منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

١
٢

٣
٤

النواهي

الكلام في جهات :

الجهة الأولى : في مفاد صيغة النهي ومادّته.

والّذي أفاده صاحب الكفاية عن ذلك : أنّها كصيغة الأمر ومادّته في الدّلالة على الطلب ، والاختلاف بينهما في المتعلّق ، فمتعلّق الأمر هو نفس الفعل ومتعلّق النّهي التّرك ، وإلاّ فالمستفاد من النهي والأمر مادّة وصيغة شيء واحد وهو الطلب ، ومن هنا اعتبر في صدق النّهي ما اعتبره في صدق الأمر من لزوم صدوره من العالي (١).

ولكن هذا الرّأي لم يتّفق عليه الأعلام ، بل خالفه بعضهم فذهب إلى اختلاف النّهي بمادّته وصيغته مع الأمر مفهوما ، وان ما ذهب إليه صاحب الكفاية يتنافى مع الوجدان لوجهين :

الأوّل : انتقاضه ببعض الواجبات المطلوب فيها التّرك كالصّوم ، مع أنّها لا تعدّ من المحرّمات بل من الواجبات.

الثّاني : إنّ مراجعة الوجدان تشهد أنّ النّهي ينشأ عن مفسدة في الفعل يكون بها مبغوضا للمولى ومتعلّقا لكراهته فيزجر عبده عنه ، فواقع النهي يختلف

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٥

عن واقع الأمر ، فانه كراهة الفعل والأمر إرادة الفعل ، كما أنّ المنشأ في النّهي هو الزّجر عن الفعل والمنشأ في الأمر طلبه والبعث إليه فيختلف الأمر والنّهي مفهوما مادّة وصيغة ، ومتعلّقهما واحد وهو الفعل (١).

والتّحقيق : موافقة صاحب الكفاية في ما ذهب إليه من الرّأي.

والّذي ندّعيه : أنّ المنشأ في مورد النّهي ليس إلاّ البعث نحو التّرك مع الالتزام بأنّ مفهوم النّهي يساوق عرفا مفهوم المنع والزّجر لا البعث والطّلب.

والوجه فيما ادّعيناه : هو أنّ التكليف أعمّ من الوجوب والتّحريم ـ على جميع المباني في حقيقته ـ إنّما هو لجعل الدّاعي وللتحريك نحو المتعلّق بحيث يصدر المتعلّق عن إرادة المكلّف ، ومن الواضح أنّ ما يقصد إعمال الإرادة فيه في باب النّهي هو التّرك وعدم الفعل ولا نظر إلى إعمال الإرادة في الفعل كما لا يخفى جدّاً ، وهذا يقتضي أن يكون المولى في مقام تحريك المكلّف نحو ما يتعلّق به اختياره وهو التّرك ، ويكون في مقام جعل ما يكون سببا لاعمال إرادة المكلّف في التّرك ، فواقع النّهي ليس إلاّ هذا المعنى وهو قصد المولى وإرادته تحريك المكلّف وإعمال إرادته في التّرك.

وهذا كما يمكن أن ينشأ بمدلوله المطابقي وهو طلب الترك ، كذلك يمكن أن ينشأ بمدلوله الالتزامي وهو الانزجار عن الفعل فانّه لازم إرادة ترك العمل ، وهو في باب النّهي منشأ بمدلوله الالتزامي بعكسه في باب الأمر فانّه منشأ بمدلوله المطابقي ، فالمنشأ في باب النّهي إرادة الترك بمفهوم المنع والنّهي ، وليس المنشأ هو نفس المنع عن الفعل ، لأنّه غير المقصود الأولي وأجنبي عمّا عليه واقع المولى.

وأمّا دعوى : أنه ليس في الواقع سوى كراهة الفعل تبعا لوجود المفسدة

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٢٧ هامش رقم ٢ ـ الطبعة الأولى.

٦

فيه دون إرادة التّرك. فهي باطلة ، فانه كما هناك كراهة للفعل كذلك هناك إرادة ومحبوبيّة للتّرك ، ويشهد لذلك الأفعال المبغوضة بالبغض الشّديد ، فانّ تعلّق المحبوبيّة بتركها ظاهر واضح لا إنكار فيه كمحبوبيّة الصحة التي هي في الحقيقة عدم المرض ونحو ذلك.

وأمّا تمييز الواجب عن الحرام فليس الضّابط فيه ما هو المنشأ وما هو متعلّق الإرادة أو الكراهة ، بل الضّابط فيه ملاحظة ما فيه المفسدة والمصلحة ، فان كان الفعل ذا مفسدة كان حراما وإن كان المنشأ طلب الترك ، وان كانت المصلحة في الفعل أو في الترك كان الفعل أو الترك واجبا ، ومثل الصّوم تكون المصلحة في نفس التّرك فيكون واجبا.

وبالجملة : فما ذكر من الوجهين لا ينهض لإنكار رأي صاحب الكفاية ، فهو المتّجه لما عرفت من البرهان عليه.

الجهة الثانية : في البحث عن أنّ متعلّق الطلب في النّهي هل هو التّرك وعدم الفعل ، أو الكفّ الّذي هو إيجاد ما يكون سببا في المنع عن تأثير الرغبة في الفعل عند حدوث الميل إليه؟ ، وهذا المعنى يمكن أن يحرّر بنحوين :

النّحو الأوّل : ما ذكره في الكفاية من : أنّ متعلّق الطلب في باب النّهي هل هو التّرك أو الكفّ لأجل انّ التّرك غير اختياري فانّ الإرادة انما تؤثر في الفعل لا في عدمه ، فان العدم ينشأ من عدم إرادة الوجود لا إرادة العدم.

والجواب عن هذا الإشكال : ما أشار إليه في الكفاية من : أنّ القدرة على الفعل تعني القدرة على التّرك ، فانّ معنى كون الشّيء مقدورا هو كون كل من وجوده وعدمه تحت حيز الإمكان والاختيار ، وإلاّ فلو لم يكن العدم مقدورا لم يكن الفعل كذلك ، بل كان امّا ضروريا أو ممتنعا ، وكل من الحالتين خلف (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧

يبقى سؤال وهو : أنّ هذا المعنى انّما يستلزم إمكان تعلّق النّهي بالتّرك لا تعيينه ، فما هو الوجه في اختيار تعلقه بالترك دون الكفّ؟.

والجواب عنه واضح : فان تعلّقه بالتّرك لا يحتاج إلى برهان فانّه ما تقتضيه القاعدة ، والالتزام بتعلّقه بالكفّ من جهة الالتزام بامتناع تعلّقه بالتّرك ، فلا محيص عنه ، فإذا ثبت جوازه تعين بلا إشكال.

اما انّ ذلك مقتضى القاعدة ، فلأجل انّ التّكليف إذا كان يرتبط بالأمور الخارجية لترتّب المصلحة والمفسدة عليها ، فلا وجه لتعلّقه بأمر نفسي ، بل هو يتعلّق رأسا بأمر خارجي من فعل أو ترك ، ولأجل ذلك لم يتوهّم متوهّم أنّ الأمر متعلّق بإرادة الفعل لا بنفسه إذ لا معنى له ، والمفروض معقوليّة تعلّقه بالفعل نفسه. فالتفت.

النّحو الثانيّ : انّ متعلق النهي وإن كان هو التّرك ، لكنه هل هو مطلق التّرك أو انّه ترك خاص وهو المساوق لصورة الكفّ؟ والوجه في هذا الكلام هو انّ النّهي انّما هو لجعل الدّاعي نحو الترك ، وهذا انّما يتعقّل في صورة وجود المقتضي للفعل ، بحيث يكون المكلّف في مقام العمل فينهى ، امّا إذا لم يكن في مقام العمل فلا معنى للنهي عنه لتحقّق الانتهاء والانزجار في نفسه بدون نهي فيكون النّهي لغوا. وهذا المعنى تظهر ثمرته في مورد العلم الإجمالي الّذي يكون أحد طرفيه مصروف النّظر عنه بالمرّة ، فانّه لا يكون منجّزا على هذا الرّأي ، فينحصر النّهي بصورة الكفّ قهرا وإن تعلق بالتّرك. وحلّ هذا الإشكال أو إقراره ليس محله هنا ، بل له مقام آخر وانّما كان قصدنا الإشارة إليه فالتفت.

الجهة الثالثة : في اتّفاق كيفية امتثال النهي والأمر أو اختلافهما.

وتوضيح الحال : انّ هناك شيئا ملحوظا يختلف فيه النّهي والأمر ، وهو : انّ الأمر إذا تعلّق بطبيعة يكتفي في امتثاله بإتيان فرد واحد ، بخلاف النّهي فانّه إذا تعلّق بطبيعة فلا يمثل إلاّ بترك جميع افرادها ، وقد اختلف في بيان الوجه في ذلك.

٨

فذهب صاحب الكفاية رحمه‌الله إلى : انّ هذا الاختلاف يرجع إلى حكم العقل في مقام الامتثال ، حيث انّ المطلوب في باب الأمر إيجاد الطّبيعة ، وهو يتحقق بإيجاد فرد منها ، لأن وجود الفرد وجود للطّبيعة ، والمطلوب في باب النّهي ترك الطّبيعة وهو لا يتحقق إلاّ بترك جميع الافراد ، إذ مع وجود أيّ فرد توجد الطّبيعة فلا يتحقق التّرك المطلوب (١).

وقد ناقش في هذا المفاد المحقّق الأصفهاني ببيان إليك نصّه (٢) : « لا يخفى عليك انّ الطّبيعة توجد بوجودات متعدّدة ولكلّ وجود وعدم هو بديله ونقيضه ، فقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطّبيعة المهملة الّتي كان النّظر مقصورا على ذاتها وذاتيّاتها فيقابله إضافة العدم إلى مثلها ونتيجة المهملة جزئية ، فكما ان مثل هذه الطبيعة تتحقق بوجود واحد كذلك عدم مثلها ، وقد يلاحظ الوجود مضافا إلى الطّبيعة بنحو الكثرة ، فلكلّ وجود منها عدم هو بديله ، فهناك وجودات وإعدام. وقد يلاحظ الوجود بنحو السّعة أي بنهج الوحدة في الكثرة بحيث لا يشذّ عنه وجود ـ يعني بنحو العموم المجموعي ـ ، فيقابله عدم مثله ، وهو ملاحظة العدم بنهج الوحدة في الأعدام المتكثّرة ، أي الطبيعيّ العدم بحيث لا يشذّ عنه عدم ، ولا يعقل ان يلاحظ الوجود المضاف إلى الماهيّة على نحو يتحقّق بفرد ما ، فيكون عدم البديل له بحيث لا يكون إلا بعدم الماهيّة بجميع افرادها. واما ما يتوهّم من ملاحظة الوجود بنحو آخر غير ما ذكر ، وهو ناقض العدم الكلّي وطارد العدم الأزليّ بحيث ينطبق على أوّل الوجودات ـ ويعبّر عنه بصرف الوجود ـ ، ونقيضه عدم ناقض العدم ، وهو بقاء العدم الكلّي على حاله ، فلازم مثل هذا الوجود تحقّق الطبيعة بفرد ، ولازم نقيضه انتفاء الطّبيعة بانتفاء جميع افرادها

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) ذكرنا ما ينصه ، لوضوحه فلا يحتاج إلى توضيح. ( منه عفي عنه ).

٩

فمدفوع : بأنّ طارد العدم الكلّي لا مطابق له في الخارج ، لأنّ كل وجود يطرد عدمه البديل له لا عدمه وعدم غيره ، فأوّل الوجودات أوّل ناقض للعدم ، ونقيضه عدم هذا الأوّل ، ولازم هذا العدم الخاصّ بقاء سائر الاعدام على حالها ، فانّ عدم الوجود الأوّل يستلزم عدم الثّاني والثّالث وهكذا لا انّه عينها ، فما اشتهر من ان تحقّق الطّبيعة بتحقّق فرد وانتفائها بانتفاء جميع افرادها لا أصل له ، حيث لا مقابلة بين الطّبيعة الملحوظة على نحو تتحقق بتحقق فرد منها ، والطّبيعة على نحو تنتفي بانتفاء جميع افرادها ... ». انتهى (١).

أقول : يمكن أن يدّعى ان نظر صاحب الكفاية إلى اختلاف الأمر والنّهي في مقام الامتثال بحسب القضيّة العقليّة فيما إذا كان متعلّق كلّ منهما صرف الوجود ، فهو يذهب إلى ان الأمر إذا تعلق بصرف وجود الطّبيعة فيكتفى في امتثاله بإتيان فرد واحد لتحقّق صرف الوجود به. وامّا النّهي فانّه إذا تعلّق بصرف وجود الطّبيعة فلا يتحقّق امتثاله إلاّ بترك جميع افرادها ، إذ المنهيّ عنه إيجاد أوّل وجود الطّبيعة ، وتركه لا يتحقّق إلاّ بترك جميع الأفراد ، إذ أي فرد يوجد فهو أوّل وجودها فلا بدّ من تركه حتّى يتحقّق امتثال النّهي وهذا المعنى اعترف به المحقّق الأصفهاني رحمه‌الله في كلامه أخيرا كما لا يخفى على الملاحظ ، لكنّه ناقشه بان عدم صرف الوجود ملازم لترك جميع الافراد لا انه عينها ، وهذه مناقشة لفظيّة ترجع إلى التخطئة في التّعبير لا المدّعي من أنّ امتثال النّهي لا يتحقّق إلاّ بترك جميع افرادها بمقتضى حكم العقل ، إذ عرفت انّ الزّجر عن صرف الوجود والنّهي عن تحقيقه لا يمتثل إلاّ بترك جميع الافراد ، إذ كلّ فرد يفرض وجوده يكون أوّل الوجود وينطبق عليه عنوان صرف الوجود وقد عرفت النّهي عنه. فما ذكره صاحب الكفاية لا إشكال فيه.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٦٠ ـ الطبعة الأولى.

١٠

وقد يتخيّل : أنّ ما أفاده في الكفاية انّما يتمّ لو كان النّهي عبارة عن الزّجر عن الفعل ، إذ يقال انّ متعلّقه صرف الوجود. امّا بناء على انّ النّهي عبارة عن طلب التّرك ـ الّذي عليه صاحب الكفاية وهو المختار ـ فلا يتمّ ما ذكر ، إذ متعلّق الطلب هو صرف ترك الفعل ، وهو كصرف الوجود يتحقّق بأوّل ترك فلا يتوقف امتثال النهي على ترك جميع الافراد لتحقق صرف الترك بدونه (١).

ولكن هذا التخيل فاسد ، فان النّهي وان كان بواقعه عبارة عن طلب التّرك ، إلاّ انّك عرفت انّ هذا الواقع يبيّن وينشأ بمفهوم الزّجر عن الفعل للملازمة بينهما.

وعليه ، فالمنشأ هو طلب التّرك الّذي يكون لازم الزّجر عن الفعل ، وهو ليس صرف وجود التّرك بل جميع التّروك.

وبالجملة : ما يقصد إنشاؤه وهو لازم المعنى المطابقي للفظ الّذي هو الزجر والمنع عن صرف وجود الفعل ، وقد عرفت ان لازمه هو جميع التروك لا صرف الترك ، فالمنشأ هو طلب جميع التروك لا طلب صرف الترك.

فالمتحصّل : ان النهي لا يكون امتثاله إلا بترك جميع الافراد ، سواء قلنا انه واقعا طلب الترك أو انه الزجر عن الفعل. فافهم جيّدا وتدبّر فان المقام لا يخلو عن دقّة.

ثمّ ان صاحب الكفاية أشار في ضمن كلامه وبقوله : « ومن ذلك يظهر ان الدوام والاستمرار انما يكون ... إلى آخره » (٢) إلى شيء :

وهو : ان الجزم بتوقّف امتثال النهي على ترك جميع الافراد انما يكون بإحراز كون مدخول النهي هو الطبيعة المطلقة ، وذلك انما يكون بإجراء مقدمات

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٤ ـ ٩٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١١

الحكمة فيها كي يثبت إرادة الإطلاق منها ، إذ لو كانت مقيّدة بزمان خاصّ اقتضى النهي ترك جميع افراد الطبيعة المقيدة ، كما انه لو لم يكن المقام مقام بيان كان المقصود مهملا ولا يثبت لزوم ترك جميع الافراد لعدم إحراز المقصود بالطبيعة.

وبالجملة : القضية العقلية في النهي مفادها لزوم ترك جميع افراد ما أريد من المدخول. امّا إحراز المقصود بالمدخول وانه الطبيعة المطلقة أو غيرها فهو أجنبي عن مفاد القضية العقلية ، بل إحراز الإطلاق لا بدّ له من دالّ آخر وهو مقدّمات الحكمة.

وهذا المعنى تنبيه على اندفاع ما يتوهّم أو يقال من : ان النكرة إذا وقعت في سياق النفي أو النهي تفيد العموم لحكم العقل بذلك ، بحيث جعل منشأ استفادة الإطلاق والعموم من الطبيعة المدخولة للنهي هو حكم العقل المزبور ومفاد القضيّة العقليّة. ولا يخفى ترتب الأثر على هذا الاختلاف في الرّأي في مسألة تعارض دليل النهي مع دليل آخر يتكفّل بيان مفاده بمقتضى الوضع لا الإطلاق. نظير العموم الوضعي ، فانه بناء على ان إطلاق الطبيعة في مورد النهي يستفاد من مقدّمات الحكمة يكون الدليل الآخر مقدما على دليل النهي ، لتقدّم الظهور الوضعي على الظهور الإطلاقي كما تقرّر في محلّه ، من جهة ان الأول تنجيزي والثاني تعليقي. واما بناء على ان إطلاق الطبيعة في مورد النهي يستفاد بحكم العقل تعارض الدليلان ، ولم يقدّم الدليل الآخر على دليل النهي لكون ظهور كلّ منهما تنجيزي فتدبر.

الجهة الرابعة : في النهي لو خولف وأتي بالعمل المنهي عنه ، فهل مقتضاه استمرار النهي بعد المخالفة أو لا؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى عدم دلالة النهي على إرادة الترك لو خولف ، ولا على عدم إرادته ، بل لا بد في إحراز ذلك من دلالة أخرى ، ولو كانت إطلاق

١٢

المتعلّق من هذه الجهة ، يعني التمسك بإطلاق المتعلّق من جهة العصيان ، فيقال ان مقتضاه ثبوت النهي له مطلقا عصي النهي أو لم يعص. ويكون مقتضى هذا الإطلاق ثبوت النهي وتعلّقه بالفعل بنحو العموم الاستغراقي ، فينحلّ إلى افراد متعددة بتعدد افراد الفعل ، فإذا عصي أحدها بقي الآخر على حاله (١).

ويدور حول مطلب الكفاية تساؤلان :

أحدهما : انه ذكر في صدر المبحث ان متعلّق النهي صرف الوجود والمطلوب ترك صرف الوجود ، ومن الواضح ان صرف الوجود قسيم لجميع الوجودات ، فكيف يتصوّر ان يكون متعلق النهي جميع الوجودات المستلزم للانحلال ، بخلاف الأوّل فانه يستلزم وحدة النهي ، لعدم التعدّد في صرف الوجود فإذا حصل سقط النهي لا محالة؟.

والآخر : ان الاستغراق لا يثبت بالإطلاق بنظر صاحب الكفاية فانه يذهب إلى ان استفادة هذه الخصوصيّات من الاستغراق أو البدليّة أو غيرهما تنشأ من قرينة خاصّة في المقام ، وليست هي مفاد الإطلاق ، فانّ مفاد مقدّمات الحكمة ليس إلا إرادة ذات الطبيعة من غير تقييد ، فلاحظ مبحث المطلق والمقيّد من الكفاية (٢).

وعليه ، فكيف يحاول قدس‌سره إثبات الاستغراق في النهي بإطلاق المتعلّق؟. والتساؤل الثاني حق لا نعرف له جوابا. لكن الأوّل تمكنا الإجابة عنه : بأنه لم يفرض في صدر المبحث كون متعلّق النهي صرف الوجود ، وانما بحثه ثبوتي تقديري ، ومرجعه إلى انه لو كان متعلّق النهي صرف الوجود كمتعلّق الأمر كانت قضية امتثالهما عقلا مختلفة ، ونظره في قوله : « ثمّ انه لا دلالة ... » (٣) إلى تحقيق

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٣

مقام الإثبات ومعرفة ما هو مفاد دليل النهي ، وانه هل هو متعلّق بصرف الوجود أو بجميع الوجودات أو مجموعها؟ فتدبّر.

وتحقيق المقام : ان المتعيّن هو الالتزام باستمرار النهي وعدم سقوطه بالمخالفة ، وذلك لوجود القرينة العامّة على ذلك ، وهي كون النهي ناشئا عن مفسدة في متعلّقه. ومن الواضح ترتّب المفسدة نوعا على كلّ فرد من افراد الفعل لا على مجرّد صرف وجوده أو مجموع الافراد. فكلّ فرد يقصد تركه ، فإذا لم يترك أحد الافراد لزم ترك غيره لوجود المفسدة فيه.

وبالجملة : هذه القرينة تعيّن احتمال الاستغراق والانحلال في النهي ، وتنفي سائر الاحتمالات ، فهي بضميمة الإطلاق تثبت المدّعي.

وقد استدلّ السيد الخوئي ( حفظه الله ) في حاشيته على أجود التقريرات بهذا البيان على : ان امتثال النهي لا يكون إلا بترك جميع الافراد ، وهذا الشيء هو الفارق بين الأمر والنهي (١).

ومن الواضح انّه خلط بين الجهتين الثالثة والرابعة ، إذ عرفت ارتباط هذا البيان بالجهة الرابعة من الكلام دون الثالثة ، فان ملاكها يختلف عن هذا البيان على ما عرفت.

ثمّ ان للمحقّق النائيني قدس‌سره بيانا طويلا تكفل تقسيم النهي ، وانه تارة يتعلق بترك الطبيعة بنحو المعنى الاسمي. وأخرى يتعلق بترك الافراد ويلزمه ترك الطبيعة ، والثمرة في انّه لو خالف على الأوّل يسقط النهي بخلاف الثاني لانحلال الحكم ، ثم رجّح انه بالنحو الثاني ، وتعرض بعد ذلك إلى بيان ان انحلال النهي بالنسبة إلى الافراد الطوليّة يكون بأحد وجهين. ثم اختار الثاني منهما إثباتا (٢).

__________________

(١) المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٢٨ [ هامش رقم ١ ] ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقّق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٢٩ ـ الطبعة الأولى.

١٤

وبما ان في كلامه جهات من الإشكال ، كالتفرقة بين الافراد العرضيّة والطولية وغيرها ، ولأجل ان التعرّض لها مفصّلا يطيل المقام من دون أثر عملي مهمّ ، اكتفينا بالإشارة إلى كلامه وانه غير خال عن الإشكال فانتبه.

١٥
١٦

« اجتماع الأمر والنّهي »

ويقع الكلام قبل الخوض في أصل المبحث في جهات عديدة :

الجهة الأولى : فيما هو المناسب جعله عنوان البحث : وقد ورد في كلمات المتقدمين بهذا النحو : « هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي وجهين أولا؟ » تبعهم صاحب الكفاية (١) ، وناقشه المحقق النائيني وذهب إلى ان الأنسب تغييره وجعله بهذا النحو : « الأمر والنهي المتعلّقان بشيئين متّحدين خارجا وجودا وإيجادا هل يسري أحدهما إلى متعلق الآخر أو لا؟ » (٢).

والّذي يقتضيه الإنصاف صحة عنوان البحث بالنحو المشهور ، وأولويّته من النحو الّذي عنونه به المحقق النائيني. فلنا دعويان :

الأولى : صحّة عنوان البحث بالنحو المشهور. فان ما ذكره من الإشكال فيه بأنه : « يوهم ان القائل بالجواز لا يعترف بتضاد الحكمين ، فلذا يقول بجواز اجتماعهما مع ان الأمر ليس كذلك ، بل هو يدعي عدم لزوم الاجتماع مع اتحاد المتعلقين خارجا ، لا انه يدعي جوازه بعد تسليمه الاجتماع ، إذ استحالة الاجتماع

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٣١ ـ الطبعة الأولى.

١٧

بعد وضوح التّضاد بين الحكمين ممّا لا تكاد تخفى » (١).

من دفع : ان اجتماع الشيئين المتنافيين في شيء واحد قد يكون على نحوين أحدهما ممتنع والآخر جائز ، مثال ذلك : إذا كان في الدار نار في طرف وماء في طرف آخر ، فانه يصدق اجتماع النار والماء في الدار حقيقة ومن دون مسامحة وهو جائز لا امتناع فيه ، كما ان اجتماعهما في نقطة واحدة من الدار يستلزم صدق اجتماعهما في الدار حقيقة ولكنّه ممتنع ، فاجتماع النار والماء في الدار يتصوّر على نحوين أحدهما ممتنع والآخر جائز.

وعليه فالبحث في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد وعدمه لا يرجع إلى الالتزام بعدم تضادّ الحكمين ، بل مرجعه إلى ان متعلّق الأمر والنهي في الحقيقة واحد فيمتنع اجتماعهما لأنه من قبيل الاجتماع النار والماء في نقطة واحدة ، أو ان المتعلق متعدّد فيجوز اجتماعهما في ذلك الواحد ، لأنه من قبيل النار والماء في نقطتين.

وبالجملة : فيصح ان يبحث في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد ذي وجهين وعدمه ، ويكون منشأ الخلاف هو ان هذا الواحد ذي الوجهين واحد حقيقة أو متعدّد ، فيمتنع اجتماعهما فيه على الأول ويجوز على الثاني من دون إيهام رجوعه إلى إنكار تضاد الحكمين.

الثانية : أولويّة عنوان المشهور من عنوانه قدس‌سره.

والوجه فيها : ان المحقّق النائيني وغيره يخرج في بحثه عن العنوان بالنحو الّذي حرّره ، فانه ركز البحث في ان الجهتين تقييديتان ، فيكون متعلّق الأمر غير متعلّق النهي أو تعليليتان فيتّحد متعلّق الأمر والنهي ، فالبحث أساسه في هذه الصغرى وعليه بني السراية وعدمها ، وإلاّ فهو لم يبحث أصلا فيما هو

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٣١ ـ الطبعة الأولى.

١٨

عنوان البحث.

الجهة الثانية : في بيان المراد بالواحد في عنوان النزاع.

إذ قد يتساءل بان المراد منه إذا كان الواحد الشخصيّ خرج الواحد الجنسي ، كالصلاة والغصب ، فانهما واحد جنسا وهو الحركة. ولا وجه لخروجه ، إذ النزاع يقع فيه بلا كلام ، وإذا كان المراد منه ما يعمّ الواحد الجنسي دخل في محل النزاع ، مثل السجود لله والسجود للصنم ، لأنهما يندرجان تحت كلي السجود ، مع انه لا نزاع فيه ولا إشكال في ان الأوّل متعلّق الأمر والثاني متعلّق النهي في آن واحد.

وللإجابة عن هذا التساؤل يرجع إلى ما أفاده صاحب الكفاية في بيان المراد بالواحدة من : ان المراد منه هو الواحد في الوجود سواء كان واحدا شخصيّا أو واحدا جنسيا كالصلاة والغصب المتحدين في الوجود فيخرج مثل السجود لله والسجود للصنم ، لأنهما متعددان وجودا وان اتّحدا جنسا ، ولا يكاد يكون وجود واحد للسجود يضاف إلى كليهما معا على ان يكون كلّ منهما متفرّدا بالإضافة ، لا ان يكون بنحو التشريك كما لا يخفى (١).

ولكن يتوجه على ما ذكره صاحب الكفاية : انه لا يمكن ان يفرض الواحد في موضوع النزاع هو الواحد في الوجود ، إذ ان القول بالامتناع يبتني على وحدة الوجود والقول بالجواز يبتني على تعدّده ، فكيف يفرض إرادة الواحد في الوجود في العنوان الّذي يكون موضوع النفي والإثبات وموضوع القول بالجواز والقول بعدمه؟!.

وقد التزم المحقق النائيني قدس‌سره : بان المراد بالواحد الواحد في الإيجاد ، وهو لا يستلزم وحدة الوجود ، إذ يمكن ان يتحقّق وجودان بإيجاد واحد ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩

كإيجاد الحركة الغصبية الصلاتية ، فانه يحقّق وجود الصلاة ووجود الغصب ، فيقع البحث في انه في مورد يوجد متعلق الأمر والنهي بإيجاد واحد ، هل الوجود واحد فيمتنع الاجتماع أو متعدّد فيجوز؟ (١).

ويتوجّه عليه : ما تقرر في محله من وحدة الإيجاد والوجود ذاتا واختلافهما اعتبارا ، فيمتنع ان يفرض وحدة الإيجاد وتعدّد الوجود.

فالمتّجه : الالتزام بان المراد بالواحد هو الواحد في الوجود ، لكنّه ما كان كذلك بحسب الصورة والنّظر العرفي ، وأساس البحث يكون في ان هذا الواحد في الوجود عرفا هل هو كذلك حقيقة ، فيمتنع اجتماع الأمر والنّهي فيه أو انه متعدّد حقيقة فيجوز اجتماع الأمر والنهي فيه؟. فالقول بالجواز وان كان منشؤه الالتزام بتعدّد الوجود ، لكنّه لا يتنافى مع فرض وحدة الوجود في موضوع البحث ومدار النفي والإثبات ، فان التعدّد بحسب الدّقة لا ينافي الوحدة بحسب الصّورة والنّظر العرفي. فتدبّر جيّدا.

الجهة الثالثة : في بيان جهة الفرق بين هذه المسألة ومسألة استلزام النهي للفساد.

والّذي أفاده في الكفاية ان الاختلاف بينهما باختلاف جهة البحث في كل من المسألتين ، فان البحث في مسألة استلزام النهي للفساد عن ان تعلّق النّهي بالعمل هل يقتضي فساده أو لا؟ والبحث في هذه المسألة عن ان تعدّد العنوان هل يوجب تعدد المعنون فلا يسري كل من الحكمين إلى متعلق الآخر أو انه لا يوجب فيكون متعلق كل منهما واحدا؟ فلا جهة جامعة بين جهتي البحث في المسألتين ، نعم لو بني على الامتناع وتقديم جانب الحرمة كان المورد من صغريات تلك المسألة.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٤٠ ـ الطبعة الأولى.

٢٠