منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

التخلف عن ذلك ، فلا يكون الطلب التخييري صالحا للداعوية بعد إن كان الإتيان بأحدهما قهريا ، فيكون لغوا (١).

ولإيضاح المطلب نقول : ان أحد العملين إذا كان مما لا بد من تحققه ، وحينئذ يكون تحصيل المقدار المعين من الغرض والمصلحة قهريا ، فلا وجه لتصدي المولى للأمر ليصير داعيا إلى ما يحصّل ذلك المقدار من الغرض. بل (١) يمتنع على العبد قصد التقرب بالعمل ، إذ المقدار الخاصّ من المصلحة لا يتمكن من التخلف عن تركه كي يكون إتيانه به بقصد القربة ، فانه يتحقق منه لا محالة.

إذا عرفت ذلك ، فما نحن فيه من هذا القبيل ، فان الفعل والترك نقيضان ، فإذا كان كل منهما مشتملا على المصلحة ، فإذا كانت مصلحة أحدهما أرجح تعين الأمر به ولم يكن الآخر مما يقبل المقربية ، لما عرفت من ان حصول المقدار المشترك قهري فلا يتجه قصد التقرب به. وهو خلاف ما أفاده صاحب الكفاية ، إذ ذهب إلى صحة الفعل وان كان الترك أرجح ، وإلاّ لم يكن هناك طلب تخييري ، بل نتيجة ملاحظة تساوي المصلحتين هو إباحة العمل لا الإلزام بالفعل أو الترك. فالتفت.

وناقشه السيد الخوئي : بان المورد ليس من موارد كون المتزاحمين مما لا ثالث لهما بل مما لهما ثالث.

بيان ذلك : ان العمل الراجح إنما هو الحصة الخاصة من الطبيعي لا نفس الطبيعي ، وتلك الحصة هي العمل بقصد القربة ، فالصوم المشتمل على المصلحة

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٦٤ ـ الطبعة الأولى.

(٢) إشارة إلى دفع ما يقال من : انه وإن امتنع الإلزام التخييري ، إلا ان النتيجة واحدة لصحة الإتيان بكل منهما بنحو عبادي لاشتماله على الملاك المقرب ، فلا يكون المورد من قبيل موارد الإباحة. فالتفت. ( منه عفي عنه ).

١٢١

هو الصوم بقصد القربة لا طبيعي الصوم ، والترك المشتمل على المصلحة ليس هو ترك هذه الحصة بالخصوص المتحقق بالإفطار والإمساك بدون قصد القربة ، بل هو ترك الإمساك مطلقا والإفطار خارجا لأن فيه مخالفة بني أمية ، ومن الواضح ان بين الإفطار والصوم بقصد القربة واسطة وهي الصوم من دون قصد القربة وهو ليس براجح ، فالمكلف يستطيع ان يترك كلا الراجحين ، فيتعقّل في المورد ثبوت الأمر التخييري الّذي يرجع إلى طلب ترك الإمساك بلا قصد القربة اما بالإفطار أو الصوم بقصد القربة. فما ذكره ( قدّس سره ) من عدم جريان التزاحم بين النقيضين تام في نفسه ، إلا أنه لا ينطبق على ما نحن فيه.

هذه خلاصة مناقشة السيد الخوئي (١).

ولكنا نخالفه فيما ذهب إليه بتقريب : ان الاختلاف بين العلمين ناشئ من الاختلاف في استظهار ان متعلق النهي هل هو طبيعي الإمساك أو الصوم بقصد القربة؟. وبتعبير آخر : ان متعلق الأمر هل هو الإفطار خارجا وترك الإمساك ، أو ترك الصوم بقصد القربة؟. فلا بد من إيقاع البحث في هذه الجهة فعلى الأول يتم ما ذكره السيد الخوئي. وعلى الثاني يتم ما ذكره المحقق النائيني لعدم الواسطة بين المستحبين.

وقد أشار المحقق النائيني قدس‌سره في ذيل كلامه إلى النكتة التي تشهد لنفي الواسطة بين المتزاحمين. فكان ينبغي التعرض إليها ومناقشتها. وإغفالها والاكتفاء بمجرد الدعوى بعيد عن الأسلوب العلمي للبحث.

وعلى أي حال ، فالنكتة التي أشار إليها المحقق النائيني هي : ان الظاهر من النصوص النهي عن الصوم الّذي يأتي به بنو أمية والزجر عن التشبه بهم ، وبما أنهم كانوا يصومون بقصد القربة ويرون صومه راجحا ولم يكونوا يكتفون

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٤ ـ ٣١٨ ـ الطبعة الأولى.

١٢٢

بالإمساك فقط ، يكون النهي عن الصوم بقصد القربة ويكون المطلوب هو ترك هذا العمل. وقد عرفت انه لا واسطة بين فعله وتركه. فتدبر (١).

الوجه الثاني : انه قد تقدم ان النهي عبارة عن طلب الترك ، واختيار صاحب الكفاية (٢) ، كما مرّ منه قدس‌سره أيضا ان الأحكام بأسرها متضادة (٣). فمرجع النهي في جميع الموارد التي يفرض فيها تعلق النهي بما يتعلق به الأمر إلى طلب الترك ومع هذا يلتزم بالتضاد ، وعدم إمكان اجتماع الحكمين ، فلم يعلم السرّ في تفصيه عن الإشكال المزبور بإرجاع النهي إلى طلب الترك. مع ان هذا البيان يسري في جميع الموارد التي يلتزم قدس‌سره فيها بامتناع اجتماع الحكمين.

وبالجملة : اما ان يلتزم بعدم التضاد مطلقا بين الأمر والنهي لاختلاف متعلقيهما. أو يلتزم بثبوته مطلقا حتى فيما نحن فيه فلا يجدي ما ذكره في حل الإشكال.

وقد تصدى المحقق النائيني قدس‌سره ـ بعد ان ناقش صاحب الكفاية ـ إلى حل الإشكال ببيان آخر ، وقد بناه على مقدمة وهي : ان الأمر الناشئ من قبل النذر المتعلق بعمل عبادي يتعلق بنفس ما يتعلق به الأمر الثابت للعبادة ، وينتج عن ذلك هو اندكاك كل من الأمرين أحدهما بالآخر وصيرورة العمل المنذور متعلقا لأمر واحد مؤكد ، لاستحالة اجتماع الحكمين ـ الضدين أو المثلين ـ في شيء واحد ، ولازم الاندكاك المشار إليه هو اكتساب الأمر النذري جهة التعبدية من الأمر الثابت للعبادة في نفسه.

أما الأمر الناشئ من قبل الإجارة المتعلقة بعمل عبادي ، كما في موارد النيابة عن الغير ، فيختلف متعلقه عن متعلق الأمر الثابت للعمل المستأجر عليه ،

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٦٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٢٣

ولأجله لا يحصل الاندكاك بين الأمرين ، بل يبقى كل منهما بحدّه ، وذلك لأن متعلق الأمر الاستحبابي أو الوجوبيّ هو ذات العمل اما الأمر الإجاري فهو لا يتعلق بذات العمل ، إذ لا يتعلق للمؤجر غرض فيه ، بل هو يتعلق بالإتيان بالعمل بداعي الأمر الثابت للعمل. فالامر الإجاري في طول الأمر الآخر فلا يحصل الاندكاك لعدم وحدة المتعلق.

وبعد هذه المقدمة ذكر قدس‌سره : ان الإشكال المتقدم في اتصاف العبادة المكروهة بالكراهة إنما نشأ عن الغفلة عن ان متعلق النهي غير متعلق الأمر ، وذلك لأن متعلق الأمر العبادي هو ذات العبادة ومتعلق النهي ليس هو ذات العمل ، بل هو خصوصية التعبد به ، لأن فيه مشابهة الأعداء ( لعنهم الله تعالى ) فيختلف متعلق الأمر عن متعلق النهي. وبما ان النهي تنزيهي فهو لا يمنع من عبادية العمل والإتيان به بقصد القربة ، بخلاف ما لو كان النهي تحريميا فانه يمتنع قصد التقرب لحرمته مع ان التقرب إنما يحصل به. فالنهي فيما نحن فيه نظير الأمر في باب الإجارة في طول الأمر المتعلق بذات العمل فلا محذور (١).

أقول : ربط ما نحن فيه بمسألة الإجارة والنذر ليس إلا في طولية الحكمين فيما نحن فيه كما هو الحال في باب الإجارة.

وهذا المقدار لا يستلزم سرد المقدمة المزبورة بطولها.

وعلى أي حال فما ذكره غير تام في المقيس والمقيس عليه.

اما عدم تماميته في المقيس عليه ، وهو مسألة الإجارة فلأنه ..

تارة : يلتزم في باب النيابة أنها عبارة عن إتيان العمل بقصد إسقاط الأمر المتعلق بالمنوب عنه ، والإجارة تقع على هذا الأمر فيكون الأمر الإجاري متعلقا بإتيان النائب العمل لقصد إسقاط الأمر المتعلق بالمنوب عنه.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٦٥ ـ الطبعة الأولى.

١٢٤

فعلى هذا البناء ـ الّذي هو الظاهر من كلامه ـ لا وجه لتوهم التداخل بين الأمرين. كيف؟ وموضوع أحدهما المنوب عنه وموضوع الآخر النائب فلا معنى للتداخل.

وأخرى : لا يلتزم بذلك باعتبار عدم قابلية المنوب عنه لتوجه الأمر إليه ، كما لو كان ميتا ، أو لكون الأمر المتعلق بشخص لا يصلح لداعوية غيره. وانما النيابة تكون هي الإتيان بالعمل الّذي تكون ذمة الغير مشغولة به اما بتنزيله نفسه منزلة المنوب عنه أو بإهداء ثوابه إليه. وتكون النيابة متعلقة للأمر الاستحبابي. فإذا وردت الإجارة على إتيان العمل النيابي كان لازما بمقتضى الأمر الإجاري.

فعلى هذا البناء يتحد متعلق الأمر الاستحبابي والأمر الإجاري ، لأنه كلا منهما متعلق بالعمل النيابي ، فيتعيّن الالتزام بالتداخل لوحدة المتعلق لكلا الحكمين.

وبالجملة : على مبنى لا يتوهم التداخل. وعلى مبنى آخر يتعين التداخل.

واما عدم تماميته في المقيس ـ أعني ما نحن فيه ـ فلأنه إما ان يلتزم بان قصد القربة مما يتعلق به الأمر إما ضمنا لو بني على جواز تعلق الأمر الأول به ، أو استقلالا لو بني على انه يكون مأمورا به بالأمر الثاني المصطلح عليه بمتمم الجعل ـ كما مر اختياره من المحقق النائيني ـ. أو لا يكون متعلقا للأمر شرعا ، بل هو مما يحكم بلزومه العقل.

فعلى الأول : يلزم ان يكون متعلق الكراهة عين ما يتعلق به الأمر وهو قصد القربة. فيتحد متعلق الحكمين.

وعلى الثاني : وان لزم اختلاف المتعلق ، إلا أنه يقع التزاحم الدائمي بين الحكمين لعدم القدرة على امتثالهما معا في حال من الأحوال.

والّذي يذهب إليه المحقق النائيني في مثل ذلك هو كون المورد من موارد

١٢٥

التعارض. فافهم.

وإذا اتضح لك عدم تمامية ما أفاده العلمين ـ الخراسانيّ والنائيني ـ في حل الإشكال ، فالمتعين ان يقال في حلّه : ان النهي في المقام ليس على حقيقته ، بل هو إرشاد لأولوية ترك هذا الفرد لأجل الإتيان بغيره مما هو أكثر ثوابا.

بيان ذلك : ان الصوم ـ مثلا ـ مستحب في نفسه بنحو العموم الاستغراقي ، بمعنى ان صوم كل يوم مستحب بذاته ولا بدل له ، إلاّ ان بعض هذه الافراد قد تحفّ به بعض الخصوصيات التي توجب نقصان مصلحته وثوابه عما عليه سائر الافراد الأخرى ، ولكنه يبقى على استحبابه ورجحانه. ومن هذا الباب صوم يوم عاشوراء فهو مستحب فعلا. وبما انه ليس من متعارف المكلفين الإتيان بجميع افراد الصوم في جميع أيام السنة وانما يؤتي ببعضها كيوم في كل أسبوع أو نحو ذلك ، يوجه النهي إلى الفرد المحفوف بالحزازة الموجبة لقلة ثوابه إرشادا إلى أولوية الإتيان بغير هذا الفرد بدلا عنه ، فكأنه يقال لمن يريد ان يصوم يوما في الأسبوع : « اترك صوم هذا اليوم وصم غيره لأنه أكثر ثوابا منه » ، فالنهي إرشادي بلحاظ الحالة المتعارفة للمكلفين. والملحوظ بأقلية الثواب سائر الافراد الأخر التي تفرض أبدالا طويلة لهذا الفرد بحسب البناء العملي للمكلفين لا بحسب جعل الحكم فانه مما لا بدل له في مقام الجعل لأن كل فرد مستحب في نفسه.

وهذا الحل وان كان خلاف الظاهر لكنه مما لا بد منه في حل الإشكال لسلامته عن الخدشة.

ومرجعه إلى رجوع النهي إلى ترجيح سائر الافراد لتحقق المزاحمة بحسب عادة المكلفين.

هذا ، مع انا التزمنا في الفقه عدم استحباب صوم يوم عاشوراء

١٢٦

بخصوصيته ، بل هو حرام لأنه تشريع ، وذكرنا ان روايات المنع (١) ناظرة إلى هذا المعنى فقط ، فلا إشكال فيه. فالتفت.

هذا تمام الكلام في القسم الأول.

اما القسم الثاني : وهو ما تعلق به النهي بذاته وكان له بدل كـ : « الصلاة في الحمام ».

فقد ذكر صاحب الكفاية : ان البيان الّذي ذكرناه في القسم الأول يجري في هذا القسم طابق النعل بالنعل. كما يتأتى فيه بيان آخر تقريره : ان النهي يحمل على كونه إرشادا إلى أقلية ثواب هذا الفرد عن سائر الافراد بسبب تشخصه بالخصوصية الخاصة ، فان العمل قد يصير أقل مصلحة وثوابا بسبب تشخصه ببعض الخصوصيات كالكون في الحمام بالنسبة إلى الصلاة ، كما قد يصير أكثر ثوابا بسبب تشخصه ببعض آخر من الخصوصيات فتحدث فيه مزية بسببها ، كالكون في المسجد. والملحوظ في أقلية الثواب وأكثريته هو الطبيعة المأمور بها في حد نفسها المتشخصة بما لا يوجب الزيادة أو النقصان في مصلحتها كالصلاة في الدار ـ مثلا ـ.

وعليه ، فلا مجال لدعوى ان الكراهة إذا كانت بمعنى قلة الثواب لزم ان تكون جميع الافراد المتفاوتة مكروهة ما عدا أفضل الافراد مع انه لا يقول به أحد.

والوجه في بطلان هذه الدعوى : ما عرفت من الكراهة بمعنى الأقلية في الثواب بالقياس إلى مصلحة ذات العمل وثوابه.

وهذا ملخص ما أفاده صاحب الكفاية (٢).

__________________

(١) الكافي ٤ ـ ١٤٦ ، باب صوم عرفة وعاشوراء ، الأحاديث ٣ إلى ٧ وسائل الشيعة ٧ ـ ٣٣٩ باب : ٤١ من أبواب الصوم المندوب.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٢٧

وقد تعرض المحقق النائيني إلى حل الإشكال ببيان آخر. محصله : ان النهي هنا يحمل على حقيقته من كونه نهيا تنزيهيا مولويا ولا وجه للتصرف بظاهره للتمكن من رفع الإشكال من دون تصرف. وبيان ذلك : ان النهي عن شيء يرتبط بعمل واجب.

تارة : يقصد به الإرشاد إلى مانعية متعلقه عن صحة العمل ، فهذا لا يستفاد سوى مانعية متعلقه عن صحة العمل كالنهي عن لبس الحرير في الصلاة ، فانه إرشاد إلى مانعيته عن صحة الصلاة. ومثل هذا يستلزم تقييد إطلاق المأمور به لو كان له إطلاق بالإضافة إلى وجود القيد وعدمه.

وأخرى : يكون مولويا يتكفل الزجر عن متعلقه ، وهو تارة يكون تحريميا. وأخرى يكون تنزيهيا. فان كان تحريميا استلزم تقييد إطلاق المأمور به ـ كما سيتضح ـ. وان كان تنزيهيا لم يستلزم تقييد الإطلاق ، بل لا منافاة بين تعلق الأمر وثبوت النهي لا في مقام جعل الحكم ولا في مقام الامتثال.

اما مقام جعل الحكم ، فالمنافاة المتصورة هي تعلق الحكمين بشيء واحد فيلزم التضاد ، وهي غير موجودة ، لأن متعلق الأمر غير متعلق النهي ، لأن الأمر يتعلق بصرف وجود الطبيعة والنهي متعلق بالفرد الخاصّ ، واختلاف المتعلق يرفع التضاد.

واما مقام الامتثال ، فلان تعلق الحكم بصرف الوجود يستلزم حكم العقل بترخيص المكلف في تطبيق المأمور به على أي فرد شاء ولو كان هو الفرد المكروه ، وهذا لا يتنافى مع كراهة العمل ، كما لا يخفى.

نعم ، لو كان الفرد محرما لم يجتمع التحريم مع الترخيص في إتيان هذا الفرد امتثالا للأمر لعدم اجتماع المنع والترخيص ، ولذا كان التحريم مقيدا لإطلاق المأمور به كما أشرنا إليه.

١٢٨

هذا ملخص ما أفاده قدس‌سره (١). ومرجعه إلى بيان عدم اتحاد متعلق الحكمين وعدم المنافاة بين الحكم بالترخيص والكراهة.

وهذا الوجه غير مسلم فانه لا يمكن ان تكون الطبيعة متعلقة للأمر والفرد متعلقا للنهي التنزيهي ، وذلك لأن الفرد إذا اشتمل على مفسدة فاما إن تغلب المفسدة على المصلحة ، أو تغلب المصلحة على المفسدة ، أو يتساويان. فمع غلبة المفسدة تتعلق به الكراهة ، لكنه لا يكون واجدا لملاك الأمر لفرض غلبة المفسدة واضمحلال المصلحة في قبالها فلا يتحقق به الامتثال وهو خلاف الفرض ، لأن الفرض عدم تقيد إطلاق الأمر. وان كان الغالب هو المصلحة لم تتعلق الكراهة بالفرد لعدم ملاكها. وان تساويا كان الفرد مباحا ، فلا يقع على صفة الوجوب أو الاستحباب ، كما لا يقع على صفة الكراهة. فالجمع بين الأمر بالطبيعة بحيث يشمل بإطلاقه هذا الفرد والنهي عن الفرد غير ممكن. فالمحذور الّذي ذكرناه في تقريب تنافي الأحكام وان لم يصطلح عليه بالتضاد ، بعينه جار فيما نحن فيه فلا يمكن الجمع بين الحكمين.

وأما ما ذكره من منافاة الحرمة للترخيص وعدم منافاة الكراهة له ، فهو غير تام أيضا ، لأن المراد بالترخيص اما الترخيص الشرعي أو الترخيص العقلي.

فان كان المراد هو الترخيص الشرعي ، بمعنى حكم الشارع بإباحة تطبيق الطبيعي المأمور به على كل فرد من افراده ، فانه يكون بأحد وجهين :

أحدهما : ان يدعى ان حكمه بوجوب الطبيعة لازمه الحكم بالإباحة ، ففي مورد الوجوب هناك حكمان ، حكم بوجوب صرف الوجود وحكم بإباحة تطبيق الطبيعة على كل فرد.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٦٢ ـ الطبعة الأولى.

١٢٩

وهذا الوجه لا دليل عليه ، بل الوجدان شاهد على خلافه ، فانه ليس في المقام الا حكم واحد لا حكمان. كما لا يخفى.

الثاني : ان تطبيق الطبيعة على كل فرد واقعة من الوقائع ، فلا بد ان يكون لها حكم لامتناع خلو الواقعة من الحكم ، ولا بد ان يكون هو الإباحة لا الوجوب ، لأن الإلزام يتنافى مع كون العموم بدليا وكون المتعلق صرف الوجود.

وفيه :

أولا : أنه ينقض بالطبيعة المباحة كشرب الماء ، فان تطبيق الطبيعة على كل فرد واقعة مع انه لا يلتزم أحد بان كل فرد مباح ، وتطبيق الطبيعي على فرده مباح أيضا وله حكم غير حكم الأفراد.

وثانيا : ان لزوم عدم خلو الواقعة عن الحكم انما ثبت في مورد يكون المكلف متحيرا في مقام العمل ، اما مع عدم تحيره عملا فلا دليل على لزوم ثبوت الحكم له ، كما لو أمر بأحد المتلازمين ، فانه لا يلزم ان يكون للملازم الآخر حكم لعدم تحير المكلف في مقام العمل بالنسبة إليه. وما نحن فيه من هذا القبيل. فانه بعد وجوب صرف الوجود المنطبق على أي فرد بمقتضى الإطلاق فلا تحير في ان التطبيق لا مانع منه.

وإن أريد من الترخيص هو الترخيص العقلي ، كما هو الظاهر. فمن الواضح ان واقع الترخيص العقلي ليس حكم العقل بالإباحة وإطلاق العنان للمكلف ، بل واقعه إدراك العقل عدم دخل الخصوصية وجودا وعدما في المأمور به وأي فرد جيء به يكون امتثالا للأمر.

وهذا المعنى لا يتنافى مع كراهة الفرد كما أفاد قدس‌سره. لكنه لا يتنافى مع التحريم أيضا ، إذ أي منافاة بين حرمة الفرد وبين إدراك عدم دخل خصوصية في المأمور به ، وانه لو جيء به يكون مصداقا للمأمور به؟.

نعم ، لو كان الترخيص العقلي يرجع إلى حكم العقل بإطلاق العنان على

١٣٠

حد الترخيص الشرعي كان منافيا مع تحريم الفرد ، لكنه ليس كذلك.

وبالجملة : التفرقة بين الكراهة والتحريم في هذا الأمر لا وجه لها.

هذا كله مع ان الالتزام بكراهة الفرد ووجوب الطبيعة يلزمه وقوع التزاحم بين الحكمين ، وهو تزاحم دائمي ، فيرجع إلى التعارض بينهما على رأيه ، وكون أحدهما موسعا والآخر مضيقا لا يجدي بعد ان فرض مثل هذا المورد من موارد التزاحم.

وأما ما ذكره في مقام الاعتراض على صاحب الكفاية من ان صرف النهي عن ظاهره وهو طلب الترك إلى كونه إرشاديا لا وجه له.

فليس كما ينبغي ، لأن كون النهي إرشاديا وإن كان خلاف الظاهر ، لكن حقيقته على بعض المباني أيضا طلب الترك فهو حكم إنشائي لكنه على موضوع خاص. وقد بنى على ذلك الفقيه الهمداني (١) وتابعناه عليه ، ولذلك آثار فقهية جمة. فالتفت.

فالأولى في حل الإشكال أن يقال : ان النهي مولوي تنزيهي ناشئ عن حزازة ومفسدة في متعلقه ، إلا ان متعلقه ليس هو الفرد ، بل هو تقيد الفرد بالخصوصية الكذائية ، فنفس إيقاع الصلاة في الحمام منهي عنه من دون ان يكون النهي متعلقا بالصلاة أو الكون في الحمام.

وقد تقدم منا انه لا مانع من ان يكون العمل متعلقا لحكم وتخصصه بخصوصية متعلقا لحكم آخر ، وأنه لا يلزم اجتماع الضدين في شيء واحد.

وعليه ، فلا يلزم محذور التضاد على هذا التوجيه.

واما التزاحم ، فهو غير لازم ، لأن المأمور به مطلق من جهة هذا الفرد وغيره ، والنهي مختص بهذه الخصوصية المعينة. ومن الواضح أنه لا تزاحم في مثل

__________________

(١) الهمداني المحقق آقا رضا. مصباح الفقيه ـ ١٣٣ ـ كتاب الصلاة ـ الطبعة الأولى.

١٣١

ذلك نظير الموسع والمضيق ، فانك عرفت انه لا مزاحمة بينهما أصلا.

وهذا الحل أولى مما ذهب إليه صاحب الكفاية من حمل النهي على كونه إرشاديا ، لأنه خلاف ظاهره ، فان ظاهر النهي كونه مولويا.

واما ما ذكرناه ، فهو قريب من ظاهر الكلام لو لم نقل بأنه ظاهر منه. فتدبر.

واما القسم الثالث : فقد ذكر صاحب الكفاية انه يمكن ان يحل فيه الإشكال بوجهين :

أحدهما : أن يكون النهي في الحقيقة متعلقا بالعنوان المتحد أو الملازم مع المأمور به ، ونسبة النهي إلى المأمور به بالعرض والمجاز ، فيختلف متعلق الأمر عن متعلق النهي ، ويكون النهي على هذا الوجه على حقيقته مولويا.

الآخر : أن يكون النهي إرشادا إلى أولوية الإتيان بغير هذا الفرد فرارا عن الحزازة الموجودة في الملازم أو المتحد مع الفرد ، والتي يبتلي بها المكلف لا محالة.

هذا بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي.

اما بناء على القول بامتناع الاجتماع ، فان كان العنوان ذو الحزازة ملازما للمأمور به جرى في حل الإشكال كلا الوجهين ، كما لا يخفى. واما إذا كان متحدا مع المأمور به لم يجر فيه الوجه الأول لاتحاد متعلق الأمر والنهي لعدم القول بان تعدد العنوان يستلزم تعدد المعنون لأنه المفروض. ويكون المورد من القسم الثاني ، لأن العنوان المنطبق على المأمور به يكون من خصوصياته المستلزمة لنقصان مصلحته وقلة ثوابه.

وعليه ، فيتأتى فيه ما ذكرناه من كون النهي إرشادا إلى قلة الثواب ، والمراد بالكراهة أقلية الثواب لا النهي التنزيهي المولوي.

١٣٢

هذا ملخص ما جاء في الكفاية مع شيء من التوضيح (١).

ويتضح لدينا أنه يرجع هذا القسم ـ في صورة اتحاد العنوان والقول بالامتناع ـ إلى القسم الثاني ويجعله من مصاديقه ، ولذلك يجري فيه ما أجراه في ذلك القسم.

وقد تابعة على ذلك المحقق النائيني ، ولذلك ذكر جريان الحل الّذي ذكره في القسم الثاني في هذا القسم ، فذكر ان الأمر متعلق بالطبيعة والنهي متعلق بالفرد (٢).

والحق ما ذكره صاحب الكفاية من وحدة القسمين ، وقد عرفت ان حل الإشكال بنحو ثالث هو الأسلم والمتعين ، وهو الالتزام بان متعلق النهي هو التقيد بالخصوصية وإيقاع العمل في المكان الخاصّ. فراجع.

هذا تمام الكلام في هذا الدليل.

ونلحق به دليلا آخر ، وهو ما ذكره صاحب الكفاية من الوجه العرفي ومحصله : ان أهل العرف يعدون من امر بالخياطة ونهي عن الكون في الدار مطيعا وعاصيا لو جاء بالخياطة في الدار ، وهذا يكشف عن اجتماع الحكمين في أمر واحد.

والجواب عنه كما ذكره صاحب الكفاية من : ان وجود الخياطة غير وجود الكون في الدار وليسا هما متحدين في الوجود. هذا أولا.

وثانيا : انه لا معنى للاستدلال بهذا الوجه في قبال البرهان على الامتناع ، ونحن لا ننكر وجود هذا الحكم عرفا في مثل المثال ، إلاّ ان الحكم بالإطاعة في الأمر التوصلي كأمر الخياطة بلحاظ ترتب الغرض عليه ، لأن الغرض من الأمر

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٦٤ ـ الطبعة الأولى.

١٣٣

التوصلي يترتب ولو كان بالفرد المحرم لا بلحاظ تحقق الامتثال. فتدبر جيدا (١).

بقي شيء ، وهو ما ذكره في الكفاية من وجود القول بالتفصيل بين العقل والعرف ، فالأوّل يرى الجواز والثاني يرى الامتناع ، لأن ما يراه العقل بدقته متعددا يراه العرف واحدا.

وقد ناقشه صاحب الكفاية ـ كما مر ـ بان العرف لا سبيل إليه إلى الحكم بالجواز والامتناع فانه محكم في مفاهيم الألفاظ لا غير ، واما وحدة المجمع بنظره فليس مجديا لأن نظره في تشخيص المصاديق غير معتبر جزما والبحث ليس عن مدلول اللفظ.

ثم ، ان هذا الكلام كله في الجهة الأولى من البحث ، وهي البحث عن الجواز والامتناع من حيث التضاد.

واما الكلام في الجهة الثانية ـ أعني جهة وقوع التزاحم بين الحكمين على تقدير القول بالجواز من الجهة الأولى ـ ، فيقع البحث فيها عند التعرض لثمرة المسألة التي قد ذكرنا جزء منها فيما تقدم. لأنا نجري في البحث على أسلوب الكفاية.

ولأجل ذلك نتعرض فعلا للكلام في مسألة الاضطرار.

التنبيه الثاني : وموضوعه الاضطرار إلى الحرام قد عرفت انه بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي وتقديم جانب الحرمة لغلبة ملاكها على ملاك الأمر لا يقع الفعل المجمع صحيحا لأنه يكون مبغوضا مبعدا وقد ذكر صاحب الكفاية : أنه إذا اضطر إلى الحرام فاما ان يكون الاضطرار قهريا ليس بالاختيار أو يكون اختياريا. فان كان قهريا استلزم رفع الحرمة والمبغوضية ولم يكن ملاك التحريم مؤثرا في هذا الحال ، فيكون ملاك الأمر

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٣٤

بلا مزاحم فيؤثر في الأمر فيلزم صحة العمل العبادي الّذي به يتحقق الحرام لارتفاع المانع. وان كان الاضطرار اختياريا استلزم رفع الحرمة لامتناع التكليف بغير المقدور عقلا ، إلاّ ان الفعل يبقى مبغوضا وذا مفسدة مؤثرة في مبعديته ، فلا يكون المجمع صحيحا لوجود المانع عن المقربية (١).

ثمّ ان محل الكلام الّذي عقد له صاحب الكفاية هذا التنبيه ليس ذلك ، بل هذا مقدمة للوصول إلى محل الكلام وتحرير البحث فيه وهو ما إذا كان الاضطرار بسوء الاختيار واتفق كون الفعل المضطر إليه مقدمة لواجب ، فقد تعددت الأقوال في هذا الفعل.

وقبل التعرض إلى ذلك نودّ التنبيه على تساؤل يدور حول كلام صاحب الكفاية في القسم الأول من أقسام الاضطرار.

وهو : أنه توصل إلى تصحيح العمل المحرم المضطر إليه بوجود الملاك وتأثيره في الحكم.

مع أن هناك طريقا لذلك أسهل وأسلم من هذا الطريق وهو ان يقول : أنه إذا ارتفعت الحرمة بالاضطرار زال المانع عن شمول إطلاق دليل الحكم الوجوبيّ للمورد ، فإذا كان المورد مشمولا لإطلاق الوجوب ثبت الحكم.

وهذا وجه سالم عما يرد على الأول من أنه بأي طريق نحرز وجود ملاك الوجوب؟ ثم انه إذا كان ثابتا في حال فعلية الحرمة ، فأي طريق لنا لإثباته بعد ارتفاع الحرمة؟.

وبالجملة : النحو الّذي ذكره صاحب الكفاية لا يخلو عن التواء. وهذا تساؤل لم نر له حلا فعلا. فالتفت.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس‌سره في مقدمة هذا التنبيه : ان القيود العدمية المعتبرة في المأمور به بحيث تحدد الحكم وتجعله مختصا بمورد دون آخر

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٣٥

على ثلاثة أقسام :

الأول : أن تكون مدلولة للنهي الغيري ابتداء ، فيكون النهي نهيا إرشاديا يفيد مانعية متعلقه عن صحة العمل المحفوف به كالنهي الوارد عن لبس الحرير في الصلاة ، وهذا لا يرتفع بالاضطرار إذا كان دليله مطلقا ، فانه يفيد أن المانعية تثبت في كلا الحالين ـ الاختيار والاضطرار ـ ، فلا تسقط المانعية في حال الاضطرار ولا محذور فيه.

وقد أفيد في مباحث الأقل والأكثر : ان تقيد العمل بشيء وجودا وعدما قد يؤخذ مختصا بحال دون آخر وقد يؤخذ في مطلق الأحوال. فراجع.

الثاني : أن تكون تابعة للنهي النفسيّ الدال على التحريم ، فيستفاد منه مانعية متعلقة عن صحة العمل ، كما في مورد الاجتماع بناء على الامتناع من الجهة الأولى. ولكن المانعية تارة يقال إنها في طول الحرمة وتابعة لها كما هو المشهور. وأخرى يقال إنها في عرضها بمعنى ان النهي يستفاد منه في عرض واحد الحرمة والمانعية.

فعلى الأول : يكون الاضطرار رافعا للحرمة والمانعية ، لأن المفروض كون المانعية تابعة للحرمة ، فإذا زالت الحرمة زالت المانعية فيصح العمل.

وعلى الثاني : لا يرفع الاضطرار المانعية وانما يرفع الحرمة فقط ، إذ المانعية لا تنافي الاضطرار كما عرفت ، والمفروض عدم إناطتها بالحرمة.

الثالث : ان تكون ثابتة لأجل مزاحمة المأمور به مع المنهي عنه ـ كما هو الحال لو قيل بالجواز من الجهة الأولى ، فانه يقع التزاحم بين الحكمين ـ ، فيرتفع الأمر باعتبار المزاحمة ، ففي مثله لو حصل الاضطرار يبقى الأمر لارتفاع الحرمة وزوال المزاحمة لأن أساسها كون الحكم فعليا ولا فعلية للحرمة مع الاضطرار (١).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٧١ ـ الطبعة الأولى.

١٣٦

هذه خلاصة ما أفاده المحقق النائيني ، ويمكن ان يجعل ما أفاده في القسم الثاني من التفصيل بين نحوي النهي تعريضا بصاحب الكفاية حيث أطلق الحكم بثبوت الأمر بمجرد ارتفاع الحرمة. وتنبيها على ان زوال الحرمة لا يكفى في ثبوت الأمر ما لم تزل المانعية وهي إنما تزول على تقدير دون آخر.

وقد أورد عليه السيد الخوئي في تعليقته ـ كما جاء ذلك أيضا في المحاضرات مفصلا (١) ـ. بان ما قربه من عدم كون سقوط الأمر وتقيده بغير مورد الحرمة في طول التحريم ومعلولا له. صحيح لأن عدم أحد الضدين ليس معلولا لوجود الضد الآخر ، بل هما في رتبة واحدة إلا ان انتفاء الوجوب وإن كان في عرض ثبوت الحرمة ثبوتا لكنه ليس كذلك إثباتا ، فان الدليل الدال على الحرمة بالمطابقة يدل عليه بالالتزام ، إذ بعد منافاة ثبوت الحرمة لثبوت الوجوب ، فما يدل على ثبوت الحرمة يدل على عدم ثبوت الوجوب التزاما. وبما ان بنينا على تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية وجوبا وحجية. فإذا حصل الاضطرار وارتفعت الحرمة ولم يكن دليلها شاملا لهذه الحال فلا دليل على انتفاء الوجوب وتقيده حينئذ ، إذ دليل الحرمة لا يتكفل ذلك لعدم حجيته في المدلول الالتزامي بعد عدم حجيته في المدلول المطابقي. فيكون إطلاق الوجوب محكما (٢).

أقول : هذا الإيراد ليس بتام وأجنبي عن محل الكلام ، فان محل الكلام في الدلالة الالتزامية والّذي يبحث في تبعيته في الحجية للدلالة المطابقية انما هو الدلالة الالتزامية العرفية. اما غير العرفية فليس مورد الكلام ، وما نحن فيه ليس من موارد الدلالة الالتزامية العرفية ، فان ارتفاع الوجوب في المجمع عند ثبوت الحرمة ليس من الأمور العرفية الظاهرة ، كيف؟ وقد عرفت انها محل الكلام

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٤ ـ ٣٤٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٧١ هامش رقم (١) ـ الطبعة الأولى.

١٣٧

الدّقيق والنقض والإبرام. وانما هو يكون بحكم العقل وقد تقدم انها تتبع الدلالة المطابقية بلا كلام.

فان قلت : محل الكلام فيما نحن فيه هو معرفة ان المجمع وجود واحد أو متعدد ، وهذا لا ينافي كون ارتفاع الوجوب بالدلالة الالتزامية العرفية.

بيان ذلك : ان العرف يستظهر من دليل التحريم ارتفاع الوجوب عن مورد اما تعيين المورد فهذا ليس من شأنه ، فلو ثبت المورد بالدقة العقلية ثبت له الحكم بحسب الظهور العرفي من دليله ، كما يثبت له نفس التحريم ويقال ان الحرمة ثابتة له بالدليل الظاهر عرفا.

وبالجملة : المقصود بالدلالة العرفية هي ما يستظهره العرف من الدليل من الحكم الكلي على الموضوع الكلي في قبال ما يكون المدلول ثابتا بحكم العقل لا بفهم العرف ، اما تعيين المصاديق فليس من شأن العرف وذلك لا ينافى الظهور العرفي من الدليل.

وهذا المعنى يتأتى في الدلالة المطابقية كما لا يخفى جدا. والبحث في مسألة اجتماع الأمر والنهي انما هو عن تعيين المصداق وان الصلاة في الدار المغصوبة هل هي غصب فيرتفع الوجوب عنها أول فلا يرتفع. وإلاّ فأصل الدلالة العرفية ثابتة.

قلت : البحث في هذه المسألة لا ينحصر في تعيين المصداق ، بل يأتي الكلام في الجواز والامتناع حتى مع تسليم وحدة وجود الصلاة والغصب بلحاظ تعدد العنوان وانه متعلق الحكم فيتعدد ، أو انه ليس متعلق الحكم فلا يجدي تعدده.

وعليه ، فالقدر المسلم من الدلالة الالتزامية العرفية من دليل تحريم الغصب هو ارتفاع الوجوب عن الغصب فيما إذا لم يكن بعنوان آخر. أما إذا كان بعنوان آخر فلا دلالة عرفية على ارتفاعه ، لأنه يتوقف على مقدمة عقلية

١٣٨

وهي كون متعلق الحكم هو المعنون لا العنوان ، أو نظير ذلك مما يقول به القائل بالامتناع.

وبالجملة : ارتفاع الوجوب وتقييده بغير مورد الحرمة في مورد الاجتماع على الامتناع ليس أمرا عرفيا يستظهره العرف من الدليل مباشرة فتحرير الكلام في ذلك ونقل البحث إلى تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة للمطابقية لا يخلو عن غفلة وتسامح.

ومما ذكرنا يظهر الإشكال فيما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره ، فان ارتفاع الوجوب عند ثبوت الحرمة إذا كان بحكم العقل ، ولأجل الملازمة العقلية بين ثبوت الحرمة وعدم الوجوب. فإذا ارتفعت الحرمة بالاضطرار لم يكن هناك ما يقتضي عدم الوجوب عقلا فيحكّم إطلاق دليل الوجوب ويثبت الوجوب في مورد الاضطرار.

ولا وجه للترديد المزبور أصلا ، سواء كان نظره في التبعية وعدمها في مقام الإثبات أو الثبوت ، وإن كان تقريبه عدم التبعية ثبوتا في محله ، إذ عدم أحد الضدين في عرض وجود الضد الآخر لا في طوله.

هذا مع ما في التعبير بان القيدية والحرمة معلولان للنهي من المسامحة الظاهرة ، فان الحرمة ليست معلولة للنهي ، بل هي معنى النهي كما عرفت. مع ان العلية والمعلولية في مثل ذلك مما لا وجه لها. فتدبر جيدا.

هذا كله فيما إذا كان الاضطرار بدون اختيار.

أما إذا كان الاضطرار بالاختيار فقد عرفت ان المضطر إليه يبقى على ما كان عليه من المبغوضية والمبعدية وان زالت الحرمة ، لاستحالة التكليف بغير المقدور.

وقد ذكرنا ان محل الكلام ليس هذا ، بل محل الكلام ما إذا كان المضطر إليه مقدمة لواجب اتفاقا أو دائما ...

١٣٩

فهل يكون ذلك موجبا لرفع مبغوضيته أولا؟ ..

ومثاله المعروف هو : التوسط في الأرض المغصوبة كما إذا دخل باختياره إلى الأرض المغصوبة وأراد الخروج بعد الدخول ، فانه يكون غصبا لكنه مقدمة للتخلص عن الغصب الزائد الحاصل بالبقاء.

والأقوال متعددة :

فقول : بان الخروج يقع محرما لأن الاضطرار بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا وعقابا (١).

وقول : بأنه يقع مبغوضا غير محرم ، لعدم منافاة الاضطرار بالاختيار ثبوت العقاب ومنافاته ثبوت الخطاب. وهذا هو رأي صاحب الكفاية (٢).

وقول : بأنه يقع مطلوبا ولا يكون مبغوضا ، وهو رأي الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٣) وقد استدل رحمه‌الله على دعواه ـ كما نقله صاحب الكفاية عن تقريرات بحثه (٤) ـ بما بيانه : ان التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا كلام.

وأما الخروج فهو لا يقع محرما أصلا ، إذ لا يتعلق به التحريم قبل الدخول لأنه لا يتمكن من الخروج وعدمه قبل الدخول ، ودعوى التمكن من ترك الخروج بترك الدخول مسامحة ظاهرة ، لأنه في الحقيقة انما ترك الدخول ولا يصدق ترك الخروج إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، نظير من لم يشرب الخمر لعدم الوقوع في المهلكة فانه لا يصدق إلا انه لم يقع في المهلكة لا انه لم يشرب الخمر فيها إلا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

__________________

(١) القمي المحقق ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول ١ ـ ١٤٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ١٥٥ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٤٠