منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

كما لو كان هناك سبب واحد لأثرين ، بمعنى انه يؤثر بمجموع اجزائه لو كان مركبا في كل أثر. فان متعلق الإرادة نفس السبب ، فلا تكون إلاّ إرادة واحدة متعلقة بالسبب. وفي مثل ذلك لو كان أحد المسببين محبوبا والآخر مبغوضا وفرض غلبة المبغوض ، فان جهة صدور المسبب المحبوب تكون مبغوضة ، إذ إرادة السبب مع العلم بانتهائه إلى المسبب المبغوض قبيحة. وبما انه يعتبر في المقربية عدم قبح جهة الصدور ، فلا محالة لا يكون الإتيان بالمسبب مقربا ، ولا ينفع في ذلك دعوى ان تعدد الوجود يقتضي تعدد الإيجاد ، فان جهة الصدور وإرادته واحدة بداهة. وعليه فالإيراد المذكور غير مجد في دفع الإشكال كلية.

هذا ، ولكن مورد الكلام ( وهو الصلاة مع الغصب ) خارج عما ذكرنا ، إذ هما من الأفعال الإرادية ، وعليه فكل منهما متعلق الإرادة ، فلا يكون الإتيان بالصلاة مشتملا على القبح الفاعلي ، لأن جهة صدوره غير جهة صدور الغصب.

فالإشكال المزبور انما يتم في المسببات التوليدية.

والمتحصل : انه لا إشكال في صحة الصلاة في الدار المغصوبة على القول بجواز الاجتماع في صورة العلم بالغصب وهكذا في صورة الجهل به وهو واضح كما لا يخفى.

واما على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي لوحدة المتعلق وتقديم جانب النهي ، فقد ذهب صاحب الكفاية إلى التفصيل بين صورة العلم وصورة الجهل أو النسيان ، فذهب إلى بطلان العمل العبادي في الأولى دون الثانية (١). اما بطلان العمل في صورة العلم فوجهه واضح لأن العمل مبغوض للمولى ويمتنع التقرب بما هو مبعد. واما عدم بطلانه في صورة الجهل أو النسيان فقد مر توجيهه بوجوه ثلاثة :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦١

الأول : إتيانه بقصد الأمر المتعلق بالطبيعة لكونه كسائر الافراد في الوفاء بالغرض.

الثاني : إتيانه بقصد الملاك لاشتماله على ملاك الأمر كما هو المفروض.

الثالث : إتيانه بقصد الأمر المتعلق به بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد المؤثرة فعلا بالحسن والقبح.

وقد مر الإشكال على الوجهين الأولين ، بما أفاده المحقق النائيني من : ان الفعل بعد ما كان مشتملا على ملاكي الحكمين وكان ملاك النهي غالبا لم يكن الفعل بملاحظة الكسر والانكسار الحاصل بين المفسدة والمصلحة مقربا للمولى ، لأن ملاك الأمر المقرب هو المصلحة الغالبة لا مجرد المصلحة ولو لم تكن غالبة. وعلى الوجه الثالث : بأنه التزام بالتصويب المجمع على بطلانه لاستلزامه نفى الحكم الواقعي في صورة الجهل.

وقد تقدم توضيح ذلك مفصلا في الأمر العاشر فراجع.

نعم يمكن الالتزام بصحة العمل في صورة النسيان بتقريب : ان دليل الرفع المتكفل لرفع النسيان يتكفل رفع الحكم الواقعي ، ويفيد ان ملاك النهي لا يكون مؤثرا في المبغوضية الفعلية الموجبة للبعد ، فلا مانع من ثبوت الأمر حقيقة وواقعا ومقربية العمل المأمور به.

ويمكن ان يذكر تفصيلا آخر في صحة العمل على القول بتقديم جانب النهي ، وهو التفصيل بين ما إذا كانت مندوحة ، بمعنى أمكن امتثال المأمور به بفرد آخر وعدمه ، ومن مصاديقه الصلاة في المكان المغصوب مع السعة ومع الضيق.

والوجه فيه : انه إذا كان للمأمور به افراد متعددة كان عمومه بدليا ، في الوقت الّذي يكون عموم النهي شموليا يستغرق جميع افراده ، وقد تقرر في محله تقديم العموم الشمولي على العموم البدلي عند التنافي.

١٦٢

اما لو لم تكن مندوحة وانحصر المأمور به بالفرد المحرم ، كان دليل الأمر شاملا له بخصوصه لا على نحو البدلية ، فلا يتجه تقديم الحرمة ، بل قد يقدم دليل الوجوب أو يلتزم بالتخيير.

وهذا التفصيل في حقيقته تفصيل بين الصورتين في تقديم جانب الحرمة وعدمه ، لا في الصحة على تقدير تقديم جانب الحرمة. فالتفت.

وقد يفصّل ـ بناء على غلبة ملاك الأمر وتقديم جانبه ـ بين صورة الضيق ، فيصح العمل ، وصورة السعة ، فلا يصح ، للوجه الّذي ذكره في الكفاية في ذيل مسألة الاضطرار إلى الحرام (١).

وهو الالتزام بان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده ، ببيان : ان الإتيان بالفرد المشتمل على مفسدة التحريم يستلزم عدم التمكن من استيفاء مصلحة الافراد الأخرى غير المبتلاة بمنقصة ملاك الحرمة ، فهما ضدان ، وبما ان الأفراد الأخرى متعلقة للأمر ، فإذا التزمنا بان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده كان هذا الفرد منهيا عنه ، فلا يقع صحيحا.

وهذا البيان لا يتأتى في صورة الضيق ، إذ لا فرد غيره كما لا يخفى.

وقد أورد عليه في الكفاية : بإنكار استلزام الأمر بالشيء للنهي عن ضده (٢) ، وقد تقدم تحقيق ذلك.

هذا مع انه قد قيل : بان النهي الثابت بهذا الطريق لا ينافي مقربية العمل ولا يمنع من عباديته.

ولعل تقرير ذلك يتأتى قريبا إن شاء الله تعالى.

« تذييل » : قد عرفت ابتناء القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي على وحدة وجود المجمع. والقول بجوازه على تعدده. وقد يقع الكلام في بعض الفروع

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٧٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٧٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٣

المرتبطة بذلك.

منها : الغسل بالماء المغصوب وفي المكان المغصوب ، فانه قد يدعي بطلان الأول وصحة الثاني.

وتوجيه هذه الدعوى قد مر في الأمر العاشر من الأمور المذكورة في الكفاية ، وهو : ان الغصب في المثال الأول يتحقق بنفس الغسل لأنه تصرف بالماء فيكون محرما فلا يمكن ان يكون واجبا لوحدة المجمع. اما في المثال الثاني ، فقد يدّعي أن الغصب لا يتحقق بنفس الغسل ، لأنه من مقولة الأين والغسل من مقولة الفعل فيختلفان وجودا ، فيصح الغسل لعدم كونه محرما.

ومنها : ما لو اضطر إلى البقاء في الأرض المغصوبة واضطر إلى الصلاة فيها بضيق الوقت ، كالمحبوس أو الداخل لها نسيانا مع ضيق وقته.

فهل وظيفته الصلاة التامة ، أو وظيفته الانتقال إلى الأبدال الاضطرارية لأفعال الصلاة الانتقالية كالركوع والسجود فيؤمي لهما؟. ذهب البعض إلى الثاني ، بدعوى : ان الركوع الاختياري ـ مثلا ـ تصرف زائد على الغصب عرفا ، فيكون محرما ، فيسقط وجوبه وينتقل إلى بدله الاضطراري. وفي قباله دعوى : ان وظيفته الصلاة التامة ، لأن الركوع والسجود ونحوهما ليس تصرفا زائدا على نفس إشغال المكان المغصوب ، والمفروض جوازه للاضطرار إليه ولا يتعين عليه نحو خاص من الاشغال وهو القيام أو الجلوس أو النوم مثلا ، بل له الحق في أي فرد من افراد الاشغال.

وأما النّظر العرفي ، فهو لو سلم لا يعتد به إذ العرف انما يرجع إليه في تعيين مفاهيم الألفاظ لا تعيين المصاديق ، وبعد ان عرفنا ان التصرف الجائز هو إشغال المكان المغصوب لأنه مما لا بد منه ، وعلمنا ان الركوع نحو من أنحاء الاشغال ولا يشتمل على تصرف غير الإشغال ، كما انه لا يستلزم زيادة الإشغال ، لأن الجسم واحد وهو يستدعي حيزا معينا لا يزيد ولا ينقص بلحاظ حالاته

١٦٤

وكيفيات وجوده ، لعدم تغيره عن واقعه ـ بعد علمنا بذلك ـ لا وجه للاعتداد بالعرف وتحكيمه في نظره بأنه غصب زائد ، لأنه يبتني على المسامحة ولا اعتبار بها.

وهذه الدعوى تامة بنحو الموجبة الجزئية ، فان الركوع وان لم يستلزم تصرفا زائدا ، لكن السجود يستلزم ، لأنه يعتبر فيه وضع الجبهة على الأرض ، وهكذا التشهد ، فانه يعتبر فيه الجلوس ، سواء اعتبر ذلك مقوما أو شرطا ، إذ على الأول يكون المورد من موارد الامتناع وعلى الثاني يكون المورد من موارد التزاحم ، فان حرمة الشرط ووجوب المشروط لا يجتمعان امتثالا ، وعليه فتسلب القدرة الشرعية عن السجود ، فينتقل إلى بدله الاضطراري.

ومن هنا يظهر حكم الصلاة في حال الخروج المضطر إليه بناء على إباحته ، فانه تجوز الصلاة فيه بالمقدار الّذي لا يستلزم تصرفا زائدا على نفس الخروج أو زيادة مدة الخروج ، وإلاّ لم تصح الصلاة بناء على الامتناع وتغليب جانب النهي.

هذا تمام الكلام في مسألة اجتماع الأمر والنهي (١).

ويقع الكلام بعد ذلك في مسألة ...

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٥

« اقتضاء النهي الفساد »

وموضوع البحث فيها : هو ان تعلق النهي بالعمل عبادة كانت أو معاملة هل يستلزم فساده أو لا؟.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى بيان أمور ، وبعضها وان لم يترتب على تحقيقه أي أثر عملي لكنا نتعرض إلى بيانها جريان على طبق الكفاية ، لكن نكتفي ببيان مطلب الكفاية وإيضاحه لا أكثر.

الأمر الأول : في بيان الفرق بين هذه المسألة ومسألة اجتماع الأمر والنهي ، وقد تقدم بيانه في بدء الشروع في تلك المسألة فلا نعيد.

الأمر الثاني : في بيان الوجه في عدّ هذه المسألة من المسائل اللفظية ، وهو : وجود القول بدلالة النهي على الفساد في المعاملات مع إنكار الملازمة العقلية بين النهي والفساد فيها ، فلو جعل البحث بحثا عقليا لم يكن هذا القول من أقوال المسألة ، بخلاف ما لو جعل البحث لفظيا فانه يكون من أقوالها.

ودعوى : ان الملازمة بين الحرمة والفساد في العبادة على تقدير ثبوتها ، فهي تكون بين الفساد والحرمة ولو لم تكن مدلولة باللفظ ، وعلى تقدير انتفائها فكذلك.

تندفع : بإمكان جعل البحث في العبادة في دلالة الصيغة على الفساد بما يعم الدلالة الالتزامية التي ترجع في الحقيقة إلى البحث عن ثبوت الملازمة ، فيكون البحث لفظيا في كلا الموردين (١).

__________________

(١) لم يتعرض سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) إلى ما ذكره صاحب الكفاية من مرجحات جانب النهي ، وعلل ذلك : بان المورد بناء على الامتناع يكون من موارد التعارض. وبناء على الجواز يكون من موارد التزاحم.

وقد مرّ ذكر مرجحات باب التزاحم وسيأتي ذكر مرجحات باب التعارض ، فلا حاجة للتعرض في المقام

١٦٦

هذا إيضاح مطلب الكفاية في هذا الأمر ولا بد من توجيه كلامه بحمله على ان المفروض في كلامه ان الملازمة التي هي موضوع النفي والإثبات هي الملازمة البيّنة الموجبة لدلالة اللفظ ، كي لا يرد عليه ما أورده المحقق الأصفهانيّ من ان أصل الملازمة ثبوتا إذا كان محل الإشكال ، فلا معنى للبحث عن الدلالة الالتزامية (١).

وقد أخذه قدس‌سره مما أورده صاحب الكفاية على صاحب المعالم في عدّ مبحث مقدمة الواجب من المباحث اللفظية (٢).

وقد فسرناها فيما تقدم بان طبيعي الملازمة الأعم من البينة وغيرها محل إشكال ، فلا معنى لإيقاع البحث في الدلالة الالتزامية المبتنية على الملازمة البينة.

الأمر الثالث : في بيان المراد من النهي في موضوع البحث.

وتوضيح ما ذكره قدس‌سره (٣) : ان لفظ النهي وان كان ظاهرا في النهي التحريمي ، إلاّ ان ملاك البحث لما كان يعم التنزيهي ولا اختصاص له بالحرمة ـ كما سيتضح ـ ، تعين إرادة الأعم من التحريمي التنزيهي في موضوع البحث.

ودعوى : ان ملاك البحث في المعاملات لا يعم التنزيهي ، إذ لم يتوهم متوهم استلزام كراهة المعاملة لفسادها ، والمفروض ان المأخوذ في متعلق النهي في موضوع البحث هو الأعم من العبادة والمعاملة ، فان المراد بـ : « الشيء » ذلك ، فيكون موجبا لاختصاص البحث بالحرمة ، إذ لا بحث في اقتضاء الكراهة لفساد

__________________

ـ إلى ما ذكره صاحب الكفاية ، مع ان ما ذكره من المرجحات ليست من باب واحد ، فبعضها يرتبط بباب التعارض وهو الأولى ، وبعضها يرتبط بباب التزاحم وهو الأخيران. فالتفت. راجع كفاية الأصول ( منه عفي عنه ).

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٠٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٧

المعاملة المفروض عموم لفظ « شيء » لها.

وبالجملة : عموم الملاك للنهي التنزيهي يقتضي تعميم المراد من النهي ، وإرادة الأعم من العبادة والمعاملة من لفظ « شيء » مع اختصاص عموم الملاك في العبادة ، يقتضي تخصيص المراد من النهي.

تندفع : بان المراد من النهي طبيعي النهي الشامل لكلا الفردين لا خصوصية كلا الفردين ، فلا منافاة حينئذ ، إذ يصح وقوع المطلق بما هو مطلق مورد الحكم أو الترديد مع اختصاص ذلك ببعض افراده ، فمثلا لو علمنا بان زيدا يشرب نوعين من الدواء ، وعمرا يشرب نوعا واحدا ، صح لنا الحكم في جملة واحدة بان زيدا وعمرا يشربان الدواء ، أو السؤال عن انهما هل يشربان الدواء أو لا؟.

نعم لو أريد خصوص الفردين اتجه الإيراد. فتدبر.

هذا بالنسبة إلى التحريمي والتنزيهي.

اما بالنسبة إلى النفسيّ والغيري ، فذكر : انه لا وجه لتخصيص الكلام في النفسيّ ، بل يعم الغيري إذا كان أصليا ، بمعنى انه مدلول للكلام بنفسه ، إذ يمكن ان يدعي باقتضائه الفساد ولو لم تكن مخالفته موجبة للبعد والعقاب ، لدلالته على مبغوضية العمل الموجب لارتفاع محبوبيته فلا يكون مقربا. ومما يؤيد ذلك : انه قد جعل ثمرة النزاع في ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده الخاصّ فساده إذا كان عبادة ، مع ان النهي على القول به غيري ، في بعض وجوهه.

نعم إذا كان تبعيا غير مدلول للكلام كان خارجا عن موضوع البحث ، لأنه من مقولة المعنى ولكنه داخل فيما هو ملاكه. فالتفت.

الأمر الرابع والخامس : في بيان المراد بالعبادة والمعاملة المقصودة من لفظ « شيء » المأخوذ متعلقا للنهي في موضوع البحث.

١٦٨

وقد أفاد (١) بان المراد بالعبادة أعم مما يكون بنفسه وبذاته عبادة لله تعالى لو لا حرمته كالسجود لله والخضوع له فانه عبادة بنفسه ، ومما لا يكون كذلك ولكن كان لو امر به لكان امره عباديا لا يسقط بدون قصد القربة ، كالصلاة والزكاة ونحوهما. فيقع البحث : ان النهي هل يمنع من تحقق العبادية التي تترتب على السجود أو الصلاة مثلا لو لا النهي أو لا يمنع؟.

واما ما فسر به المراد من العبادة بأنه ما امر به لأجل التعبد به ، أو ما يتوقف صحته على النية ، أو ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء ، فهو غير صحيح لأن العبادة بهذا المعنى يمتنع تعلق النهي بها كي يتكلم في اقتضائه الفساد وعدمه ، إذ يمتنع تعلق النهي بما فرض تعلق الأمر به فعلا أو ثبوت صحته فعلا أو ما كان فيه المصلحة فعلا.

وهذا كما عرفت يقتضي ان يكون نظر صاحب الكفاية إلى اعتبار المفسرين للعبادة بهذه المعاني ، الصحة الفعلية ، والمصلحة الفعلية ، في تحقق العبادة. وإلاّ فلو كان نظرهم إلى الصحة الشأنية فلا يرد عليهم ما أورده صاحب الكفاية. فتدبر. وعلى كل فالامر ليس بمهم كما يقول صاحب الكفاية لأن الغرض شرح الاسم لا التعريف بالحدّ أو الرسم.

واما المراد بالمعاملة : فقد ذكره في الأمر الخامس (٢) بعد تقديم مقدمة ، محصلها : ان الصحة والفساد انما يثبتان للعمل بلحاظ ترتب ما يترقب منه من الأثر وعدم ترتبه.

ومن الواضح ان ما يدخل في محل النزاع ما كان قابلا للاتصاف بكلا الوصفين حتى يقبل البحث في استلزام النهي فساده ، اما ما لا يقبل الاتصاف

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٦٩

بهما كليهما ، اما لعدم كونه ذا أثر أصلا أو لأنه ذو أثر لكنه كان ملازما له دائما لا يتخلف عنه ، فلا يدخل في محل النزاع لعدم اتصافه بالفساد ، فلا معنى للبحث عنه ، ويمثل له بالملاقاة في تحقق الطهارة أو النجاسة ، فقد قيل : انها بمنزلة العلة التامة لحصول أثرها ، وبالإتلاف في تحقق الضمان. لكنه خارج عما نحن فيه لأنه منهي عنه في المورد الّذي يقبل تعلق النهي به مع كونه ما يترتب عليه الأثر.

وعلى كل حال فيدخل في محل النزاع كل ما كان قابلا للاتصاف بالوصفين ، كالعقود والإيقاعات وغيرهما كالتحجير والحيازة في ثبوت الحق أو الملكية. ولا وجه لتخصيص الكلام بالعقود والإيقاعات كما ذهب إليه المحقق النائيني بدعوى : عدم توهم اقتضاء النهي في مثل التحجير للفساد (١) ، فانها تندفع : بان الملاك الّذي يقتضي الفساد في مثل العقود يقتضيه في مثل التحجير ، وهذه الدعوى مما لا شاهد لها إذا لم تكن معقد الإجماع.

الأمر السادس : في بيان ان وصف الصحة والفساد من الأوصاف الإضافية الحقيقية ، فانهما يثبتان للشيء بلحاظ ترتب الأثر المترتب عليه وعدمه ، ولذلك أمكن اتصاف الشيء الواحد بهما معا بلحاظ ترتب أثر وعدم ترتب آخر ، كما ولأجل ذلك كان اتصاف الشيء بهما يختلف باختلاف الأنظار لاختلافها في الأثر المترقب على العمل والمرغوب منه ، ولكنهما عند الجميع بمعنى واحد وهو التمامية وعدمها ، وتفسيرها بغير ذلك في بعض الاصطلاحات ، انما هو تفسير باللازم لكونه محط النّظر (٢).

وقد تقدم هذا البيان منه في بحث الصحيح والأعم ونقلناه هنا ملخصا لعدم أي أثر يترتب عليه.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٨٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٧٠

وانما المهم هو تحقيق البحث في تنبيه الأمر السادس ، الّذي عقده صاحب الكفاية لتحقيق : ان الصحة هل هي من الأمور المجعولة أو لا؟. وتحقيق هذا المطلب ينفعنا في جريان استصحاب الصحة مع الشك في فقدان الجزء أو حصول المانع في الشبهة الحكمية ، لأن الصحة إذا كانت من المجعولات الشرعية كانت مما يقبل التعبد وضعا ورفعا ، فصح إجراء الأصول فيها.

وقد أفاد قدس‌سره : ان الصحة في العبادة ان كانت موافقة الأمر أو الشريعة ـ كما هي عند المتكلم ـ فهي من الأمور الانتزاعية ، فان موافقة الأمر تنتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به ، وليست من الأمور المجعولة لا استقلالا ـ كما هو واضح ـ ولا تبعا لجعل المأمور به ، إذ بجعل المأمور به ، لا تتحقق الموافقة ما لم يتحقق المأتي به. واما بمعنى سقوط الإعادة والقضاء ـ كما هي عند الفقيه ـ ، فالوجه هو التفصيل بين المأمور به بالأمر الواقعي بالنسبة إلى أمره والمأمور به بالأمر الظاهري والاضطراري بالنسبة إلى الأمر الواقعي الأولي. فان سقوط الإعادة والقضاء في الأول من اللوازم العقلية للإتيان به لحصول الغرض وسقوط الأمر ، فلا وجه للإعادة أو القضاء ، فهي بهذا المعنى ليست حكما جعليا لا استقلاليا ولا تبعيا ، كما انها ليست من الأمور الانتزاعية ، بل هي امر واقعي يحكم به العقل كاستحقاق العقوبة والمثوبة الّذي يحكم به العقل ويستقل به. واما سقوطها في الثاني فقد يكون مجعولا كما لو لم يكن المأمور به الاضطراري والظاهري وافيا بملاك الواقع وأمكن تداركه فكان مقتضى القضاء أو الإعادة ثابتا فيحكم الشارع بسقوطهما في هذه الحال تحقيقا على العباد ومنة منه عليهم ، كما انه قد يحكم بثبوتهما. فالصحة في هذه الصورة من الأحكام المجعولة وليست من الأوصاف الانتزاعية. لكن هذا بلحاظ طبيعي المأمور به. اما المصداق الخارجي المنطبق عليه المأمور به فالمصلحة فيه انتزاعية لا مجعولة ، إذ هي تنتزع عن انطباق المأمور به على المأتي به ولم تجعل له الصحة استقلالا ، نظير اتصافه

١٧١

بالوجوب ، فان الوجوب انما يجعل بإزاء الطبيعي لا بإزاء افراده ، لكن ينتزع عن مطابقة الطبيعي لفرده وصف الوجوب للفرد.

واما الصحة في المعاملات : فهي بمعنى ترتب الأثر على المعاملة ، وهذا امر بيد الشارع فهو الّذي يجعل الأثر على المعاملة سواء كان بنحو التأسيس أو الإمضاء ، لبناء العقلاء على ترتب الأثر. فالصحة فيها مجعولة للشارع لكنها بلحاظ كلي المعاملة لا مصاديقها ، اما في مصاديقها الخارجية فالصحة فيها انتزاعية تنتزع عن مطابقة الفرد للطبيعي المجعول سببا ، كما هو الحال في الأحكام التكليفية كما عرفته. هذا ما أفاده صاحب الكفاية قدس‌سره في المقام (١).

وقد يرد على ما أفاده في تحقيق صحة العبادة وجوه :

الأول : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله في حاشيته ، وهو إشكال علمي يتعلق بما أفاده صاحب الكفاية من عدم كون الصحة بمعنى سقوط القضاء في صورة الإتيان بالمأمور به الواقعي من الأمور الانتزاعية ، فانه ذكر : ان كونه من الأحكام العقلية لا ينافي كونه من الأمور الانتزاعية ، فان الأمر الانتزاعي هو ما لا واقع له الا منشأ انتزاعه. ومن الواضح ان مسقطية العمل للقضاء كذلك ، فهي امر انتزاعي من ترتب عدم القضاء على العمل. فما ذكره من عدم كونها من الأوصاف الانتزاعية لا وجه له (٢).

الثاني : فيما يتعلق بما ذكره من ان الصحة في مورد الإتيان بالمأمور به الظاهري أو الاضطراري من الأحكام المجعولة لكن يتصف بها الطبيعي. اما الفرد فصحته انتزاعية.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٠٨ ـ الطبعة الأولى.

١٧٢

فان هذا عجيب ، إذ الموضوع بالنسبة إلى الحكم المرتب عليه يختلف عن المتعلق بالنسبة إلى الحكم المتعلق به ، فان الأحكام قد يدعى بان متعلقاتها هي الطبائع لا الافراد لبعض الوجوه ، وحينئذ فيوجد الحكم في عالم الاعتبار وجد الفرد أم لم يوجد ، لكن هذا الكلام لا يأتي بالنسبة إلى موضوعات الأحكام ، فان الحكم مترتب على وجودها الخارجي لا على الطبيعي ، إذ مرجع الموضوع إلى ما أخذ مفروض الوجود في تحقق الحكم ، فقبل وجود العالم لا حكم أصلا بوجوب الإكرام في قول المولى « أكرم العالم ». وقبل السفر لا حكم بوجوب التقصير. وهكذا الحال في المعاملات ، فان الملكية انما تترتب على البيع الخارجي ، لا على طبيعي البيع ، فلا ملكية بدون البيع خارجا. ومن الواضح ان نسبة سقوط القضاء إلى العمل نسبة الحكم إلى موضوعه لا نسبته إلى متعلقه ، فهو لا يترتب إلاّ على الوجود الخارجي للعمل لا طبيعي العمل.

وبالجملة : ما أفاده رحمه‌الله يرجع إلى الخلط بين متعلقات الأحكام وموضوعاتها وتشريكها في الأثر. فالتفت.

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني رحمه‌الله أيضا مما يتعلق بما ذكره قدس‌سره : من كون الصحة بمعنى سقوط القضاء في المأمور به الاضطراري أو الظاهري من المجعولات في بعض الأوقات. وتقريره : ان التعبير بسقوط القضاء مما لا محصل له بظاهره ، إذ ليس القضاء من العناوين الجعلية كالملكية حتى يكون إسقاطه جعليا ، بل هو فعل تكويني يأتي به المكلف ، فلا معنى لإسقاطه ورفعه ، فالمعقول ليس إلاّ إيجاب القضاء وعدمه ، والمراد بسقوط القضاء عدم إيجاب القضاء بلحاظ مصلحة التسهيل الغالبة على المصلحة المقتضية للوجوب.

ومن الواضح : انه لا يمكن ان يكون المقصود ومحل البحث في الجعل وعدمه هو سقوط القضاء بهذا المعنى ـ أعني : عدم إيجابه ـ ، إذ المفروض هو

١٧٣

البحث عن مجعولية الصحة التي يتصف بها الفعل وينتزع له عن تلبسه بها عنوان الصحيح ، وبديهي ان الفعل لا يتصف بوجوب القضاء وعدمه ، فان الوجوب وعدمه مما يتصف بهما القضاء لا العمل الاضطراري أو الظاهري.

ودعوى : ان المراد بالصحّة مسقطية المأتي به وعلّيته لعدم الأمر بالقضاء ، وهي مجعولة بتبع جعل عدم وجوب القضاء.

تندفع : بان العلة في عدم الأمر بالقضاء ليس هو المأتي به ، بل مصلحة التسهيل والتخفيف الغالبة على المصلحة الواقعية المقتضية للحكم كما هو المفروض.

هذا تقرير الإيراد مع حذف بعض الزوائد لعدم دخلها فيه (١).

والمتأمل فيه يرى ان هذا الإيراد يرجع إلى إنكار وجود وصف الصحة القابل لاتصاف الفعل به ، وان ما يتخيل وصفا له هو من أوصاف غيره.

وفيه :

أولا : انه يناقض الوجدان لإطلاق الصحيح أو عدمه على العمل الاضطراري والظاهري من دون أي عناية ، ولذا نرى انه كثيرا ما يسأل عن صحة العمل وفساده. كما انه يناقض ما قرره قدس‌سره من البحث عن الإجزاء في الأوامر الظاهرية والاضطرارية ، فانه لا معنى للإجزاء الا الكفاية ، ومرجعه إلى صحة العمل. ولم يناقش هناك بأنه لا معنى لدعوى كفاية المأتي به عن القضاء ، لأن العلة في عدم وجوبه شيء آخر غير العمل ، بل أجرى البحث على طبيعته التي جرى عليها الآخرون.

وثانيا : ـ وهو عمدة الجواب ـ ان الحكم يرتبط بأمرين ، يرتبط بموضوعه ـ ونعني بالموضوع : ما يعم الموضوع اصطلاحا والسبب والشرط ، وهو

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٠٨ ـ الطبعة الأولى.

١٧٤

كل ما رتب الشارع ثبوت الحكم على ثبوته وتحققه ـ ويرتبطه بعلة جعله وداعي تشريعه. ومن الواضح ان نفي وجوب القضاء وان كانت علته الغائية والداعي له هو مصلحة التسهيل الغالبة على المصلحة الأولية ، لكن موضوعه من جاء بالعمل الاضطراري أو الظاهري دون غيره.

فنفي الأمر بالقضاء يترتب على المأتي به ترتب الحكم على موضوعه ، فهو يرتبط بالمأتي به بهذا الارتباط ، وهو يكفي في وصف المأتي به بالصحّة وكونه مسقطا للأمر بالقضاء ، وان كانت العلة الغائية لعدم الأمر به شيئا آخر.

فاتصاف المأتي به بالصحّة باعتبار ترتب الأثر المجعول عليه ، نظير اتصاف الاضطرار برافعيته للحكم ، فان الاضطرار ليس هو الموجب للارتفاع حقيقة ، بل هو موضوع ارتفاع الحكم.

وبالجملة : يصح لنا وصف العمل بالصحّة بلحاظ ترتب الأثر عليه ، ومفهومها في المقام وان كان من الأمور الانتزاعية وهو مسقطية العمل للقضاء ، فانه ينتزع عن ترتب نفي القضاء على العمل ، لكن واقعها وهو الترتب المزبور أمر جعلي للمولى وهذا هو المطلوب ، فان المقصود من كون الصحة مجعولة وعدمها ليس مفهوم الصحة ، بل واقعها فانه مورد الأثر العملي في مقام إجراء الأصول لا المفهوم. ولا يقصد من التعبير عن الصحة بالمسقطية سوى واقعها ، نظير التعبير برافعية الاضطرار للحكم ومرفوعية الحكم بالاضطرار ، فانّه يقصد به واقع هذا التعبير ، وهو عدم ثبوت الحكم في مورد الاضطرار ، فلو عبر عن موضوع التعبد بالرافعية والمرفوعية ، لا يقصد التعبد بهذا العنوان ، بل التعبد بواقعه الّذي بلحاظه انتزع هذان العنوانان ، وهو عدم جعل الحكم.

ثم انه قدس‌سره أورد على صاحب الكفاية فيما ذهب إليه من كون الصحة في المعاملات مجعولة ، لأنها بمعنى ترتب الأثر وهو مجعول للشارع ، بما محصله : ان المجعول في باب المعاملات نفس الأثر وهو الملكية في البيع ونحو

١٧٥

ذلك ، اما ترتب الأثر فهو عقلي ليس مجعولا للشارع. ونفس الأثر لا يصحح الاتصاف بالصحّة ، إذ ليست الصحة نفس الأثر ، بل ترتبه كما هو المفروض.

اذن فالصحة في المعاملات كالصحة في العبادات ليست من الأمور المجعولة للشارع في رأي المحقق الأصفهاني (١) قدس‌سره.

لكن هذا الإيراد غير سليم عن المناقشة ، فان ترتب الأثر في المعاملات ليس عقليا ، بل يكون شرعيا ، لأن المقصود بالترتب لا يعدو أحد امرين : اما منشئية العقد لثبوت اثره المجعول شرعا. واما ثبوت الأثر بعد تحقق العقد. وكل من هذين الأمرين ليس عقليا ، فان منشئية العقد لثبوت الأثر جعلية ، ولذا تدور في السعة والضيق والثبوت والعدم مدار الجعل والاعتبار.

وهكذا ثبوت الأثر بعد تحقق العقد ، فانه أمر يرتبط بالجاعل لا بالعقل ، ولذا قد يثبت وقد لا يثبت باعتبار الجعل وعدمه.

وبالجملة : فربط الأثر بالعقد امر بيد الجاعل ، ولذا يتصرف به كيف ما يشاء. والمراد من منشئية العقد للأثر ليس مفهوم المنشئية بل واقعها ، فان مفهومها وان كان امرا انتزاعيا لكن واقعها امر جعلي ، نظير موضوعية الموضوع فان واقعها ليس إلاّ جعل الحكم عند تحققه ، وان كانت هي انتزاعية ، ولأجل ذلك يقال : ان إجراء الأصل في موضوعية الموضوع مرجعه إلى إجرائه في الحكم.

وبالجملة : فواقع الصحة في هذه الموارد مجعول شرعي وهو ثبوت الأثر عند ثبوت العقد ، وينتزع عنه منشئية العقد له وسببيته كما ينتزع التمليك بلحاظ الملكية بالنسبة إلى الجاعل. وكانتزاع الإيجاد بلحاظ الفعل بالنسبة إلى الموجد.

وقد عرفت ان الغرض يتعلق بما هو واقع الصحة لا مفهومها ، فان الّذي يقصد كونه مجرى الأصل هو الواقع لا المفهوم.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٣٠٩ ـ الطبعة الأولى.

١٧٦

ويتحصل مما ذكرنا ان ما جاء به المحقق الأصفهاني لا نعرف له وجها وجيها.

ثم انك عرفت ان الصحة تثبت للشيء بلحاظ ترتب الأثر المرغوب عليه ، كما ان الفساد يثبت له بلحاظ عدم ترتبه.

وهذا المعنى ينتقض بكثير من الموارد التي لا يتصف الشيء بالصحّة والفساد بلحاظ ترتب اثره وعدمه كالخمر الحرام وغير الحرام ، فان الأول لا يتصف بالصحّة كما ان الثاني لا يتصف بالفساد. وكالسفر الموجب للقصر وغير الموجب له ، فان الأول لا يتصف بالصحّة والثاني لا يتصف بالفساد. وهكذا الحال في كثير من موضوعات الأحكام.

ويندفع هذا النقض : بان الاتصاف بالصحّة والفساد ليس منشؤه ترتب الأثر وعدمه مطلقا ، بل منشؤه ترتب الأثر المترقب عادة من العمل ، بحيث يكون المنظور في إتيان العمل عادة ترتب هذا الأثر ، فترتبه يوجب الاتصاف بالصحّة وعدم ترتبه يوجب الاتصاف بالفساد ، ومن الواضح انه لا يلحظ في إيجاد الخمر عادة ترتب الحرمة عليه ، بل الملحوظ هو الإسكار ، فلو ثبت إسكاره كان خمرا صحيحا ومع عدم كونه مسكرا كان خمرا فاسدا. والبيع انما يتصف بالصحّة لو ترتبت عليه الملكية لأنه الأثر المترقب منه عند إيجاده. وهكذا.

وبعد هذا نعود على ما كنا عليه من معرفة ان الصحة مجعولة أو لا؟. وقد عرفت عدم تمامية ما أورده المحقق الأصفهاني على صاحب الكفاية. فيتعين الالتزام به لأنه مما يتلاءم مع الوجدان والبرهان كما عرفت.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس‌سره إلى التفصيل بين الصحة الواقعية والصحة الظاهرية ، فالتزم بالمجعولية في الثانية دون الأولى ، فانه بعد ان تعرض مفصلا إلى تحقيق مفهوم الصحة وان الملاك فيه هو انطباق المأمور به على المأتي به في العبادات وانطباق ما اعتبره الشارع سببا للأثر على المعاملة الخارجية

١٧٧

في المعاملات ، وانه بذلك يتضح ان تفسير الصحة بموافقة الشريعة كما عن المتكلمين أو بإسقاط القضاء والإعادة كما عن الفقهاء لا يرجع إلى المغايرة في معناها بين الطرفين ، بل ذلك تفسير بالمهم من لوازمها وآثارها والمعنى لدى الطرفين واحد ، ـ بعد ان ذكر ذلك بتفصيل ـ تعرض إلى تحقيق كون الصحة من المجعولات الشرعية وعدمه ، فذهب إلى التفصيل المزبور وتقرير وجهه بتلخيص : اما عدم كون الصحة الواقعية من المجعولات ـ ويقصد بها الصحة في العمل الواقعي ـ ، فلان الصحة عبارة عن انطباق المأمور به على الموجود الخارجي في العبادات ، وانطباق سبب العقد على الموجود الخارجي في المعاملات ، والفساد فيهما عبارة عن عدم الانطباق ، ومن الواضح ان الانطباق في الأوامر الواقعية ليس مرتبطا بالجعل ، بل هو خارج عن دائرة الجعل ، ومثله الحال في الصحة في موارد الأوامر الواقعية الثانوية لما ذكره قدس‌سره في مبحث الاجزاء من ان المأمور به الاضطراري لا بد وان يكون مجزيا عن الواقع الأولي لاستحالة الأمر بغير المقيد مع بقاء القيدية ، فمع تعلق الأمر به نستكشف سقوط القيدية في مورد الاضطرار ، فيكون الأمر واقعا متعلقا بغير المقيد وانطباقه على الخارج عقلي.

واما كون الصحة الظاهرية مجعولة ـ ويعني بها الصحة في العمل الظاهري ـ ، فوجهه : ان قيام الأمارة أو الأصل على الاكتفاء بالعمل حتى مع انكشاف الخلاف مرجعه إلى التعبد بانطباق المأمور به الواقعي على المأتي به فيكون الانطباق هاهنا مجعولا. لكن الصحة في الفرض لا تكون من الأحكام الظاهرية الصرفة ، بل تكون برزخا بينها وبين الأحكام الواقعية الثانوية ، إذ من جهة أخذ الشك في موضوعها تكون حكما ظاهريا ، ومن جهة كونها موجبة لسقوط التكليف الواقعي عنه حتى بعد انكشاف الخلاف تكون شبيهة بالاحكام الواقعية الثانوية ، فبذلك تكون وسطا بين المرتبتين.

١٧٨

هذا ملخص ما أفاده قدس‌سره (١). وفيه ما لا يخفى من جهات :

الأولى : ما ذكره قدس‌سره من ان الملاك في اتصاف العمل بالصحّة هو انطباق العمل المشروع ـ عبادة كان أو معاملة ـ على الموجود الخارجي عدولا عما عليه القوم ، وما ذكره هو أولا من ان ملاك الاتصاف بالصحّة ترتب الأثر على العمل ، والإشكال فيه من وجهين :

الأول : انه ذكره بنحو الدعوى من دون ان يقيم عليه أي دليل ويستند فيه إلى وجه وهو مما لا يتلاءم مع البحث العلمي.

الثاني : انه غير صحيح في نفسه ، لبداهة اتصاف العمل بالصحّة من دون ثبوت الانطباق المزبور كالصلاة الجهرية المأتي بها إخفاتا وبالعكس ، إذا كان ذلك عن جهل تقصيري ، فانه يلتزم بصحة العمل ويعبر عنه بالصحيح في النص والفتوى مع انه لا ينطبق عليه المأمور به ، ولذا يعاقب على تركه وتفويته. اذن فالأوجه الالتزام بان ملاك الصحة هو ترتب الأثر وفاقا لما عليه القوم.

الثانية : ما ذكره من ظهور وحدة المعنى للصحة لدى الفقهاء والمتكلمين ، وكون الاختلاف بينهما بلحاظ الاختلاف فيما هو المهم من الأثر من تعيّن كون الملاك في الاتصاف بالصحّة هو الانطباق. وقد أخذ هذا البيان من كلام الكفاية حيث فسر الصحة بالتمامية ، واستظهر ان المقصود للفقهاء والمتكلمين ذلك ، والتعبير بغيره في تعاريفهم تعبير عن لازم المعنى لا أصله (٢).

وجهة الإشكال فيه : ان نحو ما أفاده يختلف عن نحو ما أفاده صاحب الكفاية ، فان صاحب الكفاية فسر الصحة بالتمامية ، وبما انه معنى جامع لكلا التفسيرين الواردين في كلام الفقهاء والمتكلمين ادعى ان اختلاف تفسيرهم

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٩١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٨٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٧٩

يرجع إلى الاختلاف في الأثر المرغوب لا في أصل المعنى ، فانه محفوظ في كلا التفسيرين ، فمراد الفقيه التمامية من حيث سقوط القضاء والإعادة ، ومراد المتكلم التمامية من حيث موافقة الشريعة. فكان لما ادعاه وجه.

واما المحقق النائيني فلم يذهب إلى ان معنى الصحة هو الانطباق حتى يدعى انه معنى جامع لكلا التفسيرين ، بل ذهب إلى ان ملاك الاتصاف بالصحّة هو ذلك ، وهذا لا يستلزم وحدة المعنى لدى الطرفين مع اختلاف تفسيرهم ، فترتب ظهور وحدة المعنى لديهما على ملاكية الانطباق للصحة امر لا وجه له بأيدينا فالتفت.

الثالثة : ما ذكره من كون الصحة في موارد الأوامر الاضطرارية غير مجعولة خلافا لصاحب الكفاية وتوجيهه بما عرفت بيانه ، والإشكال فيه يظهر مما تقدم في مبحث الاجزاء من عدم تسليم ما أفاده في وجه لا بدية الاجزاء في الأوامر الاضطرارية ، فراجع تعرف.

وعليه ، فللشارع الحكم بالاجزاء في بعض الموارد غير المقتضية له ، فتكون الصحة مجعولة كما ذهب إليه صاحب الكفاية.

الرابعة : ما ذكره في وجه مجعولية الصحة في الأوامر الظاهرية ، من ان قيام الأمارة أو الأصل على الاكتفاء بالعمل يرجع إلى تعبده بانطباق الواقع على المأتي به.

وجهة الإشكال فيه هي : ان التعبد لا يصح إلا بما كان مجعولا شرعيا ـ تكليفيا أو وضعيا ـ أو موضوعا لأثر شرعي ، وليس انطباق الواقع على المأتي به من المجعولات الشرعية بكلا النحوين كما هو واضح. كيف؟ ويراد تصحيح جعله بالتعبد الّذي هو محل البحث ـ كما انه ليس من موضوعات الأحكام الشرعية ، إذ لا يترتب على الانطباق أي أثر شرعي.

مع ان التعبد بالموضوع للأثر الشرعي مرجعه إلى التعبد بنفس الأثر ،

١٨٠