منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

مطلقا ويكون الانحلال من شئونها حتى يقال بأنه يثبت لما يرجع إلى القضية الحملية في الحقيقة واللبّ ، بل الاستغراق وغيره ما يستفاد من قرائن خاصة في كل مقام ، ولذا ذكر صاحب الكفاية ان مقتضى الإطلاق ليس الا كون المراد هو الطبيعة غير المقيدة اما إرادة جميع الافراد أو صرف الوجود ، فهو امر يستفاد من دليل آخر بحسب اختلاف المقامات (١).

وبالجملة : لا ينفع في إثبات الانحلال في القضية الشرطية كونها كالحملية في الحقيقة بعد ما لم يكن الانحلال من لوازم الحملية ، بل هو مقتضى قرائن خاصة قد لا تثبت في بعض المقامات.

وعليه ، فالمرجع في إثبات الانحلال وعدمه وأخذ الشرط بنحو الاستغراق أو غيره هو ملاحظة خصوصية المقام وما يقتضيه ، ولا ضابط لدينا في ذلك.

ولا بأس بالتعرض لما يقتضيه المقام بالنسبة إلى أسباب الوضوء ، كالبول والنوم ونحوهما ، فنقول : ان الظاهر أخذها بنحو صرف الوجود من جهة وبنحو الاستغراق من جهة أخرى.

بيان ذلك : انك قد عرفت ان هذه الأسباب ناقضة للطهارة والناقضية لا تقبل التعدد ، فكل ما يفرض للبول من افراد ناقضة للطهارة كانت ملحوظة بنحو الاستغراق ، اما غيرها من الافراد فالملحوظ صرف الوجود لامتناع تأثير غيره في النقض ، ففي مثل : « إذا بلت فتوضأ » ملحوظ بنحو صرف الوجود من جهة تحقق النقض بالبول ، بمعنى انه يتحقق بصرف الوجود ، وبنحو الاستغراق بالنسبة إلى ما يتحقق النقض ، بمعنى ان كل ما ينقض الطهارة يترتب عليه وجوب الوضوء ، فتدبر.

الأمر الرابع : ذهب الفخر وغيره ـ كما نسب إليه ـ إلى ابتناء القول

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٥٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦١

بالتداخل وعدمه على كون الأسباب الشرعية معرفات أو مؤثرات.

فعلى القول بأنها معرفات يلتزم بالتداخل. وعلى القول بأنها مؤثرات يلتزم بعدم التداخل (١).

والمراد بالمعرف أحد وجهين : اما معرف الحكم ـ كما صرح به المحقق النائيني (٢) ـ. واما معرف الشرط الحقيقي ـ كما صرح به صاحب الكفاية وغيره (٣) ـ.

ونحن نوقع الكلام على كلا الاحتمالين :

اما الالتزام بان الأسباب الشرعية معرفات الحكم ، فهو يتصور على وجهين كلاهما باطلان :

أحدهما : ان يكون الحكم المنشأ في القضية الشرطية حكما طريقيا أو ظاهريا موضوعه الشرط المأخوذ في الكلام ، ويكون المجموع سببا للعلم وكاشفا عن حكم واقعي مجعول على موضوع واقعي.

وبطلانه واضح ، لجهتين :

الأولى : ان هذا مما لا يلتزم به أحد ولا يتفوه به متفوه ، كيف؟ ولازمه الالتزام بعدم واقعية الأحكام في القضايا الشرطية وهي أكثر من ان تحصى.

الثانية : انه كرّ على ما فرّ منه ، إذ الشرط بذلك لا يخرج عن كونه مؤثرا في الحكم الطريقي ، فيعود المحذور ، إذ لازمه عدم التداخل عند تعدد الشرط ، والالتزام بتعدد الحكم الطريقي الملازم لتعدد الحكم الواقعي.

ثانيهما : ان يكون الإنشاء في القضية الشرطية في الحقيقة اخبارا عن الحكم الواقعي الثابت لموضوع واقعي.

وبطلانه واضح كسابقه ، إذ لازمه ان لا يكون هناك إنشاء في القضايا

__________________

(١) نسب إليه المحقق الخراسانيّ كما في كفاية الأصول ـ ٢٠٥ والمحقق كلانتري كما في مطارح الأنظار ـ ١٧٦.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٦٢

الشرعية ، وهو لا وجه له ، وتصرف في ظهور الكلام في الإنشاء بلا وجه.

وعليه ، فيمكننا القول بعدم صحة الالتزام بان الأسباب الشرعية معرفات الحكم ، إذ لا يتصور له معنى يمكن الالتزام به.

واما كونها معرفات للشرط الحقيقي الواقعي ، فهو يتصور على وجهين أيضا :

أحدهما : ان يكون الشرط المذكور في الكلام موضوعا للحكم المنشأ ، والمجموع طريق وكاشف عن حكم واقعي ثابت لموضوع واقعي.

وهذا الوجه باطل ، لما عرفت من انه يستلزم الالتزام بعدم واقعية الأحكام المنشأة في القضايا الشرطية.

مع ان لازمه ان يكون هناك جعل ومجعول واقعي وراء المجعول المنشأ ، فللحكم واقعان ومقامان ، وهو مما لا يلتزم به أحد حتى من يرى ان واقع الحكم هو الإرادة والكراهة ، لأن الإنشاء قوامه الإبراز والإظهار فما لم يبرز الواقع لا إنشاء ولا يتصور تحقق الجعل بدون الإنشاء.

ثانيهما : ان الشرائط المأخوذة في الكلام أخذت مرآتا وحاكيا عن الشرط الواقعي ، بان يكون الشرط الواقعي والدخيل في الحكم واقعا ما يلازم هذا الأمر فيؤخذ هذا الأمر عنوانا للشرط الواقعي.

وهذا المعنى معقول في نفسه ولا مانع من الالتزام به ، بل هو واقع في العرفيات ، كما لو أراد الحكم على موضوع واقعي وصعب تفهيمه للمخاطب بنفسه فيعلق الحكم على ما يلازمه من العناوين قاصدا الحكاية به عن الموضوع المجهول والوصول به إلى ثبوت الحكم لموضوعه الواقعي.

ومع الالتزام بان الشرائط الشرعية معرفات لشرائط الواقعية بهذا المعنى من أخذها عنوانا للشرط الواقعي المرتب عليه الحكم يتجه الالتزام بالتداخل ، إذ المفروض ان كلا من الشرطين مرآة وعنوان للشرط الواقعي ، ومن الممكن ان

٢٦٣

يكون كلا منهما مرآة لما كان الآخر مرآة له ، إذ لا يمتنع ان يكون للشيء الواحد عنوانان ، فلا طريق لإثبات تعدد الشرط حقيقة ، واحتمال وحدته يكفي في الحكم بالتداخل بلا احتياج لإحرازها ، إذ الأصل العملي مع الشك ينفي تعدد الحكم.

وقد أشير إلى إثبات تعدد الشرط حقيقة ، ولو مع الالتزام بهذا الرّأي ، بوجوه :

الأول : ما ذكره صاحب الكفاية من دلالة الجملة على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط ، وهو يقتضي تعدد الجزاء بتعدد الشرط (١).

وفيه : ان الجملة انما تدل على حدوث الجزاء عند حدوث الشرط الواقعي ، فإذا ثبت كون الشرط الواقعي غير المذكور في الكلام وان ما يترتب عليه الجزاء غيره ، وقد عرفت عدم امتناع وحدته واقعا ، ولو تعدد المعرف فلا دليل على تعدد الشرط الواقعي كي يتعدد الجزاء بتعدده بمقتضى الدلالة على الحدوث عند الحدوث.

الثاني : ما ذكره المحقق النائيني من ان ظاهر القضية الشرطية ترتب الجزاء على كل واحد من الشروط ، ومجرد كون الشرط معرفا وإمكان تعدده مع وحدة المعرَّف لا يكفي في رفع اليد عن هذا الظهور (٢).

وفيه : ان مراده ان كان ما ذكره صاحب الكفاية فقد عرفت ما فيه. وان كان ما هو الظاهر من دلالة الجملة على الترتب ، فالإشكال فيه واضح ، إذ على هذا المبنى ـ أعني المعرفية ـ لا يلتزم بترتب الجزاء على الشرط المأخوذ في الكلام ، بل على غيره مما يكون هذا طريقا إليه ، وقد عرفت انه لا دليل على تعدده.

الثالث : ما ذكره الفقيه الهمداني من ان ظاهر كون الشرط معرفا هو

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٤

المعرفية الفعلية ، وعليه فيمتنع ان يكون كلا الشرطين ـ مع التعاقب ـ معرفا فعلا للحكم الواحد ، إذ لا معنى للعلم بالحكم ثانيا بعد تحقق العلم به أولا ، فلا بد من تعدد الحكم المعرف ، فتعدد المعرّف يستدعي تعدد المعرِّف (١).

وفيه : انه انما يتجه لو كان الجزاء هو العلم بالحكم لا نفسه ، وهو مما لا يلتزم به أحد لوضوح ان المعلق على الشرط في قول الآمر : « ان جاء زيد فأكرمه » نفس وجوب الإكرام لا العلم به.

وقد عرفت ان المراد بالمعرفية هو مرآتية الشرط الكلامي لما هو الشرط الواقعي ، وهذا لا ينافي تعدد المرآة مع وحدة المرآتي.

وجملة القول : ان الالتزام بالتداخل على هذا المبنى متجه ولا إشكال فيه بناء عليه ، لكن الإشكال في المبنى نفسه فانه لا وجه للالتزام بان الأسباب الشرعية معرفات ، وصرف الكلام عن ظاهره في كون الشرط المذكور فيه دخيلا في ترتب الحكم كالشرط المذكور في القضايا غير الشرعية فلاحظ وتدبر.

هذا تمام الكلام في المقام الأول ، وهو البحث في تداخل الأسباب. وقد عرفت ان الحق عدم التداخل.

ويقع الكلام بعد ذلك في تداخل المسببات ، والبحث يقع في صورتين :

الأولى : ما إذا كان متعلق الحكمين طبيعة واحدة.

الثانية : ما إذا كان متعلقهما طبيعتين متغايرتين ، كوجوب إكرام العالم ووجوب ضيافة الهاشمي.

اما الصورة الأولى : فلا وجه لتوهم التداخل فيها لما عرفت من انه لا يعقل تعلق حكمين بطبيعة واحدة ، وانه لا بد من حمل الكلام الظاهر في نفسه في ذلك على كون متعلق أحدهما فردا آخر غير ما امتثل به الآخر ، فكل من

__________________

(١) الهمداني الفقيه حاج آقا رضا. مصباح الفقيه ـ ١٢٧ ـ كتاب الطهارة ـ الطبعة الأولى.

٢٦٥

الحكمين يطلب به فرد غير ما يطلب بالحكم الآخر. وعليه فيمتنع الاكتفاء بفرد واحد ، وليس هو إلاّ نظير الاكتفاء عن نافلة المغرب بركعتين. وما ذكرناه واضح جدا ، ومعه لا وجه لبيان ان الأصل عدم التداخل ـ كما جاء في تقريرات النائيني (١) ـ ، إذ لا وجه له الا تخيل قيام الدليل في بعض الصور على الاكتفاء بفرد واحد في مقام امتثال الأمر المتعدد ، ولكن لو ثبت الدليل في بعض الموارد فهو يرجع في الحقيقة إلى بيان وحدة الحكم ، إذ تعدد الحكم وإرادة فردين خلف الاكتفاء بواحد ، فإن قول الآمر : « أريد ان تعطي درهمين » ينافي قوله : « اكتفى بدرهم واحد » كما لا يخفى.

واما ما سيق ـ في أجود التقريرات ـ مثالا لقيام الدليل الخاصّ على الاكتفاء بامتثال واحد ، وهو مسألة الاكتفاء بغسل واحد عن حدوث الجنابة والحيض وغيرهما ، ومسألة الوضوء لو فرض تعدد الحدث الموجب لتعدد الأمر. فهو انما يتجه لو كان محل البحث هو ان الأوامر المتعددة المتعلقة بافراد الغسل أو الوضوء هل تمتثل بغسل أو وضوء واحد أو لا تمتثل؟ فيفرض المسبب وجوب الغسل. اما لو كان محل البحث هو ان الأحداث المتعددة المسببة عن الأسباب المتعددة هل ترتفع بغسل أو وضوء واحد أو لا؟ فلا يرتبط بما نحن فيه ، إذ المسبب فرض هو الحدث ولا معنى للتداخل فيه. وانما يقع الكلام في ارتفاعها بعمل واحد ، وهو لا يرتبط بمسألة التداخل ، بل يتبع دليل الغسل أو الوضوء فان دل على كونه رافعا لطبيعي الحدث كان سببا لارتفاع جميع الأحداث به ، وان دل على انه رافع لحدث واحد لم يرفع غيره.

وظاهر كلامه ان موضوع البحث هذه الجهة. وعليه فلا معنى لجعل المسألة من شواهد التداخل.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٣٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٦

واما ما ذكره قدس‌سره من انه بناء على رافعية الوضوء لجميع الأحداث بلحاظ الإجماع ، فلو نوى رفع بعض الأحداث دون غيرها بنحو نية العدم لا عدم النية قد يدعي بطلان الوضوء لأجل ان رفع بعض الأحداث ملازم لرفع بعضها فلا يمكن نية رفع بعض وعدم رفع أخرى لأنهما متناقضان ، فتكون هذه النية في الحقيقة كلا نية فيبطل العمل كما قد يدعي الصحة لأجل ان نية العدم لغو فلا ضير فيها.

فقد أورد عليه : بأنه لا وجه للتشكيك ، بل المتجه هو الحكم بالصحّة ، إذ وجه البطلان لا يستلزمه لأنه لا يعتبر في الوضوء نية رفع الحدث به ، فغاية ما يقتضيه التناقض بين النيتين هو عدم تحقق نية رفع الحدث عنه وهو لا يضير في صحة العمل (١).

ولكن يمكن ان يكون مراده قدس‌سره في توجيه دعوى البطلان ، انه لم يشرع سوى الوضوء الرافع لجميع الأحداث ، اما الرافع للحدث البولي فقط فلم يشرع في الشريعة. وعليه فنية الوضوء الرافع لخصوص حدث خاص نية لما هو غير مشروع فلا يصح العمل منه ، لأن ما وقع لم يقصد وما قصد لم يقع.

وعلى هذا فلا يرد عليه ما تقدم كما لا يخفى ، وان كان هذا المعنى لا يتفق مع ظاهر كلامه ، فان ظاهره توجيه البطلان بتنافي القصدين الراجع في الحقيقة إلى عدم القصد.

واما الصورة الثانية : فهي على أنحاء :

الأول : ان تكون الطبيعتان متغايرتين ذاتا ، كإكرام الهاشمي وضيافة العالم.

الثاني : ان تكونا متحدين ذاتا ، لكن يتغايران قيدا كإكرام الهاشمي

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٣٢ هامش رقم (٢) ـ الطبعة الأولى.

٢٦٧

وإكرام العالم.

الثالث : ان يكون اختلافهما بأخذ جزء أو شرط يوجب المغايرة ، وان كانتا ذاتا متحدتين كنافلة المغرب والغفيلة ، فانهما يجتمعان في الغفيلة المأتي بها في وقت النافلة ، وتفترق النافلة بما إذا جاء بالعمل بلا الذّكر الخاصّ المعتبر في الغفيلة كما تفترق الغفيلة إذا جاء بها في غير وقت النافلة. وبذلك كان بينهما العموم من وجه.

اما النحو الأول : فمقتضى القاعدة فيه هو التداخل وتحقق الامتثال بالمجمع ، لكونه مصداقا لكلتا الطبيعتين ، فيمكن ان يمتثل به كلا الأمرين ، فله ان يمتثل الأمر بإكرام الهاشمي وضيافة العالم بضيافة العالم الهاشمي ، لأنها ضيافة للعالم وإكرام للهاشمي.

وقد يتوهم : ان المورد من موارد تأكد الحكمين فيرجع في الحقيقة إلى تداخل الأسباب لوحدة الأمر لا تداخل المسببات ، فالمتوهم يشترك مع الدعوى في تحقق الامتثال بالمجمع لكنه يختلف معها في انه يذهب إلى وحدة الأمر والدعوى تقول بتعدده.

ويندفع هذا الوهم : بأنه لا يلزم التداخل في الأمر وصيرورته امرا مؤكدا على جميع الوجوه القائلة بامتناع اجتماع الحكمين المختلفين أو المتماثلين.

اما على الوجه القائل بامتناع اجتماعهما لتضادهما أو تماثلهما في أنفسهما : فلان ذلك انما يتأتى مع وحدة متعلق الحكمين ، اما مع تعددهما فلا يتأتى المنع ، وما نحن فيه كذلك ، لأن متعلق كل من الحكمين غير متعلق الآخر ، وهو صرف الوجود من كل طبيعة ، والمجمع مصداق متعلق الحكم لا نفسه ، لأن العموم بدلي ، نعم لو كان العموم شموليا بحيث كان يسري إلى كل فرد امتنع اجتماع الحكمين لوحدة متعلقهما.

واما على الوجه القائل بامتناع اجتماع الحكمين المختلفين لتنافيهما في

٢٦٨

مقام الداعوية ، وامتناع اجتماع المتماثلين لعدم إمكان داعوية كل منهما بنحو الاستقلال في عرض واحد ، وهو يتنافى مع حقيقة الحكم لأنه جعل ما يمكن ان يكون داعيا بنفسه ـ بناء على هذا الوجه ـ : فهو انما يتم مع وحدة المتعلق ، اما مع اختلافه كما لو كان متعلق الأمر طبيعة ما بنحو العموم البدلي ، ومتعلق النهي طبيعة أخرى أيضا بنحو العموم البدلي ، فلا امتناع في جعل الحكمين ولو تصادقت الطبيعتان على واحد ، وهكذا الأمر في ما لو اتفق الحكمان فتعلق امران بطبيعتين كذلك فان تصادق الطبيعتين على واحد وإمكان امتثال الحكمين به لا يتنافى مع قابلية كلا الحكمين للداعوية المستقلة نحو متعلقه ، لإمكان الإتيان بفردين للطبيعتين.

واما على الوجه القائل بامتناع اجتماعهما من جهة المبدأ من مصلحة ومفسدة وإرادة وكراهة : فلأنه وان لم يكن إطلاق المتعلق في كلا الحكمين شاملا للمجمع إذا كانا مختلفين ، كالأمر والنهي ، لامتناع اجتماع المصلحة والمفسدة الملزمتين في شيء واحد ، فلا يكون متعلقا للإرادة والكراهة معا في آن واحد ـ ولا ينافي ذلك بقاء كل من الأمر والنهي على حاله ـ ، لكن ذلك لا يتأتى بالنسبة إلى مورد اتفق الحكمين كأمرين ، إذ من الممكن ان يكون شيء واحد مشتملا على مصلحتين ملزمتين ، ولازمه تأكد الإرادة بالنسبة إلى هذا الفرد ، لكن عرفت انه غير متعلق الحكم فلا ينافي تأكد الإرادة فيه بقاء الحكمين على حالهما لاختلاف متعلق أحدهما عن الآخر.

وجملة القول : ان ما نحن فيه لا يكون من موارد وحدة الحكم وتأكده على جميع المباني في تضاد الأحكام وتماثلها.

وعليه ، فالمورد من موارد تداخل المسببات.

وقد يدعي : عدم صحة القول بالتداخل ولزوم الإتيان بعملين استنادا إلى ما يراه العرف من ان تعدد الحكم يلازم تعدد الإطاعة.

٢٦٩

وقد رده الفقيه الهمداني : بان ذلك ما لا شاهد له عرفا ، بل الشاهد على خلافه ، إذ لو أتى شخص بعمل واحد ينطبق عليه عناوين حسنة متعددة : يرى ان ثوابه أكثر مما إذا انطبق عليه أحد هذه العناوين ، وليس ذلك إلاّ لتعدد الأمر ووقوع العمل امتثالا للأوامر المتعددة (١).

وعلى كل حال فيكفينا مقتضى الصناعة والبرهان من دون أي خدشة.

ومما ذكرنا يظهر الحال في الصورتين الأخيرين ، فان المتعلقين وان اتحدا ذاتا لكنهما مختلفان قيدا أو جزءا ، فيوجب ذلك تباينهما ، فمع اجتماعهما في واحد يمكن امتثال كلا الأمرين به ، فإذا أكرم عالما هاشميا تحقق امتثال كلا الأمرين لصدق إكرام العالم وإكرام الهاشمي عليه. كما لا يخفى.

ويبقى الكلام في جهتين :

الأولى : تختص بمثال الصورة الثالثة ، وهو نافلة المغرب والغفيلة ، ونظائرهما. فانه قد يستشكل في تحقق امتثال كلا الأمرين بركعتي الغفيلة من جهة ما قرر من اعتبار امر واقعي قصدي في الصلوات المتشابهة صورة يكون موجبا لتباينهما حقيقة وكون أحدهما غير الآخر ، وانه لا طريق إلى قصده إلاّ بالإتيان بالعمل بقصد عنوانه الخاصّ كعنوان الظهر أو العصر ، ولولاه لما كان هناك فارق بين نافلة الصبح وصلاتها وبين صلاة الظهر والعصر وهكذا.

وعليه ، فإذا ثبت اعتبار العنوان القصدي في نافلة المغرب ليتحقق امتياز عما يشاكلها كالصلاة القضائية ، وثبت اعتباره في الغفيلة أيضا ، فمن الممكن ان يكون العنوانان القصديان متباينين واقعا بحيث لا يمكن قصدهما بعمل واحد ، نظير عدم إمكان الإتيان بأربع ركعات بقصد الظهر والعصر ، ونظير قصد التعظيم والإهانة بقيام واحد.

__________________

(١) الهمداني الفقيه حاج آقا رضا. مصباح الفقيه ـ ١٢٨ ـ كتاب الطهارة ـ الطبعة الأولى.

٢٧٠

ومع هذا الاحتمال لا مجال للقول بالتداخل لعدم العلم بالفراغ مع الإتيان بعمل واحد بقصدهما معا ، فقاعدة الاشتغال محكمة ، ولا رافع لهذا الاحتمال.

نعم ، يمكن الإتيان بعمل واحد بداعي امتثال كلا الأمرين رجاء وهو غير التداخل. فالتفت.

الجهة الثانية : ترتبط بجميع الصور ، وهي أنه ـ بناء على التداخل ـ هل يعتبر في تحقق امتثال الأمرين قصدهما أو يكفي قصد أحدهما؟.

والتحقيق : انه ان كان الواجبان قصديين ، وقلنا بالتداخل بطريق ما ، فلا بد من قصد كلا الأمرين ، إذ مع قصد أحدهما لا يتحقق متعلق الآخر لتقومه بالقصد.

وإن لم يكونا قصديين ، فانما يلزم قصدهما على بعض المباني في كيفية امتثال امر التعبدي. بيان ذلك : ان الاحتمالات في كيفية امتثال الأمر العبادي ثلاثة :

الأول : الإتيان بالعمل المأمور به مرتبطا بالمولى ولو كان ربطا غير واقعي ، كما لو جاء بالعمل بداعي امتثال امر خاص فلم يكن له وجود وكان الثابت امرا آخر فانه يتحقق امتثاله. فلا يعتبر في العبادية سوى ربطه بالمولى واسناده إليه وان لم يكن له واقع.

الثاني : الإتيان بالعمل المأمور به مرتبطا بالمولى بربط واقعي ، ولو كان غير ربطه بالأمر الّذي يتحقق امتثاله ، بان يكون العلم له جهتا إضافة للمولى فيأتي به العبد مرتبطا من إحدى الجهتين فيقع امتثالا عن كلتاها.

الثالث : الإتيان بالعمل مرتبطا بالمولى ومضافا إليه من طريق نفس الأمر الّذي يقع امتثالا له ، فلو كان للعمل جهتا إضافة وقصد إحداهما لم يقع امتثالا عن الأخرى.

٢٧١

فعلى الاحتمال الأول والثاني : لا يعتبر في تحقق الامتثال قصد كلا الأمرين ، بل يكفي قصد أحدهما لتحقق إضافة العمل إلى المولى بإضافة واقعية.

وعلى الاحتمال الثالث : لا بد في امتثال كلا الأمرين من قصدهما معا ، وإلاّ لم يقع امتثالا الا لما قصده منهما. فلاحظ.

وتحقيق أحد هذه الاحتمالات قد تقدم في مبحث التعبدي والتوصلي ، وتقدم ان الحق هو الثاني. فراجع.

هذا تمام الكلام في مفهوم الشرط والحمد لله تعالى أولا وآخرا.

٢٧٢

مفهوم الوصف

وقع الكلام في ثبوت مفهوم الوصف وعدمه ، فهل مقتضى قول الآمر : « أكرم الرّجل العالم » عدم وجوب إكرام غير العالم؟.

وقد تصدى المحقق النائيني إلى بيان ان محل البحث هو الوصف المعتمد على موصوف ، وإلى انه الوصف الأخص من موصوفه أو الأعم منه من وجه في مورد الافتراق من جانب الموصوف (١).

وهذا البيان ينبغي ان يذكر بعد تحقيق الحال في المفهوم والنّظر في أدلة إثباته ونفيها ، حتى يعرف ما تقتضيه من سعة موضوع البحث وضيقه.

وعليه ، فيقع البحث فعلا في أصل المطلب ولنجعل موضوع البحث الوصف المعتمد على الموصوف لأنه متيقن الدخول فيه.

فنقول : الوجوه التي تذكر لإثبات مفهوم الوصف متعددة :

الأول : ما أشار إليه في الكفاية من دعوى الوضع للعلية المنحصرة (٢).

وفيه : انه لا شاهد عليه أصلا.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٣٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٧٣

الثاني : ما ذكره في الكفاية من ان الأصل في القيود ان تكون احترازية ، ومقتضاه ثبوت المفهوم وإلاّ لم يكن القيد احترازيا (١).

وفيه : ما ذكره قدس‌سره من ان المراد من كونها احترازية انها توجب الاحتراز فيما كانت قيدا له ، فإذا كانت قيدا للموضوع كما هو الظاهر فلا توجب إلاّ تضييق دائرته ، كما لو ذكر أولا بعنوان واحد ، فلا فرق بين جئني بإنسان وجئني بحيوان ناطق. وبتعبير آخر : انها احتراز عن دخالة غيره في شخص الحكم لا سنخه ، وذلك لا يلازم المفهوم.

وجملة القول : انه لم يثبت من كونها احترازية غير ذلك. فلاحظ.

الثالث : ما ذكره في الكفاية أيضا من حمل المطلق على المقيد ـ إذا كانا مثبتين ـ ، فانه لا يصح إلاّ إذا قيل بمفهوم الوصف ، فيدل المقيد على انتفاء الحكم عن غير مورد الوصف.

وفيه : ما أشار إليه قدس‌سره من انه يبتني على امرين : أحدهما : وحدة الحكم المنشأ بالدليلين. وثانيهما كون القيد احترازيا ، فانه يثبت بذلك ان الحكم موضوعه المقيد كما لا يخفى ، ولا يبتني حمل المطلق على المقيد على الالتزام بمفهوم الوصف. وإلاّ لزم عدم تقدم المقيد على المطلق لأن دلالة كل منهما على مدلوله بالإطلاق ، لأن ثبوت المفهوم على تقديره بضميمة الإطلاق. وعليه فلا وجه لتقديم أحدهما على الآخر (٢).

الرابع : اللغوية ، بمعنى انه لا أثر لذكر الوصف الا إفادة المفهوم وإلاّ كان لغوا ، وهذا المعنى أشار إليه في الكفاية وجوابه ظاهر كما ذكره ، إذ يكفي في رفع اللغوية تصور أدنى أثر لذكر الوصف كالاهتمام به أو وقوعه مورد السؤال ونحو ذلك (٣).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٧٤

الخامس : ما أفاده المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية ، وهو يمكن جعله وجها آخر للغويّة ، وهو يبتني على مقدمات ثلاث :

الأولى : ان ظاهر القيد كونه احترازيا ، والمراد به انه دخيل في تحقق الحكم وموجب لقابلية المورد لثبوت الحكم فيه.

الثانية : ان المعلق عليه هو الوصف بعنوانه ، ودخالة غيره منافية لتأثيره بعنوانه ، إذ يستند الحكم إلى الجامع ، لامتناع تأثير المتعدد في الواحد.

الثالثة : ان المعلق هو سنخ الحكم لا شخصه ، بالمعنى الّذي بينه لسنخ الحكم.

فإذا تمت هذه المقدمات ثبت المفهوم لا محالة ، إذ لو ثبت الحكم عند ثبوت غير الوصف لما كان الوصف مؤثرا في سنخ الحكم بعنوانه كما عرفت.

ولكنه استشكل فيه بإنكار المقدمة الثانية بدعوى : ان قضية امتناع تأثير المتعدد في الواحد انما هي في الواحد الشخصي لا النوعيّ ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن وحدة شخصي الحكم بالنوع لا بالشخص ، فلا يمتنع تأثير المتعدد بما هو متعدد فيه على ان يكون كل واحد مؤثرا في فرد غير ما يؤثر فيه الآخر (١).

لكنه صحيح بمقدار يلزم به صاحب الكفاية ، لالتزامه بالقضية المزبورة في الواحد النوعيّ كما مرّ منه مرارا (٢).

هذا ولكن الحق انه لا يمكننا إلزام صاحب الكفاية ومن نحا نحوه بهذا البيان لوجهين :

الأول : انه ينتقض باللقب ، لأن مقتضاه ثبوت المفهوم له أيضا لظهور دخالة : « زيد » في : « أكرم زيدا » بعنوانه في الحكم ، فإذا كان المعلق هو سنخ الحكم

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٣٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٦ و ـ ٢٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٧٥

كان ذلك ملازما للمفهوم ، إذ لو ثبت غيره موضوعا للحكم كان المؤثر في الحكم هو العنوان الجامع بين زيد وغيره ولا يكون زيد بعنوانه مؤثرا ، وهو خلف.

الثاني : ان المقدمة الثالثة المتكفلة لبيان كون المعلق هو السنخ غير مسلمة ـ وبذلك ينحل الإشكال في الجميع ـ ، وذلك إذ التوصيف وان كان ظاهرا في دخالة الوصف لكن لا ظهور له في انه دخيل في سنخ الحكم حتى ينتفي بانتفائه ، بل يمكن ان يكون دخيلا في شخصه فلا يلازم المفهوم.

وبتعبير آخر : انه قدس‌سره التزم بان مفاد الكلام ـ في القضية الشرطية ـ تعليق وجود الحكم بما هو وجود للحكم على الشرط الملازم للمفهوم بلحاظ جهة لا ثبوت لها هنا وهي تكفل الكلام لبيان الانحصار فانه يكون لغوا إذا لم يكن المعلق هو وجود الحكم بما هو وجود للحكم ـ كما مر ـ وهذا لا أثر له هنا. كما ان صاحب الكفاية وان التزم بان مفاد الجملة الطلبية مفهوم الطلب ، لكن لا قرينة على ان الوصف دخيل في المفهوم لا شخص الطلب المتحقق بالإنشاء.

وبالجملة : فلا دليل على ان الوصف دخيل في ثبوت السنخ لا الشخص ، فلا يتم البيان المزبور. فالتفت.

والّذي يتحصل : ان ما يذكر دليلا على مفهوم الوصف اما انه لا ينهض للدليلية أو انه غير مسلم.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس‌سره في مقام نفي مفهوم الوصف ما حاصله : ان القيد تارة يرجع إلى الحكم بالمعنى الّذي تصوره قدس‌سره ، وهو تقييد المادة المنتسبة ، وأخرى يرجع إلى الموضوع. والأول يلازم المفهوم دون الثاني. وبما ان الشرط يرجع إلى الحكم التزم بالمفهوم. واما الوصف فظاهره انه راجع إلى الموضوع فلا يلازم المفهوم ، إذ ثبوت الحكم لموضوع معين لا ينافي ثبوته لآخر ، ولا يلزم انتفاء الوصف سوى انتفاء الموضوع ، وهو لا يلازم انتفاء الحكم

٢٧٦

لإمكان ثبوته لموضوع غيره (١).

وما أفاده قدس‌سره : لا يخلو من نظر.

فان ما ذكره بقول مطلق من ان القيد إذا رجع إلى الحكم يلازم انتفائه انتفاء الحكم ، وعليه بنى اختيار ثبوت مفهوم الشرط. مخدوش بما عرفت من ان تقييد الحكم بالشرط ان كان راجعا إلى تعليقه عليه لازم ذلك ثبوت المفهوم. وان كان بمعنى آخر من ترتب الحكم عليه أو الملازمة فلا يلازم المفهوم ، وقد عرفت انه لم يدع أحد ان الأداة موضوعة للتعليق ، وورود التعبير به مسامحة وغفلة.

واما ما ذكره من انه إذا كان القيد قيدا للموضوع فلا يلازم المفهوم. ففيه : انه قدس‌سره يلتزم بان قيود الموضوع ترجع في الحقيقة إلى الحكم وتكون قيودا له ، بتقريب : ان الحكم بالإضافة إليه اما مطلق أو مهمل أو مقيد ، والأول ممتنع لأنه خلف. وهكذا الثاني أيضا لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. فيتعين الثالث.

نعم ، من يلتزم بإمكان الواجب المعلق قد يدعي صحة تقييد الموضوع دون الحكم كما صح تقييد المتعلق دونه ـ وان كان ذلك مورد كلام ـ ، لكنه قدس‌سره ممن لم يلتزم به. إذن فما أفاده في تحقيق مفهوم الوصف غير سديد كالذي أفاده في تحقيق مفهوم الشرط.

يبقى الكلام في جهتين أشرنا إليهما في صدر المبحث :

الأولى : في بيان محل البحث من الوصف ، وانه هل يختص بالوصف المعتمد على موصوف أو لا؟. فذهب المحقق النائيني إلى الأول (٢).

والتحقيق هو الثاني ، لجريان بعض أدلة مفهوم الوصف في غير المعتمد

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٣٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٣٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٧٧

كالوجه الخامس الّذي ذكره المحقق الأصفهاني.

ولعل الوجه في اختيار المحقق النائيني للأول هو : انه قدس‌سره جعل ملاك المفهوم وعدمه رجوع القيد إلى الحكم أو إلى الموضوع ، وهذا مما يستلزم ثبوت الموضوع حتى يرجع القيد إليه أو إلى حكمه ، وبدونه لا معنى للترديد المزبور.

ولكن عرفت ان وجوه المفهوم متعددة ، وبعضها يتأتى في غير المعتمد على الموصوف.

الثانية : ما ذكرها صاحب الكفاية بعنوان : « التذنيب » وهي تحديد محل البحث في الوصف بلحاظ نسبته مع الموصوف.

وبيان ذلك : ان الوصف تارة يكون أخص من الموصوف مطلقا. وأخرى أعم منه مطلقا. وثالثة مساو له. ورابعة أعم وأخص منه من وجه. لا إشكال في دخول الوصف الأخص من الموصوف مطلقا كالنحوي بالنسبة إلى العالم في محل النزاع ، وهكذا دخول الأخص من وجه إذا كان الافتراق من جهة الموصوف بان وجد الموصوف دون الوصف ، كالعالم العادل. واما سائر الصور ، وهي صورة عموم الوصف مطلقا وصورة تساويه مع الموصوف وصورة العموم من وجه إذا انتفى الموصوف والوصف ، فاستظهر صاحب الكفاية عدم جريانه فيها. ولعل الوجه فيه هو كون محل البحث هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف ، فلا بد من فرض بقاء الموضوع ، وهو لا يثبت في هذه الصور الثلاث.

وقد استظهر قدس‌سره من بعض الشافعية جريان النزاع في صورة العموم من وجه مع انتفاء الموصوف والوصف ، حيث قال : قولنا : « في الغنم السائمة زكاة » يدل على عدم الزكاة في معلوفة الإبل. وعلله باستظهار كون الوصف علة تامة منحصرة فينتفي الحكم بانتفائها ، وبذلك حكم بان مقتضاه جريان النزاع في صورة عموم الوصف المطلق ومساواته للموضوع ، لجريان

٢٧٨

الوجه فيه أيضا ، واستشكل في التفصيل الصادر من الشيخ قدس‌سره ـ على ما في التقريرات (١) ـ بين تلك الصورة وصورتي العموم المطلق والمساواة ، بجريان النزاع فيها وعدم جريانه فيهما لعدم الموضوع ، لأن ملاك عدم الجريان فيهما يسري إلى تلك الصورة كما ان ملاك الجريان فيها يسري إليهما ، فلا فرق بين هذه الصور من حيث جريان النزاع وعدمه. وعلى أي حال : فمن يرى ان مركز البحث هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الوصف يلتزم بخروج هذه الصور عن محل البحث. ومن يرى ان البحث في انتفاء الحكم بانتفاء الوصف ولو لم يكن الموضوع يلتزم بدخولها في محل البحث. فالتفت.

يبقى الكلام في تعبير صاحب الكفاية عن صورة العموم من وجه وانتفاء الموصوف والوصف ، بما إذا كان الافتراق من جانب الوصف ، فانه لا يخلو عن مسامحة ظاهرة. وذلك لأن صورة افتراق الوصف معناها وجود الوصف وعدم الموصوف. ومن الواضح انها خارجة عن محل البحث ، إذ البحث في اقتضاء انتفاء الوصف لانتفاء الحكم ، فصورة وجوده لا بحث فيها. وقد ورد هذا التعبير في التقريرات أيضا ، ولكن المراد منه ما عرفت.

ومن هنا تعرف ان المراد من قوله في صدر التذنيب : « واما في غيره » (٢) ليس مورد افتراق الوصف ، بل غير مورد افتراق الموصوف مما يحتمل ان يدخل في البحث ، وهو مورد انتفائهما معا ، إذ موردا وجودهما ووجود الوصف لا بحث فيهما. فالتفت ولا تغفل ، والله ولي التوفيق.

__________________

(١) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ١٨٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٧٩
٢٨٠