التركيبي فيكون الاستغراق بلحاظ مراتب الجمع ، أو تفيد استغراق المادة والمفهوم الأفرادي فيكون الاستغراق بلحاظ افراد المدخول؟ وسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى في باب المطلق والمقيد.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر لدفع الإشكال على حجية العام في الباقي وجهين آخرين :

الأول : ان العام وان كان مجازا بعد التخصيص ، إلاّ ان تعين الباقي من بين مراتب المجاز بمرجح وهو أقربيته للعام من سائر مراتب المجازات.

واستشكل فيه : بان الأقربية بنفسها لا توجب ظهور الكلام فيه ، إذ الظهور وانصراف اللفظ إلى المعنى انما ينشأ من كثرة الاستعمال فيه الموجبة لحصول الأنس بين اللفظ والمعنى بحيث يصرف المعنى إلى الذهن عند إطلاق اللفظ.

الثاني : ما في تقريرات الشيخ رحمه‌الله (١) وقد نقله صاحب الكفاية بنصه وهو : « الأولى ان يجاب : بعد تسليم مجازية الباقي بان دلالة العام على كل فرد من افراده غير منوطة بدلالته على فرد آخر من افراده ولو كانت دلالة مجازية ، إذ هي بواسطة عدم شموله للافراد المخصوصة لا بواسطة دخول غيرها في مدلوله ، فالمقتضي للحمل على الباقي موجود والمانع مفقود ، لأن المانع في مثل المقام انما هو ما يوجب صرف اللفظ عن مدلوله والمفروض انتفائه بالنسبة إلى

__________________

(١) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ١٩٢ ـ الطبعة الأولى.

٣١٠

الباقي لاختصاص المخصص بغيره فلو شك فالأصل عدمه ».

واستشكل فيه في الكفاية بان دلالته على كل فرد كانت ناشئة عن دلالته على العموم ، فإذا لم يستعمل فيه ـ كما هو الفرض ـ واستعمل في الخصوص بنحو المجاز لم يكن هناك ما يعين أحد المراتب بعد تعددها ، إذ لا ظهور للكلام في أحدها وتعيين الباقي ترجيح بلا مرجح.

وبالجملة : الدلالة على تمام الباقي ارتفعت بارتفاع دلالته على الكل لأنها متفرعة عليه ، فيحتاج في إثبات دلالته عليه إلى إثبات استعماله فيه وهو مما لا دليل عليه. فنفي المانع بالأصل لا ينفع مع التشكيك في وجود المقتضي للدلالة.

هذا ما أفاده في الكفاية (١).

ويظهر منه انه حمل كلام التقريرات على إرادة الدلالة الضمنية على الافراد فوجّه عليه الإشكال الّذي عرفته.

ولكن المحقق النائيني قدس‌سره وجّه كلام التقريرات بنحو آخر ، وذكر بعد كلامه الطويل انه يظهر به بطلان إشكال الكفاية.

وحاصل ما أفاده في مقام بيان كلام الشيخ رحمه‌الله : ان العام يدل على كل فرد من افراده بدلالة استقلالية غير مرتبطة بدلالته على فرد آخر ، فكما ان ثبوت الحكم في كل فرد غير منوط بثبوته في فرد آخر كذلك دلالته على كل فرد غير منوطة بدلالته على آخر ـ ولأجل هذا القياس خص الكلام بالعامّ الاستغراقي ، إذ ثبوت الحكم في كل فرد من العام المجموعي منوط بثبوته في غيره من الافراد ـ وإذا ثبت ما عرفت فإذا قام دليل ينفي دلالة العام على بعض افراده بقيت دلالته على سائر الافراد على حالها.

وقد أطال قدس‌سره في بيان ذلك والمهم ما ذكرناه (٢).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٥٣ ـ الطبعة الأولى.

٣١١

وما أفاده قدس‌سره لا يمكن الالتزام به ، وذلك لوجوه :

الأول : انه يختص بالعامّ الاستغراقي كما تنبه له قدس‌سره ، مع ان البحث فيما نحن فيه لا يختص بقسم دون آخر.

الثاني : ان دلالة العام استقلالا على كل فرد ترجع إلى دعوى استعماله في كل منها بنحو الاستقلال ، وهو مما لا يلتزم به لعدم وضع العام لكل فرد ، كما انه من استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو محال كما تقدم بيانه.

الثالث : ان ما ذكره دعوى تحتاج إلى دليل ولا دليل في البين عليها.

والّذي ينبغي ان يقال في توجيه ما في التقريرات هو : ان اللفظ حين يوضع لمعنى كما يحدث بينه وبين الموضوع له ارتباط كذلك يحدث بينه وبين المعنى الّذي له علاقة به ارتباط بحيث يدل على اللفظ مع القرينة ويصح استعمال اللفظ فيه ، فإذا كان للمعنى الحقيقي معان مجازية متعددة يختلف نحو ارتباطها مع المعنى الحقيقي وكانت متباينة في مقام الارتباط بمعنى ان جهة العلاقة في كل منها تختلف عنها في الآخر ، كان اللفظ مع القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي مجملا فيها ، لعدم ظهوره في أحدها وعدم تعينه لأحدها من دون معين لأنه ترجيح بلا مرجح.

ومن المعاني المجازية الجزء بالنسبة إلى اللفظ الموضوع للكل ، فإذا كان مراتب الاجزاء متعددة ، فتارة لا يعتبر في صحة الاستعمال في الجزء سوى الجزئية للمعنى الحقيقي. وأخرى يعتبر فيها علاقة خاصة إضافة على الجزئية.

فعلى الأول : فيما ان اللفظ له ارتباط مع تمام مراتب المجاز وكانت هذه المراتب متداخلة ، فلا مباينة بينها في مقام الارتباط ، فان الارتباط بالأكثر لا يباين الارتباط بالأقل لأنه هو وزيادة.

وعليه ، كان له ظهور في أعلى مرتبة لارتباطها به ، وعدم مباينته للارتباط بغيرها ، فيوجب ذلك صرف اللفظ إليه بمجرد القرينة الصارفة عن الحقيقة ،

٣١٢

نظير المجاز الواحد ، فان اللفظ يحمل عليه بمجرد القرينة الصارفة عن المعنى الحقيقي.

وبالجملة : على هذا المبنى يكون للّفظ ظهور في تمام الباقي ، فيحمل اللفظ عليه تحكيما لأصالة الظهور.

اما على الثاني : فان كانت العلاقة المعتبرة زيادة على الجزئية كالمشابهة في الصورة ، وهي الكثرة في باب العموم ، فهي موجودة في جميع المراتب المحتمل استعمال اللفظ فيها ، فيتأتى عين الكلام السابق لعدم التباين في مقام الارتباط.

وان كانت العلائق الموجودة في المراتب المتعددة متباينة لم يكن للّفظ ظهور في أحدها ، بل كانت نسبته إليها جميعا على حد سواء فيكون مجملا ، لأن ترجيح أحدهما بلا مرجح.

فيكون باب العام والخاصّ على هذا نظير الموارد الأخرى من المجازات مما يحتاج فيه إضافة معنى آخر ، بحيث تكون نسبة المعنى المجازي إلى الحقيقي نسبة المباين لا الأقل والأكثر.

ولكن هذا الاحتمال بعيد جدا ، فيمكن ان يكون نظر الشيخ قدس‌سره إلى ما حققناه ، وان خصوصية اختلاف المورد عن سائر موارد المجازات ما عرفت. فتدبّر وافهم.

وينبغي بيان أمور :

الأول : قد يدعي منافاة التقييد بالمتصل لمدلول أداة العام ، بناء على كونها تتكفل بنفسها الدلالة على شمول المدخول وتبتنى تعميمه لجميع ما يصلح للانطباق عليه من الافراد ، إذ التقييد بالمتصل يقتضي عدم إرادة جميع الافراد.

ولكن هذه الدعوى وهم محض ، وذلك لأن الأداة على هذا الرّأي انما تفيد تعميم المدخول لما يصلح للانطباق عليه وتخرج الانطباق من الشأنية إلى

٣١٣

الفعلية.

ومن الواضح ان التقييد بالمتصل يمنع من صلاحية الانطباق ، فهو لا ينافي الأداة ولا يزاحمها في مدلولها ، فان : « العالم العادل » في : « أكرم كل عالم عادل » غير صالح للانطباق على العالم غير العادل ، فالأداة تفيد تعميمه لجميع ما يصلح للانطباق عليه.

وبتعبير آخر أوضح : ان مدخول الأداة هو المقيد بما هو مقيد لا ذات المقيد ، والمقيد بما هو مقيد لا يصلح للانطباق الا على افراده بما هو كذلك.

وبالجملة : لا تزاحم بين القيد ومدلول الأداة ، بل القيد يرتبط بموضوع دلالة الأداة ، فتدبر جيدا.

الثاني : قد أشرنا فيما سبق إلى ان أداة النفي أو النهي لو كانت مقتضية للعموم ، فهي لا تكون على حد سائر أدوات العموم فلا يثبت لها حكمها.

وقد أوعدناك في بيان ذلك.

وعليه ، فنقول : انه بناء على ان أداة العموم تفيد بنفسها تعميم المدخول لافراده ، وان حجيتها في الباقي بعد التخصيص بالمنفصل ..

اما من باب ان العام مستعمل في العموم والخاصّ يزاحم حجيته في مورده ، ومقتضاه حجيته في الباقي تحكيما لأصالة الظهور لدلالته التضمنية على ثبوت الحكم في الباقي.

أو من باب استعماله في الخصوص مجازا ، وتعين الباقي من بين مراتب المجاز بما قربنا به كلام الشيخ رحمه‌الله.

بناء على هذا الرّأي لا يتأتى هذا الكلام في أداة النفي أو النهي ، لأن دلالتها على العموم ليس من جهة ان يفيد وضعا إرادة جميع الافراد ، بل من جهة ان النهي أو النفي متوجه إلى ما يلازم انتفاء جميع الافراد ، وهو صرف الوجود في النهي وأقل المراتب في النفي.

٣١٤

وعليه ، فإذا دل دليل على ثبوت فرد كان معارضا لمدلول دليل النفي أو النهي ، للتنافي بين نفي أقل المراتب وثبوت مرتبة ، وبين تحريم صرف الوجود وجواز فرد ، ولا تكون نسبته إلى دليل النفي أو النهي نسبة الخاصّ إلى العام ، إذ ليس لدليل النفي الا دلالة واحدة على أمر واحد ، والعموم يستفاد بالملازمة العقلية ، وليست له دلالة على العموم رأسا كي تكون نسبة الدليل المتكفل لثبوت فرد نسبة الخاصّ إلى العام ، لكونه ينافيه في جهة عمومه لا في أصل مدلوله. فالتفت.

الثالث : قد تقدمت منا الإشارة إلى ان آثار العموم والخصوص لا تترتب على مثل لفظ : « عشرة » ، ممّا لم تكن دلالته على مندرجاته بالعموم.

توضيح ذلك : ان ما اخترناه من ان تقدم الخاصّ على العام لأجل كونه مقيدا لمدخول الأداة وكون نسبته إليها نسبة المقيد إلى المطلق ، لأن مدخول الأداة هو الطبيعة المرسلة ، لا يتأتى في مثل : « أكرم العشرة » إذ ورد ما يدل على حرمة إكرام بعضهم كما لو قال : « لا تكرم اثنين منهم » ، وذلك لأن مدلول « عشرة » ليس هو الطبيعة كي تكون نسبة الدليل الآخر نسبة المقيد.

وعليه ، فيكون الدليل الآخر معارضا لدليل : « أكرم العشرة » لا مخصصا له. فلاحظ.

إجمال المخصص

إذا ورد عام مخصص وكان الخاصّ مجملا بحسب المفهوم.

فاما ان يكون متصلا أو منفصلا ، وكل منهما إما ان يكون دائرا بين الأقل والأكثر ، كمفهوم الفاسق المردد بين كونه خصوص مرتكب الكبيرة وكونه مرتكب الذنب مطلقا ولو كان صغيرة. أو يكون دائرا بين المتباينين كمفهوم : « زيد » المردد بين كونه ابن عمرو وكونه ابن بكر.

٣١٥

فالصور أربع :

الأولى : ما إذا كان الخاصّ متصلا وكان مرددا بين الأقل والأكثر ، كقول المولى : « أكرم العلماء إلا الفساق » ، ولا إشكال في صيرورة العام مجملا لما عرفت. من ان المخصص المتصل يوجب قلب ظهور العام وانعقاده في غير الخاصّ ، فمتعلق الحكم حينئذ هو العالم غير الفاسق لأنه هو المدخول ، وهو مشكوك الانطباق على مرتكب الصغيرة فلا يكون ظاهرا فيه.

الثانية : ما إذا كان الخاصّ متصلا وكان مرددا بين المتباينين ، كقول المولى : « أكرم العلماء الا زيدا » وتردد « زيد » ، بين شخصين ، والحكم فيها كالحكم في الصورة الأولى والبيان نفس البيان فلا نعيد.

الثالثة : ما إذا كان الخاصّ منفصلا وكان مرددا بين المتباينين.

ولا إشكال في عدم حجية العام في كلا المتباينين ، وذلك بتقريبين :

أحدهما : ان حجية العام انما تكون ببناء العقلاء المعبّر عنها بأصالة العموم ، وهي لا يمكن تطبيقها على كلا الفردين ، لتعارض الأصلين فيهما للعلم الإجمالي بخروج أحدهما عن دائرة العموم.

وعليه ، فلا دليل على ثبوت حكم العام في أحد الفردين المتباينين.

وثانيهما : ان التخصيص يكشف عن تضييق دائرة حجية العام وقصرها على غير « زيد » مثلا ، فالعام حجة في غير « زيد » ، وعليه فكل من المتباينين يشك في انطباق العام بما هو حجة عليه.

الرابعة : ما إذا كان الخاصّ منفصلا وكان مرددا بين الأقل والأكثر ، كما لو قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم الفساق من العلماء ».

وقد حكم الاعلام فيها بحجية العام في مورد الشك بتقريب : ان العام قبل ورود المخصص انعقد له ظهور في العموم ، ومقتضاه حجية العام في جميع افراده ما لم يزاحمه ما هو أقوى منه ، والخاصّ الوارد انما يزاحمه فيما هو حجة فيه

٣١٦

وهو القدر المتيقن ، اما غيره فلا يكون الخاصّ حجة فيه فيكون العام هو الحجة فيه لعدم ما يزاحمه في مقام الحجية.

وقد ذكر هذا التقريب صاحب الكفاية وغيره (١).

وجملة القول : ان ظاهر الاعلام إرسال هذا الحكم بتعليله بنحو مسلم.

ولكن التحقيق انه قابل للمناقشة.

ولا بد من إيضاح الكلام ، لأنه مورد أثر عملي كبير ، ولم ينقح بنحو يشفي الغليل ، فنقول ومنه جل اسمه نستمد العصمة والتوفيق : انه ..

ان قلنا : بان الخاصّ يكون حجة ودليلا على ما يكون حجة فيه فعلا من مدلوله التصديقي ، كان ما عليه الاعلام هو الحق ، لأنه حجة في الأقل فقط ، لأنه القدر المتيقن من مدلوله التصديقي ، فيخصص العام بمقدار الأقل فقط.

وان قلنا : بأنه يكون حجة على ثبوت الحكم للعنوان الواقعي على واقعه وان لم يكن ظاهرا فيه فعلا ، كان الحق هو إجمال العام في مورد الشك ، لأن الخاصّ يستلزم تضييق دائرة حجية العام بغير عنوانه الواقعي ، فيشك في شمول المراد الواقعي من العام للمشكوك.

وتقريب القول الأول بان يقال : ان التعبد بصدور الدليل وجعل حجيته انما يصح بلحاظ ترتب الأثر العملي عليه ، وإلاّ فالتعبد به لغو. وعليه ففي المورد لا يتكفل دليل الحجية الا التعبد بالخاص بمقدار ما هو ظاهر فيه فعلا لا غير ، لعدم ترتب أثر عملي على التعبد به بالمقدار الزائد عليه. ولأجل ذلك يقال : بعدم شمول أدلة الحجية للخبر المجمل بالمرة لعدم ترتب ثمرة عملية عليه.

وتقريب القول الثاني بان يقال : ان الحجية وان كانت بلحاظ الأثر العملي ، لكن عدم الأثر للتعبد بثبوت الحكم على المجمل بواقعه ممنوع على

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٢٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١٧

إطلاقه ، فانه يمكن ان يكون له أثر في بعض الأحيان كما فيما نحن فيه.

بيان ذلك : انه إذا صدر حكم من المولى على موضوع عام ثم علم العبد بثبوت حكم مناف لحكم العام على بعض افراده بعنوان مجمل لا يعرف معناه أصلا أو لا يعرف حدود معناه سعة وضيقا بان لم يكن عارفا باللغة ولم يكن من أهل اللسان ، فانه لا إشكال في حصول العلم لديه بتضيق المراد الواقعي من العام وانه غير واقع هذا العنوان المجمل ، لعلمه بعدم إمكان اجتماع الحكمين في موضوع واحد فهو لا يعلم إلاّ بتضيقه بغير العنوان المجمل على واقعه ، وأثر ذلك هو التوقف عن إثبات حكم العام لما يشك في كونه من افراد الخاصّ المعلوم صدوره.

وإذا تصورنا هذا الأمر في مورد العلم بالصدور وثبت اثره أمكن تطبيقه في مورد الشك في الصدور. ودعوى صحة شمول أدلة الحجية للتعبد بصدور الخاصّ بواقعه الّذي هو له وان لم نعرفه ، فان واقع الخاصّ معين في نفسه وانما هو مجمل في مقام الانكشاف ، فيلتزم بتقييد المراد الواقعي للعام بغير واقع الخاصّ كيف ما كان ، واثره عدم التمسك بالعامّ في مورد الشك لعدم الدليل على كونه مرادا واقعا ، وهو أثر عملي يصحح التعبد.

وهذا التقريب متين جدا ، ولكنه يبتني على ما سيأتي إن شاء الله تعالى من ان العلم الإجمالي المردد بين الأقل والأكثر الارتباطيين هل ينحل حقيقة إلى علم تفصيلي وشك بدوي أو لا ينحل؟.

فان قلنا بانحلاله حقيقة ، لن ينفع هذا التقريب في إثبات إجمال العام في مورد الشك ، لأنه وان علم إجمالا بثبوت الحكم على واقع الخاصّ على ما هو عليه لكنه منحل بالعلم التفصيليّ بثبوته المتيقن والباقي مشكوك بدوا ، فلا دليل على خروجه عن العام فيشمله بلا كلام.

وان قلنا بعدم انحلاله حقيقة ـ بعد بيان ان التردد المفهومي بين الأقل

٣١٨

والأكثر من باب الأقل والأكثر الارتباطيين لا الاستقلاليين ، فانه لا كلام في الانحلال فيهما ـ تم هذا التقريب لقيام الدليل على خروج واقع الخاصّ عن العام فيكون مجملا حكما في مورد الشك.

ولا تنفع دعوى انحلال العلم الإجمالي حكما ، لأن الأثر فيما نحن فيه أثر واقعي يترتب على واقع العلم الإجمالي لا على منجزيته. فالتفت.

وبالجملة : فهذا التقريب يتم بلا دافع بناء على إنكار الانحلال الحقيقي للعلم الإجمالي المتعلق بالأقل والأكثر ، ويترتب عليه إجمال العام في مورد الشك بلا ريب ولا إشكال ، فتدبر جيدا ولاحظ.

وإذا عرفت ما ذكرناه تعرف ما في كلام الاعلام من المسامحة والإغفال.

وقد أطال المحقق النائيني في الكلام بما لا يخلو عن إيراد ، ونتعرض إلى ذكر نقطتين من كلامه (١) :

الأولى : ذكر قدس‌سره ان ورود المخصص المنفصل لا يوجب إخلالا بظهور العام ولا ينافي دلالته التصديقية ، بل يزاحمه في مقام الحجية ، ولأجل ذلك يكون العام حجة في مورد الشك ، لعدم حجية الخاصّ فيه فلا مزاحم للعام.

ويرد على هذا البيان امران :

أحدهما : انه انما يتم بناء على الالتزام بان تعميم المدخول تتكلفه الأداة ، أو الالتزام بأنه بواسطة مقدمات الحكمة مع الالتزام بجريانها في المراد الاستعمالي.

واما بناء على الالتزام بجريانها في المراد الواقعي فلا يتم كلامه ، بل يكون ورود المخصص مخلا بظهور العام لكشف المخصص عن المراد الواقعي. وهو قدس‌سره التزم بالمبنى الأخير كما سيأتي منه إن شاء الله تعالى (٢) ، خلافا

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٥٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢٩ ـ الطبعة الأولى.

٣١٩

لصاحب الكفاية حيث التزم بجريانها في المراد الاستعمالي (١) ، وتبعا للشيخ رحمه‌الله (٢) ، ولأجل ذلك التزم بانقلاب النسبة (٣).

اذن فما ذكره هنا يتنافى مع مسلكه والتزامه.

وستتضح هذه الجهة في مبحث المطلق والمقيد إن شاء الله تعالى.

ثانيهما : انه لو التزم ببقاء العام على ظهوره ومزاحمة الخاصّ له في مقام الحجية. فهذا وحده لا يكفي في إثبات حجية العام في المقدار المشكوك ، لما عرفت من الترديد في ان الدليل الخاصّ هل يستلزم قصر حجية العام فيما هو حجة فيه فعلا أو في العنوان الواقعي للخاص على واقعه؟ ، فلا بد من إثبات الطرف الأول دون الاكتفاء بمجرد الدعوى وإتمام الكلام بذلك.

الثانية : ما ذكره قدس‌سره في مقام الجواب عما أورده على نفسه من استلزام الدليل المخصص تقييد المراد الواقعي بغير عنوان الخاصّ من ان الأحكام انما تتعلق بالمفاهيم باعتبار انها مرآة للحقائق والواقع.

وعليه ، فدليل الخاصّ انّما يقيد العام بواقع الفاسق مثلا لا بمفهومه ، وما يكون الخاصّ حجة فيه هو المتيقّن منه دون المشكوك.

ويرد على ما ذكره : ان الحكم وان تعلق بالمفهوم بلحاظ انه مرآة للواقع ، إلاّ ان البحث يقع في ان المخصص يتكفل تقييد العام بواقع الفاسق ـ مثلا ـ الّذي يكون حجة فيه فعلا ، أو تقييده بواقعه على ما هو عليه ولو مع عدم العلم به تفصيلا.

وقد عرفت ابتناء المسألة على ما يأتي في باب العلم الإجمالي من بحث الانحلال إن شاء الله تعالى. فالتفت ولا تغفل.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٢١٨ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ٢ ـ ٢٧٨ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٢٠