منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

وأما بعد الدخول فلا يقع محرما ، لأنه مما يترتب عليه التخلص عن الحرام فلا يمكن اتصافه بغير المحبوبية ، نظير شرب الخمر الّذي يتوقف عليه النجاة من الهلكة.

وأورد عليه صاحب الكفاية :

أولا : بالنقض بالبقاء ، فان البقاء قبل الدخول غير مقدور فكيف فرض تعلق التكليف به.

وثانيا : بان الخروج وتركه مقدور قبل الدخول ، إلاّ أنه بالواسطة على عكس نفس الدخول فانه مقدور بدون واسطة. ومن الواضح انه لا يعتبر في صحة التكليف أكثر من القدرة سواء كان بواسطة أو بغيرها ، نظير مطلق الأفعال التوليدية التي تكون اختياريتها باختيارية أسبابها.

وأما دعوى انه لا يصدق الترك إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، فهي لو سلمت غير ضائرة ، فان المعتبر هو التمكن من الترك بأي نحو حصل ، فان مطلق التمكن يصحح التكليف.

وأما ما ذكره من ان الخروج يكون مما يتوقف عليه التخلص عن الحرام نظير شرب الخمر الّذي يتوقف عليه النجاة من الهلكة ، فهو إنما ينفع في وجوب الخروج لو لم يكن مبغوضا للمولى ، ومنه يظهر أن شرب الخمر يقع مبغوضا إذا كان الوقوع في المهلكة لولاه بسوء اختياره ولا يخرج بذلك عما هو عليه من المبغوضية.

هذا خلاصة إشكال صاحب الكفاية على الشيخ قدس‌سرهما (١).

ويستخلص منها : ان الخلاف بين العلمين قدس‌سرهما يتمركز على صحة التكليف بترك الخروج قبل الدخول ، فيذهب إليه صاحب الكفاية فيرى

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٧٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٤١

ان الخروج الناشئ عن اختيار الدخول يقع مبغوضا لأنه عصيان للنهي السابق. ويذهب إلى عدمه الشيخ رحمه‌الله لعدم كون الترك مقدورا قبل الدخول فلا يصح التكليف.

والّذي يظهر من كلام الكفاية ان الشيخ يشترط في صحة التكليف القدرة المباشرية على متعلقه وعدم صحته مع القدرة عليه بالواسطة.

ولكن مثل هذا يبعد جدا صدوره من الشيخ ، فانه ممن يلتزم بالواجب المعلق مع عدم القدرة على الواجب في ظرف الوجوب.

والّذي يبدو لنا أن مراد الشيخ شيء آخر وهو : ان الخروج له فرضان ولحاظان. أحدهما : فرض الخروج في ظرف ما قبل الدخول. والآخر : فرضه في ظرف ما بعد الدخول. ومن الواضح ان الخروج باللحاظ الأول غير مقدور ، فانه قبل الدخول غير قابل لاعمال الإرادة فيه إيجادا أو تركا ، بل تركه متحقق قهرا بترك الدخول ، فهو في هذا الظرف متروك في نفسه.

وبما ان التكليف انما هو لأجل إعمال الإرادة والاختيار في متعلقه لم يصح تعلق التكليف بالخروج في هذا الظرف ، لأنه غير قابل لإعمال الإرادة فيه.

نعم ، الخروج في الظرف الآخر ـ أعني ظرف ما بعد الدخول ـ مما يقبل إعمال الإرادة فيه في نفسه ، إلا انه حيث يقع مورد الاضطرار ومقدمة للتخلص عن الحرام لم يصح تعلق التكليف فيه ، فهو غير قابل للتحريم في حال من حاليه. وهذا بخلاف البقاء ، فانه بعد الدخول قابل للتحريم ، لأنه لا يقع مقدمة للواجب ، ولم يظهر من كلام الشيخ انه يرى ان البقاء محرم قبل الدخول كي يكون موردا للنقض.

بهذا البيان لمراد الشيخ يظهر ان إيراد الكفاية بعيد كل البعد عن مرامه. فانه لا يدعي ان المقدور بالواسطة لا يصح التكليف به ، بل يلتزم بصحة التكليف به إذا كانت إراديته بإرادية الواسطة كالمسببات التوليدية ، وليس

١٤٢

الخروج منها ، إذ هو لا يتحقق بمجرد الدخول ، بل يبقى اختيار المكلف بالنسبة إليه محفوظا بعد الدخول.

والّذي يتوجه على الشيخ إجمالا : أن الخروج بعد الدخول وإن كان مورد الاضطرار ، إلاّ انه لمكان مشتملا على مفسدة التحريم وكان الاضطرار إليه اختياريا يكون مبغوضا وإن لم يكن محرما ، للزوم تحصيل الغرض الملزم عقلا ، نظير موارد الاضطرار إلى المحرم إذا كان بالاختيار ، فانه يلتزم بوقوع العمل مبغوضا للمولى. فانتبه.

ثم أن وضوح كلام الشيخ ومراده ووضوح صحته وعدم صحته ، بل وضوح الحقيقة في هذه المسألة ، يتوقف على معرفة موضوع الكلام وتشخيص المراد بالاضطرار ، إذ يتساءل بان الخروج لا يكون مضطرا إليه ، إذ يتمكن المكلف من تركه وفعله.

فنقول : ان موضوع البحث يمكن أن يبين بنحوين :

أحدهما : ما ذكره المحقق النائيني قدس‌سره من : ان الخروج ليس مورد الاضطرار فلا يدخل المورد تحت قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافى الاختيار » ، فالبحث إنما يقع في التزاحم الحاصل بين حرمة الخروج ووجوب التخلص عن الغصب الزائد ، فالمورد من موارد التزاحم بين الحكمين بسوء الاختيار (١).

وهذا الرّأي مخدوش فيه :

أو لا : بأنه يستلزم إلحاق المسألة بباب التزاحم ، وهذا مما يأتي الكلام فيه فيبحث هناك عن حكم التزاحم الحاصل بالاختيار ، فلا وجه لجعلها مسألة مستقلة وتحت عنوان مستقل وهو عنوان الاضطرار إلى الحرام.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٧٦ ـ الطبعة الأولى.

١٤٣

وثانيا : أنه في نفسه غير صحيح لتحقق الاضطرار إلى الحرام كما سيتضح في البيان الثاني.

وثانيهما : أن يقال أن الخروج مورد للاضطرار ببيان : أن من يدخل إلى الأرض المغصوبة.

تارة : يضطر إلى الخروج بحيث لا يتمكن من البقاء أصلا ، وهذا خارج عما نحن فيه.

وأخرى : لا يضطر إلى خصوص الخروج وانما يضطر إلى الغصب بمقدار زمان الخروج ولا يتمكن من تركه بهذا المقدار ، إلا انه مردد بين فردين الخروج والبقاء. وهذا هو محل الكلام. فنقول : انّ حرمة الغصب وإن كانت ثابتة بنحو الاستغراق لافراده ، إلا انه حيث لا يمكن الجمع بين حرمة الخروج وحرمة البقاء يقع التزاحم بينهما وهو تزاحم دائمي ، لأنه لا يمكن الجمع بين حرمتيهما في وقت من الأوقات لأنهما ضدان لا ثالث لهما. فيتعين أن يكون النهي عن صرف وجود الغصب. فالمطلوب هو ترك صرف الوجود بمعنى أول الوجود. وذلك : لأن تعلق الحكم بكلا الفردين محال لعدم القدرة على تركهما ، وتعلقه بأحدهما المعين ترجيح بلا مرجح ، فلا بد ان يتعلق بصرف الوجود المنطبق على ما يحصل منهما أولا.

ومن الواضح ان صرف الوجود مما يضطر إليه المكلف لاضطراره إلى الغصب فترتفع حرمته قهرا وإن بقي على ما هو عليه من المبغوضية ، فإذا تحقق صرف الوجود بالخروج كان الخروج مما اضطر إليه ، فالاضطرار إلى الخروج الحاصل عقلي للاضطرار إلى صرف الوجود المنطبق عليه.

وهذا البيان واضح لا غبار عليه ومقتضاه ان كلاّ من الخروج والبقاء لا يقع محرما.

إلا انه انما يتم ذلك فيما لو لم يكن البقاء مستلزما للغصب الزائد ، كما إذا

١٤٤

علم بارتفاع الغصب بعد مرور مقدار زمان الخروج ، فانه يكون مخيرا بين الخروج والبقاء لعدم المرجح.

أما إذا كان البقاء مستلزما للغصب الزائد ، فلا بد من الالتزام بحرمته دون الخروج ، لأن المقتضي لحرمته موجود من دون أي مانع بخلاف الخروج ، فان المقتضي وإن كان موجودا لكنه محتف بالمانع وهو كونه مقدمة للواجب ، وهو التخلص عن الحرام الزائد وتركه. فيكون البقاء حراما دون الخروج ، فبهذا البيان يكون تعين أحدهما المعين وهو البقاء بمعين ومرجح ، ولأجل ذلك التزم الكل بحرمة البقاء مع منافاته للبيان الأول.

وعليه ، فيقع البحث في ان المقدمية هل تستلزم رفع جهة المبغوضية في الخروج أو لا تستلزم ذلك ، بل يبقى على ما هو عليه من المبغوضية؟.

والّذي يمكن ان يذكر في إثبات وقوع الخروج مبغوضا فعلا وجهان :

الأول : ما ذكره صاحب الكفاية من تعلق النهي السابق ـ يعني قبل الدخول ـ بالخروج ، وهذا النهي وإن سقط للاضطرار عقلا ، لكن متعلقه يقع مبغوضا لكونه اختياريا بالواسطة ، فهو نظير قتل النّفس الناشئ من الرّمي ، فان تحريمه يرتفع بعد الرمي لعدم كونه اختياريا في ذلك الحال ، لكنه يقع مبغوضا ولذا يعاقب عليه العبد.

ثم ذكر : انه يمتنع ارتفاع المبغوضية لأجل المقدمية واحتفافها بما يوجب المحبوبية ، لأنه يستلزم تعليق التحريم على إرادة عدم الدخول وعدم التحريم على إرادة الدخول. ومن الواضح ان هذا ممتنع ، فان التعليق المزبور يمنع من تأثير الحرمة في الزاجرية والداعوية بنحو الترك فيكون جعلها لغوا (١).

وهذا الوجه يندفع :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٤٥

أولا : بما تقدم من استحالة تعلق الحرمة بالخروج في فرض عدم الدخول فلا حرمة سابقة في البين.

وثانيا : بأنه لو فرض إمكان تعلقها بالخروج قبل الدخول وعدم استحالته فهي غير ثابتة لما سيأتي في دفع الوجه الثاني.

الثاني : أن الخروج وإن كان مما يتوقف عليه الواجب لكن بما انه مبغوض في نفسه وكان الوقوع فيه ناشئا عن الاختيار لم ترتفع مبغوضيته وإن كان مما لا بد منه عقلا فرارا من أشد القبيحين ، فهو نظير ما لو اضطر لشرب الخمر بسوء اختياره ، فانه يعاقب على ذلك ، وإن لم يكن محرما عليه فعلا لاضطراره إليه.

وفيه : ان الخروج المضطر إليه وان كان مبغوضا في نفسه للجزم بعدم اختلافه عن سائر افراد الغصب ، إلا انه حيث تتزاحم المبغوضيتان وهما مبغوضية الخروج ومبغوضية الغصب الزائد ، فالمولى يحكم بتقديم مبغوضية الغصب الزائد وترتفع مبغوضية الخروج ، والمراد بالمبغوضية المرتفعة المبغوضية التي تكون مورد الأثر من مبعدية وعقاب ولوم وعتاب ـ وهي محل الكلام ـ لا المبغوضية الطبعية فانها موجودة في جميع موارد التزاحم ، وهذا أمر وجداني لا يختلف فيه اثنان فان من يرى نفسه مضطرا إلى قطع يده لحفظ حياته يكره قطع يده لكن لا يعاقب من يباشر القطع. ولا يختلف في ذلك ما إذا كان الاضطرار قهريا أو كان اختياريا.

نعم ، في صورة الاضطرار الاختياري تتعلق المبغوضية العملية بتحريم المولى وجعله مضطرا إلى ما هو مبغوض لديه ذاتا. فان من فعل فعلا استلزم توقف حياة الغير على قطع يده فانه لا يتوقف المضطر في قطع يده ويأمر الطبيب بذلك لكنه يعاقبه أو يلومه على تحريمه وجعله مضطرا إلى ذلك لا على نفس قطع يده.

١٤٦

وبالجملة : الوجدان يشهد على ارتفاع المبغوضية العملية بالمزاحمة وإن بقيت المبغوضية الطبيعة سواء كان التزاحم بالاختيار أم بدونه.

ومن هنا يظهر انه لو فرض معقولية تعلق التحريم السابق بالخروج ، فهو غير ثابت لارتفاع ملاك التحريم بالمزاحمة دائما ، وعدم كون الخروج مبغوضا في ظرف تحققه.

وأما ما ذكره صاحب الكفاية من المحذور العقلي لو ارتفعت مبغوضية الخروج ، فهو لا يستلزم ثبوت التحريم واستمرار أثره ، بل يستلزم عدم ثبوته. وذلك لأن مقتضى المحذور العقلي هو الملازمة بين ثبوت الحرمة السابقة واستمرار أثرها ، إذ بدون الاستمرار يلزم المحذور المذكور. وبما ان عدم استمرار أثر التحريم من الأمور الوجدانية ، إذ عرفت ان ارتفاع المبغوضية للمزاحمة أمر وجداني فلا محيص عن الالتزام بعدم تعلق الحرمة السابقة بالخروج والإلزام المحذور العقلي.

ولعل ما ذكره صاحب الكفاية يبتني على الرّأي القائل بتقديم الأسبق زمانا في باب التزاحم ، والمفروض ان حرمة الخروج أسبق زمانا من حرمة الغصب الزائد. ولكن عرفت انه غير مرجح.

والمتحصل : ان رأي الشيخ القائل بعدم مبغوضية الخروج لا سابقا ولا لاحقا متين وبتعين الالتزام به.

وأما كونه مأمورا به فيمكن ان يوجه بوجوه ثلاثة :

الأول : كونه واجبا بالوجوب المقدمي ، لكونه مقدمة للتخلص عن الحرام.

الثاني : انه واجب بالوجوب النفسيّ المتعلق برد المال إلى صاحبه لأنه من مصاديق الرد.

الثالث : انه بنفسه تخلص عن الحرام ، فيكون واجبا نفسيا.

وجميع هذه الوجوه غير صحيحة :

١٤٧

أما الأول : فلما تقدم من إنكار الوجوب المقدمي لو سلم ان الخروج مقدمة. مع ان التخلص ليس بواجب شرعي. كما ستعرف.

وأما الثاني والثالث : فلان كلا من وجوب ردّ المال إلى صاحب ووجوب التخلص عن الحرام ليس حكما شرعيا ، بل هو حكم عقلي منتزع عن حرمة الغصب ، فليس لدينا حكم شرعي سوى حرمة الغصب.

وعليه ، فلا وجه لتحرير الكلام في مقدمية الخروج للتخلص وتعنونه بهذا العنوان ، وإطالة الكلام فيه كما صدر من المحقق الأصفهاني (١).

واما القول بأنه منهي عنه ومأمور به. فيدفعه مضافا إلى محالية اجتماع الحكمين في موضوع واحد ، ما عرفت من عدم المقتضي للتحريم والوجوب.

فالذي نختاره رأي آخر غير هذه الآراء ، وهو : عدم كون الخروج محكوما بحكم شرعا وانما هو لازم عقلا للمزاحمة.

يبقى البحث فيما ذكره المحقق النائيني من : أن المورد إذا كان من موارد قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » ، فالرأي ما ذهب إليه صاحب الكفاية. وإذا لم يكن من موارد القاعدة ، فالرأي ما ذهب إليه الشيخ.

وبما ان المورد ليس من موارد القاعدة المزبورة فالمختار هو رأي الشيخ.

أما عدم كون المورد من موارد القاعدة ، فهو لوجوه أربعة :

الأول : ان مورد القاعدة ما يكون خارجا عن قدرة المكلف ، وليس الخروج كذلك لكونه إراديا.

نعم ، صرف وجود الغصب بمقدار زمان الخروج أمرا ضروريا ليس تحت قدرة المكلف ، ولكنه أجنبي عن الاضطرار إلى الخروج الّذي هو محل الكلام.

الثاني : ان مورد القاعدة ما إذا كان ملاك الحكم ثابتا في العمل مطلقا

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٨٦ ـ الطبعة الأولى.

١٤٨

سواء وجدت المقدمة أم لم توجد. وما نحن فيه ليس كذلك ، فان تمامية الملاك في الخروج انما تكون بعد الدخول وبدونه لا يكون الخروج واجدا للملاك.

الثالث : ان مورد القاعدة ما كان وجود المقدمة موجبا للقدرة على المكلف به ، ويكون امتناعه ناشئا عن عدم المقدمة ، وما نحن فيه على العكس ، فان وجود الدخول ـ الذي هو المقدمة ـ يوجب الاضطرار إلى الخروج.

الرابع : ان المفروض كون الخروج لازما عقلا ، وما يكون كذلك لا يكون مورد القاعدة ، لأن موردها لا يقبل تعلق الخطاب ـ أصلا ـ شرعيا كان أو عقليا. انتهى موضع الحاجة من كلامه ملخصا (١).

ولكنه مخدوش والخدشة فيه من جهات :

الجهة الأولى : فيما ذكره من ابتناء رأي الكفاية على كون المورد من موارد قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار ». فانه غير صحيح. فان كلام الكفاية لا يرتبط بالقاعدة المزبورة أصلا ، بل يمكن ان يكون نظره إلى كون الاضطرار إلى الخروج عرفيا لا عقليا من باب التزاحم ، وان الإنسان يرى نفسه مضطرا إلى فعل الخروج باختياره فرارا عن المحذور الأشد ، كما يقال يضطر الإنسان إلى بيع داره لأجل وفاء دينه أو معالجة مرضه ، مع ان البيع يصدر منه بالاختيار.

وجامع ذلك : ان الشخص بحسب ما يرى من الآثار والتبعات التي يجري عليها في حياته الشخصية أو الاجتماعية يرى نفسه لأجل ذلك في ضرورة إلى صدور الفعل منه فيصدر عنه بالاختيار ، لكن الدافع له أثره المترتب عليه اللازم له فيعبر عن ذلك بالاضطرار عرفا في قبال الاضطرار العقلي الّذي يرجع إلى انسلاب قدرة الشخص عن العمل وصدوره عن غير إرادة كحركة المرتعش.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٧٦ ـ الطبعة الأولى.

١٤٩

والّذي يشهد على كونه نظر صاحب الكفاية إلى الاضطرار العرفي : أنه قاس المقام بما لو اضطرار باختياره إلى شرب الخمر ، لأجل عدم الوقوع في الهلكة فان شرب الخمر مضطر إليه عرفا لا عقلا لصدوره بالاختيار.

وبالجملة : يقوى في النّظر كون نظر صاحب الكفاية إلى الاضطرار العرفي وارتفاع الحكم لأجل التزاحم ، أو لدليل الرفع الشامل للاضطرار العرفي. ولا يرتبط ارتفاع الحكم بالقاعدة أصلا ، بل لم يذكر القاعدة في طي دليله أصلا ، فكيف ينسب إليه ذلك؟.

الجهة الثانية : فيما ذكره من انه بانتفاء كون المورد من موارد القاعدة يثبت رأي الشيخ. فانه غير صحيح ، لأن عدم كون المورد من موارد القاعدة المذكورة يستلزم الانتهاء إلى القول بالتحريم الفعلي ، لأن القاعدة تذكر لبيان المانع من التكليف وأن الاضطرار انما يمنع من التكليف لا المؤاخذة. فإذا فرض ارتفاع هذا المانع ثبت الحكم ، وليست القاعدة تذكر لبيان عدم المقتضي حتى يحتاج إلى دليل بعد رفع القاعدة. فالانتهاء إلى وجوب الخروج بمجرد رفع القاعدة عن المورد لا يعلم له وجه ظاهر.

الجهة الثالثة : فيما ذكره من الوجوه على عدم كون المورد من موارد القاعدة فانها غير صحيحة :

أما الأول : فلما تقدم من بيان كون المورد من موارد الاضطرار العقلي.

وأما الثاني : فلأنه من الواضح ثبوت الملاك للخروج للجزم بعدم الفرق بين موارد الغصب في ذلك. وإطلاق دليل الغصب يؤيده.

واما الثالث : فلأنه لا فرق بين أن يكون الامتناع ناشئا من ترك مقدمة أو فعلها ، فان المهم هو استناد الامتناع إلى اختيار المكلف.

وأما الرابع : فلان الاضطرار المدعي انما نشاء عن حكم العقل بلزوم الخروج فرارا من أشد المحذورين ، فلا وجه لجعل حكم العقل المزبور شاهدا

١٥٠

على عدم كون المورد من موارد الاضطرار.

والحاصل : ان ما أفاده قدس‌سره لا يخلو عن مناقشة. وقد عرفت تحقيق الكلام بما لا مزيد عليه.

وفي ختام هذا البحث يحسن بنا التعرض لإيضاح مطلب الكفاية في موردين :

المورد الأول : ما ذكره في مقام دفع القول بان الخروج مأمور به ومنهي عنه (١) بعد ان نفاه بامتناع اجتماع الحكمين فيما كانا بعنوانين فضلا عما إذا كانا بعنوان واحد كما فيما نحن فيه ، من انه لو سلم كون اجتماع الأمر والنهي ليس بمحال في نفسه ، لكنه في المقام محال ، لأنه تكليف بالمحال مع عدم المندوحة ، لعدم التمكن من الفعل والترك ، وما قيل من ان الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافى الاختيار انما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بان الأفعال غير اختيارية بقضية : « ان الشيء ما لم يجب لم يوجد » (٢).

ومحل بحثنا هو : إيضاح مقصود صاحب الكفاية في ردّ القول المذكور.

وقد فسّر المحقّق الأصفهاني العبارة أولا : بإرادة الضرورة السابقة والضرورة اللاحقة. ببيان إليك نصه : « ان كل ممكن محفوف بضرورتين : ضرورة سابقة في مرتب العلة التامة ، وهي مفاد قولهم : « ان الشيء ما لم يجب لم يوجد ». وضرورة لاحقة وهي الضرورة بشرط المحمول ، لوضوح أن الموجود بشرط الوجود ضروري الوجود ، والمعدوم بشرط العدم ضروري العدم ، ومثله لا دخل له بالقضية المتقدمة ، وإلاّ لكان مفادها ان الشيء ما لم يفرض وجوده لم يوجد وهو واضح البطلان. وقولهم : « ان الوجوب بالاختيار أو الامتناع بالاختيار لا ينافى

__________________

(١) القائل هو أبو هاشم. راجع شرح مختصر الأصول ـ ٩٤.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٧٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥١

الاختيار » ناظر إلى الضرورة السابقة فان الضرورة الناشئة من قبل إعمال القدرة والإرادة لا يعقل ان تأبى المقدورية والمرادية ، بل تؤكدهما. وقولهم : « ان التكليف لا يتعلق بما هو واجب أو ممتنع » ناظر إلى الضرورة اللاحقة فان طلب الموجود أو المعدوم طلب الحاصل ، وطلب الوجود بالإضافة إلى المعدوم أو العدم بالإضافة إلى الوجود طلب النقيض مع فرض تحقق نقيضه ، واجتماع النقيضين محال. فلا ربط لإحدى القضيتين بالأخرى » ، ثم أنه ذكر بعد ذلك : أن العبارة ظاهرة في كون الوجوب والامتناع في كلتا القضيتين واحد ، وأن عدم منافاتهما لصدور الفعل والترك بالاختيار لا ينافي منعهما عن تعلق التكليف إذا كان ذلك بسوء الاختيار ، ثم أخذ في توجيه عبارة الكتاب (١).

أقول : يرد عليه :

أولا : انه لا داعي لحمل العبارة أو لا على ما ذكره ثم تصحيحها بوجه آخر. فان ظاهر العبارة لا إشارة فيه إلى ضرورة سابقة ولاحقة وغير ذلك ، بل ظاهرها أمر وجداني عرفي محصله ان الشيء إذا كان واجبا أو ممتنعا امتنع تعلق التكليف به لعدم القدرة عليه وكان التكليف بالنسبة إليه لغوا لعدم داعويته إليه ، اما ان هذا الممتنع أو الواجب اختياري أو لا فهو له حديث آخر. فذهب الأشاعرة إلى عدم كونه اختياريا تمسكا بقضية : « أن الشيء ما لم يجب لم يوجد ». وردّوا : بان هذا الوجوب إذا كان اختياريا ومستندا إلى الإرادة كان الفعل اختياريا. وهذا المعنى أجنبي عن عدم صحّة التكليف به لعدم إمكان داعويته إليه المقومة للتكليف هذا هو ظاهر العبارة ، ولا وجه لإطالة الكلام في هذا ، ولعله هو المقصود مما وجّه به عبارة الكتاب ولا يهمنا ذلك.

وثانيا : ان المورد ليس من موارد الضرورة اللاحقة ، ومن التكليف

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٩٢ ـ الطبعة الأولى.

١٥٢

بالموجود أو المعدوم ، وذلك لعدم كون المفروض تعلق الأمر أو النهي بما هو موجود خارجا ، بل البحث في حرمة أو وجوب ما سيقع من الخروج الّذي لا بد منه بالتقريب الّذي تقدم. فالتفت وتدبر.

المورد الثاني : ما ذكره في مقام بيان أن الخروج يقع مبغوضا وعصيانا للنهي السابق ، ولا تؤثر في رفع مبغوضيته جهة المقدمية من : انه لو ارتفعت حرمته لأجل التزاحم الموجود لزم ان تكون « الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره ، وعدم حرمته مع اختياره له وهو كما ترى (١) » فيقع الكلام في المراد بهذه العبارة وما هو مرجع الضمير في : « لغيره وله » هل الخروج أو الدخول؟.

ذهب المحقق الأصفهاني إلى : أن مرجع الضمير هو الخروج والمراد من غير الخروج هو الدخول فيكون المعنى : أن حرمة الخروج على تقدير الدخول وعدم حرمته على تقدير إرادته نفسه.

وجهة الإشكال فيه المشار إليها بقوله : « كما ترى » هي ان هذا التقييد بلا موجب وبدونه يكون غير صحيح.

ثم ذكر احتمالا آخر في العبارة وهو : إرادة الدخول من الضمير فيكون المؤدي : تعليق حرمة الخروج على إرادة غير الدخول وهو تركه وجوازه على إرادة الدخول ، ونفي صحته بأنه لا وجه له بعد ان كان الدخول مما لا أثر له في الكلام حتى يرجع إليه الضمير ، بخلاف الخروج فانه محل الكلام من حيث الحرمة والجواز. كما ذكر احتمالا آخر لا يهمنا التعرض إليه (٢).

والحق : ان اللازم حمل العبارة على المعنى الثاني لا الأول. فان ما يؤدي إليه قول الخصم هو المعنى الثاني. بيان ذلك : ان الخصم يدعي ان الخروج لما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام ٢ ـ

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٨٩ ـ الطبعة الأولى.

١٥٣

كان مقدمة لما هو الأهم ارتفعت مبغوضيته كسائر موارد تزاحم الحرمة مع الوجوب الأهم. ومن الواضح ان فرض التزاحم بين حرمة الخروج ووجوب التخلّص عن الحرام انما هو ظرف الدخول ، وقبل الدخول لا تزاحم فيبقى الخروج على حرمته.

وعليه ، فقول الخصم يستدعي ثبوت الحرمة قبل الدخول وارتفاعها بعد الدخول.

ومن الواضح : ان هذا يستلزم عدم تأثير الحرمة في ترك الخروج ، إذ لا يقع الخروج في ظرفه إلا مباحا فيكون جعلها لغوا.

ولا يخفى ان حمل عبارة الكتاب على هذا المعنى الواقعي أولى من حمله على ما ذكره قدس‌سره مما لا يرتبط بواقع الأمر كما لا يخفى.

نعم ، حمل العبارة على المعنى المذكور يستلزم مخالفة الظاهر من جهة عدم سبق ذكر للدخول كي يعود الضمير عليه ، ومن جهة كون المراد من إرادة غير الدخول نفس عدم الدخول ، وإرادة الدخول نفس الدخول. ومثل هذه المخالفات للظاهر لا يخلو منها التفسير الأول.

واما ما ذكره قدس‌سره في رد قول الخصم على التفسير الأول من : أنه تعليق بلا موجب فلا يكون صحيحا. فهو غير وجيه ، فان المقتضي والموجب للتعليق المذكور ـ لو تم في نفسه ـ هو وقوع المزاحمة وحكم العقل بترجيح الأهم ، كسائر موارد التزاحم التي يلتزم فيها بتقييد دليل المهم بغير مورد مزاحمة الأهم ، فلم يعلم لكلامه قدس‌سره وجه.

يبقى أمر لم نتعرف على وجهه ، وهو ما ذكره صاحب الكفاية من : ان التعليق المزبور خلف الفرض لأن الفرض كون الاضطرار بسوء الاختيار والتعليق يستلزم عدم كونه بسوء الاختيار. كما لا يخفى.

وهذا غريب جدا ، لأن محل الكلام هو كون الخروج المضطر إليه اختيارا

١٥٤

مبغوضا ، فيكون الاضطرار بسوء الاختيار ، أو لا يكون مبغوضا فلا يكون هناك سوء اختيار. ودعوى الشيخ انه لا يقع مبغوضا أصلا. فكيف يجعل ان سوء الاختيار مفروض الكلام ، بل هو محل الكلام؟! والأمر في هاتين العبارتين سهل بعد ما عرفت تحقيق الكلام ، ولا وجه لإطالة البحث فيهما نفيا وإثباتا بل نكتفي بهذا المقدار.

ويقع الكلام بعد ذلك في ثمرة المسألة. اما ثمرة هذا البحث ـ أعني بحث الاضطرار ـ فهو يتضح من طيات ثمرة المسألة وذيوله.

* * *

١٥٥
١٥٦

« ثمرة المسألة »

ويقع الكلام ـ بعد مجموع ما تقدم ـ في ثمرة المسألة ، وما هو الأثر العملي للقولين بالجواز والامتناع.

فنقول : بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي الراجع إلى الالتزام بتعدد وجود متعلق الأمر والنهي في المجمع ، يلتزم بصحة العمل العبادي بدعوى ان متعلق الأمر غير منهي عنه ، فيصح الإتيان به عبادة سواء علم بالحرمة أو لم يعلم.

إلاّ ان المحقق النائيني خالف في إطلاق الحكم بالصحّة والتزم ببطلان العمل في صورة العلم بالحرمة دون الجهل بها.

ببيان محصله وواقعه : انه إذا التزم بجواز الاجتماع من الجهة الأولى ـ وهي اجتماع الضدين في شيء واحد ـ فلا يلتزم بجوازه من الجهة الثانية ، بل يلتزم بالامتناع بلحاظها ـ وهي جهة التزاحم ـ لوضوح عدم التمكن من امتثال كلا الحكمين فلا يكونان فعليين ، بل يقع التزاحم بينهما فاما ان يقدم الأمر أو يقدم النهي ، فلو قدم النهي ارتفع الأمر عن الفرد المزاحم ، وحينئذ فصحته عبادة ينحصر طريقها بأحد وجوه ثلاثة كلها منتفية فيبطل العمل قهرا ، وهذه الوجوه الثلاثة هي :

الأول : الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر المتعلق بالطبيعة ، وان كان

١٥٧

الفرد المزاحم خارجا عن دائرة المأمور به ، وهو ما التزم به المحقق الكركي.

الثاني : تصحيح تعلق الأمر به بنحو الترتب ، فيؤتى به بداعي الأمر المتعلق به.

الثالث : الإتيان به بداعي الملاك ، لاشتماله على ملاك الأمر.

اما الوجه الأول : فقد تقدم عدم صحته وان الفرد المزاحم فرد للطبيعة لا بما هي مأمور بها ، فلا يصح الإتيان به بداعي الأمر لأن الأمر انما يدعو إلى ما تعلق به.

واما الوجه الثاني : فقد تقدم عدم تأتي الترتب في مثل الفرض ، لأن عصيان النهي عن الغصب إما ان يكون بالغصب الصلاتي ، أو بغيره ، وعلى كلا التقديرين لا يصح تعلق الأمر بالصلاة ، فانه على الأول طلب الحاصل ، وعلى الثاني طلب النقيضين ، فان الأمر بالصلاة على تقدير الإتيان بغيرها طلب النقيضين ، كما لا يخفى.

واما الوجه الثالث : فالإتيان بالفرد المزاحم بداعي الملاك انما يجدي في المقربية إذا لم يكن مشتملا على القبح الفاعلي كما في المقام ، فان الصلاة والغصب وان كانا متعددي الوجود لكن لما كانا ممتزجين في الخارج بحيث لا يمكن الإشارة الحسية إلى أحدهما دون الآخر ، كانا متحدين بحسب الإيجاد والتأثير ، وكانا صادرين بإرادة واحدة ، فيكون الفاعل مرتكبا للقبيح في فاعليته ، ومع ذلك يمتنع ان يكون الفعل الصادر منه مقربا ، لقبح جهة صدوره.

وهذا البيان لا يسري إلى صورة الجهل بالحرمة ، إذ مع الجهل لا تزاحم بين الحكمين ، لأن التزاحم انما يتحقق مع وصول كلا الحكمين إلى مقام الداعوية ، وهو منتف مع الجهل ، فيكون الأمر بلا مزاحم ، كما ان جهة صدور العمل لا تكون متصفة بالقبح ، لفرض الجهل بالحرمة ، فلا يكون الفاعل مرتكبا للقبيح في فاعليته.

١٥٨

هذا محصل ما أفاده في مقام التفصيل بين العلم بالحرمة والجهل بها ، وقد غيرنا أسلوب البيان لإيضاح المطلب ، كما أغفلنا بعض ما أفاده في مقام تحقيق المطلب ، لعدم دخله ـ بنظرنا ـ بالمطلوب ، وهو ما أفاده من التفصيل في اعتبار القدرة بين القول بأنها بحكم العقل أو القول بأنها باقتضاء نفس التكليف ، ووقوع التزاحم على الثاني دون الأول ، فقد مر تحقيق الكلام فيه ولعلنا نعود إليه لمناسبة أخرى (١).

واما ما نقلناه عنه فهو غير تام ، وذلك : لما تقدم منا من انه لا تزاحم بين الحكم الموسع والحكم المضيق ، إذ عرفت ان مرجع الإطلاق في الموسع ليس إلى الجمع بين القيود ، بل إلى رفض القيود وبيان عدم دخالة أي قيد في المأمور به ، ولازمه حكم العقل بترخيص المكلف في تطبيق الكلي المأمور به على أي فرد شاء حتى الفرد الملازم للعمل المحرم ، وهذا لا ينافي تحريم المحرم وباعثية الحرمة إلى تركه ، إذ لا اقتضاء للحكم الموسع بالنسبة إلى الفرد المزبور ، اذن فالفرد المزاحم مشمول للطبيعة بما هي مأمور بها. ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بثبوت التزاحم وخروج الفرد المزاحم عن دائرة المأمور به ، فالوجوه التي التزم بها لتصحيح العمل عبادة تامة ولا وجه للخدشة فيها.

اما الأول : فلما تقدم منا ـ في مبحث تعلق الأحكام بالطبائع أو الافراد ـ ، من تصحيح الإتيان بالفرد المزاحم بداعي امتثال الأمر بالطبيعة بعد ان كان كغيره من الافراد موافقا للغرض ومحصلا للملاك ، وإليه ذهب صاحب الكفاية (٢).

واما الثاني : ـ فلان ما ذكره قدس‌سره في نفي الترتب عجيب ـ ، فان عدم جريان الترتب في مورد اجتماع الأمر والنهي انما يلتزم به بناء على الامتناع

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٦٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٥٩

ووحدة وجود المأمور به والمنهي عنه ، لأن عصيان أحدهما يكون بامتثال الآخر ، فلا معنى للترتب ، لأنه طلب الحاصل ، ولا يلتزم به بناء على الجواز والالتزام بتعدد وجود المأمور به والمنهي عنه. وما ذكره من البيان لنفيه غير صحيح ، إذ بعد الالتزام بتغاير وجود الغصب ووجود الصلاة ، لا معنى لأن يقال : ان عصيان النهي عن الغصب اما ان يكون بالغصب الصلاتي أو بغيره ، إذ الغصب غير الصلاة فكيف يكون بنفس الصلاة؟. نعم هو يلازم الصلاة أو غيرها ، وهذا لا يمنع من الترتب ، وإلاّ لامتنع الترتب في مطلق موارده ، لأن عصيان الأهم اما يلازم المهم أو غيره. فالتفت.

واما الثالث : فقد أورد عليه بان الإيجاد والوجود متحدان حقيقة ، متغايران اعتبارا ، فلا يمكن فرض تعدد الوجود ووحدة الإيجاد ، بل مع تعدد الوجود يتعدد الإيجاد ، ومع تعدده لا يكون المكلف في جهة إيجاده المأمور به فاعلا للقبيح ، فلا تكون جهة صدور المأمور به متصفة بالقبح كي يمنع ذلك من حصول التقرب به.

ولكنا نقول : ان هذا البيان وان كان برهانيا إلاّ ان الّذي نراه بالوجدان كون الأفعال على قسمين :

أحدهما : ما تتعلق به الإرادة بنفسه مباشرة وهو الأفعال الإرادية.

ثانيهما : ما لا تتعلق الإرادة به مباشرة ، بل بسببه ، وهو الأفعال التوليدية.

ومن الواضح انه لا يمكن صدور فعلين من النحو الأوّل بإرادة واحدة ، إذ المفروض ان كل فعل تتعلق به الإرادة بنفسه ، فكل فعل يكون متعلقا لإرادة غير الإرادة المتعلقة بالآخر ، وقد يرى مسامحة تعلق الإرادة الواحدة بفعلين ، لكن الحقيقة ليست كذلك ، بل هناك إرادتان وشوقان كل منهما متعلق بفعل غير الفعل الّذي تعلقت به الإرادة الأخرى.

واما النحو الثاني من الأفعال ، فيمكن صدور فعلين بإرادة واحدة حقيقة

١٦٠