منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

الأول : كون الناقل ـ في مورد التمليك ـ مالكا للعين أو ما بحكمه بحيث يكون امر النقل بيده.

الثاني : ان تكون له السلطنة الفعلية الثابتة بقاعدة الناس مسلطون على أموالهم ، فلا تصح من المحجور عليه لانتفاء السلطنة.

الثالث : ان يكون إيجاده بسبب خاص.

والنهي المتعلق بالمسبب كالنهي عن بيع المصحف للكافر يوجب اختلال الشرط الثاني من شروط الصحة ، لأن النهي يكون معجّزا مولويا للمكلف ، رافعا لسلطنته على الفعل والترك ، فتبطل المعاملة لأجل ذلك ، اما ولاية النقل وإيجاده بسبب خاص فلا يتنافى مع النهي (١).

وهذا الوجه غير سديد : إذ الثابت بقاعدة السلطنة محل خلاف ، وعلى أي تقدير فالوجه غير تام بيان ذلك : انه اختلف في مفاد قاعدة السلطنة إلى قولين :

أحدهما : انها تتكفل جعل السلطنة وضعا ، واعتبار حق التصرف فيه.

ثانيهما : انها تتكفل بيان ثبوت السلطنة التكوينية على النقل ، بداعي إفادة لازمة ، وهو إمضاء المعاملات واعتبار ترتب الأثر عليها ، فانه إذا فرض إمضاء المعاملة وجعل الملكية ـ مثلا ـ عند معاملة البيع الواقعة ، كان الشخص قادرا تكوينا على النقل.

وهذا الوجه أفاده المحقق الأصفهاني ، وهو الوجه المتين ، إذ لا وجه لجعل السلطنة بعد فرض تحققها تكوينا بجعل الأثر على المعاملة (٢).

وبالجملة : المقصود بجملة : « الناس مسلطون على أموالهم » (٣) على هذا

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤٠٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. حاشية المكاسب ١ ـ ٢٦ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المجلسي العلامة محمد باقر. بحار الأنوار ١ ـ ١٥٤. الطبعة الحديثة.

٢٠١

الرّأي الكناية عن إمضاء المعاملة ، إذ السلطنة التكوينية تلازم الإمضاء.

إذا عرفت ذلك : فلو كان المقصود بقاعدة السلطنة هو الثاني وانه ليس لدينا اعتبار للسلطنة ، بل ليس هناك سوى جعل الأثر وإمضاء المعاملة وإنقاذها ، فلا يتم الوجه المزبور ، إذ لا ينافي النهي السلطنة التكوينية إلاّ إذا كان ملازما لفساد المعاملة وعدم ترتب الأثر عليها ، وهذا هو محل البحث ومورد النزاع ، فلا بد من سلوك طريق آخر لإثبات الفساد غير هذا الوجه كما لا يخفى جدا.

وان كان المقصود بها المعنى الأول. فمن الواضح ان لدينا قدرتين على التصرف قدرة تشريعية بمعنى جواز التصرف تكليفا ، وقدرة وضعية بمعنى قابلية التصرف المعتبرة من الشارع ، والتحريم انما يرفع القدرة الأولى ، اما القدرة الوضعيّة فارتفاعها بالتحريم أول الكلام وهو عين الدعوى.

وعليه ، فالمقصود بالقاعدة اما جعل القدرة الوضعيّة أو جعل الأعم من القدرة الوضعيّة والتشريعية.

فعلى الأول : يحتاج إثبات كون التحريم مخصصا للقاعدة ورافعا للقدرة المجعولة بها إلى دليل ، ولا وجه لمجرد دعوى ذلك والحال انه محل خلاف.

وعلى الثاني : كان التحريم رافعا للقدرة التشريعية فيخصص القاعدة إلاّ ان محل الكلام رفعه للقدرة الوضعيّة ، فلا ينفع ارتفاع القدرة الشرعية به. وما ذكر لا يتكفل سوى دعوى رفعه لها من دون أي وجه.

وبالجملة : الوجه المزبور لا يعد وكونه دعوى ثبوت أحد القولين في محل النزاع.

ومثل ذلك يعد مصادرة وهو مما لا يتناسب مع المقام العلمي للمحقق النائيني قدس‌سره. فالتفت وتدبر.

والمتحصل : انه لم يقم دليل على ملازمة التحريم للفساد.

واما القول الثاني فهو المحكي عن أبي حنيفة والشيباني.

٢٠٢

والوجه فيه : ان النهي عن الشيء لا بد ان يفرض في مورد القدرة على الشيء لامتناع تعلق التكليف بغير المقدور ، وإذا فرض فساد المنهي عنه لزم عدم القدرة على تحققه بالنهي ، وهو يتنافى مع تعلق النهي به ، فلا بد من فرض وقوعه كي يصح تعلق النهي به.

ولا يخفى ان هذا الوجه لا اختصاص له بالنهي عن المعاملة ، بل هو يتأتى في صورة النهي عن العبادة.

ولأجل ذلك أورد عليه صاحب الكفاية بأنه غير تام في مورد النهي عن العبادة لما تقدم من ان المقصود هو تعلق النهي بذات العمل الّذي لو امر به كان أمره عباديا أو تعلقه بما يكون عبادة ذاتا ، ومن الواضح ان مثل ذلك مقدور ولو كان فاسدا ، اما النهي عن المعاملة ، فان كان عن ذات السبب لم يستلزم الصحة ، للقدرة على السبب مع عدم ترتب الأثر عليه. واما إذا كان عن المسبب أو التسبب بالسبب إليه كان الوجه المذكور تاما ، إذ مع عدم تحقق الأثر لا يكون المسبب والتسبب مقدورا كي يكون قابلا لورود الحرمة عليه وتعلق النهي به.

وعلى هذا فصاحب الكفاية وافق القائل بما إذا تعلق النهي بالمسبب أو التسبب. وخالفه في غير ذلك (١). وهو على حق في مخالفته. لكنه في موافقته لا نراه محقا.

بيان ذلك : ان المسالك في باب الإنشاء والمعاملات مختلفة : فمنهم من يرى تعدد الاعتبار في باب المعاملة ، فهناك اعتبار شخصي للملكية ـ مثلا ـ واعتبار عقلائي واعتبار شرعي ، وهو مختار السيد الطباطبائي في حاشيته على المكاسب (٢).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الطباطبائي الفقيه السيد كاظم. حاشية المكاسب ـ ٦٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٣

ومنهم من يرى ان المنشئ يقصد إيجاد المنشأ بوجود إنشائي يكون موضوعا للآثار العقلائية والشرعية ، فللملكية وجود إنشائي غير وجودها في مرحلة الاعتبار العقلائي. وهذا الرّأي لصاحب الكفاية وصرّح به وأكده في الفوائد (١).

وهذا الرّأي وان لم يلتزم به القوم لكن صرحوا في بعض الموارد بلوازمه ، وذلك كما قيل في ردّ الإشكال على صحة إمضاء المعاملة الفضولية ، بان إمضاء المعدوم لا وجه له. فقيل في ردّه : بان للمعاملة نحو وجود مستمر ، كما قيل : بان مراد الشيخ في تعريف البيع بإنشاء التمليك هو التمليك الإنشائيّ ، لعدم سلامة الأوّل من كثير من الإيرادات.

ومنهم من يرى ان إنشاء الملكية ليس إلاّ التسبب إلى اعتبارها شرعا أو عقلائيا ، فليس للملكية سوى وجود اعتباري واحد. وهو الرّأي المشهور في باب الإنشاء.

ولا يخفى ان الوجه المتقدم لإثبات ملازمة النهي للصحة لا يتم بناء على الرّأي الأول ، لأن ما هو فعل المكلف وما هو متعلق الحرمة هو لاعتبار الشخصي ، اما غيره فليس من أفعاله كي يتعلق به التحريم.

ومن الواضح انه مقدور للمكلف ولو لم يترتب عليه الاعتبار الشرعي ، فيصح تعلق التحريم به مع عدم استلزامه لترتب الأثر شرعا. وهكذا لا يتم هذا الوجه على الرّأي الثاني ( رأي صاحب الكفاية ) ، إذ فعل المكلف هو الوجود الإنشائي وهو يتحقق سواء ثبت الأثر شرعا أو لا ، فالقدرة عليه لا تلازم الصحة.

ومما هو غريب جدا موافقة صاحب الكفاية للقائل مع التزامه بهذا الرّأي

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. فوائد الأصول ـ ٢٨٥ ـ المطبوعة ضمن الحاشية.

٢٠٤

في باب الإنشاء.

نعم هذا الوجه يتجه في بادئ النّظر على الرّأي المشهور ، إذ متعلق التحريم وهو التمليك لا يتحقق من دون اعتبار للملكية شرعا ، وليس لدينا فعل يسند إلى المكلف غير الملكية الاعتبارية بلحاظ إيجاد سببها.

والتحقيق انه غير تام. بيان ذلك : ان الشبهة المزبورة وردت لتخيل انه لا يوجد في المعاملة ، سوى السبب والمسبب بمعنى الاعتبار الشرعي ، ولكن الأمر ليس كذلك وإلاّ لزم التوقف في صدق البيع بالنسبة إلى بيع الغاصب والفضولي والمعتقد ان المال له ، وذلك لأن الاعتبار الشرعي لا يترتب على إنشاء الغاصب ولا الفضولي ولا غير المالك المتخيل ان المال ملكه ، فلو فرض ان المعاملة اسم للتسبيب إلى الاعتبار الشرعي لزم ان لا يتحقق صدق البيع في هذه الموارد لعدم تحقق المسبب.

وبما انه مما لا يتوقف أحد في صدق البيع في مثل هذه الموارد ونسبة التمليك إلى البائع فيقال باع وملك ما ليس له ، نستكشف ان هناك امرا يتحقق بالإنشاء ولو لم يثبت المنشأ في عالم الاعتبار الشرعي ، وهو يسند إلى المنشئ لأنه فعله التسببي ، وذلك الأمر هو وجود إنشائي للملكية في البيع.

وعليه ففي صورة الإنشاء هناك تمليك إنشائي غير التمليك الشرعي وهو فعل المنشئ وينسب إليه.

وبذلك يتضح انه هو متعلق التحريم وغيره من الأحكام التكليفية ، وهذا امر مقدور ولو لم يثبت الأثر شرعا ، فالحرمة لا تلازم الصحة للقدرة عليه بدون الصحة.

وهذا المعنى لا بد من الالتزام به في الإنشائيات ، وبه يندفع كثير من الإشكالات الواردة على التعريف المشهور كما أشرنا إلى بعضها ، وقد مر تحقيق ذلك في بحث الصحيح والأعم فراجع.

٢٠٥

والّذي يتحصل ان النهي كما لا يدل على الفساد لا يدل على الصحة فالمرجع إطلاق دليل المعاملة لو كان موجودا وإلاّ فالأصل. فالتفت ولاحظ والله ولي التوفيق.

٢٠٦

المفاهيم

٢٠٧

٢٠٨

المفاهيم

عرف صاحب الكفاية المفهوم بأنه حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الّذي أريد من اللفظ بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكمة ، وكان يلزمه لذلك سواء وافقه في الإيجاب والسلب وهو المعبر عنه بمفهوم الموافقة ، أو خالفه ويعبر عنه بمفهوم المخالفة. فمفهوم جملة : « ان جاءك زيد يجب إكرامه » على تقدير القول به قضية شرطية سالبة بشرطها وجزائها وهي : « ان لم يجئك زيد فلا يجب إكرامه » تستتبعها الخصوصية المؤداة بالمنطوق وهي العلية المنحصرة كما سيأتي.

وانتهى قدس‌سره إلى ان المفهوم يصح ان يقال عنه انه حكم غير مذكور لا انه حكم لغير مذكور ، إذ قد يكون الموضوع مذكورا كما في المثال السابق. ولكنه استدرك بعد ذلك بان هذه التعريفات انما تذكر لشرح الاسم فهي تعريفات لفظية لا حقيقة فالإشكال عليها بعدم النقض والطرد في غير محله.

ثم أشار إلى ان المفهوم هل هو من صفات الدلالة أو المدلول؟ واستقرب الثاني وذكر ان التعرض لذلك غير مهم في المقام.

٢٠٩

هذا ما ذكره قدس‌سره في هذا المقام (١).

وقد أوقع المحقق الأصفهاني الكلام معه في تعريفه بأنه حكم غير مذكور ، وناقشه فيه واختار بعد ذلك معنى آخر للمفهوم ، كما انه أوقع الكلام معه في كونه من صفات الدلالة والمدلول ، فذكر : ان الدلالة بالمعنى الفاعلي لا تقبل الاتصاف بالمفهوم ولا يتوهم ذلك. والدلالة بالمعنى المفعولي عين المدلول حقيقة. وعليه فالترديد في غير محله (٢).

وبما انه لا جدوى في سرد ذلك مفصلا وتمييز الحق منه عن غيره لم نتعرض إلى بيانه واقتصرنا علي مجرد الإشارة إليه ، فمن أراد الاطلاع فليراجع.

ومنه ظهر ان ما أفاده المحقق النائيني رحمه‌الله من تنويع المفهوم ، وانه تارة يكون افراديا. وأخرى يكون تركيبيا ، وإيقاع البحث في ذلك مفصلا مما لا جدوى فيه مع غض النّظر عما في بعض ما ذكره من التأمل والنّظر (٣).

والأمر الّذي نود التنبيه عليه ، هو : انك عرفت ان المفهوم حكم تستتبعه خصوصية مرادة من اللفظ كخصوصية العلية المنحصرة في الشرط المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء ، فهو حكم يلازم الخصوصية المؤداة باللفظ ، فالذي نحتاجه في البحث عن المفهوم هو إثبات هذه الخصوصية المستلزمة للمفهوم لا غير ، لأن ثبوت هذه الخصوصية يكفي في إثبات المفهوم والبناء عليه ، ولا نحتاج بعد ذلك إلى البحث عن حجيته ، إذ لما كان من لوازم الخصوصية كان الدليل الدال على ثبوتها دالا على المفهوم ، اما بالدلالة الالتزامية إذا كانت الملازمة بين المفهوم والخصوصية ملازمة بينة بالمعنى الأخص ، فيكون الدلالة على المفهوم من مصاديق الظاهر وهو حجة. واما بلحاظ ان الأمارة حجة في لوازم مؤداها العقلية.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٩٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣١٩ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤١٣ ـ الطبعة الأولى.

٢١٠

وبالجملة : ثبوت المفهوم يلازم حجية الدليل فيه اما لظهوره فيه أو لكونه حجة في لوازم مؤداها ، نظير ثبوت وجوب المقدمة بثبوت وجوب ذيها بالدليل لو قيل بالملازمة فان الملازمة عقلية.

وعليه ، فلا حاجة لإتعاب النّفس في بيان ان الدلالة على المفهوم من الدلالة الالتزامية ، كما وقع ذلك من المحقق النائيني (١).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤١٣ ـ الطبعة الأولى.

٢١١
٢١٢

مفهوم الشرط

وقع الكلام بين الاعلام في دلالة الجملة الشرطية على انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط ، والمقصود بالبحث انها هل تدل بالوضع أو بمقتضى قرينة عامة على الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء ، بحيث يحمل الكلام عليه لو لم تقم قرينة على الخلاف ، أو لا تدل على ذلك بل غاية ما تدل عليه هو الثبوت عند الثبوت؟. والخصوصية المقصودة هي دلالة الجملة على كون الشرط سببا منحصرا للجزاء ، فانه يلازم انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط وإلاّ لم يكن سببا منحصرا له.

وقد ذكر لإثبات المفهوم وجوه ذكرها في الكفاية خمسة .. أحدها يرجع إلى دعوى الوضع ، والأربعة الأخرى ترجع إلى دعوى القرينة العامة على المفهوم.

وقبل الخوض في ذلك لا بد من التعرض لأمور :

الأمر الأول : في بيان معنى التعليق والترتب واللزوم. فانه مما له نفع فيما نحن فيه وقد وقع الخلط بينها في الكلمات فنقول :

اما التعليق : فهو ربط أحد الشيئين بالآخر بنحو لا يتخلف عنه ولا يمكن تحققه بدونه ، فهو يساوق العلية المنحصرة ، إذ من الواضح ان الشيء إذا كان يوجد بسببين لا يقال انه معلق بكل منهما ، ولا يصح ان يقال علقت مجيئي

٢١٣

على مجيء زيد لو فرض تحقق المجيء منّي بدون مجيء زيد.

واما الترتيب : فهو عبارة عن حصول أحد الشيئين عند حصول الآخر بحيث يكون منشئا لتحققه.

وهو أعم من التعليق ، إذ هو لا يلازم الانحصار ، بل مع تعدد السبب يصدق ترتب المسبب على كل منهما وتفرعه عنه.

واما اللزوم : فهو عبارة عن حصول أحد الشيئين مع الآخر بنحو لا ينفك أحدهما عن الآخر.

وهو أعم من الترتب ، إذ يصدق على ملازمة العلة للمعلول والمعلول للعلة والشيئين المعلولين لثالث ، مع عدم الترتب في الأخيرين.

الأمر الثاني : في بيان ان ما تفيده الجملة الشرطية من ربط الجزاء بالتالي بنحو التعليق أو غيره ـ على الخلاف في نوع الربط ـ ، هل هو مؤدى الأداة وان مؤدى الأداة ليس إلاّ جعل تاليها موضع الفرض والتقدير ، والتعليق يستفاد من الفاء أو ترتيب الجزاء على الشرط؟. فان تحقيق ذلك ينفعنا في التمسك بالإطلاق لإثبات المفهوم كما سيتضح.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى الثاني ، فادعى ان أداة الشرط لا تفيد سوى جعل متلوها واقعا موضع الفرض والتقدير ، ويشهد ذلك الوجدان وملاحظة مرادفها بالفارسية ، فانه شاهد على ان أداة الشرط لا تتكفل سوى هذا المعنى ، فكان القائل حين يقول : « ان جاءك زيد فأكرمه » يريد : « على فرض مجيء زيد أكرمه ».

واما التعليق والترتب فهو مستفاد من تفريع التالي على المقدم والجزاء على الشرط كما تدل عليه الفاء التي هي للترتيب.

وقد ذكر ان ما اشتهر من ان « لو » حرف امتناع لامتناع لا منشأ له إلا ما ذكرنا من ان أداة الشرط تفيد جعل مدخولها موضع الفرض ، ببيان : ان

٢١٤

مدخول « لو » هو الماضي وفرض وجود شيء في الماضي لا يكون إلاّ إذا كان الواقع عدمه فلذا يكون المفروض محالا ، وحيث رتب على المحال شيء أيضا في الماضي فهو أيضا محال ، لأنه ان كان المرتب عليه علته المنحصرة فلم توجد ، وان لم تكن علته المنحصرة وكانت له علة أخرى فهي أيضا لم توجد ، ولذا رتب عدمه على عدم المفروض وجوده.

هذا ما أفاده قدس‌سره في مبحث مفهوم الشرط ، وأطال في بيانه في مبحث الواجب المشروط (١) وهو غير تام بكلا جهتيه ، أعني : ما أفاده في معنى أداة الشرط بقول مطلق ، وما أفاده في سر دلالة « لو » على الامتناع للامتناع.

اما الجهة الثانية : فقد عرفت ان منشأها وأساسها هو كون فرض شيء في الماضي كاشفا عن عدم وقوعه.

وهذا الأمر لا نلتزم به لوجهين :

الأول : النقض بما إذا كان مدخول غير « لو » من أدوات الشرط هو الماضي ، فانه لا يلتزم بأنها تفيد امتناع شيء لامتناع آخر ، كما لو قال : « ان كان زيد قد جاء أمس جاء عمرو أمس أيضا » بل لو كان الفرض والتقدير مدلولا للفظ الاسمي ، كما لو قال : « على فرض مجيء زيد أمس فقد جاء عمرو أمس » ، فانه لا يلتزم بدلالة الجملة على الامتناع للامتناع.

الثاني : الحل في الجميع ، بأنه لا ينحصر فرض شيء في الماضي بصورة عدم وقوعه ، بل كما يمكن ان يكون منشأ الفرض في الماضي عدم تحققه ، كذلك يمكن ان يكون منشؤه كون غرض المتكلم ليس إلاّ بيان الملازمة بين تحقق شيء في الماضي وتحقق آخر فيه أيضا من دون ان يتعلق غرضه ببيان تحققه. كما يمكن ان يكون جاهلا بتحققه وعدمه فيفرض تحققه في الماضي ويرتب عليه شيء آخر.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٢٠ و ١ ـ ١٧٧ ـ الطبعة الأولى.

٢١٥

واما الجهة الأولى : فلأنه لو كانت الأداة تفيد جعل مدخولها موقع الفرض والتقدير لم يكن هناك حاجة للإتيان بالفاء ، كما يشهد لذلك عدم جواز ذكر الفاء لو عبر عن الفرض والتقدير بالاسم ، فانه يقال : « على فرض وتقدير مجيء زيد يجيء عمرو » ولا يقال : « فيجيء عمرو » ، مع ان الفرض بالمعنى الاسمي انما يدخل على المفاهيم الإفرادية لا التركيبية ، فيقال : « على فرض مجيء زيد » لا « على فرض جاء زيد » ، ولو كانت الأداة بمعنى الفرض والتقدير لصح ذلك. فهذا مما يكشف عن اختلاف المعنى. فما أفاده قدس‌سره في معنى الأداة غير سديد.

واما المحقق النائيني قدس‌سره فكلامه في المبحثين مرتبك جدا ، ولا يخلو عن تهافت ، فهو يلتزم أولا بوضع الأداة للتعليق ثم يذهب إلى انها موضوعة لجعل مدخولها موضع الفرض وانها لا تدل على أكثر من اللزوم ، والترتب يستفاد من سياق الكلام وجعل التالي تاليا والمقدم مقدما. وفي مبحث الواجب المشروط ادعى انها موضوعة للربط بين الجملتين (١).

وقد عرفت ان التعليق أخص من الترتب واللزوم ، فلا يمكن الجمع بين دعوى كونها موضوعة للتعليق ودعوى انها موضوعة للزوم.

وبالجملة : لا نستطيع اسناد رأي خاص له حتى نرتضيه أو ندفعه.

فالذي يمكن ان ندعيه في معناها هو : انها ظاهرة في إفادة ترتب الجزاء على الشرط ومعلوليته له وتفرعه عليه ثبوتا.

اما دعوى : انها موضوعة لما هو أعم من اللزوم فباطلة جدا ، لتبادر اللزوم منها في الجملة ، واستعمالها في غير موارده انما يكون بقرينة ، أو فقل انها تستعمل في موارد الملازمة الاتفاقية في اللزوم لكن في ظرف خاص.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٤١٥ و ١ ـ ١٣١ ـ الطبعة الأولى.

٢١٦

واما دعوى : انها لخصوص اللزوم لا الترتب.

فلعل الوجه فيه هو : استعمالها بلا عناية في موارد لا ترتب للجزاء فيها على الشرط ، نظير قولهم : « إذا كان زيد محموما فهو متعفن الأخلاط » ، فان الحمّى معلولة للعفونة لا علة لها.

ولكن الظاهر انها مستعملة في هذه الموارد في الترتب ، لكن المراد هو الترتب في مرحلة الإثبات لا الثبوت ، ويكون المقصود بيان ترتب الوجود العلمي للجزاء على الشرط لا الوجود الواقعي ، ولذا قد يصرح بذلك في بعض القضايا فيقال : « وإذا كان زيد محموما فيعلم انه متعفن الأخلاط ».

اذن فلنا ان ندعي ظهور الأداة في ترتب الجزاء على الشرط وعلّية الشرط له لا أكثر. واما استفادة الانحصار فهي من طريق آخر.

يبقى إشكال صحة الربط بين النسبتين. وقد أجبنا عنه في مبحث الواجب المشروط. فراجع.

الأمر الثالث : في تحديد ما هو ملاك ثبوت المفهوم وما ينبغي البحث فيه لإثباته ونفيه. والمعروف هو ان مدار البحث على استفادة كون الشرط علة منحصرة للجزاء فينتفي الحكم عند انتفائه.

ولكن المحقق العراقي قدس‌سره خالف المشهور وذهب إلى ان مدار البحث لا بد وان يكون على ان القضية المتكفلة للحكم ، هل هي ظاهرة في تعليق شخص الحكم على الشرط أو تعليق سنخه عليه ، فيثبت المفهوم على الثاني دون الأول.

وبيان ذلك ـ كما جاء في مقالاته ـ : ان علية ما علق عليه الحكم بنحو الانحصار أمر مسلم غير قابل للإنكار ، والّذي يدلّ عليه التزام الكل بلا توقف بان انتفاء موضوع الحكم اما بذاته أو لبعض قيوده من شرط أو وصف أو غيرهما

٢١٧

يلازم انتفاء شخص الحكم المعلق عليه ، وهو يكشف عن كون موضوع الحكم بخصوصياته المأخوذة فيه علة لشخص الحكم ، إذ لو لا ذلك لم يكن وجه لانتفاء شخص الحكم بانتفائه ، لإمكان ثبوته على الخالي عن الخصوصية مثلا.

ويشهد لذلك التزامهم بتقييد المطلق بالمقيد إذا كانا مثبتين مع إحراز وحدة المطلوب فيهما ، فانه لا يتم إلاّ إذا التزم بظهوره المقيد في كون موضوعه علّة منحصرة للحكم فلا يثبت في غير مورده ، وإلاّ فمجرد وحدة المطلوب لا تلازم التقييد ، إذ يمكن كون الحكم الواحد ثابتا للمطلق.

وبالجملة : الكل يلتزم بكون الموضوع بخصوصياته علّة منحصرة لشخص الحكم. والسرّ فيه : هو ظهور الكلام في إناطة الحكم بالموضوع بخصوصه وتعليق الحكم عليه بعنوانه ، فان قول الآمر : « أكرم زيدا » ظاهر في دخالة عنوان زيد في ثبوت الحكم ، وهو يتنافى مع دخول غيره في ثبوت الحكم لمنافاة دخل غيره ، لإناطة الحكم بالموضوع بخصوصه الظاهرة من الكلام. ولو لا هذه الجهة لما اقتضى انتفاء الموضوع انتفاء شخص الحكم.

وعليه ، فيمكننا ان ندعي ظهور أخذ الموضوع في دخالته بخصوصه وبنحو الانحصار في مضمون الخطاب.

وعليه ، فينحصر البحث ـ في المفهوم وعدمه ـ في ان مضمون الخطاب وما علق على الموضوع هل هو شخص الحكم؟ فلا يدل الكلام على المفهوم ، إذ انتفاء الشرط يقتضي انتفاء شخص الحكم ، وهو لا ينافي ثبوت فرد آخر للحكم في غير مورد الشرط. أو انه سنخ الحكم؟ فيدل الكلام على المفهوم ، إذ انتفاء الشرط يقتضي انتفاء سنخ الحكم عن غير مورده فيتنافى مع ثبوته في غير مورده.

فمدار البحث ذلك ، وليس البحث في استفادة العلية المنحصرة ، فانها من المسلمات بحسب الارتكاز والشواهد ، فلا وجه للبحث فيها.

٢١٨

هذا محصل ما أفاده بتوضيح منا (١).

ولكنه لا يخلو عن مناقشة ، فانه لا يخلو عن مغالطة ، لأن الكل لم يلتزم بظهور تعليق الحكم على الموضوع في العلية المنحصرة ، بل التزموا بما يلازم الانحصار في خصوص كون المعلق شخص الحكم لا سنخه ، وهو أصل العلية لا أكثر.

وملخص ما ندعيه : انهم التزموا بظهور الموضوع في العلية ، وهي تلازم الانحصار في مورد كون المرتب على الموضوع شخص الحكم ، فلا وجه للتعدي إلى ظهور الموضوعية في الانحصار لمطلق مضمون الخطاب.

وبيان ذلك : ان المراد عن شخص الحكم ليس المعنى الاصطلاحي للشخص ، وهو الحكم الموجود ، فانه لا معنى للكلام في الانحصار وعدمه بالنسبة إليه ، فان الموجود الخارجي لا يمكن ان يوجد بواسطة سبب آخر ، لأن الموجود لا يقبل الوجود ثانيا. كما انه لا معنى لانتفائه لأن الشيء لا ينقلب عما وقع عليه.

وهذا كما يجري في الأحكام يجري في التكوينيات أيضا ، فان الإحراق الموجود المتحقق بالنار الخاصة لا معنى لوجوده بنار أخرى.

وانما المراد به ما يوجد في الخارج بنحو يؤخذ فيه بعض الخصوصيات الملازمة لانطباقه على فرد واحد لا أكثر ، وهو في التكوينيات ملازم للانحصار ، فإذا قيل : « الإحراق الثابت لهذا الشيء من هذه النار في الساعة الخاصة » إلى غير ذلك من القيود المخصصة للمفهوم بحيث لا يقبل الانطباق على غير الفرد الواحد ، فلا وجه لتوهم ثبوته بغير تلك النار بالخصوصيات المذكورة.

واما في التشريعيات والاعتباريات ، فغير ملازم للانحصار ، إذ الحكم

__________________

(١) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول ١ ـ ١٣٨ ـ الطبعة الأولى.

٢١٩

الثابت لزيد بالقيد الخاصّ يمكن ان يكون ثبوته له بعنوان انه إنسان فلا ينتفي بانتفاء زيد بل هو ثابت لغيره. كما يمكن ان يكون ثبوته له بعنوانه لكن لا بنحو التعيين ، بل بنحو البدلية بان يكون ثابتا لزيد بعنوانه أو عمرو بعنوانه بنحو البدلية.

وهذا لا يجري في التكوينيات لأن المسبب التكويني الواحد لا يمكن صدوره عن غير سبب واحد ، بخلاف الاعتباريات لأنها خفيفة المئونة ، فإذا استظهر أخذ « زيد » ـ مثلا ـ بعنوانه وخصوصه ثبت كونه علّة منحصرة ، إذ يمتنع تحقق شخص الحكم لغير زيد بعد فرض ان زيدا يؤثر فيه بعنوانه وخصوصه.

وهذا لا يلازم الانحصار بالنسبة إلى سنخ الحكم ، إذ يمكن ترتب الطبيعي والسنخ ـ بلحاظ أحد وجوداته ـ على زيد بعنوانه وخصوصه ، وترتبه ـ بلحاظ وجود آخر له ـ على عمرو بعنوانه وخصوصه لا بنحو البدلية بل كل منهما يؤثر في وجود غير وجود الآخر فيصدق ترتب الطبيعي على كل منهما بخصوصه وعنوانه ، كما يقال في التكوينيات : « النار بعنوانها وخصوصها سبب الإحراق ، وهكذا الكهرباء » ، إذ الإحراق الّذي تؤثر فيه النار غير الإحراق الّذي يؤثر فيه الكهرباء.

ويتحصل : ان ما هو ظاهر الموضوع انما يلازم الانحصار بالنسبة إلى شخص الحكم لا سنخه ، فلا بد من إيقاع الكلام في استفادة الانحصار بالنسبة إلى سنخ الحكم. فتدبر.

الأمر الرابع : في بيان المراد بالسنخ ، والمقصود به هو طبيعي الحكم في قبال شخصه.

ولكن هل يراد به الطبيعة المهملة أو المطلقة أو المقيدة؟.

وقبل تحقيق المراد لا بد من التنبه إلى شيء ، وهو ان المقصود بيان معنى للسنخ بحيث يتلاءم مع ما هو محل البحث ، فلا بد من اشتماله على وصفين :

٢٢٠