منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

مفهوم الغاية

وقع الكلام في مفهوم الغاية ، وان مقتضى قول الآخر ـ مثلا ـ : « اجلس إلى الليل » انتفاء وجوب الجلوس عما بعد الغاية وهي الليل أو لا؟. وهناك بحث آخر يرتبط بالغاية وهو ان الغاية هل تكون داخلة في المغيا أو لا؟ ، بمعنى ان الحكم هل يثبت عند حصول الغاية ، فيكون موضوع البحث في المفهوم ما بعد الغاية ، أو يتحدد بمقتضى الدليل بمجيء الغاية فيكون موضوع البحث في المفهوم مجيء الغاية وما بعده؟. فالبحث في الغاية من جهتين :

الجهة الأولى : في ثبوت المفهوم للغاية.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى التفصيل بين غاية الحكم وغاية الموضوع ، فإذا كانت غاية للحكم كما في قوله عليه‌السلام : « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام » (١) وقوله عليه‌السلام : « كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر » (٢) كان حصولها موجبا لارتفاع الحكم.

وعلله بانسباق ذلك منها وكونه قضية تقييده بها ، وإلاّ لما كانت ما جعل

__________________

(١) الكافي ٥ ـ ٣١٣. الحديث : ٤٠ من باب النوادر كتاب المعيشة.

(٢) تهذيب الأحكام ١ ـ ٢٨٤. الحديث : ١١٩.

٢٨١

غاية له بغاية.

وإذا كانت غاية للموضوع وقيدا له بحسب القواعد العربية مثل : « سر من البصرة إلى الكوفة » ، فهي كالوصف في عدم دلالتها على المفهوم ، بل انما تقتضي تقييد شخص الحكم بها وتحديده ، فعند حصولها يرتفع شخصه ، ولا اقتضاء لها لارتفاع سنخه عن غير موضوع.

وعلله بعدم ثبوت وضع لذلك ، وعدم قرينة ملازمة لها ولو غالبا دلت على اختصاص الحكم به (١).

هذا ما أفاده في الكفاية بقليل تصرف. ولم يتعرض قدس‌سره إلى تعيين ضابط إثباتي يعرف به كون الغاية قيدا للحكم أو للموضوع.

وفي كلامه مجال للمناقشة من جهتين :

الأولى : تفرقته بين ما إذا كانت الغاية قيدا للحكم وما إذا كانت قيدا للموضوع ، مع ان قيد الموضوع في الحقيقة يرجع إلى الحكم فيتقيد به الحكم ويرتبط به ولا يثبت بدونه.

الثانية : ما ذكره من الغاية ، إذا كانت قيدا للحكم دلت على المفهوم ، مع انه كان ينبغي بيان ان الغاية غاية لسنخ الحكم لا شخصه ، وهذا مما لا دليل عليه ، وإذا أمكن ان تكون الغاية غاية للشخص لم تدل على المفهوم ، ولا ظهور للتقييد في كونه للسنخ.

بل لو كان المغيا هو الطبيعي فلا يجدي في ثبوت المفهوم ، لأن إنشاء الطبيعي المقيد بقيد أو المغيا بغاية وجعله ، لا يقتضي عدم جعل الطبيعي مقيدا بقيد آخر أو غير مقيد بقيد أصلا.

وببيان آخر نقول : ان التقييد يطرأ على الطبيعي قبل إنشائه فينشأ

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨٢

مقيدا ، بمعنى انه يلحظ الوجوب مقيدا بقيد وينشأ كذلك ، وواضح ان جعل الطبيعي مقيدا بقيد واعتباره لا يتنافى مع اعتباره مقيدا بقيد آخر ومن دون أي قيد.

وهذا المعنى يلتزم به صاحب الكفاية ، فكيف يجعل تقييد الحكم بغاية ملازما لانتفائه عند حصولها؟.

واما استشهاده قدس‌سره برواية : « كل شيء حلال حتى تعلم انه حرام ... » ، فهو لا ينفع في إثبات المدعي ، إذ انتفاء الحلية مع العلم بالحرمة عقلي لعدم إمكان اجتماع الحكمين المتضادين ، هذا مع انه استعمال في مورد خاص علم المراد منه لا يكشف عن اطراده في مطلق الاستعمالات.

ومما ذكرنا يظهر انه لا وجه لتقريب مفهوم الغاية بنحو ما مر في تقريب مفهوم الشرط ، من ورود القيد على المجعول والمعتبر دون الاعتبار ، إذ عرفت انه لا يلازم المفهوم.

كما ظهر لك ما في كلام المحقق النائيني في المقام من المسامحة ، حيث ذهب إلى ان الغاية إذا كانت قيدا للحكم كانت ملازمة للمفهوم كالشرط وان كانت قيدا للموضوع لم تلازم المفهوم كالوصف. ثم تعرض إلى مقام الإثبات وتحديد ما يكون قيدا للحكم وغيره ، وعلى كل حال فقد جعل ملاك اقتضاء المفهوم كونها قيدا للحكم (١).

وقد عرفت ان هذا المعنى لا يلازم المفهوم ، كما انه لا وجه لقياسه المقام بالشرط ، والحال انه لم يلتزم بالمفهوم فيه بمجرد كونه قيدا للحكم ، بل بضميمة إطلاقه ونفي شرط آخر ، ولا يتأتى مثل هذا الإطلاق فيما نحن فيه ، إذ نفي غاية أخرى للحكم أو قيد آخر له ولو لم يكن بغاية لا يلازم المفهوم ، لاحتمال ثبوت

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٣٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٣

الحكم فيما بعد الغاية من دون أي قيد وشرط ومن دون كونه مغيا بغاية معيّنة.

فالتحقيق ان يقال : ان الكلام إذا كان مسوقا لبيان الغاية فقط مع كون الحكم مفروغا عنه ، وانما كان المولى في مقام بيان غايته وحدّه ، كان مقتضى الإطلاق المقامي ثبوت المفهوم وارتفاع الحكم بحصول الغاية ، وإلاّ لم تكن الغاية غاية للحكم ، ومثال قوله تعالى : ( كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ .. )(١) فان أصل جواز الأكل معلوم والآية مسوقة لبيان غايته. وان كان مسوقا لبيان الحكم المغيا فلا دلالة له على المفهوم لما عرفت من ان اعتبار حكم مقيد بقيد لا يتنافى مع اعتباره مقيدا بقيد آخر أو غير مقيد بقيد. فتدبر والتفت.

الجهة الثانية : في دخول الغاية في موضوع الحكم وشموله لها.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى عدم دخولها فيه ، لأن الغاية من حدود المغيا وحدّ الشيء يكون خارجا عنه ، وبما ان موضوع الحكم هو المغيا فلا يثبت الحكم للغاية (٢).

وقد ذكر المحقق الأصفهاني في تعليقته : ان « مبدأ الشيء ومنتهاه تارة : بمعنى أوله وآخره ، وأخرى : بمعنى ما يبتدأ من عنده وما ينتهى عنده الشيء ، ودخول الأوليين كخروج الأخريين من الشيء واضح ، والكلام في ان مدخول « حتى » و « إلى » هو المنتهى بالمعنى الأول أو الثاني. وكون الحدّ المصطلح خارجا عن حقيقة الشيء لا يقتضي ان يكون مدخولهما حدا اصطلاحيا » (٣). والّذي يظهر من كلامه قدس‌سره ان حد الشيء في اصطلاح المعقول خارج عن الشيء.

والّذي يبدو انه غير صحيح ، فان الحدّ في اصطلاح المعقول امر انتزاعي

__________________

(١) سورة البقرة ، الآية : ١٨٧.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٣٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٤

عن واجدية شيء لشيء وفاقديته لآخر ، فتحديد الخطّ بمتر ينتزع عن واجديته لمقدار من الخطّ وفاقديته لمقدار آخر.

كما ان الحدّ في عرف المنطقيين عبارة عن حقيقة الشيء وذاته.

ولم يظهر من كلام الكفاية إرادته الحدّ بمعناه المعقولي ، بل يمكن ان يكون نظره إلى معناه العرفي وهو نهاية الشيء.

والّذي يناقش به صاحب الكفاية ان موارد الاستعمالات مختلفة ، فبعضها ظاهر في دخول الغاية ، كما لو قال : « انتظرتك إلى يوم الجمعة » فان يوم الجمعة داخل في الانتظار ، ولذا يصح ان يجيبه المخاطب : « بأني جئت يوم الجمعة ولم أجدك ». وبعضها ظاهر في عدم دخولها كقوله تعالى : ( أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) وعليه فلا يمكن الجزم بأحد الطرفين واختيار أحد الاحتمالين ، والكلام بدون قرينة يكون مجملا.

٢٨٥
٢٨٦

مفهوم الاستثناء ـ الحصر

لا شبهة في دلالة الاستثناء على اختصاص الحكم المستثنى منه وعدم عمومه للمستثنى سواء كان الحكم إيجابيا أو سلبيا ، وهذا المعنى لا يقبل الإنكار عرفا ، فلا يتوقف أحد في ان قول القائل : « جاء القوم الا زيدا » يدل على عدم مجيء زيد ، وقوله : « ما جاء القوم الا زيدا » يدل على مجيئه. ولأجل وضوح هذا المعنى لم يكن في بحث مفهوم الاستثناء مزيد كلام.

ولعله لأجل ذلك تعرّض المحقق النائيني (١) إلى البحث في بعض الجمل المشتملة على الاستثناء حتى يطول البحث شيئا ما مع خروجه عن بحث الأصول ، فلا يهمنا التعرض إليه ، ولكن مع وضوح هذا المعنى ـ في الاستثناء ـ ذهب أبو حنيفة إلى إنكار ثبوته ، وإلى عدم دلالة الاستثناء على ما ذكر (٢) ، كما حاول البعض الاستدلال عليه (٣) وهو مما لا حاجة له.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٣٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) العضدي. شرح مختصر الأصول ـ ٢٦٥ ـ

(٣) استدل به في قوانين الأصول ١ ـ ٢٥١ للقمي وفي مطارح الأنظار ـ ١٨٧ للكلانتري وفي الفصول ـ ١٩٦.

٢٨٧

اما حجة أبي حنيفة في إنكاره مفهوم الاستثناء ، فهي مثل قوله عليه‌السلام : « لا صلاة إلاّ بطهور » ، إذ مقتضى مفهوم الاستثناء كون الطهور وحده صلاة دون غيره ، وهو مما لا يقول به أحد.

وأجاب عنه في الكفاية بوجهين :

أحدهما : انه استعمال مع القرينة وهو لا يدل على المدعى.

ثانيهما : ان المقصود من الصلاة هو تمام الاجزاء والشرائط ، والمعنى انها لا تكون صلاة إلاّ إذا انضم إليها الطهور ، فالطهور مقوم لصدق الصلاة على تمام الاجزاء لا ان الصلاة هو الطهور ، إذ لم يقل لا صلاة إلاّ لطهور وهذا واضح لا يخفى. فلا يدل على المدعي (١).

واما احتجاج من استدل عليه بكلمة التوحيد وهي : « لا إله إلاّ الله » ، إذ كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبلها ، مع انه لو لم تدل على الحصر ونفى الألوهية عن غيره جل اسمه لم تنفع. فقد ناقشه صاحب الكفاية : بأنه من الممكن ان يكون ظهورها في التوحيد من جهة قرينة حالية أو مقالية فلا تنفع في إثبات المفهوم (٢).

ثم انه قد أشكل على دلالة الكلمة الشريفة على التوحيد بان خبر « لا » اما ان يقدر « ممكن » أو « موجود ».

فعلى الأول لا تدل الا على إمكان وجوده تعالى لا على وجوده فعلا ، وهو لا فائدة فيه.

وعلى الثاني لا تنفي الا وجود غيره تعالى لا إمكانه ، وهو أيضا لا فائدة فيه.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨٨

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بان المراد من الإله واجب الوجود ، وحينئذ فتقدير الوجود نافع ، إذ نفي وجود واجب الوجود مطلقا وإثباته لله جلَّ شأنه يدل بالملازمة البينة على امتناع تحقق غيره ، إذ إمكان واجب الوجود ملازم لوجوده ، فلو كان ممكنا لوجد ، فنفي اللازم يستلزم نفي الملزوم (١). فتدبر.

وقد أطال المحقق الأصفهاني في تحقيق الجواب عن الإشكال ، فراجع كلامه ، إذ ليس في نقله معرفة فيه مزيد أثر فيما نحن فيه (٢).

وقد تعرض صاحب الكفاية بعد ذلك إلى امر وهو : ان دلالة الاستثناء على الحكم في طرف المستثنى هل هي بالمفهوم ومن باب انه لازم لخصوصية الحكم في المستثنى منه الّذي دلت عليه الجملة منطوقا ، أو انه بالمنطوق وبنفس الاستثناء؟. استظهر قدس‌سره الأول ولم يستبعد الثاني ، وذهب قدس‌سره إلى ان تعيين ذلك لا يكاد يفيد ـ على حد عبارته (٣) ـ.

ولكن الحق ان هذا البحث له أثر عملي كبير ، ونستطيع ان نقول : ان المهم في مبحث الاستثناء هو هذا الأمر ، وذلك لأنه إذا كان ثبوت الحكم في المستثنى من باب المفهوم وكونه لازم الخصوصية الثابتة لحكم المستثنى منه ، فمع الشك في سعة الحكم في المستثنى وضيقه لا طريق لدينا لإثبات سعته ، إذ لا معنى للإطلاق فيه بعد ان كان مدلولا التزاميا ، كما ان الإطلاق في المنطوق الملازم له لا ينفع في ذلك لاحتمال ان تكون الخصوصية ملازمة لنفي الإطلاق عن المستثنى لا لنفي كل فرد من افراد المطلق ، وهذا بخلاف ما لو كانت الحكم مدلولا للمنطوق ، فانه يمكن التمسك بإطلاقه في إثبات سعة الحكم ، وما يصلح مثالا لما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٣٢ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨٩

نحن فيه قوله عليه‌السلام : « لا تعاد الصلاة الا من خمس ... » (١) ، فانه مع الشك في ثبوت الإعادة من جهة هذه الخمس في بعض الحالات ، فان كان ثبوت الإعادة فيها بالمفهوم لا مجال لإحرازه في مورد الشك ولو علم نفي الإعادة بنحو مطلق في طرف المستثنى منه ، إذ لعلّ الاستثناء من حيث المجموع لا من حيث كل فرد فرد. واما إذا كانت ثبوت الإعادة فيها بالمنطوق أمكن التمسك بإطلاق الكلام في إثباته في مورد الشك ، فانه نظير ما لو قال : « لا تعاد الصلاة من كذا وكذا وتعاد من خمس ... » ، وكون ذلك مدلولا للحرف لا يضر في إمكان الرجوع إلى الإطلاق في متعلقة أو نحوه ، كسائر موارد الحروف التي يتأتى فيها الإطلاق.

وإذا ثبت الأثر لهذا الأمر فيقع الكلام في إثبات أحد طرفيه ، وهو مشكل جدا. ولعل توقف الأصحاب من تعميم حكم الإعادة في الخمس لجميع الحالات مما يرجح انه ثابت بالمفهوم لا بالمنطوق. ولا طريق لدينا لإثبات أحد الطرفين.

ثم ان صاحب الكفاية تعرض إلى بيان ما يفيد الحصر من الأدوات تتميما للفائدة في مفهوم الحصر (٢) ، وإلا فهو خارج عن البحث الأصولي (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة باب : ١ من أبواب افعال الصلاة حديث : ١٤.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) وقد نقل سيدنا الأستاذ ـ مد ظله ـ كلامه من دون تعليق عليه متابعة له قدس‌سره ، ولأجل ذلك لا نرى حاجة تدعونا لنقله ، فمن أراد الاطلاع عليه فليراجع. ( منه عفي عنه ).

٢٩٠

مفهوم اللقب والعدد

ذهب صاحب الكفاية وتبعه غيره ، بل ذهب غيره إلى عدم اقتضاء اللقب والعدد للمفهوم (١) ، فلا دلالة لقول الآمر : « أكرم زيدا أو أكرم العالم » على عدم وجوب إكرام غير زيد أو غير العالم. كما لا دلالة لقوله : « أكرم عشرة رجال » على عدم وجوب إكرام غيرهم ، إلاّ إذا أخذ العدد بنحو التحديد من طرف الأقل والأكثر ، فينفي وجوب إكرام غيرهم بمقتضى التحديد ، وهو من أقوى المفاهيم. وهو واضح لا كلام فيه فلاحظ وتدبر. والله سبحانه ولي التوفيق. انتهى مبحث المفاهيم ويليه مبحث العام والخاصّ.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٩١
٢٩٢

العام والخاصّ

٢٩٣

٢٩٤

العام والخاصّ

تعريف العام

لا يخفى ان مفهوم العام واضح عرفا ، وهو ـ كما جاء في الكفاية ـ ما يكون شاملا لجميع ما يصلح ان ينطبق عليه.

وقد ذكر صاحب الكفاية : انه عرّف بتعاريف ، ووقع الإشكال فيها من الاعلام ، ولكنه ذكر ـ كما هو شأنه في كثير من الموارد ـ انها تعاريف لفظية يقصد بها شرح الاسم ، فلا يتجه الإيراد عليها بعدم الاطراد أو الانعكاس (١).

كما ان المحقق الأصفهاني تابعة في الإشكال عليه : بان التعريف اللفظي غير شرح الاسم بحسب الاصطلاح (٢).

وعلى أي حال فالامر ليس بمهم بعد ان لم يكن العموم ـ بهذا اللفظ وبعنوانه ـ موردا لأثر شرعا كي يبحث في تحديد مفهومه ، بل الأثر ثابت لما هو عام بالحمل الشائع وما يكون مصداقا له.

وقد تعرض المحقق النائيني إلى بيان الفارق بين العام والمطلق ، وان دلالة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٣٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٥

الأول على الشمول لفظية ، ودلالة الثاني بالقرينة العامة ، وبيان ان ذلك لا يتنافى مع احتياج مدخول أداة العموم إلى مقدمات الحكمة (١).

وهذا الأمر له أثر مهم في باب التعارض ، ولذا يتعرض إليه في ذاك البحث ، ولأجل ذلك فما أفاده المحقق النائيني مرسلا له إرسال المسلمات ـ مع انه محل بحث وسيأتي فيه إن شاء الله تعالى ـ ، ذكر للأمر قبل محلّه وتعرض له قبل وقته ، وكان الأولى إيكاله إلى محله ، والأمر سهل أيضا.

أقسام العموم

ينقسم العموم بلحاظ مقام تعلق الحكم إلى أقسام ثلاثة : الاستغراقي والمجموعي والبدلي ، فالعموم في جميعها بمعنى واحد والاختلاف في كيفية أخذه في موضوع الحكم.

بيان ذلك : ان المفهوم العام يلحظ بنحو الشمول واستيعاب جميع الافراد ، بمعنى انه يلحظ المفهوم المنطبق على جميع افراده ثم انه بعد ذلك.

تارة : يلحظ جميع الافراد موضوعا للحكم.

وأخرى : يلحظ كل فرد فرد موضوعا للحكم.

وثالثة : يلحظ فرد منها على سبيل البدل.

فالأوّل هو العام المجموعي. والثاني هو الاستغراقي. والثالث هو البدلي ، فهناك لحاظ واحد تشترك فيه جميع الأقسام وهو لحاظ جميع الافراد ، ولحاظ آخر تختلف فيه الأقسام.

ومن هنا يظهر ما في ظاهر كلام المحقق النائيني (٢) وما يتراءى من عبارة

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٤٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٤٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٦

الكفاية (١) ، من ان هذا التقسيم بلحاظ كيفية تعلق الحكم ، الظاهر في تأخره عن تعلق الحكم.

فان ذلك يتنافى مع الوجدان ، لما ذكرنا من ان اللحاظ المحقق لأحد هذه الأقسام في رتبة متقدمة على الحكم.

كما انه يتنافى البرهان ، لأن الاستغراقية والمجموعية والبدلية من خصوصيات موضوع الحكم ، والحكم يتعلق بالعامّ الاستغراقي وأخويه ، فيمتنع أن تنشأ الخصوصية التي يتقيد بها الموضوع من قبل الحكم.

وقد حمل المحقق الأصفهاني عبارة الكفاية على ما بيناه فرارا عن المحذور العقلي الّذي ذكره قدس‌سره.

ثم انه في مقام بيان كيفية اختلاف العموم الاستغراقي والمجموعي ذكر امرا جميل الأسلوب ومتين التصوير لكنه غير خال عن المناقشة.

فانه ذكر ان للعموم جهتين جهة وحدة وجهة تكثر ، فهو مفهوما واحد لكنه ذاتا متكثر ، نظير الدار فانه مفهوما واحد لكنه ذاتا متكثر لاشتمال الدار على اجزاء عديدة ، وهاتان الجهتان واقعيتان في العام لا ترتفعان عنه ، لكن المولى في مقام الحكم على العام تارة يلحظ جهة الوحدة من دون ملاحظة جهة الكثرة فيكون الموضوع هو المجموعي. وأخرى يلحظ جهة الكثرة دون جهة الوحدة فيكون الموضوع هو الاستغراقي. هذا كلامه ملخصا (٢).

وفيه : ما عرفت من ان لحاظ العام منطبقا على جميع افراده وساريا في مصاديقه مما لا بد منه في جميع الأقسام ، إذ لحاظ جهة الكثرة امر وجداني في الأقسام كلها فلاحظ.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٣٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٧

والأمر سهل بعد ان لم يكن هناك أثر عملي للاقسام المذكورة.

وقد تعرض المحقق النائيني إلى امرين (١) لا يخلو ان عن أثر :

الأمر الأول : انه أنكر العموم البدلي وألحقه بالمطلق لكونه يستفاد غالبا من إطلاق المتعلق.

ويرد عليه :

أولا : ان لمهم في إثبات العموم البدلي هو تقديمه على الإطلاق المعارض له ، لأن دلالته لفظية بخلاف دلالة المطلق.

وهذا الأمر يرتبط بواقع العام البدلي وهو كون الدّال فيه لفظا لا بتسميته عاما أو مطلقا ، فلا أثر للتسمية في المقام.

وثانيا : ان وجود بعض الافراد مما يدل عليه اللفظ يكفي في المطلب وتحرير الكلام.

الأمر الثاني : في بيان ما هو المتعين إثباتا مع عدم القرينة مع دوران الأمر بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي. والّذي ذكره هو ان المتعين مع عدم القرينة هو العموم الاستغراقي لاحتياج العموم المجموعي إلى مئونة زائدة.

ويرد عليه : ان مراده ...

ان كان أن الكلام ظاهر في الاستغراق لأجل احتياج غيره إلى مئونة فهو في مقام الاستدلال على ثبوت الظهور في نفسه بذلك وتعليله به. ففيه :

أولا : ان الاستغراقية تحتاج إلى مئونة كالمجموعية كما تقدم ، وليست نسبة الاستغراقية إلى المجموعية نسبة الأقل والأكثر بل نسبة التباين.

وثانيا : ان احتياج أحد القسمين إلى مئونة زائدة لا يعين ظهور الكلام فيما ليس فيه مئونة ، وأي ربط لذلك بالظهور أو الوضع ، فلعله قد يوضع اللفظ لما فيه

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٤٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٨

مئونة أو كان ظاهرا فيه.

وان كان المراد ان الظاهر الأوّلي للكلام هو العموم الاستغراقي ، وغيره يحتاج إلى قرينة فيحمل الكلام عليه عند عدمها كحمل المطلق على الإطلاق عند عدم التقييد.

فهي دعوى بلا دليل ولا شاهد عليها ، فما أفاده لا يقبل الإقرار به.

والحق ان الكلام لا ظهور له في أحدهما بدون قرينة حال أو مقال ، فمع عدمها يكون الكلام مجملا والمرجع إلى الأصل العملي.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر ان شمول مثل لفظ « عشرة » لآحادها المندرجة تحتها ليس من باب العموم ودلالة العام على افراده ، لما عرفت من ان العام هو المفهوم الصالح للانطباق على كل فرد من افراده مثل : « عالم » في : « كل عالم » ، ومفهوم : « عشرة » لا يصلح للانطباق على كل واحد مما يعمه (١).

ولا يخفى ان لهذا المطلب أثرا عمليا ، يظهر فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث حجية العام في الباقي وعدم منافاة التخصيص له ومعارضته ، فانه لو التزم بذلك في العام لأجل عمومه لا يثبت لمثل العشرة إذا ورد دليل يتكفل إخراج بعض افرادها ، بل يكون الدليل المخرج معارضا لها ، وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى فانتظر.

صيغ العموم

ذكر صاحب الكفاية ان للعموم صيغة تخصه كالخصوص ، ولا وجه لدعوى عدم وجود صيغة تخصه وذكر الوجه الّذي يستند إليه المانعون ورده (٢).

وهذا الأمر لا نعرف له أثرا عمليا فعلا ، فلا لزوم لإطالة الكلام فيه.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢١٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٩٩

انما الأمر الّذي له كبير أثر في مقام الاستنباط ، والّذي ذكره الاعلام من دون مزيد تحقيق وكشف غموض ولم يعيروه الاهتمام اللازم له ، هو ما تعرض له من عد بعض صيغ العموم وبيان احتياج كل منها إلى جريان مقدمات الحكمة في المدخول.

وهي خمسة :

الأولى والثانية : النكرة الواقعة في سياق النفي والنهي.

والكلام فيهما من جهات :

الجهة الأولى : ان دلالة النهي عن العموم الّذي به يفترق عن الأمر قد عرفت تحقيقها فيما تقدم في أول مبحث النواهي ، فقد عرفت هناك ان الأمر إذا تعلق بصرف الوجود بمعناه الأصولي المنطبق على أول وجود فلا يقتضي امتثاله سوى الإتيان بفرد واحد من الطبيعة ، إذ بها يتحقق صرف الوجود.

واما إذا تعلق النهي بصرف الوجود فهو يستدعي عدم الإتيان بأي فرد من افراد الطبيعة.

وقد عرفت ما استشكله المحقق الأصفهانيّ ، في كلام الكفاية ، واعتراضه بملازمة النهي عن صرف الوجود لترك جميع الافراد ، ولكنه استشكل فيه بما يرجع إلى الإشكال اللفظي فراجع (١).

وبالجملة : لا إشكال في ان النهي إذا تعلق بصرف الوجود اقتضى ترك جميع الافراد بخلاف الأمر.

ومن هنا يلتزم بان النكرة الواقعة في سياق النهي تفيد العموم.

وليس تعلقه بصرف الوجود بالغريب عرفا ، بل هو واقع عرفا ، فمثلا إذا أراد الشخص النوم وكان يستيقظ بمجرد صدور كلام من أحد فهو حين ينهى

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٦٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٠