منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

على شيء لا ينافي تحقق اعتبار آخر للمفهوم بدون تعليق أصلا ، فان مفاد الكلام ليس إلاّ ان المفهوم المعلق على الشرط الخاصّ والّذي لا يعلق على غيره ـ كما هو مفاد الانحصار ـ قد تعلق به اعتبار المولى ، وذلك لا ينافي تعلق اعتبار المولى بالمفهوم غير المعلق على شيء أصلا ، فلا يلازم ما ذكر ثبوت المفهوم.

وعلى الثاني : ففيه : ان الأمور الاعتبارية لا وجود لها إلاّ بالاعتبار ، وبدونه لا ثبوت لها ، والأحكام من الأمور الاعتبارية فوجودها يتقوم بالاعتبار ، وعليه فنقول : لا معنى للاعتبار الفعلي للحكم المعلق وجوده على الشرط ، إذ اعتبار الحكم فعلا يعني وجوده فعلا وهو يناقض تعليق وجوده على وجود الشرط. فلا يتصور لما أفاده السيد الخوئي معنى معقول.

والتحقيق ان يقال : انه بناء على ما ذكرناه من استفادة المفهوم من الإطلاق المقامي وغلبة استعمال القضايا الشرطية في بيان ما هو الشرط بحيث يفهم منها المفهوم عرفا لا نحتاج لإتعاب النّفس في بيان طريقة إفادة سنخ الحكم وكيفية إثباته ، فنفس الإطلاق المقامي يكفينا عن ذلك ، لأن ظهور الجمل الشرطية في المفهوم عرفا المستند إلى الإطلاق المقامي يكشف عن ان المتكلّم في مقام بيان ما هو الشرط لسنخ الحكم ، فاكتفاؤه في هذا المقام بالجملة الشرطية يكشف عن ان الشرط لسنخ الحكم لبا ليس إلاّ الشرط المذكور في الكلام ، ولا يهمنا بعد ذلك عن تحقيق كون المستعمل فيه الهيئة كليا أو جزئيا. فتدبر جيدا وافهم.

اما الحكم المعلق بالنحو الّذي تعلقه المحقق الأصفهاني وهو شخص الوجوب بما هو وجوب لا بما هو شخص ، فقد ذكر قدس‌سره ان طريق إثباته هو بيان انحصار الشرط ، إذ لو لا كون المعلق هذا المعنى لم يكن وجه لبيان الانحصار لأن انتفاء شخص الحكم بما هو شخص بانتفاء الشرط عقلي

٢٤١

ولو لم يكن منحصرا (١).

وهذا البيان انما يتم لو فرض عدم تعقل معنى للسنخ كما فرض هو قدس‌سره. اما بناء على تعقل معنى للسنخ يمكن ان يكون مرادا فلا يتم ما أفاده ، إذ كما تتلاءم إفادة الانحصار مع تعليق الشخص بما هو وجوب تتلاءم مع تعليق السنخ أيضا ، فتعيين أحدهما يحتاج إلى دليل آخر. فتدبر.

واما ما ذكره صاحب الكفاية من ان انتفاء الحكم عن غير مورد الشرط في الأوقاف ونحوها ليس من المفهوم ، ردّا على الشهيد في تمهيد القواعد (٢) حيث ذهب إلى انه لا إشكال في دلالة القضية في تلك الموارد على المفهوم ، وذكر في وجه عدم كونه من المفهوم ، ان انتفاء الحكم من جهة ان الشيء إذا صار وقفا على أحد لا يقبل ان يصير وقفا على غيره ، وانتفاء شخص الوقف عن غير مورد المتعلق عقلي كما عرفت.

فهو لا يخلو عن إشكال وبحث. بيان ذلك : ان لانحصار الشرط أثرين : أحدهما : عدم ثبوت الجزاء على غير الشرط عند وجود الشرط. والآخر : عدم ثبوته على غير الشرط عند انعدامه. ففي المورد المذكور لا أثر لانحصار الشرط وعدمه بالنسبة إلى حال وجوده لامتناع صيرورة الوقف على أحد وقفا على غيره في فرض وجوده. اما بالنسبة إلى حال عدمه فله أثر لعدم امتناع وقف الموقوف على أحد على غيره بنحو الطولية وفي فرض عدمه ، فلا وجه لإنكار البحث في المفهوم في مثل المقام بعد تصور ثبوت الوقف على غير مورد الشرط عند انتفاء مورد الشرط. فالتفت وتدبّر.

التنبيه الثاني : ذكر المحقق النائيني ان الشرط كلّما تعددت قيوده اتّسعت

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٢٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) العاملي زين الدين. تمهيد القواعد ـ ١٤ قاعدة الخامس والعشرون الطبعة الحجرية.

٢٤٢

دائرة المفهوم ، لأن انتفاء أحد القيود يكفي في انتفاء الجزاء ، فلو قال المولى : « إذا جاء زيد وأكرمك فأكرمه » كان مقتضاه انتفاء وجوب الإكرام بانتفاء مجيء زيد وبانتفاء إكرامه مع تحقق مجيئه. بخلاف ما لو قال : « إذا جاء زيد فأكرمه » فان مقتضاه انتفاء الوجوب عند انتفاء المجيء فقط.

وهذا لا كلام فيه ، انما الإشكال فيما إذا كان الجزاء عاما ومتعددا ، فهل يقتضي انتفاء الشرط انتفاء الجزاء بنحو الاستغراق أو بنحو المجموع؟ مثلا في القضية المشهورة « إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجسه شيء » هل مقتضى المفهوم هو انه إذا لم يبلغ الماء قدر كرّ ينجسه كل شيء بنحو الموجبة الكلية أو ينجسه شيء ما بنحو الموجبة الجزئية؟.

وقد ادعى ان المفهوم في مثل ذلك موجبة جزئية ، لأن نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية ، والمفهوم عبارة عن ارتفاع الجزاء وارتفاعه يكون بنقيضه.

ولكن هذا غير صحيح ، لأن دعوى ان نقيض السالبة الكلية موجبة جزئية انما هي للمنطقيين ، وقد قيلت بلحاظ جعل ضابط عام للنقيض ، وهو لا يرتبط بشأن الأصولي والفقيه من ملاحظة ظاهر الكلام وما يدل عليه اللفظ.

وعليه ، فالتحقيق ان يقال : ان الحكم الثابت في الجزاء وان كان ثابتا بنحو الاستغراق ، إلاّ ان المعلق على الشرط تارة يكون عموم الحكم ، بمعنى ان المعلق مجموع الأحكام الثابتة في الجزاء ، وأخرى الحكم العام ، بمعنى ان المعلق كل حكم حكم. فعلى الأول : لا يستلزم انتفاء الشرط سوى انتفاء مجموع الأحكام ، فيكون المفهوم بنحو الموجبة الجزئية. وعلى الثاني : يكون المفهوم موجبة كلية لانتفاء كل حكم حكم سلبي كان ثابتا في الجزاء.

هذا بحسب مقام الثبوت.

واما بحسب مقام الإثبات : فتارة يكون الدال على العموم من الأسماء مثل : « كل ». وأخرى يكون العموم مدلولا للحرف أو سياق الكلام كالنكرة

٢٤٣

الواقعة في سياق النفي.

فعلى الأول : يكون تعليق كل من عموم الحكم أو الحكم العام ممكنا وتعيين أحدهما يتوقف على قرينة خارجية.

وعلى الثاني : يتعين تعليق الحكم العام ولا يمكن تعليق العموم لأنه مدلول الحروف وهو غير قابل للتعليق.

وعليه ، فالقضية المشهورة مفهومها موجبة كلية ، لأن العموم مفاد السياق لا الاسم ، فمفهوم قوله عليه‌السلام : « الماء إذا بلغ قدر كر لم ينجسه شيء » « الماء إذا لم يبلغ قدر كر ينجسه كل شيء ».

هذا مع ان البحث في كون المفهوم لهذه القضية موجبة كلية أو جزئية لغو ، لأنه إذا كانت جزئية ثبت تنجس الماء بجميع النجاسات لعدم القول بالفصل فلا أثر لكلية المفهوم.

وربما يقال : يكفي في تصحيح البحث ثبوت الأثر بالنسبة إلى المتنجسات ، إذ ليس هناك قول بعدم الفصل بين النجس والمتنجس ، فلو كان المفهوم كليا ظهر الأثر.

ويدفع : بان المراد بلفظ : « شيء » في الرواية ليس مطلق الشيء ، بل ما من شأنه التنجيس ، فان لم يقم دليل على ان المتنجس ينجس لم يكن المتنجس مشمولا للمنطوق فضلا عن المفهوم ، وان قام دليل على انه ينجس كفانا هذا الدليل لإثبات منجسيّته للقليل من الماء من دون احتياج إلى المفهوم. هذا تمام ما أفاده المحقق النائيني (١).

والكلام معه في امرين :

الأول : ما ذكره بالنسبة إلى قضية « الماء إذا بلغ قدر كرّ لم ينجسه شيء » ،

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢٠ ـ الطبعة الأولى.

٢٤٤

فان هذه القضية ونحوها من القضايا السالبة انما تستعمل في نفي خصوص المرتبة العليا ، ويفهم انتفاء غيرها بالأولوية ، فمثلا لو قال القائل : « هذا المحموم لا يفيده أي شيء من الدواء » ، انما ينظر في نفيه إلى المرتبة العليا من الدواء المؤثر وهكذا سائر الأمثلة العرفية.

وعليه ، فلا معنى لإيقاع البحث المزبور فيها من ان المعلق عموم الحكم أو الحكم العام ، إذ لم يتكفل الجزاء سوى نفي الحكم عن فرد واحد وهو المرتبة العليا من الافراد لا أكثر ، فلا موضوع للبحث المزبور بالمرة.

وبما ان المثال الفقهي الوحيد للبحث هو هذا المثال نستطيع ان نقول ان البحث لغو من أساسه كما لا يخفى.

الثاني : ما ذكره في دفع توهم ثبوت الثمرة للمفهوم بلحاظ المتنجس. فان المراد منه غير واضح.

فان كان مراده انه ان لم يكن دليل على منجسية المتنجس أصلا فلا يشمله المنطوق ، وان كان دليل يدل بإطلاقه على تنجيس المتنجس فهو يكفى في إثبات تنجيسه للماء القليل بلا حاجة إلى المفهوم.

ان كان مراده ذلك ـ كما قد يظهر من كلامه ـ فالإشكال فيه واضح لتصوّر شق ثالث وهو : قيام دليل على تنجيس المتنجس في الجملة بلا ان يكون له إطلاق ، فيكون مشمولا للمنطوق ، وحينئذ فان كان المفهوم موجبة كلية اقتضى منجسية المتنجس مطلقا وإلاّ فلا ، فالمفهوم ـ على هذا الاحتمال ـ يحتاج إليه في إثبات تنجيس المتنجس للماء القليل.

وان كان مراده انه إذا قام دليل على تنجيس المتنجس كان مشمولا للمنطوق ، فإذا كان المفهوم موجبة جزئية كان مفاده : ان الماء إذا لم يبلغ الكر ينجسه شيء ما من النجس والمتنجس ، وإذا ثبت تنجيس المتنجس في الجملة يثبت تنجيسه مطلقا بعدم القول بالفصل كما قيل في النجس فلا فائدة في إثبات

٢٤٥

كلية المفهوم.

إذا كان مراده ذلك ففيه : ان المفهوم إذا كان موجبة جزئية كان مقتضاه ان الماء القليل ينجسه شيء ما بنحو الإهمال ـ ولا تصريح فيه بأنه شيء من النجس وشيء من المتنجس كما لا يخفى ـ والقدر المتيقن منه تنجيس النجس في الجملة فيثبت تنجيس النجس مطلقا بعدم القول بالفصل.

اما المتنجس فهو غير متيقن فلا موضوع لعدم القول بالفصل فيه.

وجملة القول : ان البحث في كلية المفهوم وجزئيته تظهر فائدته في تنجيس المتنجس وعدمه ، فما ذكره قدس‌سره من عدم الثمرة فيه أصلا غير وجيه. فالتفت.

وقد أورد على النائيني فيما أفاده من : ان المعلق تارة يكون عموم الحكم وأخرى الحكم العام واختلاف مقام الإثبات في ذلك ، بأنه غير صحيح ولا موضوع له ، لأن المستفاد من القضية الشرطية انما هو تعليق مدلول التالي بمدلول المقدم ، ومدلول التالي في محل البحث امر واحد وهو الحكم المجعول على الطبيعة السارية ، وان كان المجعول بحسب اللب متعددا بحسب تعدد الموضوع لكنه بحسب مقام الإثبات امر واحد ، والمناط هو الوحدة والتعدد بحسب هذا المقام لا مقام اللب ، فانه لا تأثير له في كيفية استفادة المفهوم من الكلام. وعليه ، فإذا فرض وحدة الحكم إثباتا وكان هو المعلق على الشرط كان مقتضى التعليق انتفاء الحكم عن الطبيعة السارية عند انتفاء الشرط ، وهو يتحقق بانتفائه عن بعض الافراد ولا يتوقف على انتفاء الحكم عن جميع الافراد ، فلنا ان نقول ان مفهوم السالبة الكلية موجبة جزئية (١).

وفيه :

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢٠ ـ هامش رقم (٢) الطبعة الأولى.

٢٤٦

أولا : ما سيأتي في مبحث العموم والخصوص ومبحث المطلق والمقيد من : ان الاستغراق بنفسه يكون مدلول الكلام ومرادا من اللفظ اما وضعا أو بمعونة مقدمات الحكمة أو غيرهما ، لا انه امر لبّي فقط ، وهذا واضح لا غبار عليه والعجيب منه كيف التزم بخلافه.

وثانيا : انه لا يتصور معنى صحيح للطبيعة السارية في قبال مطلق الوجودات والوجود الخاصّ وصرف الوجود ، فان الإهمال في مقام الثبوت ممتنع كما قرر مرارا وتكرارا.

وبالجملة فما ذكره السيد الخوئي لا محصل له.

التنبيه الثالث : إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء. ويمثل له بقوله عليه‌السلام : « إذا خفي الأذان فقصر » و « إذا خفي الجدران فقصر » فبناء على الالتزام بالمفهوم يقع التعارض بين مفهوم كل منهما ومنطوق الأخرى ، لأن مفهوم كل منهما ينفى وجوب القصر بانتفاء الشرط المذكور في المنطوق ، ومنطوق الأخرى يثبت وجوبه بتحقق الشرط الآخر المذكور فيه.

وقد ذكر في رفع التعارض وجوه. عدّها في الكفاية خمسة :

الأول : الالتزام بتقييد مفهوم كل منهما بمنطوق الأخرى ، إذ النسبة بينهما العموم والخصوص المطلق (١).

الثاني : الالتزام بعدم المفهوم في كل منهما ، فلا تدل كل جملة الا على ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط ، وهو لا ينافي ثبوته عند ثبوت الآخر.

الثالث : الالتزام بتقييد إطلاق الشرط المقابل للعطف بالواو في كل منهما بالآخر ، فيكون الشرط هو المركب منهما ، لا كل منهما مستقلا.

الرابع : الالتزام بان المؤثر هو الجامع بين الشرطين لا كل منهما بعنوانه ،

__________________

(١) بل النسبة هي العموم من وجه ، لأن المنطوق يشمل صورة المفهوم للآخر وعدمه ، ولعل هذا هو الوجه في الاحتمال الثالث. ( منه عفي عنه ).

٢٤٧

بل كل منهما بما هو فرد الجامع.

الخامس : رفع اليد عن المفهوم في أحدهما.

وقد رجح صاحب الكفاية الوجه الثاني ، بلحاظ النّظر العرفي ، فذهب إلى ان العرف يساعد عليه. ورجح الرابع بحسب النّظر الدّقي العقلي ، فذهب إلى ان العقل يعينه لاستحالة تأثير المتعدد بما هو متعدد في واحد ، فوحدة الجزاء تكشف عن وحدة المؤثر ، وهو يقتضي ان يكون المؤثر هو الجامع بين الشرطين لا كلا منهما بنفسه لامتناعه عقلا بمقتضى قانون السنخية بين العلة والمعلول (١).

والتحقيق ان يقال : ان طريق الجمع بين الدليلين يختلف بحسب اختلاف طريق إثبات المفهوم.

فان التزمنا بالمفهوم من طريق الإطلاق المقامي ، وكون المتكلم في مقام بيان ما هو الشرط ، تعين رفع اليد عن المفهوم في كل منهما ، لأن ذكر الشرط الآخر يكشف عن عدم كونه في مقام بيان ما هو الشرط ، فينتفي الإطلاق الّذي هو مستند المفهوم فلا يثبت المفهوم.

وهكذا الحال لو التزمنا بالمفهوم من طريق كون الجملة الشرطية ظاهرة في تعليق الجزاء على الشرط الملازم للانحصار ، لأن تعدد الشرط يكشف عن عدم استعمال الأداة أو الهيئة في التعليق لمنافاته لتعدد الشرط.

وان التزمنا بالمفهوم من طريق الإطلاق اللفظي بأحد الوجوه الثلاثة المتقدمة ، تعين رفع اليد عن إطلاق المفهوم لا نفس المفهوم ، لأن تعدد الشرط لا يخلّ بانعقاد الإطلاق لفظا وانما يكشف عن انه غير مطابق للمراد الجدّي ، فيقيد إطلاق كل منهما المقتضي للمفهوم بالشرط الآخر ، ويبقى على حاله في غير مورده كسائر موارد المطلق والمقيد.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٤٨

ومن هنا ظهر انه لا وجه لما ذكره صاحب الكفاية ـ بقول مطلق ـ من ان العرف يساعد على الوجه الثاني ، إذ عرفت انه متعين على تقدير دون آخر.

واما الوجه الثالث : فلا طريق إلى إثباته أصلا ، ولأجل وضوح بطلانه لم يتعرض صاحب الكفاية لنفيه.

وذلك : لأن قواعد المعارضة والجمع الدلالي بين المتعارضين هو التصرف في مركز المعارضة ومحطها من الظهور. ومن الواضح ان التعارض بين مفهوم كل منهما ومنطوق الآخر اما ظهور كل منهما في الاستقلال فليس محط المعارضة ، وان كان رفع اليد عنه موجبا لارتفاع المعارضة ، لكن لا تنتهي النوبة إليه ما دام يمكن الجمع والتصرف في مورد التعارض ، ولذا لا يتوهم أحد مع إمكان الجمع الدلالي التصرف في أحد المتعارضين من حيث الجهة أو السند مع انه يرفع التعارض. فالجمع بالوجه الثالث جمع تبرعي.

وبذلك يظهر لك ما في كلام المحقق النائيني قدس‌سره في المقام من الإشكال فانه قدس‌سره ذكر ـ بعد بيان موضوع الكلام ـ ان الأمر يدور بين رفع اليد عن إطلاق الشرط المقابل للعطف بأو وتقييده ورفع اليد عن إطلاقه المقابل للعطف بالواو ، وحيث لا معين لأحد التقييدين كان مقتضى العلم الإجمالي سقوط كل من الإطلاقين عن الحجية ، ونتيجة ذلك عدم ترتب الجزاء الا عند حصول كلا الشرطين ، لعدم العلم بترتبه بحصول أحدهما والأصل ينفيه ، فنتيجة الأصل العملي هو تقييد الإطلاق المقابل للعطف بالواو وكون الشرط هو كلا الأمرين (١).

ووجه الإشكال فيه : ما عرفت من ان الجمع الدلالي انما يكون في مورد التعارض فلا يدور الأمر بين الإطلاقين ، بل يتعين التصرف بالإطلاق المقابل

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٤٩

للعطف بـ « أو ».

وبتعبير آخر : إطلاق كل من الشرطين المقتضي لاستقلالهما في التأثير ليس مورد التعارض ، بل هو منشأ التعارض كالدليل الدال على حجية الخبر ، وهو لا يسوغ التصرف فيه مع إمكان الجمع في مورد المعارضة.

واما الوجه الرابع : فقد عرفت توجيهه في الكفاية. ويرد عليه :

أولا : انه انما يتم إذا كان المسبب واحدا شخصيا ، اما الواحد النوعيّ فلا مانع من تأثير المتعدد فيه ، فيجوز تأثير شرط في مسبب وتأثير غيره في فرد آخر كما نرى ذلك بالوجدان ، فان النار تؤثر في الحرارة كما ان الكهرباء يؤثر فيها.

وبالجملة : فبرهان السنخية انما يتم في الواحد الشخصي لا النوعيّ.

وثانيا : انه انما يجري في الأسباب والمسببات التكوينية التي يكون تأثيرها واقعيا ناشئا عن ربط خاص بين العلة والمعلول ـ وإلاّ لزم تأثير كل شيء في كل شيء ـ ، لا الأسباب الشرعية التي هي في الحقيقة تنتزع عن ترتب تحقق شيء على وجود آخر بلا ان يكون للسبب تأثير في المسبب نحو تأثير العلة في المعلول. فلا مانع من اعتبار شيء واحد مرتبا على أحد شيئين.

واما الوجه الخامس : فهو لا يرفع التنافي ، إذ التنافي بين منطوق كل منهما ومفهوم الآخر ، فمع رفع اليد عن مفهوم أحدهما يبقى التنافي بين منطوقه ومفهوم الآخر على حاله. وقد ذكر المحقق الأصفهانيّ انه ضرب عليه خط المحو في النسخ المصححة (١) ، ولعل الوجه فيه ما عرفت.

نعم ، لو حمل أحدهما على المعرفية لا على التأثير بنفسه وعنوانه ارتفع التنافي ، ولكنه يعيّن طرح أحد الدليلين منطوقا ومفهوما كما لا يخفى ، وهو مما يحتاج إلى دليل خاص ، ولعله إلى هذا المعنى نظر صاحب الكفاية.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٢٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٥٠

والمتحصل : ان المتعين في طريق رفع التنافي ما عرفت دون غيره.

يبقى الكلام في بيان مقصود صاحب الكفاية مما ذكره من انه لا بد من المصير إلى ان الشرط في الحقيقة هو المشترك بين الشرطين بعد البناء على رفع اليد عن المفهوم وبقاء إطلاق الشرط في كل منهما على حاله (١). فقد ذكر لها المحقق الأصفهاني معنيين ، واستشكل في كل منهما (٢).

والّذي يبدو لنا ان معناها هو : ان الالتزام بكون الشرط هو الجامع يتوقف على امرين :

أحدهما : رفع اليد عن إطلاق المفهوم في كل منهما لأن البناء على بقاء إطلاق المفهوم على حاله في كل منهما يتنافى مع منطوق كل منهما الدال على ثبوت الجزاء بثبوت الشرط ، ولا يمكن الالتزام بهما معا.

ومن الواضح ان شرطية الجامع فرع ثبوت الجزاء عند ثبوت كل من الشرطين ، وهو لا يتحقق إلاّ برفع اليد عن المفهوم.

ثانيهما : الالتزام بشرطية كل منهما بنحو الاستقلال ، إذ لو كان الشرط هو المركب منهما وكان مجموع الأمرين لم يكن معنى لكون الشرط هو الجامع بينهما كما لا يخفى جدا.

وهذا المعنى وان استشكل فيه المحقق الأصفهاني ، لكن لا يهمنا التعرض إليه ودفعه وانما المقصود الإشارة إلى معنى العبارة فالتفت.

التنبيه الرابع : في البحث عن التداخل فيما إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء.

وموضوع الكلام : ما إذا فرض ظهور الجملة في تأثير الشرط استقلالا وترتب الجزاء عليه عند حصوله.

وقد اختلف صاحب الكفاية والمحقق النائيني « قدس‌سره » في نحو تحرير

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٢٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٥١

البحث. فقال صاحب الكفاية في مقام تحريره : « إذا تعدد الشرط واتحد الجزاء فلا إشكال على الوجه الثالث ـ ويقصد به الالتزام بان المؤثر مجموع الأمرين ـ واما على سائر الوجوه فهل اللازم لزوم الإتيان بالجزاء متعددا حسب تعدد الشروط أو يتداخل ويكتفي بإتيانه واحدة؟ » (١). فقد أخذ رحمه‌الله موضوع الكلام لزوم الإتيان بالجزاء متعددا أولا ، فالقول بتأكد الحكم بتعدد الشرط من أقوال التداخل بنظره قدس‌سره ، بل صرح بذلك في عدّة منها (٢). وقد حرّره المحقق النائيني بنحو جعل موضوع الكلام تعدد الأثر في صورة تعدد الشرط ووحدته. وعليه فيكون القول بالتأكد قولا بعدم التداخل لتعدد الأثر (٣).

وعلى كل حال فالامر سهل في هذا الأمر ، إذ كون القول بالتأكد من التداخل أو غيره لا يؤثر في دعواها وما هو أثرها. وانما يقع الكلام في ما هو المهم من التداخل وعدمه. والكلام في مقامين :

المقام الأول : في تداخل الأسباب ويقصد به ان مقتضى القاعدة في مورد تعدد الشرط هل هو تعدد الجزاء أو عدم تعدده؟.

المقام الثاني : في تداخل المسبّبات ويقصد به انه لو ثبت تعدد الجزاء فهل مقتضى القاعدة تحقق امتثال الجميع ـ مع الاشتراك في الاسم ـ بواحد أو لا يتحقق إلاّ بالإتيان بالمتعلق بعدد افراد الحكم؟.

ولم يتعرض صاحب الكفاية إلى هذا التفصيل بل خلط في بحثه كلا المقامين.

اما تداخل الأسباب : فقد اختار صاحب الكفاية عدمه ولزوم الإتيان بالجزاء متعددا.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٥٢

وقد وجهه : ـ بعد ما بين توجيه القول بالتداخل بوجوه ثلاثة حكم بأنها خلاف الظاهر ولا دليل على أحدها ـ بان ظهور الجملة الشرطية في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط يقتضي تعدد الجزاء بتعدد الشرط ، إذ وحدته تنافي ظهورها في الحدوث عند الحدوث ، لأن وحدة الجزاء تكشف عن عدم ذلك. كما ان ظهور الجزاء في وحدة المتعلق يقتضي وحدة الحكم عند تعدد الشرط لاستحالة تعلق الحكمين بطبيعة واحدة لاستلزامه اجتماع المثلين وهو محال ، كاجتماع الضدين.

وبالجملة : فالقضية الشرطية تشتمل على ظهورين :

أحدهما : يقتضي تعدد الحكم في الجزاء.

ثانيهما : يقتضي وحدته ، لكن ما يقتضي الوحدة ظهور إطلاقي وهو إطلاق المتعلق وسرايته لأي فرد ولو كان الفرد الّذي يقع امتثالا للحكم الآخر. وبما انه معلق على عدم البيان ، وكان ظهور القضية في الحدوث عند الحدوث صالحا لأن يكون بيانا لما هو المراد من المطلق ـ لأنه ظهور وضعي غير معلق على شيء ـ ، لم ينعقد للمطلق ظهور في الإطلاق بواسطة الظهور الآخر الوضعي ، بل كان الظهور في الحدوث عند الحدوث كاشفا عن كون الحكم متعلقا بفرد آخر غير المطلوب بالحكم الآخر ، فيكون حاكما علي الظهور الإطلاقي ورافعا لموضوعه.

وبذلك ذكر ان الالتزام بعدم التداخل لا يستلزم تصرفا في الظاهر ، بل هو مقتضى الالتزام بالظاهر بخلاف القول بالتداخل (١).

وقد وافق المحقق النائيني رحمه‌الله صاحب الكفاية في اختيار عدم التداخل ، لكن خالفه بالدليل عليه. فقد قرّب رحمه‌الله دعواه بنحو آخر.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٢ ـ ٢٠٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥٣

فذكر أولا : ان القضية الشرطية ترجع إلى قضية حقيقة حملية موضوعها الشرط ومحمولها الجزاء ، كما ان القضية الحقيقة ترجع إلى قضية شرطية مقدمها الموضوع وتاليها المحمول ، فهما حقيقة قضية واحدة. وعليه فكما ان الحكم في القضية الحملية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه كذلك يكون الانحلال في القضية الشرطية فيتعدد الحكم بتعدد افراد الشرط ووجوداته ، واما تعدده بتعدد الشرط ماهية فهو يستفاد من ظهور إطلاق القضية في الاستقلال.

وبعد ذلك ذكر ان الطلب المتعلق بالماهية لا يقتضي إلاّ إيجاد متعلقه خارجا ونقض عدمه المطلق ، وبما ان نقض العدم المطلق يصدق على أول وجود من الطبيعة كان مجزيا عقلا.

واما كون متعلق الطلب صرف الوجود ، فليس هو مدلولا لفظيا لصيغة الأمر لا مادة ولا هيئة ، إذ المادة لم توضع الا إلى الماهية ، والهيئة لا تدل الا على طلب إيجادها ، وهو يصدق قهرا على أول الوجود ، وذلك لا يقضي كون مطلوبية صرف الوجود مدلول الكلام.

وعليه ، فإذا كان مقتضى الطلب إيجاد الطبيعة ونقض عدمها ، فإذا تعلق طلبان بماهية كان مقتضى كل منهما إيجاد ناقض للعدم ، فمقتضى الطلبين إيجاد ناقضين للعدم ، نظير ما إذا تعلقت الإرادة التكوينية بشيء واحد مرتين ، فان مقتضاها تحقق وجودين منه.

واما وحدة الطلب وتعدده ، فهو مما لا يتكفله الطلب المتعلق بالمادة ، بل هو ينتج عن عدم ما يقتضي التعدد لا عن ظهور اللفظ في الوحدة ، فإذا فرض ظهور الجملة في الانحلال وتعدد الطلب كان هذا الظهور مقتضيا للتعدد فيرتفع موضوع وحدة الطلب ، وهو عدم المقتضي للتعدد ، ولو سلم ظهور الجزاء في وحدة الطلب ، فهو ناتج عن عدم المقتضي للتعدد ، وبما ان ظهور الجملة الشرطية في التعدد لفظي كان حاكما على ظهور الجزاء في الوحدة لرفعه موضوعه وهو عدم

٢٥٤

المقتضي للتعدد.

هذا خلاصة ما أفاده قدس‌سره مما يرتبط بما نحن بصدده (١).

ولكنه غير خال عن المناقشات من جهات عديدة :

الأولى : ما ذكره من رجوع القضية الشرطية إلى قضية حملية حقيقية.

فانه لا يرتبط بتحقيق عدم التداخل ، وانما هو بيان لصغرى البحث ، وهي صورة تعدد الشرط ، فجعله من مقدمات تحقيق البحث لا يخلو عن مسامحة. هذا مع ما في نفس البيان من الإشكال كما سيأتي توضيحه إن شاء الله تعالى.

الثانية : ما ذكره من ان مقتضى الطلب إيجاد متعلقه خارجا ونقض عدمه المطلق.

فانه يرد عليه : بان الإطلاق الوارد في التعبير اما ان يكون قيد العدم ، فيكون مقتضى الطلب نقض العدم المطلق ، فمتعلق النقض العدم المطلق ، واما ان يكون قيد الوجود ، فيكون مقتضى الطلب الإيجاد المطلق الناقض للعدم.

فان كان قيد العدم ، فالمقصود من العدم المطلق ان كان جميع الاعدام ، فالوجود المطلوب لا ينقضها ، لأن كل وجود نقيض عدمه البديل له لا غير ، وان كان استمرار العدم ، فهو يرجع إلى صرف الوجود الّذي نفي اقتضاء الطلب له. هذا مع ان مطلوبية صرف الوجود من الممكن ان تثبت بلحاظ ان متعلق الغرض يتحقق به ، فيكون صرف الوجود فقط محبوبا أو مبغوضا ، فلو سلمت إثباتا فهي بلحاظ وجود قرينة عقلية خاصة أو عامة ونحوها على ذلك ، لا من جهة ان نفس الطلب يقتضي ذلك كما هو لازم كلامه قدس‌سره فنفس الطلب لا يقتضي شيئا من ذلك أصلا.

وان كان قيد الوجود بمعنى ان مقتضى الطلب هو وجود الطبيعة المطلق

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٥٥

غير المقيد بالوحدة والتعدد ، فلازمه عدم تحقق الامتثال بواحد ، إذ كل ما يتصور من الافراد يكون محققا للمأمور به ومصداقا له ، ويصدق عليه انه وجود الطبيعة ، فيكون مطلوبا ولا يتحقق الامتثال بدونه.

الثالثة : ما ذكره من ان تعدد الطلب يقتضي إيجاد ناقضين للعدم.

فانه أول الكلام ، ومما يحتاج إلى دليل ، إذ ظاهر الجملة وحدة المتعلق ، فما هو الدليل على إرادة إيجاد ناقضين لا على كون التعدد لتأكيد الطلب؟. فلا ظهور لتعدد الطلب في نفسه في ذلك.

الرابعة : ما يظهر من كلامه من ان متعلق الطلب نفس الماهية والإيجاد انما يكون من مقتضيات الطلب لا أنه مأخوذ في مرحلة سابقة عليه.

فانه يرد عليه : ما مرّ في مبحث تعلق الأمر بالطبائع من ان الماهية بما هي غير متعلقة للطلب ، بل أخذ وجودها في متعلقه ، فراجع.

الخامسة : ما يظهر من كلامه من عدم أخذ صرف الوجود في متعلق الطلب وانما هو أمر قهري.

فانه يرد عليه : ان متعلق الطلب يمتنع ان يكون هو الوجود المطلق بلا تعيين نحو خاص من أنحائه لامتناع الإهمال في مقام الثبوت. فلا بد اما ان يكون المطلوب جميع الوجودات أو مجموعها أو صرف الوجود بمعناها الأصولي ، وهو الناقض للعدم المستمر المنطبق على أول الوجود.

وقد ثبت ان المأخوذ في متعلقات الأوامر ليس الجميع ولا المجموع فيتعين ان يكون صرف الوجود.

السادسة : ما يظهر من كلامه من تشكيل المعارضة بين ظهور الجملة في تعدد الطلب وظهور الطلب في الجزاء في الوحدة ، وترجيحه الظهور الأول لارتفاع موضوع الثاني به.

فانه عجيب منه قدس‌سره ، إذ منشأ توهم التداخل هو ظهور الكلام

٢٥٦

في وحدة متعلق الحكمين المانع من تعددهما ، لاستحالة اجتماع المثلين ، كما قرره قدس‌سره في صدر البحث ، فالمعارضة بين ظهور الجملتين في تعدد الطلب وظهور الكلام في وحدة المتعلق المنافي لتعدد الطلب.

ولم يتوهم متوهم ان طرف المعارضة هو ظهور الجزاء في وحدة الطلب ، كي يدفع : بأنه ناتج عن عدم المقتضي للتعدد ، والمفروض انه موجود فيما نحن فيه ، لظهور الجملة في الانحلال وتعدد الطلب ، إذ لا وجه لتوهم ان وجود طلب ينافى وجود غيره. فما أفاده غريب جدا ولا نعلم له وجها وجيها.

اذن فما ذكره في وجه عدم التداخل لا يمكننا الالتزام به.

فالوجه المتجه هو ما أفاده صاحب الكفاية وقد مر ذكره.

وعليه ، فالحق عدم تداخل الأسباب ، وكون تعددها مقتضيا لتعدد المسبب. وينبغي التنبيه على أمور :

الأمر الأول : ذكر صاحب الكفاية في آخر كلامه : ان بحث التداخل وعدمه انما يتأتى في المورد القابل للتعدد نظير الوضوء والصلاة وغيرهما. اما المورد غير القابل للتعدد فلا يجري فيه بحث التداخل وعدمه ، بل لا إشكال في التداخل ، نظير القتل فانه إذا اجتمع سببان للقتل لا يتعدد الحكم لعدم قابلية متعلقه للتعدد كما لا يخفى (١).

ولكن المحقق النائيني ذهب إلى دخول صورة منه في محل الكلام ببيان :

ان ما لا يقبل التعدد ..

تارة : يكون الحكم فيه قابلا للتقييد نظير القتل المسبب وجوبه عن حق الناس ، كالواجب لأجل القصاص ، فانه وان لم يكن متعددا خارجا لكن وجوبه مقيد بكل واحد من السببين ، فلو ارتفع أحد السببين ـ كما لو عفا أولياء أحد

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥٧

المقتولين ـ يبقى الوجوب على حاله لثبوت السبب الآخر ونظير الخيار المسبب عن امرين ، فلو سقط أحدهما عن السببية بقي الآخر مؤثرا.

وأخرى : لا يكون الحكم فيه قابلا للتقييد ، كوجوب القتل الناشئ عن غير حق الناس كالارتداد ، إذ حكم الله وحقه لا يمكن العفو عنه.

فالتزم قدس‌سره بدخول النحو الأول في محل الكلام ، وانه بناء على عدم التداخل يتقيد الجزاء بكل واحد من السببين ، فيؤثر أحدهما عند ارتفاع الآخر (١).

والحق ان ما أفاده غير وجيه : وذلك ، لأن قياس باب وجوب القتل على باب الخيار قياس مع الفارق ، إذ لا محذور في تعدد جعل حق الخيار ـ بعد كونه امرا اعتباريا خفيف المئونة ـ سوى انه لغو محض ، إذ الأثر يترتب على الخيار المجعول أوّلا ، فيتفصّى عن إشكال اللغوية بان الأثر للتعدد موجود ، وهو ما إذا ارتفع أحد السببين للخيار بإسقاط أو معارضة ، فانه بناء على التعدد يبقى حق الخيار ثابتا لسببية السبب الآخر. وهذا المقدار من الأثر يكفي في تصحيح جعل الخيار متعددا.

وليس الأمر في باب الأحكام التكليفية ذلك ، إذ محذور تعدد الحكمين هو اجتماع المثلين ، وهو مما لا يرتفع بالتقيد ، كما لا يخفى.

اذن فما اختاره صاحب الكفاية هو المتجه.

الأمر الثاني : قد عرفت ان الحق عدم التداخل في صورة تعدد الشرط ، وبما ان من الأمثلة المهمة لهذا البحث مسألة الوضوء وتعدد أسبابه ، فقد وقع الكلام في بيان الوجه للتداخل في باب الوضوء وسبب خروجه عن مقتضى القاعدة.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٥٨

والّذي ذكره المحقق النائيني في المقام : ان سبب الوضوء هو الحدث ، وهو غير قابل للتعدد فمحققاته كثيرة كالبول والنوم والتغوط ، لكن ذلك لا يستلزم تعدد الحدث ، إذ لا معنى للحدث بعد الحدث ، فيكون المؤثر في تحقق الحدث من أسبابه هو أول وجود منها. فالتداخل في باب الوضوء منشؤه وحدة الشرط لعدم قابليته للتعدد وان تعددت أسبابه (١). وقد وافقه الفقيه الهمداني (٢).

أقول : ان كانت دعوى عدم قابلية الحدث للتعدد ، لأجل انه مقتضى حكم العقل بذلك ـ كما هو ظاهر كلامه ـ ، فاندفاعها واضح جدا ، لأن الحدث من الأمور الاعتبارية فلا محذور في تعدده ، كما قيل به في باب الحدث الأكبر. وان كان لأجل استفادته من النصوص والأدلة ، فهو امر لا نسلم به ، إذ لا ظهور للروايات في نفي قابلية الحدث للتعدد.

فالتحقيق ان يقال : ان الاحتمالات في المجعول في باب الوضوء التي يختلف الأثر فيما نحن فيه باختلافها ثلاثة :

الأول : كون نفس هذه الأمور كالنوم والبول وغيرهما سببا لوجوب الوضوء ، وليس هناك سوى الوضوء ، وهو شرط الأعمال.

الثاني : ان الوضوء محقق للطهارة اما لكونهما من قبيل السبب والمسبب أو العنوان والمعنون. وكون هذه الأمور نواقض للطهارة وروافع لها ، فالمجعول هو الطهارة دون الحدث.

الثالث : كون هذه الأمور سببا لتحقق الحدث وهو يرتفع بالوضوء ، فليس المجعول سوى الحدث. اما الطهارة في عبارة عن امر عدمي وهو عدم الحدث.

والّذي يظهر من الروايات هو الاحتمال الثاني ، لظهور وجود امر مجعول

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٣٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الهمداني الفقيه حاج آقا رضا. مصباح الفقيه ـ ١٢٥ ـ كتاب الطهارة ـ الطبعة الأولى.

٢٥٩

مستمر ، وهو لا يمكن ان يكون الوضوء لأنه فعل متصرم. كما انه ليس للتعبير بسببية هذه الأمور للحدث عين ولا أثر في الروايات ، وانما هو وارد في لسان الفقهاء ، بل يظهر هو كون هذه الأمور نواقض للطهارة التي يعبر عنها بالوضوء في بعض الروايات.

وجملة القول : ان طاهر الأدلة سببية هذه الأمور لنقض الطهارة لا لتحقق الحدث.

وعليه ، فيظهر لنا وجه التداخل بوضوح ، إذ النقض لا يقبل التعدد ، فإذا حصل أول سبب كالنوم انتقضت الطهارة ، فيكون السبب الآخر بلا أثر لامتناع نقض المنقوض ، وهكذا الحال لو وجد فرد من نوع ثم وجد غيره منه كفر دين من البول ، فالوضوء انما يلزم من باب تحصيل الطهارة لانتقاضها بسبب من أسباب النقض ، والانتقاض غير قابل للتعدّد ، واما الأمثلة المشهورة من قولهم : « إذا بلت فتوضأ » ونحوه فلم ترد في لسان الشارع أصلا.

وهذا الوجه مما لا نعلم أحدا ذكره قبل الحين والله العالم.

الأمر الثالث : قد عرفت ان موضوع البحث صورة تعدد الشرط.

وقد ذكر المحقق النائيني رحمه‌الله في بيان الوجه في تعدد الشرط من جنس واحد : بان القضية الشرطية ترجع إلى قضية حقيقية ، فكما ان الحكم في القضية الحقيقية ينحل بانحلال موضوعه كذلك الحال في القضية الشرطية ، فكل فرد من افراد الشرط المأخوذ في الكلام يكون موضوعا للحكم (١).

وما أفاده قدس‌سره لا يخلو عن مناقشة ، وذلك لأنه لو سلم ما ذكره من رجوع القضية الشرطية إلى قضية حقيقية ، فهو لا يلازم ما ذكره ، إذ ظهور القضية الحملية في الانحلال لم يكن لقرينة عامة بحيث تكون ملازمة للانحلال

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٢٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٠