منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

فلا يستلزم مجعولية الموضوع وكونه من المجعولات الشرعية كما لا يخفى. اذن فالتعبد بالانطباق لا محصل له.

وورود التعبد بالإتيان ببعض الاجزاء كقوله عليه‌السلام : « بلى قد ركع » لا يرجع إلى التعبد بالانطباق ، بل إلى التعبد بتحقق المأمور به والإتيان به بلحاظ نفى الأمر ورفعه ، يعني ان واقعه التعبد برفع الأمر.

الخامسة : ما ذكره من ان الصحة الظاهرية وسط بين الحكم الظاهري والواقعي الثانوي.

إذ يرد عليه : بان المقصود بما هو وسط ان كان هو الصحة المجعولة ـ كما هو ظاهر العبارة ـ فهو حكم واقعي موضوعه الإتيان بالعمل الظاهري وليس حكما ظاهريا ، كيف؟ وهو ثابت حتى بعد انكشاف الخلاف كما هو الفرض. وان كان هو الحكم الظاهري الثابت للعمل فهو حكم ظاهري موضوعه الشك ويزول بعد انكشاف الخلاف بلا إشكال ، والاكتفاء بما جاء به عن الواقع انما هو لأجل دليل آخر قام عليه لا من جهة كونه مأمورا به بالأمر الظاهري.

وخلاصة ما ذكرنا : ان ما أفاده المحقق النائيني في المقام مما لا نراه متناسبا مقامه العلمي الرفيع. وثبت مما ذكرنا ان ما أفاده صاحب الكفاية متين جدا لا يرى فيه شائبة للإشكال.

الأمر السابع : في تحرير الأصل عند الشك. ولا يخفى ان محل البحث هو معرفة الأصل ، في اقتضاء النهي فساد العمل ، فتعلق النهي بالعمل مفروغ عنه ، فلا يتجه إيقاع البحث في صورة الشك في الفساد من جهة كون الشبهة موضوعية أو حكمية ، كما جاء في أجود التقريرات (١). ويظهر من حاشية المحقق الأصفهاني ان هذا التفصيل ونحوه جاء في عبارة الكفاية ، فانه قال ـ بعد ما ذكر

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٩٤ ـ الطبعة الأولى.

١٨١

ما عرفت ـ : « ولذا ضرب خط المحو على ما في بعض نسخ الكتاب » (١) والموجود بين أيادينا من الكفاية لا تفصيل فيه وانما هو مختصر جدا. وعلى كل فتحقيق الحال في معرفة وجود الأصل وعدمه ان نقول : ان المقصود بالصحّة والفساد في العبادة أحد معان ثلاثة :

الأول : الصحة والفساد من جهة موافقة الأمر وعدمها ، ومن الواضح انه لا شك في الفساد من هذه الحيثية ، إذ مع تعلق النهي بها لا يتعلق بها الأمر ، فلا تقع العبادة موافقة للأمر في وجه من الوجوه لعدم الأمر ، فلا معنى للبحث عن الأصل لعدم الشك.

الثاني : الصحة والفساد من جهة وفاء العمل بالملاك وعدمه ، وهذا المعنى وان كان موردا للشك ، إذ مع تعلق النهي بالعمل قد يلتزم ببقاء ملاك الأمر على ما كان عليه وانما غلب عليه الملاك الراجح وكان مانعا من تأثيره لا غير ، كما هو ظاهر صاحب الكفاية في مبحث اجتماع الأمر والنهي (٢) ، وقد يلتزم بانتفائه لأن ملاك الأمر هو المصلحة الراجحة ، ومع تعلق النهي لا تكون هناك مصلحة راجحة لحصول الكسر والانكسار ، وإلاّ لامتنع تعلق النهي فيكون ملاك النهي موجبا لرفع ملاكية ملاك الأمر لا مانعا عن تأثيرها.

وبما ان هذا الأمر مورد البحث ، فقد يصير موردا للشك ، فيكون محلا لتأسيس الأصل ، لكن ليس لدينا أصل يعين أحد الطرفين كما لا يخفى.

الثالث : الصحة والفساد من جهة مقربية العمل وعدمه ، وهذا المعنى قد يصير مورد الشك أيضا فيشك في ان المبغوضية الفعلية هل تتنافى مع التقرب المعتبر في العبادة أو لا؟ ولكن لا أصل لدينا يعين أحد الطرفين كما لا يخفى.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣١٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٨٢

نعم الأصل في المسألة الفرعية يقتضي الفساد ، إذ يشك ان العمل المأتي به مقرب أو لا؟ فيشك في فراغ ذمته بإتيانه بالعمل المنهي عنه ، فقاعدة الاشتغال محكمة.

وهذا جميعه بالنظر إلى كون المسألة عقلية يقع البحث فيها في الملازمة العقلية بين النهي والفساد.

اما لو كانت المسألة لفظية : بان كان النزاع في ان النهي ظاهر في الإرشاد إلى مانعية المنهي عنه أو هو ظاهر في الحرمة التكليفية لا غير؟ فمع الشك في ذلك لا أصل في المسألة الأصولية يعين أحد الطرفين وهو واضح.

واما في المسألة الفرعية : فالشك فيها يرجع إلى الشك في مانعية المنهي عنه ، فيكون المورد من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر والأصل هو البراءة.

ولا يتجه التمسك بإطلاق دليل المأمور به لعدم الأمر في مورد النهي ، إذ البحث في ان النهي المتعلق بالعبادة الخاصة هل يدل على مانعية تلك الخصوصية أو لا يدل؟ وانما يدل على حرمة العمل المختص بالخصوصية بعد الفراغ عن عدم منافاة الحرمة التكليفية للتقرب بالعمل ، فالعمل منهي عنه فلا يمكن ان يكون متعلقا للأمر فيكون خارجا عن الإطلاق لا محالة ، فهو خارج عن دائرة الإطلاق ، ومن هنا يعلم ان قياسه بمورد عدم النهي لا وجه له ، فما أفاده المحقق الأصفهاني من التمسك بالإطلاق غير خال من الإشكال.

هذا فيما يتعلق بالأصل في مورد النهي عن العبادة وما ذكرناه من التفصيل مأخوذ عما ذكره المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية بأدنى اختلاف. فلاحظه (١).

واما مورد النهي عن المعاملة فمع الشك في اقتضائه الفساد لا أصل في

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣١٠ ـ الطبعة الأولى.

١٨٣

المسألة الأصولية يعين أحد الطرفين.

واما في الأصل فيما يقع من العقود خارجا ، فان كان هناك إطلاق أو عموم يتمسك به في تصحيح المعاملة لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) لو تم كان هو المتعيّن ولا تصل النوبة إلى الأصل العملي ، وبدونه فالأصل العملي يقتضي الفساد لاستصحاب عدم ترتب الأثر على المعاملة كالملكية في البيع والزوجية في النكاح ونحو ذلك.

فما ذكره صاحب الكفاية من عدم الأصل في المسألة الأصولية في كلا الموردين وجيه كما ان ما ذكره من كون الأصل في المسألة الفرعية يقتضي الفساد في كلا الموردين وجيه أيضا. إلاّ إذا كان البحث في العبادة عن دلالة النهي على المانعية فقد عرفت ان الأصل يقتضي الصحة.

كما ظهر ان الشبهة في العبادة ليست شبهة موضوعية ، بعد فرض تعلق النهي بها وكون الشك في منافاته للمقربية ، أو كون المقصود منه الإرشاد إلى المانعية. فلاحظ جيدا.

الأمر الثامن : في صور النهي في العبادة.

وقد ذكر صاحب الكفاية قدس‌سره ان النهي تارة : يكون متعلقا بنفس العبادة. وأخرى : بجزئها. وثالثة : بشرطها. ورابعة : بوصفها الملازم لها كالجهر والإخفات في القراءة. وخامسة : بوصفها المفارق كالغصبية للصلاة المنفكة عنها.

اما القسم الأول : فلا ريب في دخوله في محل النزاع. ومثله القسم الثاني ، لأن جزء العبادة عبادة ، لكن فساده لا يستلزم فساد العمل لو أتى بغيره مما لم يتعلق به النهي ولم يقتصر عليه. نعم قد يستلزم الجمع بين فردي الجزء محذورا

__________________

(١) سورة المائدة الآية : ١.

١٨٤

آخر يبطل العمل كتكرار السورة المستلزم لتحقق القرآن المبطل على القول به.

واما القسم الثالث : فحرمة الشرط لا تستلزم فساد المشروط العبادي ، لعدم كون الشرط عبادة ، فلا يفسد بالتحريم. نعم لو فرض كون الشرط عبادة كالطهارة للصلاة كان حرمته موجبة لفساده الموجب لفساد المشروط به.

واما القسم الرابع : فالنهي عن الوصف الملازم مساوق للنهي عن موصوفه ، فيكون النهي عن الجهر في القراءة مساوقا للنهي عنها لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها مع كون الجهر بها منهيا عنه فعلا كما لا يخفى.

واما القسم الخامس : فالنهي عن الوصف لا يسري إلى الموصوف إلاّ إذا كانا متحدين وجودا بناء على امتناع اجتماع الحكمين. واما بناء على الجواز فلا يسري الحكم من أحدها إلى الآخر جزما.

هذا كله بالنسبة إلى النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف. واما النهي عن العبادة لأجل هذه الأمور فحاله حال النهي عن أحدها إذا كان تعلق النهي بالعبادة بالعرض ، وان كان النهي عنها حقيقة وكان النهي عن أحدها واسطة في الثبوت لا العروض كان حاله حال النهي في القسم الأول.

هذا ما أفاده في الكفاية (١).

ويقع البحث معه في جهات من كلامه :

الجهة الأولى : في أصل التقسيم إلى هذه الأقسام ، فانه مما لا وجه له ، إذ البحث في دلالة النهي عن العبادة على الفساد ، ومن الواضح انه لا فرق بين عبادة وعبادة سواء كانت كلا أو جزءا أو شرطا أو وصفا ، فان الحكم فيها واحد والبحث عن الجميع واحد.

وان كان المقصود من هذا التقسيم البحث عن فساد الكل بفساد الجزء ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٨٥

وفساد المشروط بفساد الشرط ، فهذا لا ربط له بالبحث عن اقتضاء النهي عن العبادة للفساد ، بل هو بحث يحرّر في الفقه في مباحث الخلل. وان كان النّظر إلى البحث عن المركب المنهي عنه لجزئه أو شرطه بمعنى المركب الّذي تسري حرمته من حرمة الجزء أو الوصف ، فهو أجنبي عما نحن فيه لأنه ان كانت الحرمة الثابتة للمركب حرمة عرضية ، بمعنى انها تنسب إليه بالعرض والمجاز ، فهو واضح ، لعدم تعلق الحرمة بالمركب واقعا حتى يبحث عن اقتضائها الفساد. وان كانت ثابتة له حقيقة بان كانت حرمة الجزء واسطة في ثبوت الحرمة للمركب تكون العبادة من مصاديق المحرّم ، ولا دخل في البحث عن فسادها لسبب حرمتها ، فلا يتجه هذا التقسيم لأجل بيان حرمة العبادة بحرمة جزئها ، فانه لا أثر له فيما هو موضوع الكلام من اقتضاء النهي الفساد.

وجملة القول : لم يعلم دخالة هذا التقسيم والتشقيق في محل الكلام.

نعم ، يمكن ان يجعل في الحقيقة بحثا عما هو من المبادئ ، بان يكون البحث في سراية الحرمة حقيقة من الجزء إلى المركب ومن الشرط إلى المشروط ومن الوصف إلى الموصوف ، فيكون البحث عن صغرى من صغريات المسألة.

وهذا الإيراد ذكره المحقق الأصفهاني (١).

الجهة الثانية : فيما ذكره من ان جزء العبادة عبادة ، فانه على إطلاقه ممنوع ، إذ لا ملازمة بين جزئية شيء للعبادة وكونه عبادة ، فيمكن ان يتعلق الأمر العبادي بالعمل المركب بنحو الاستغراق لأجزائه من دون ان يكون جميع اجزائه عبادة بل يكون بعضها غير عبادي ، ويشهد له ان تقيد الصلاة بالشرط جزء من اجزاء العمل مع انه لا يعتبر فيه ان يقع بنحو عبادي. نعم مثل الركوع والسجود دل الدليل على كونه عباديا فلا كلام فيه.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣١٠ ـ الطبعة الأولى.

١٨٦

وبوجه برهاني نقول : ان المقصود بالعبادة اما ما يكون حسنا في ذاته أو ما لو امر به لكان امره عباديا ، ومن الواضح انه لا يلزم ان يكون كل جزء معنونا بعنوان حسن بذاته ، بل يكفي المركب كذلك.

الجهة الثالثة : فيما ذكره من ان بطلان الجزء لا يستلزم بطلان المركب إذا لم يقتصر عليه إلاّ إذا كان التكرار مستلزما لوجود محذور آخر كالقرآن ـ بناء على مانعيته ـ في تكرار السورة ، كما لو أتى بسورة العزيمة وغيرها.

فان المحقق النائيني قدس‌سره ذهب إلى دلالة النهي عن الجزء على فساد العبادة ببيان محصله : ان الجزء المنهي عنه اما ان يؤخذ فيه العدد الخاصّ كالسورة المأخوذة بقيد الوحدة بناء على حرمة القرآن ومانعيته. واما ان لا يؤخذ فيه عدد خاص.

فعلى الأول : إذا تعلق النهي بأحد افراد الجزء كالنهي المتعلق بقراءة سورة العزيمة ، فالقارئ لسورة العزيمة اما ان لا يقرأ غيرها أو يقرأ ، فان لم يقرأ غيرها كانت العبادة باطلة لعدم الإتيان بجزئها ، لأن النهي عن الجزء يلازم خروجه عن دليل الجزئية. وان قرأ غيرها تبطل العبادة من جهة القرآن.

وعلى الثاني : بان التزمنا بجواز القرآن والتعدد ، كانت العبادة باطلة بالتعدد لوجهين :

الأول : ان دليل تحريم الجزء يخصص دليل جواز القرآن بغير صورة الإتيان بالمحرّم ، فلا يكون القرآن في هذه الصورة جائزا.

الثاني : ان تحريم الجزء يستلزم أخذ العبادة بالقياس إليه بشرط لا ويترتب عليه ثلاثة أمور توجب البطلان :

الأول : كونه مانعا ، إذ لا يراد بالمانع سوى ما أخذ عدمه في الصلاة ، فمع وجوده تبطل الصلاة.

الثاني : كونه زيادة في الفريضة وهي مبطلة ، إذ لا يعتبر في الزيادة المبطلة

١٨٧

قصد الجزئية إذا كان الزائد من جنس العمل.

الثالث : خروجه عن أدلة جواز مطلق الذّكر لاختصاصها بغير المحرّم باعتبار ورود جوازه بعنوان انه حسن والمحرم غير حسن ، فيدخل في عمومات مبطلية الكلام ، إذ الخارج منها ما كان ذكرا غير محرم.

هذا ما ذكره المحقق النائيني (١). وهو يختلف مع صاحب الكفاية فيما لم يكن القرآن مانعا في نفسه ، فانه يذهب لمانعيته من جهة تحريم الجزء بالوجهين المزبورين.

إلاّ ان الوجه الأول لا ينهض لإثبات مدعاه لأن مقصوده من جواز القرآن الّذي يخرج مورد الجزء المحرم عنه اما ان يكون الجواز الوضعي أو التكليفي. فان كان مقصوده الجواز الوضعي بمعنى عدم مبطلية القرآن ، فاستلزام تحريم الجزء خروج صورة إتيانه عن دليله أول الكلام فانه هو محط البحث ، فالوجه الأول على هذا يكون عين الدعوى لا دليلا عليها. وان كان مقصوده الجواز التكليفي فتحريم الجزء وان استلزم تحريم القرآن لكن لا ملازمة بين حرمة القرآن تكليفا وبين مانعيته ، والمقصود إثبات مانعيته لا حرمته. وكان عليه ان يبين ثبوت الملازمة بين الحرمة والمانعية ووجهها ، لا مجرد ثبوت حرمة القرآن فانه لا يصلح وجها لإثبات مانعية القرآن.

واما الوجه الثاني : فقد أورد عليه نقضا وحلا.

اما النقض : فبمثل النّظر إلى الأجنبية المحرم في الصلاة ، فانه لم يقل أحد بمبطليته للصلاة.

واما الحل : فبان جزئية السورة لو أخذت بشرط لا بالنسبة إلى الجزء المحرم لتم ما ذكر ، لكنه لم يثبت ذلك ، بل مقتضي إطلاق دليلها أخذها لا بشرط ،

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٩٧ ـ الطبعة الأولى.

١٨٨

وعليه فلا منافاة للجزء المحرم لصحة الصلاة.

وهذا بعينه يجري في مثل النّظر إلى الأجنبية ، فان الصلاة مأخوذة بالنسبة إليها لا بشرط بمقتضى إطلاق دليلها.

كما أورد عليه بما لا يرجع إلى بطلان الدعوى : من ان بيان بطلان العمل بمثل زيادة الجزء أو مبطلية الكلام مما يختص بخصوص الصلاة لا يتناسب مع البحث الأصولي المقصود به إثبات قواعد عامة تجري في مطلق أبواب الفقه ، فتدبر (١).

والّذي يقتضيه التحقيق هو : تمامية ما أفاده المحقق النائيني في الوجه الثاني من ان تحريم الجزء يلازم مانعيته وأخذه بشرط لا.

وبيان ذلك : انه قد تقدم ان أسماء العبادات موضوعة للأعم من الصحيح والفاسد ، وقد فرض في الموضوع له معنى ينطبق على الزائد والناقص والقليل والكثير ، فكل ما يحصل من الاجزاء يكون دخيلا في فرد العمل ومقوما له ويكون العمل صادقا على المجموع ، فهو كما يصدق على ذي التسعة اجزاء يصدق على ذي العشرة بحيث يكون الجزء العاشر دخيلا فيما يصدق عليه العمل لا خارجا عنه ، إذ لم تلحظ في مقام الصدق كمية معينة من الاجزاء.

وعليه ، فالعمل المأتي به مع الجزء المحرم ينطبق عليه عنوان العمل كالصلاة مثلا ، ويكون الجزء المحرم مقوما للفرد. ومن الواضح ان إطلاق العنوان المأخوذ في متعلق الأمر لا يمكن شموله لهذا الفرد المشتمل على الجزء المحرم ، إذ يمتنع تعلق الأمر بالفرد ذي الجزء المحرم. فالفرد المشتمل على الجزء المحرم خارج عن دائرة المأمور به ولا يتعلق به الأمر ، فالإتيان بالجزء المحرم يلازم ارتفاع الأمر عن المأتي به ، وهذا هو المقصود بالمانعية وأخذه بشرط لا.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٩٨ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

١٨٩

ومن هذا البيان يظهر انه لا وجه للنقض بمثل النّظر إلى الأجنبية مما لا يكون مقوما للفرد وجزء له عند تحققه ، فان العنوان انما ينطبق على ذات الاجزاء والنّظر خارج عنها فيمكن ان يقال : ان مقتضي إطلاق الدليل أخذ العمل لا بشرط من جهته فلا يكون مانعا. فتدبر والتفت.

الجهة الرابعة : فيما ذكره في شأن الوصف الملازم. والبحث معه من هذه الجهة في نقاط ثلاثة :

الأولى : في تفكيكه بين الوصف الملازم والمفارق في الذّكر ، فانه لا وجه له بعد ان كان الملاك في سراية الحرمة من الوصف إلى الموصوف وحدة وجودهما الموجب لوحدة الحكم ، وهذا لا يختلف فيه الحال بين المفارق والملازم من الأوصاف ، فكان عليه ان يذكرهما بعنوان واحد جامع بينهما.

الثانية : في المثال الّذي ساقه ، وهو مثال الجهر في القراءة ، فهل هو من موارد الاتحاد في الوجود أو ان وجود الجهر غير وجود القراءة؟.

والّذي نراه ان وجود الجهر ووجود القراءة واحد لا متعدد ، فان الجهر وان كان عرضا لكنه في واقعه كيفية من كيفيات وجود القراءة ، فهو عبارة عن القراءة العالية ولا وجود له غير وجود القراءة ، فمرجع الجهر والإخفات إلى الشدة والضعف في القراءة نظير الشدة والضعف في النور وفي الألوان ، فان شدة النور ليست وجودا غير وجود النور بل عبارة عن مرتبة من مراتب وجود النور.

وعلى هذا فلا يحتاج إلى التطويل الدّقيق الّذي جاء في حاشية المحقق الأصفهاني لبيان وحدة وجودهما ، فانه لا جدوى فيه (١).

الثالثة : في استدلاله على سراية النهي من الوصف إلى الموصوف فانه قال : « لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها مع كون الجهر بها منهيا

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣١١ ـ الطبعة الأولى.

١٩٠

عنه فعلا كما لا يخفى ». فان هذا الاستدلال لا يفي بالمدعى ، إذ غايته إثبات ارتفاع الأمر عن القراءة لملازمتها للمحرم ، ولا يمكن اختلاف المتلازمين في الحكم ، ولا يقتضي ثبوت الحرمة للقراءة الّذي هو المدعي ، وإلاّ للزم سراية الحكم من أحد المتلازمين إلى الآخر لتأتي الدليل المزبور ، وهو لا يلتزم به كما لا يلتزم به غيره.

وبعد هذا يقع الكلام في محل البحث وهو في مقامين :

المقام الأول : في النهي عن العبادة. ولا إشكال في اقتضائه الفساد. لعدم صلاحية العمل به للتقرب ، فانه ان اعتبر في تحقق العبادة قصد امتثال الأمر فلا امر هنا لامتناع اجتماع الحكمين. وان لم يعتبر ذلك واكتفي بمجرد المحبوبية ، فالمفروض ان العمل متعلق للمبغوضية فلا يمكن التقرب به ، بل هو مبعد والتقرب بما هو مبعد محال ، وهذا مما لا إشكال فيه ولا خلاف.

انما الكلام في إمكان تعلق الحرمة الذاتيّة بالعبادة.

وقد تعرض في الكفاية إلى بيان وجه امتناعه ، وهو : ان متعلق الحرمة اما ان يكون ذات العبادة من دون قصد القربة أو يكون الذات مع قصد التقرب. والأول غير ثابت ولا يلتزم به إذ المحرم ليس اجزاء العمل بحيث لو أتى بها من دون قصد التقرب كان عاصيا. والثاني غير مقدور عليه إلاّ بالتشريع ، ومعه يكون العمل محرما بالحرمة التشريعية ، فلا يصح تعلق الحرمة الذاتيّة به لامتناع اجتماع الحكمين المتماثلين فانه كاجتماع الضدين.

وقد أجاب عنه في الكفاية بوجوه :

الأول : انه أخص من المدعي ، إذ هو لا يتم بالنسبة إلى العيادة الذاتيّة كالسجود لله فانه لا تتقوم عباديتها بقصد التقرب حتى يستلزم التشريع ، بل مجرد الإضافة يكفي في تحقيق العبادية ، وعليه فلا يمتنع تعلق الحرمة الذاتيّة بها في هذا الحال.

١٩١

واما غيرها من العبادات ، فقد ذكر ان المراد بالعبادة التي هي متعلق النهي ما لو امر به لكان امر عباديا لا يسقط إلاّ بقصد القربة. وهذا لا يمنع من تعلق الحرمة الذاتيّة به. ومرجع كلامه إلى الالتزام بتعلق النهي بذات العمل (١).

ولذلك أورد عليه المحقق الأصفهاني بوجهين :

أحدهما : ان الالتزام بحرمة ذات العمل ولو لم يأت بها بقصد التقرب في غاية الإشكال.

ثانيهما : ان مثل هذا العمل فاسد ولو لم يتعلق به نهي لعدم اشتماله على ما يصلح للمقربية والعبادية (٢).

وبملاحظة هذين الإيرادين يمكن ان نحرر الإشكال في تعلق الحرمة الذاتيّة بالعبادية بطور آخر ، وهو ان نقول : ان الحرمة الذاتيّة ان فرض تعلقها بذات العمل من دون قصد القربة ، فهو مما لم يلتزم به أحد ، مع ان فساد العمل في مثل هذا الحال لا يختص بصورة النهي. وان فرض تعلقها بالعمل المأتي به بقصد القربة لزم اجتماع المثلين لأن العمل بقصد القربة حرام تشريعيا.

والجواب عن الإشكال : انه يمكننا اختيار كلا الشقين.

فنختار الشق الأول : وهو تعلق النهي بذات العمل. والإيراد عليه بان فساد العمل لا يختص بحال النهي غير سديد ، إذ يمكن ان يكون في نفس العمل جهة راجحة لو لا النهي ، فيكون النهي مانعا عن صلاحية العمل للتقرب به لمبغوضيته بخلاف ما لو لم يكن نهي فان العمل صالح للمقربية بتلك الجهة الراجحة فلا يكون فاسدا.

نعم الإيراد عليه بعد الالتزام بمثل ذلك متين جدا.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣١٢ ـ الطبعة الأولى.

١٩٢

ونختار الشق الثاني ، ونجيب عن إشكال ثبوت الحرمة التشريعية بوجهين : الأول : ان الإتيان بالعمل بقصد قربي لا يلازم التشريع دائما ، بل يمكن تحققه بدون تشريع وهو الإتيان به رجاء ، فيمكن تعلق الحرمة الذاتيّة بالعمل المأتي به بقصد القربة رجاء.

الثاني : ما ذكره صاحب الكفاية من ان التشريع ليس من صفات الفعل الواقع كي تكون حرمته حرمة للفعل ، بل هو من صفات القلب فان التشريع عبارة عن البناء القلبي على جعل الحكم ، ولا يكون العمل سوى كاشف عن البناء والتشريع لا أكثر فلا وجه لتحريمه ، وبعبارة أخرى : التشريع عبارة عن إدخال ما ليس في الدين فيه وليس العمل إدخالا لما ليس في الدين فيه كما لا يخفى.

نعم الاخبار عن الجعل محرم لأنه افتراء ، ولكنه لا يرتبط بالعمل المأتي به.

وبالجملة : فالتشريع من صفات الفاعل لا الفعل ، وليس هو كالتجري الّذي قد يقال فيه انه من صفات الفعل باعتبار ان الفعل في مورد التجري بنفسه يتعنون بعنوان الهتك للمولى الّذي هو مورد التحريم والعقاب (١). فالتفت.

هذا مع انه قد يناقش في أصل حرمة التشريع لعدم الدليل عليه. فتدبر.

واما ما ذكره صاحب الكفاية ، وجها ثالثا في الجواب عن الإشكال من ان النهي وان لم يكن دالا على الحرمة الذاتيّة لكنه يدل على الفساد لدلالته على الحرمة التشريعية الراجعة إلى عدم شمول دليل المأمور به للمحرم فلا وجه لكونه مقربا (٢).

فهو بعيد عما هو محل الكلام ، فان محل الكلام هو الملازمة العقلية بين الحرمة والفساد لا في دلالة دليل النهي وعدم دلالته وان لم يكن تحريم واقعا. فان

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٣

البحث وان تقدم كونه لفظيا لكن واقعه في العبادات عقلي كما تقدم فانتبه.

وقد تعرض المحقق النائيني إلى دفع بعض الشبه قبل الخوض في أصل المطلب ونذكر منها شبهتين :

إحداهما : انه كيف يعقل النهي عن العبادة ، مع ان فرض العبادية يلازم فرض المقربية كما ان فرض النهي يلازم فرض المبعدية ، ويمتنع ان يكون شيء واحد مقربا ومبعدا؟.

وأجاب عنه : بان متعلق النهي ليس هو العبادة الفعلية كي يتأتى ما ذكر ، وانما المراد بالعبادة التي تكون متعلقا للنهي هي الوظيفة التي لو امر بها كان امرها عباديا أو ما كان في نفسه عبادة كالسجود لله (١).

والّذي يبدو لنا ان هذا الجواب بعيد عن الإيراد. فان مقصود المورد هو لغوية البحث لوضوح المنافاة بين النهي والعبادية ، فالبحث عن اقتضاء النهي عن الفساد بحث لغو. وهذا يتأتى سواء قلنا بان متعلق النهي العبادة الفعلية أو ذات العبادة. فالجواب عنه بان المتعلق هو ذات العبادة غير مجد في دفعه.

ثانيتهما : ان العبادة وان فرضنا إمكان تعلق النهي بها إلاّ انه لا يوجب فسادها ، لأن الفساد يستند إلى عدم مشروعيتها سواء كان نهي أو لم يكن.

وأجاب عنه : بان الفساد في مورد عدم النهي يستند إلى الأصل ، وهو أصالة عدم مشروعيتها وفي مورد النهي يستند إلى الدليل الرافع لموضوع الأصل لارتفاع الشك به (٢).

وهذا الجواب غير سديد ، من جهتين :

الأولى : ما فرضه من جريان الأصل عند عدم النهي ، مع ان الغالب فيما نحن فيه وجود إطلاق أو عموم يثبت المشروعية لو لا النهي.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٩٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٩٤ ـ الطبعة الأولى.

١٩٤

الثانية : ما ذكره من استناد الفساد إلى الدليل ، فانه خروج عما هو محط البحث من الملازمة العقلية بين الحرمة والفساد ، وليس البحث في دلالة الدليل بلحاظ انه يتكفل بيان عدم مشروعيته.

والجواب الصحيح عن هذا الإيراد ما تقدم بيانه في الجواب عن الإيراد الّذي ذكره صاحب الكفاية بعد تنقيحه.

ثم انه قد يقال : بأنه لا وجه للبحث عن اقتضاء النهي للفساد ، فان النهي لا يقتضي الفساد بحال من الأحوال ، بل ثبوته يلازم عدم الأمر ، كما ان ثبوت المبغوضية يلازم عدم المحبوبية ، وثبوت المفسدة الراجحة يلازم عدم المصلحة الراجحة ، نعم لو قلنا بان وجود الضد منشأ لعدم الضد الآخر تم نسبة الاقتضاء للنهي. لكن ذلك لا يلتزم به ، بل هما متلازمان كما مر في بحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده الخاصّ.

والجواب : ان نسبة الاقتضاء بمعناه الفلسفي إلى النهي غير صحيحة ، لكن المراد به معناه العرفي المسامحي ، والعرف يرى كون وجود أحد الضدين مانعا عن الضد الآخر ومنشئا لعدمه بحيث يسند عدمه إلى وجود ضده ، فيصح بهذا اللحاظ إطلاق الاقتضاء عليه.

والأمر سهل ، فان الإشكال لفظي لا يمتّ لواقع البحث بصلة.

فلو تم أبدلنا التعبير بما يتلاءم مع الواقع العقلي للمطلب فنقول : هل النهي يلازم الفساد أو لا؟.

المقام الثاني : في النهي عن المعاملة ولا بد من تحديد محل النزاع فنقول : ان النهي عن المعاملة.

تارة : يكون إرشاديا إلى مانعية الخصوصية المأخوذة فيها.

وأخرى : يكون نهيا تكليفيا.

وهو تارة : يتعلق بذات السبب بما انه فعل من افعال المكلف ، كالنهي عن

١٩٥

البيع وقت النداء لصلاة الجمعة ، فان النهي عن ذوات الألفاظ التي تقع بها المعاملة لأنها شاغلة عن صلاة الجمعة.

وأخرى : يتعلق بالمسبب يعني كالتمليك الحاصل من إنشاء البيع ، فيكون التحريم متعلقا بما يترتب على السبب من أثر.

وثالثة : يتعلق بالتسبب بالسبب الخاصّ إلى مسببه ، ويمثل له بالنهي المتعلق بالمراهنة بالعوض ، فان نفس التمليك غير محرم ، كما ان نفس السبب من دون عوض كذلك. فالمحرم هو التسبب إلى حصول التمليك بالسبب الخاصّ.

ومحل الكلام هو القسمان الأخيران.

اما الأوّل : فلأنه لا إشكال في اقتضائه فساد المعاملة لاحتفافها بالمانع من صحتها ، ولا كلام لأحد فيه.

واما الثاني : ـ أعني النهي المتعلق بذات السبب ـ فلم يتوهم دلالته على الفساد ، كما لا وجه له أصلا ، إذ مبغوضية السبب لا تنافي ترتب اثره عليه لو تحقق. اذن فيختص الكلام بالقسمين الآخرين.

وقد ذهب صاحب الكفاية أولا إلى عدم اقتضاء النهي الفساد ، وعلله بعدم الملازمة بين الحرمة والفساد لغة ولا عرفا (١).

ولا يخفى ان ذلك يرجع إلى نفي دعوى الملازمة ، فكان الأوجه ذكر ما تقرب به دعوى الملازمة ونفيه لا الاكتفاء بمجرد دعوى عدم الملازمة.

هذا مع ان نفي الملازمة عرفا ولغة لا يعلم وجهه ، إذ البحث عن اقتضاء الحرمة للفساد ، والحال في ذلك لا يختلف بين ان تكون الحرمة معنى لغويا فقط أو عرفيا فقط أو كليهما. فالتفت.

وعلى كل حال فالأقوال في محل البحث ثلاثة :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٦

الأول : اقتضاء النهي الفساد.

الثاني : اقتضاء النهي الصحة. وهو المنسوب إلى أبي حنيفة والشيباني (١).

الثالث : عدم اقتضائه لأحدهما.

اما القول الأول فيوجه بوجوه :

الوجه الأول : دلالة الروايات عليه ، كرواية زرارة عن الباقر عليه‌السلام : « عن مملوك تزوج بغير اذن سيده. فقال : ذلك إلى سيده إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما. قلت : أصلحك الله تعالى ان الحكم بين عينيه وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون ان أصل النكاح فاسد ولا يحل إجازة السيد له. فقال أبو جعفر عليه‌السلام : انه لم يعص الله انما عصى سيده فإذا أجاز فهو له جائز » (٢). فان ظاهرها انه لو كان عمله عصيانا لله كان فاسدا ، فيدل على انه لو كان محرما كان فاسدا لأن فعل الحرام معصية.

وفيه : ما أشار إليه في الكفاية (٣) من ان العصيان كما يطلق على مخالفة الحكم التكليفي يطلق أيضا على مخالفة الحكم الوضعي والشروط الوضعيّة ، بلحاظ انه مخالفة للمقررات المفروضة ، فان ترك الجري على طبقها يعد عصيانا عرفا ، وهي وان كانت ظاهرة في المعنى الأول إلاّ ان المراد بها في الرواية هو المعنى الثاني بقرينة إطلاق المعصية على إيقاع المعاملة بدون إذن سيده ، فالمراد ـ بملاحظة هذه القرينة ـ انه لم يأت بالمعاملة مخالفا لما هو المقرر شرعا في

__________________

(١) شرح تنقيح الفصول ـ ١٧٣.

(٢) الفروع من الكافي ٥ ـ ٤٧٨. باب المملوك تزوج بغير اذن مولاه ـ الحديث ٣.

من لا يحضره الفقيه ٣ ـ ٣٥٠. باب طلاق العبد ـ الحديث ٤.

تهذيب الأحكام ٧ ـ ٣٥١. باب العقود على الإماء ... ـ الحديث ٦٣.

وسائل الشيعة ١٤ ـ ٥٢٣. الباب ٢٤ من نكاح العبيد والإماء ـ الحديث ١.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٧

تماميتها ، بل جاء بها مخالفا لسيده لعدم إذنه. فلا ظهور لها في كون المخالفة للحكم التكليفي موجبة للفساد.

ولو سلم عدم ظهور إرادة المعنى الثاني فلا يسلم ظهورها في المعنى الأول ، بل تكون الرواية مجملة لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية على إرادة خلاف ظاهره ، كما لا ظهور للكلام في استعماله في الأعم من المعنيين. فتدبر.

ومن هنا يظهر حال سائر الروايات المستدل بها على المدعي فلا نطيل الكلام بالتعرض إليها.

الوجه الثاني : ان المسبب من مجعولات الشارع واعتباراته ، فإذا فرض كونه مبغوضا كما هو ظاهر النهي لم يتحقق من قبل الشارع ، فالملكية إذا كانت مبغوضة للشارع لم يعتبرها ، لكن المبغوضية ليست مبغوضية تشريعية بل تكوينية ، لأن متعلقها فعل المولى نفسه فلا يعقل ان يتعلق بها التحريم ، فما يعقل تعلق التحريم به بلحاظ انه فعل المكلف ، هو إيجاد الملكية والتسبب إلى اعتبارها شرعا بسبب العقد ، فالملكية لها حيثيتان بإحداهما تكون فعل المولى وبالأخرى تكون فعل المكلف فتكون متعلقا للتحريم من حيثية كونها فعلا له تسببا.

وعلى هذا البيان يقرّب دلالة النهي على الفساد : بان التسبب إلى الملكية يتقوم باعتبار الملكية ، إذ مع عدم اعتبارها لا يتحقق التسبب إليها كما لا يخفى ، وعليه فمع تحريم التسبب ومبغوضيته لا يعقل جعل الملكية المحققة للتسبب. فحرمة المعاملة بهذا النحو تستلزم فسادها وعدم جعل الشارع للأثر المترتب عليها.

وببيان آخر ، نقول : ان متعلق التحريم وان كان هو الملكية التسببية والمبغوض هو الملكية المستندة إلى المكلف باعتبار إيجاد سببها ، إلاّ ان تحقق ذلك لا يكون إلاّ باعتبار الشارع الملكية وجعلها ، ومع فرض مبغوضية التمليك الصادر من المكلف يستحيل جعل ما يحققه ويقومه وهو الملكية.

١٩٨

ولا يخفى ان هذا البيان لا يرد على المسلك القائل (١) بوجود مواطن ثلاثة للاعتبار وهي الاعتبار الشخصي والاعتبار العقلائي والاعتبار الشرعي ، يعني ان المنشئ يعتبر المنشأ في نفسه ويكون اعتباره موضوعا لاعتبار العقلاء والاعتبار العقلائي يكون موضوعا للاعتبار الشرعي ، والوجه في عدم ورود هذا البيان على هذا المسلك هو : ان فعل المكلف المتعلق للتحريم أجنبي بالمرة عن فعل الشارع ، فان المبغوض هو الاعتبار الشخصي لأنه القابل للتحريم دون غيره ، وهو لا يتنافى مع اعتبار الشارع وجعله ، إذ هو غير مبغوض.

وانما يتجه هذا البيان على المسلك المشهور القائل بان واقع المعاملة هو الإنشاء بداعي تحقق الاعتبار العقلائي أو الشرعي فهي التسبيب إلى اعتبار الشارع ، من دون أن يكون للمنشئ اعتبار شخصي.

إذ تتجه دعوى ان المبغوض متقدم باعتبار الشارع فلا معنى لجعله واعتباره من قبله.

وعليه ، فلا يتجه التفصّي عن هذا البيان بالالتزام بوجود الاعتبار الشخصي وانه هو متعلق التحريم.

فالتحقيق ان يقال : ان اعتبار الملكية ـ مثلا ـ وان كان بيد الشارع إلاّ ان تحققه لما كان بلحاظ تسبيب المكلف وإنشائه أسند التمليك إلى المكلف كما يسند إلى الشارع ، فهناك تمليكان أحدهما تمليك المكلف والآخر تمليك الشارع ، نظير ما لو رمى شخص آخر برصاصة فجاء ثالث وأوقف المرمي تجاه الرصاصة فأصابته وقتل فان القتل كما يسند إلى الرامي يسند إلى هذا الشخص الثالث.

وعليه ، فإذا فرض تعدد التمليك بحسب ما يراه الوجدان بنحو لا يقبل الإنكار ، فالمبغوض المحرم هو تمليك المكلف لا مطلق التمليك ، فلا مانع من تحقق

__________________

(١) التزم بهذا المسلك السيد الطباطبائي في حاشيته على المكاسب.

١٩٩

التمليك من الشارع لأنه ليس من مبغوضاته.

وبالجملة : تعدد التمليك مما لا يقبل الإنكار ، إذ يسند التمليك للبائع ، فيقال انه ملّك مع انه لا معنى له لو كان فعل الشارع ، إذ فعل الغير لا يسند إلى الشخص ، فيكشف عن تعدد التمليك ومعه يرتفع المحذور.

وتوضيح ذلك وبيان السرّ فيه : ان شأن الشارع هو جعل الملكية على تقدير تحقق المعاملة بنحو القضية الحقيقية ، بمعنى انه يعتبر الملكية عند تحقق البيع بشرائطه مثلا ، وبنحو جعل الحكم الكلي على موضوعه الكلي ولا شأن له بمرحلة التطبيق ، فإذا أوجد المكلف المعاملة في الخارج ثبت الاعتبار في موردها قهرا ، فيسند التمليك إلى المكلف بهذا اللحاظ ، إذ يرى انه هو سبب تحقق الاعتبار الفعلي نظير مثال القتل فان الرصاصة المرمية تصيب كل من واجهها فإذا أوقف شخص آخر تجاهها فأصابته أسند إليه القتل كما يسند إلى الرامي في نفس الوقت.

ومثله إطلاق تنجيس يده عليه ، فيقال : نجّس يده ، مع ان النجاسة من مجعولات الشارع ، وليس ذلك إلاّ لأجل ان الشارع جعل النجاسة على ملاقي النجس بنحو الكلية ، فإيجاد الموضوع المستلزم لترتب الحكم يوجب اسناد الحكم إلى المكلف ، وهكذا الحال في الأحكام التكليفية ، فانه يقال : انه حرم على نفسه الشيء الكذائي ، إذا أوجد موضوع التحريم.

ومن الواضح ان إطلاق ذلك عليه يكون إطلاقا حقيقا لا يرى فيه شائبة من التجوز والمسامحة ، مما يكشف عن وجود آخر يكون فعل المكلف ، إذ الوجود المجعول للشارع ليس من افعال المكلف. فهناك تمليكان أحدهما تمليك المكلف وهو الّذي يكون مورد التحريم لأنه من أفعاله الاختيارية. فلاحظ وتدبر.

والوجه الثالث : ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره وبنى عليه ، وهو : ان المعتبر في صحة المعاملة أمور ثلاثة :

٢٠٠