منتقى الأصول - ج ٣

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٣

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٨٠

وبما انه يمنع اجتماع المصلحة الراجحة والمفسدة الراجحة في شيء واحد فلا إشكال في مثل هذه الحال في امتناع اجتماع الحكمين.

ثانيهما : ان الخصوصية إذا كانت دخيلة في صيرورة الفعل ذا مصلحة ، فذلك يقتضي أنها عند وجودها يصير الفعل كذلك ، وحينئذ تنشأ الإرادة والكراهة والحب والبغض ، ومن الواضح انه يمتنع ان يكون نفس الخصوصية متعلقة للحب والبغض حينئذ لوجودها خارجا ، فالمتعلق انما هو نفس الفعل بلحاظ مصلحته أو مفسدته الخاصة به فيمتنع اجتماع الحكمين فيه. كما عرفت.

إذا عرفت ذلك تعرف ان الفعل الواحد المضاف إلى عنوانين اشتقاقيين خارج عن دائرة النزاع ، لأن كلا من الخصوصيّتين لا يكون متعلقا للرغبة والكراهة ، لأنهما مما يكونان دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة والمفسدة لأخذهما في موضوع الحكم وهو يقتضي ذلك.

ولأجل ذلك لم يتوقف أحد في كون مثل : « أكرم العالم ولا تكرم الفاسق » متعارضين في العالم الفاسق مع تعدد خصوصية الإكرام بلحاظ تعدد العنوان.

واما النحو الثاني : فهو محلّ الكلام ، والبحث فيه في صور :

الأولى : ان تكون المصلحة الراجحة في ذات العمل والمفسدة الراجحة في الخصوصية بنفسها أو بالعكس.

الثانية : ان تكون إحداهما في خصوصية والأخرى في خصوصية ثانية.

الثالثة : ان تكون في ذات العمل مصلحة راجحة وفي المجموع من الذات والخصوصية مفسدة راجحة أو بالعكس.

الرابعة : ان تكون إحداهما في نفس الخصوصية والأخرى في المجموع.

الخامسة : ان يكون في المجموع مصلحة راجحة وفيه أيضا مفسدة راجحة ، بحيث يكون كل من العمل والمفسدة ذا مصلحة ومفسدة ضمنيتين.

فيقع الكلام في إمكان هذه الصور ونتيجة ذلك.

١٠١

اما الصورة الأولى : فلا إشكال في إمكانها ، لأن الخصوصية وإن لم يكن لها وجود مستقل عن العمل ، إلاّ انها مما يمكن أن تكون متعلقا للأغراض العقلائية من دون ان يلحظ العمل أصلا ، بل لا يكون الملحوظ في ترتب الغرض سوى نفس الخصوصية ، وحينئذ تكون هي بذاتها متعلقا بما ينبعث عن الغرض من كراهة أو رغبة وإرادة ، ويكون العمل على العكس منها ، لأنه متعلقا للغرض المعاكس فيجتمع الإرادة والكراهة في وجود واحد حقيقة ، إلاّ ان متعلق إحداهما يختلف عن الآخر فان أحدهما الفعل والآخر هو الخصوصية وإن كانا موجودين بوجود واحد حقيقة.

ونحن وان التزمنا بامتناع الكراهة والإرادة في شيء واحد ، إلاّ انه ليس لما هو المشهور من كونه لأجل تضاد الوصفين أنفسهما كي يطرد ذلك في جميع الموارد ، بل من جهة امتناع اجتماع منشأيهما وهما المصلحة الخالصة أو الراجحة والمفسدة الخالصة أو الراجحة في امر واحد. وهذا في ما نحن فيه منتف ، لأن ما فيه مصلحة الخالصة أو الراجحة غير ما في المفسدة الخالصة أو الراجحة ، فان أحدهما الفعل والأخر الخصوصيّة واختلاف الفعل والخصوصية في ذلك أمر وجداني يظهر بمراجعة الوجدان ، فانه من الممكن ان يكون العمل ذا مصلحة راجحة فيكون متعلقا للرغبة في الوقت الّذي تكون خصوصيته متعلقة للكراهة باعتبار اشتمالها على المفسدة الراجحة ، إذ واقع الخصوصية غير واقع الفعل وإن كانا بحسب الوجود متحدين.

ومن هذا البيان يظهر الحكم في ..

الصورة الثانية : فانه من الممكن ان تكون إحدى الخصوصيّتين متعلقا للرغبة بلحاظ ما فيها من المصلحة ، والخصوصية الأخرى متعلقا للكراهة بلحاظ ما فيها من المفسدة.

نعم ، في مقام العمل قد لا يرجح العاقل إحداهما على الأخرى مع كون

١٠٢

المصلحة جابرة لما تنتجه المفسدة ، ويرجع الترك لو لم تكن جابرة بنحو كامل ، ويرجح الفعل لو كانت جابرة مع زيادة. وذلك لا يعني ملاحظة قاعدة الكسر والانكسار وانحصار الأمر في الكراهة أو الإرادة أو انعدامهما معا ، بل هذا من قبيل ملاحظة حال المتلازمين اللذين يكون أحدهما ذا مفسدة والآخر ذا مصلحة ، من عدم ترجيح أحدهما على الآخر مع انجبار المفسدة المترتبة على أحدهما ، بالمصلحة المترتبة على الآخر وترجيح الغالب منهما على الآخر. بل هو نظير ملاحظة الأهم من الحكمين في مطلق موارد تزاحم الوجوب والحرمة. فتدبر.

وأما الصورة الثالثة : فهي ممتنعة لما تقدم من ان الشيء الواحد وان كان يمكن ان يشتمل على مفسدة ومصلحة ، لكنه لا يمكن ان يشتمل على ما هو من شيء الإرادة والكراهة منهما وهما المصلحة الراجحة والمفسدة كذلك. وعليه فيمتنع ان تكون في الفعل مصلحة راجحة وفيه أيضا مفسدة راجحة ضمنية ، لاستلزامه اجتماع وصفي الراجحية والمرجوحية في كل من المفسدة والمصلحة وهو ممتنع ، وعلى هذا فيمتنع ان يكون الفعل بذاته متعلقا للكراهة الضمنيّة والإرادة الاستقلالية لامتناع تحقق منشئهما.

ومنه يظهر الحكم في الصورة الرابعة ، فان الكلام فيها كالكلام في الثالثة بلا اختلاف.

هذا تحقيق الكلام في مسألة الاجتماع.

وقد ذكر المحقق العراقي رحمه‌الله في مقالاته في بداية البحث : أن موضوع الكلام ما كان هناك وجود واحد حقيقة ذو جهتين : إحداهما تكون متعلق الأمر. والأخرى تكون متعلق النهي. ففرض وحدة الوجود في محل النزاع ، وأنكر على من جعل أساس البحث كون التركيب انضماميا أو اتحاديا ، لأن انضمامية التركيب معناها تعدد الوجود وهو خروج عن محل البحث فانه مما لا

١٠٣

إشكال في جوازه (١).

وهو بهذا المطلب على حق لما عرفت من ان البحث الكبروي في هذه المسألة عن ان الوجود الواحد ذا الحيثيتين هل يمكن ان يكون موردا للاجتماع أو لا؟. وقد عرفت تفصيل الكلام فيه. اما البحث عن أن أي مورد يكون التركيب فيه انضماميا وأي مورد يكون التركيب فيه اتحاديا فهو بحث لتشخيص ضابط الصغرى وهو لا يتناسب مع البحث الأصولي.

ولكنه قدس‌سره ذكر في مقام تحقيق المسألة : ان الوجود الواحد إذا كان ذا حيثيتين إحداهما كانت مصداقا وفردا لعرض والأخرى كانت مصداقا وفردا لعرض آخر ، فاما ان لا يكون بين الحيثيتين جهة مشتركة جامعة. واما ان يكون بينهما جهة مشتركة. فان لم يكن بينهما جهة مشتركة جاز اجتماع الأمر والنهي لاختلاف متعلقيهما وانحياز كل منهما عن الآخر تماما. وان كانت بينهما جهة مشتركة لم يجز اجتماع الأمر والنهي ، لاستلزامه اجتماع الحكمين في شيء واحد. ببيان محصله : ان متعلق الحكم ليس هو الوجود الخارجي ، لأنه ظرف السقوط كما انه قد يكون الحكم ولا يكون الوجود الخارجي ، وانما متعلقه الوجود الذهني ، وبما ان الموجود الذهني يشتمل على الطبيعي مع خصوصية الوجود كان الحكم ثابتا للطبيعي المتحقق ضمنا في الموجود الذهني. وعليه ففرض وجود الجهة الجامعة بين الخصوصيّتين يستلزم فرض تعلق الحكمين الثابتين للخصوصيتين بالجهة الجامعة لوجودها في ضمن كل من الخصوصيّتين ، فيلزم اجتماع الحكمين المتضادين في شيء واحد وهو محال بلا إشكال.

وهذا البيان منه قدس‌سره لا يخلو من إشكال من جهتين :

الأولى : ما ذكره من ان متعلق الحكم هو الوجود الذهني ، فانه غير

__________________

(١) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول ١ ـ ١٢٢ ـ الطبعة الأولى.

١٠٤

صحيح فقد تقدم ان الوجود الذهني لا يشتمل على مناط الحكم كي يكون متعلقا له ، وانما متعلق الحكم هو الوجود التقديري الزعمي. فراجع تحقيق ذلك في مبحث تعلق الأحكام بالطبائع (١).

الثانية : ما ذكره في تقريب امتناع الاجتماع فيما كانت بين الخصوصيّتين جهة مشتركة. فانه غير صحيح أيضا لأنه ينتقض عليه بعروض الأوصاف الخارجية على الموجودات الخارجية ، فانه يستلزم عروض الوصفين المتضادين على الطبيعي فيما كان أحدهما عارضا على فرد من طبيعي والآخر عارضا على فرد آخر منه ، كما إذا عرض السواد على ثوب والبياض على ثوب آخر ، فانه بناء على ما ذكره يلزم عروض الوصفين على طبيعي الثوب لوجوده ضمنا في كل من الفردين.

والحل في الجميع : ان اجتماع الوصفين المتضادين انما يمتنع لو كان معروضهما واحدا شخصيا كهذا الجسم مثلا. اما إذا كان واحدا نوعيا فلا امتناع فيه كما لو كان معروض كل من الوصفين غير معروض الآخر شخصا وانما يجمعهما طبيعي واحد. وما نحن فيه كذلك ، إذ الأمر والنهي قد تعلق كل منهما بحصة غير الأخرى وجامعهما الطبيعي ، وهو لا محذور فيه ، ولو كان المراد من اجتماع الضدين في واحد ما يعم الواحد النوعيّ لم يكن اجتماع الضدين ممتنعا لتحققه خارجا بحد لا يحصى كما لا يخفى.

هذا مع انا لا نتصور فعلا المصداق الخارجي لهذه الصورة ، أعني صورة وجود الجهة المشتركة بين الخصوصيّتين.

هذا تمام الكلام في تحقيق كبرى المسألة.

ويقع الكلام بعد ذلك في تحقيق الصغرى المشهورة ، وهي : الصلاة في

__________________

(١) راجع ٢ ـ ٤٦٩ من هذا الكتاب.

١٠٥

الدار المغصوبة فقد وقع الكلام بين الأعلام في انها من مصاديق اجتماع الأمر والنهي في واحد أو لا؟.

ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله إلى ان متعلق الأمر في المثال غير متعلق النهي ، فان متعلق النهي من مقولة الأين لأنه الكون في الدار المغصوبة ، ومتعلق الأمر الّذي يتوهم اتحاده مع المنهي عنه من مقولة الوضع وهو القيام والركوع والسجود ونحوهما لأنها أسماء للهيئة الخاصة العارضة على الوجود ، اما النية والذّكر فليس هناك من يتوهم أنها غصب. ومن الواضح ان وجود كل مقولة غير وجود المقولة الأخرى ، إذ لا جامع بين المقولتين لأنها أجناس عالية ، فكل مقولة ماهية منحازة عن غيرها فيكون لها وجود مستقل غير وجود المقولة الأخرى ، فيكون التركيب حينئذ بين الصلاة والغصب تركيبا انضماميا ، فيكون المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي (١).

هذه خلاصة ما أفاده المحقق النائيني ولم يوافقه على ذلك الأعلام.

فقد تعرض المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية إلى بيان وحدة الغصب والصلاة وجودا ، لكنه لم يتعرض إلى نفي أساس تعدد الوجود الّذي ذكره المحقق النائيني وهو كون الغصب من مقولة الأين والصلاة من مقولة الوضع ، لذلك يحق لنا ان نقول بأنه كلام مجمل لا يتناسب مقام المحقق العلمي (٢).

واما المحقق العراقي قدس‌سره. فقد ذكر في مقالاته : أن غاية ما يتوهم في بيان تعدد الصلاة والغصب هو ان الصلاة من مقولة الفعل أو الوضع والغصب من مقولة الإضافة باعتبار انه إشغال الأرض ، كما يظهر من تفسير الغصب في

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٣٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٧٤ ـ الطبعة الأولى.

١٠٦

تعبيراتهم ، فيختلف متعلق الأمر ومتعلق النهي.

وأورد عليه :

أولا : بأنه يبتني على الالتزام بان الإضافة لا حظ لها من الوجود ، والالتزام بان الاعراض القائمة بمعروضاتها من مراتب وجود المعروضات ومكملاته وليس لها وجود مستقل غير وجود معروضاتها. وهو خلاف التحقيق ، وإلا فلازمه خروج المثال عن موضوع محل النزاع ، إذ موضوعه هو الوجود الواحد المشتمل على جهتين ، فقد أخذ في موضوعه كون التركيب اتحاديا من جهة الوجود ففرض المورد من موارد كون التركيب انضماميا خلف الفرض.

وثانيا : انه مع تسليم كون الغصب هو الاشتغال لا الفعل الشاغل تكون نسبة الأفعال الصلاتية إليه نسبة السبب التوليدي ، فتكون محرمة ، إذ الأمر بالمسبب أمر بالسبب حقيقة.

وثالثا : ان العنوان المحرم لا يختص بعنوان الغصب كي يقال أنه غير الصلاة ، بل الحرمة متعلقة بعنوان التصرف في ملك الغير. ومن الواضح ان التصرف يتحد مع افعال الصلاة فان الأفعال من القيام والركوع والسجود بنفسها تصرف فتكون محرمة.

ورابعا : لو أغمض النّظر عن ذلك فعنوان استيفاء منافع الغير محرم من دون إذنه ـ والاستيفاء أعم من التصرف ، فان الاستضاءة بنور الغير استيفاء وليست بتصرف ـ. ومن الواضح ان القيام والقعود ونحوهما من افعال الصلاة من الاستيفاء ، فتكون محرمة فتتوجه الحرمة إلى عين ما توجه إليه الوجوب وهو ممتنع (١).

أقول : ان كان نظره في نقل التوهم ودفعه إلى ما أفاده المحقق النائيني

__________________

(١) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول ١ ـ ١٢٦ ـ الطبعة الأولى.

١٠٧

فيرد عليه ان المحقّق النائيني لم يذهب إلى كون الغصب في المثال من مقولة الإضافة ، بل من مقولة الأين ، فإسناد ذلك إليه غير صحيح.

هذا مع ان الإيراد الأول لا وجه له ، إذ لم يفرض موضوع الكلام عند الكل بالنحو الّذي فرضه هو ، فان موضوع البحث عند المحقق النائيني هو الواحد في الوجود صورة ، فيبحث عن أنه كذلك حقيقة أو لا؟. فلازم الالتزام بكون الإضافة مما له حظّ من الوجود خروج الفرض عن موضوع البحث الّذي فرضه هو قدس‌سره لا القوم.

واما الإيرادات الأخرى فهي غير واردة على المحقّق النائيني.

أما الثاني : فواضح ، إذ ليس الغصب هو الاشغال كي يقال ان نسبة الأفعال الصلاتية إليه نسبة السبب التوليدي إلى المسبب ، بل هو الكون في الدار المغصوبة وهو ليس من المسببات التوليدية.

وأما الثالث : فلأن القيام والركوع ونحوهما إذا كانت أسماء للهيئة الخاصة وكانت من مقولة الوضع لم تكن بنفسها تصرفا ، بل التصرف ينطبق على الكون في المكان المغصوب.

وأما الرابع : فيتضح الجواب عنه من الجواب عن الثالث ، لأن هذه الأفعال إذا كانت أسماء للهيئة الخاصة لم تكن بنفسها استيفاء ، بل الاستيفاء ينطبق على الكون في المغصوب.

وقد تعرض المحقق الأصفهاني في أصوله إلى ما أفاده المحقق النائيني واستشكل فيه بقوله : « والتحقيق : أن مقولة الأين وان كانت مباينة لمقولة الوضع وليست مقولة مقومة لمقولة أخرى ولا المركب من مقولتين مقولة برأسها ، إلا أنه ربما تكون مقولة مقوّمة للجزء شرعا ، كمقولة الأين للسجود ، فان المماسة للأرض بوضع الجهة عليها وان كانت غير هيئة السجود إلا أنها معتبرة في الجزء شرعا ، فما هو عين التصرف في الأرض مقومة للجزء لا للمقولة ، وكذا الاستقرار على

١٠٨

الأرض في القيام والجلوس عليها في التشهد ونحوه ، فانها غير مقولة الوضع لكنها من واجبات الصلاة. ومنه تبين انه لو اعتبر الهوي في الركوع والسجود كان عين مقولة الحركة في الأين مقومة للجزء شرعا وإن كان ذات الجزء من مقولة الوضع ، فتوهم ان الركوع والسجود من مقولة الوضع حتى على هذا القول غفلة ، بل الجزء مركب من مقولتين ... » (١).

وتابعة السيد الخوئي ( حفظه الله ) في الإشكال فذهب في تعليقة أجود التقريرات إلى : أن السجود الواجب لا يكفي فيه مماسة الجبهة الأرض ، بل لا بد فيه من اعتمادها عليها ليصح معه صدق وضع الجبهة على الأرض. ومن الواضح ان الاعتماد من أوضح مصاديق التصرف فيكون محرما لحرمة التصرف. كما انه فرّق بين القول بان الهوي والنهوض من أجزاء الصلاة فيلزم اجتماع الأمر والنهي في واحد ، والقول بعدم كونهما من الأجزاء فلا يلزم الاجتماع (٢).

أقول : لا دليل على اعتبار الاستقرار على الأرض في القيام والجلوس عليها في التشهد وأما مماسة الجبهة للأرض في السجود أو الاعتماد عليها وإن كانت معتبرة في الجزء شرعا أو عرفا بمعنى انه لا يصدق السجود المأمور به بدون ذلك ، إلا أنه إنما ينفع فيما ذكراه لو كان اعتباره بنحو الجزئية بان يكون السجود عبارة عن أمرين الهيئة الخاصّة ووضع الجبهة على الأرض ، ولكنه لم يثبت ذلك ، فقد يكون مأخوذا بنحو الشرطية ، بمعنى ان السجود هو الهيئة الخاصة المقيدة بوضع الجبهة على الأرض ، فيكون وضع الجبهة على الأرض خارجا عن حقيقة السجود وانما الداخل فيه هو التقيد به ، ومع ذلك لا يلزم ما ذكر من ان متعلق الأمر هو متعلق النهي ، بل يكون متعلق النهي خارجا عن دائرة المأمور به ، لأنه

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على النهج الحديث ـ ١٤٥ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٣٩ هامش رقم (١) ـ الطبعة الأولى.

١٠٩

شرط لا جزء.

نعم ، لو التزم بكون الشروط كالأجزاء متعلقة للأمر الضمني لزم ما ذكر ، لكن لم يلتزم بذلك أحد وانما صرح به المحقق النائيني في مكان واحد (١) ولم يثبت عليه إلى الأخير.

ومع الترديد في أخذه بنحو الجزئية أو الشرطية ، فالأصل يقتضي كونه بنحو الشرطية ، لأن مقتضى الجزئية تعلق الأمر الضمني بالتقيد والجزء ذاته ، ومقتضى الشرطية تعلق الأمر بالتقيد فقط ، فمرجع الشك المزبور إلى الشك في أن المشكوك كونه جزء أو شرطا هل هو متعلق للأمر أو لا؟ ، فينفي تعلق الأمر به بأصل البراءة ونتيجته ثبوت الشرطية. وعليه فيتعدد متعلق الأمر والنهي.

ومن هنا ظهر الأمر في ما لو اعتبر الهوي في الركوع والسجود ، فانه لا ينفع ما لم يؤخذ بنحو الجزئية كي يكون بنفسه متعلقا للأمر ، أما إذا اعتبر شرعا أو عرفا في مفهوم الركوع بنحو الشرطية بان كان الركوع هو الهيئة الخاصة الناشئة عن الهوي في قبال النهوض راكعا ، فلا يجدي في المطلوب لاختلاف متعلق الأمر عن متعلق النهي وتعددهما وجودا. فتدبر جيدا.

ثم انه لو تنزلنا وقلنا بأن متعلق الأمر والنهي أمر واحد لا تعدد فيه ، يقع الكلام في الجواز والامتناع من الجهة الثانية الكبروية وهي : ان المورد من موارد تعدد الحيثية بنحو يجوز اجتماع الحكمين فيه أو لا؟.

ذهب المحقق العراقي إلى : ان المجمع وإن كان ذا حيثيتين ، إلا انه لما كانت بينهما جهة مشتركة كان ثبوت الأمر والنهي فيه ممتنعا لتعلقهما بشيء واحد (٢).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٧٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول ١ ـ ١٢٧ ـ الطبعة الأولى.

١١٠

وفيه :

أولا : إنه لا يتصور هناك جامع بين حيثيتي الصلاة والغصبية يكون موردا للحكمين.

وثانيا : إنه لا تعدد في الحيثية لأن الصلاة اسم لنفس الأفعال وليست اسما لحيثية تتحيث بها الأفعال ، فليس هناك إلا حيثية الغصبية. فمتعلق الأمر نفس الفعل كما ان متعلق النهي المجموع من الفعل مع تقيده بالخصوصية الغصبية.

وعليه ، فالحق هو الامتناع لما تقدم من امتناع تعلق الأمر بذات العمل والنهي بالمجموع منه ومن الخصوصية. فراجع.

هذا تمام الكلام في الصغرى المشهورة.

ويقع الكلام بعد هذا في بعض التفصيلات والأقوال في المسألة مما أشار إليه صاحب الكفاية وهي :

التفصيل الأول : ابتناء القول بالجواز على الالتزام بتعلق الأحكام بالطبائع. ويمكن ان يحرّر بنحوين :

أحدهما : ما يعد من أدلة الجواز ، وهو أن الأحكام لا تتعلق بالموجود الخارجي ، لأن الوجود ظرف السقوط ، وأنما تتعلق بالطبائع والمفاهيم ، وبما انها متعددة ـ لأنه المفروض ـ لم يلزم اجتماع الأمر والنهي في واحد ، بل كان متعلق كل منهما غير متعلق الآخر.

وهذا الوجه قد تقدمت الإشارة إليه في المقدمة الثانية من كلام صاحب الكفاية فان نظره فيها إلى دفع هذا القول.

وقد عرفت هناك ان إثبات هذا القول ونفيه لا يجدي شيئا فيما نحن فيه مع وحدة الوجود خارجا. فراجع.

ثانيهما : ما يعد تفصيلا في المسألة بان يبني القول بالجواز على كون متعلق الحكم هو الطبيعة لتعدد الطبيعة خارجا ، ويبني القول بالامتناع على اختيار

١١١

تعلقه بالفرد. وهذا هو الموجود في الكفاية (١).

لكنه قدس‌سره أهمل بيان الوجه في اختيار الامتناع بناء على القول بتعلق الحكم بالفرد ، وقد يتوجه بناء على مختار صاحب الكفاية في الفرد بأنه على القول بكون المتعلق هو الفرد تكون المشخصات ولوازم الطبيعة دخيلة في المتعلق ، ففي مثل مثال الصلاة في الدار المغصوبة يكون الغصب مصبا للأمر لأنه من مشخصات الصلاة.

وقد مرّ الإشكال فيه : بان الشخص اما كلي المكان أو شخصه ، لكنه لا بعنوان انه غصب فيكون الشخص بما انه لازم مأمورا به ، وبما انه غصب منهيا عنه ، فيكون من باب اجتماع الأمر والنهي بعنوانين.

وأما إشكال صاحب الكفاية على الشق الأوّل ـ أعني الالتزام بالجواز ، لو قيل بان المتعلق هو الطبيعة لا الفرد ـ : بان متعلق الحكم هو المعنون لا العنوان (٢).

فهو قاصر عن رد القول المزبور ، إذ لم يتعرض فيه إلى رد نكتة القول ، وهي ان الموجود لا يتعلق به الحكم ، لأن الوجود ظرف السقوط ، فكان ينبغي له أن يتعرض لنفي هذه الجهة.

والّذي يتحصل أن الإيراد على صاحب الكفاية من جهتين :

الأولى : نقصان كلامه.

الثانية : قصور اشكاله. فالتفت ولا تغفل.

التفصيل الثاني : ما نسب إلى صاحب الفصول وهو : ابتناء القول بالجواز والامتناع على الالتزام باتحاد الجنس والفصل والتركيب بينهما (٣).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الحائري الطهراني الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية ـ ١٢٥ ـ الطبعة الأولى.

١١٢

وفيه : انه إن أريد به ما هو الظاهر مما نقله عنه صاحب الكفاية (١) من ابتناء أصل النزاع على ذلك. فهو واضح الإشكال ، إذ ليس جميع أمثلة اجتماع الأمر والنهي يكون متعلق الأمر والنهي فيها من قبيل الجنس والفصل. والمثال المشهور ليس كذلك وهو الصلاة في الدار المغصوبة لوضوح ان الغصب ليس فصلا للصلاة.

وإن أريد أنه في المورد الّذي يكون متعلق الأمر والنهي فيه من قبيل الجنس والفصل يكون النزاع مبنيا على ما ذكر ، فهو متجه ، لكنه لا وجه للتعرض إليه وجعله تفصيلا في المسألة بعد إن كان مثاله نادر الوجود.

التفصيل الثالث : التفصيل بين القول بأصالة الماهية والقول بأصالة الوجود ، فيجوز الاجتماع على الأول لأن المتعلق هو الماهية لأصالتها وهي متعدّدة ، ويمتنع على الثاني لوحدة المتعلق وهو الوجود.

وقد نفاه صاحب الكفاية ـ بمقدمته الرابعة ـ : بان الوجود إذا كان واحدا كانت الماهية واحدة ويمتنع أن يكون للموجود الواحد ماهيتان كما يمتنع ان يكون للماهية الواحدة وجودان ، وبما ان الفرض كون الوجود فيما نحن فيه واحدا كان الماهية واحدة ، فلا يختلف الحال على القول بأصالة الوجود والقول بأصالة الماهية (٢).

التفصيل الرابع : وهو من أدلّة الجواز ـ وينسب إلى المحقق القمي قدس‌سره (٣) ـ وهو يبتني على كون الفرد مقدمة للطبيعي.

ويمكن تحريره بنحوين :

أحدهما : ما في تقريرات المحقق النائيني من ان متعلق الأمر هو الطبيعي ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٥٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) القمي المحقق ميرزا أبو القاسم. قوانين الأصول ١ ـ ١٤٠ ـ الطبعة الأولى.

١١٣

لأنه يتعلق به بنحو صرف الوجود ، ومتعلق النهي هو الفرد لأنه يتعلق بالطبيعة بنحو الاستغراق فيشمل الافراد. وعليه فيختلف متعلق الأمر عن متعلق النهي ، إذ الفرد ليس عين الطبيعي بل مقدمة له (١).

وهذا الوجه لا ينسجم مع عبارة صاحب الكفاية ، إذ فرض فيها كون الفرد مقدمة للطبيعي المأمور به أو المنهي عنه وهو غير كون الفرد منهيا عنه.

ثانيهما : وهو يتلاءم مع عبارة الكفاية من ان متعلق الأمر هو الطبيعة ، وكذلك متعلق النهي هو الطبيعة. فيختلف متعلق كل منهما عن الآخر ، والفرد يكون مقدمة للمأمور به والمنهي عنه. فعلى القول بعدم الملازمة لا محذور. وعلى القول بالملازمة بين حكم ذي المقدمة والمقدمة لا يلتزم بتعليق الحكمين بالفرد لامتناع الاجتماع ، بل يلتزم بكونها محرمة ، ولا ضير في حرمتها مع عدم الانحصار بسوء الاختيار (٢).

والإشكال في هذا الرأي بكلا تحريريه واضح. وهو ما أشار إليه في الكفاية من : ان الفرد عين الطبيعي خارجا وليس مقدمة له ، لأن المقدمية تقتضي الاثنينية وهي غير متحققة.

وهذا واضح لا غبار عليه ، لكن الّذي يبدو غامضا ما جاء في الكفاية من قوله : « وأنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار » فان التقييد بسوء الاختيار.

إن رجع إلى عدم الانحصار فلا وجه له ، لأنه لا محذور مع عدم انحصار المقدمة في حرمتها سواء كان بسوء الاختيار أو بغيره كما لا يخفى.

وإن رجع القيد إلى الانحصار ـ فيكون المعنى انه لا ضير في الحرمة في

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٤٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١١٤

صورة ما إذا لم يكن الانحصار بالاختيار ، وهو يشمل صورتين وهما صورة عدم الانحصار وصورة الانحصار بدون اختيار لأن عدم المقيد يكون بعدم القيد وبعدم الذات ـ ، فلا ضير في هاتين الصورتين ، كما ان الضير في صورة واحدة وهي صورة الانحصار بالاختيار.

مع انه من الواضح هو امتناع حرمة المقدمة ووجوب ذيها لو كانت منحصرة قهرا ، لعدم إمكان الامتثال ووقوع التزاحم بينهما. كما أنه في صورة الانحصار اختيارا يقع الكلام في حرمة المقدمة وعدمها مما سيأتي مفصلا إن شاء الله تعالى فانتظر.

* * *

١١٥
١١٦

« تنبيهات المسألة »

التنبيه الأول : في العبادات المكروهة وتفصيل الكلام فيه :

انه قد استدل على جواز اجتماع الأمر والنهي بوقوعه خارجا كما في العبادات المكروهة كـ : « الصلاة في الحمام » و: « صيام يوم عاشوراء » ونحوهما. فانه يكشف عن كفاية تعدد الجهة في رفع محذور اجتماع الضدين ، وإلاّ لما جاز اجتماع حكمين في مورد أصلا ، إذ التضاد لا يختص وجوده بين الحرمة والوجوب ، بل هو موجود بين جميع الأحكام ، فكما ان الوجوب والحرمة متضادان كذلك الوجوب والكراهة وهكذا الاستحباب والكراهة ونحو ذلك. وقد ثبت اجتماع الوجوب والاستحباب كـ : « الصلاة في المسجد » ، واجتماع الاستحباب أو الوجوب مع الكراهة كـ : « الصلاة في الحمام » فهذا دليل على جواز اجتماع الأمر والنهي مع تعدد الجهة.

وقد أجاب صاحب الكفاية رحمه‌الله عن هذا الاستدلال ، أو قل الإشكال على القول بالامتناع بجوابين : أحدهما إجمالي والآخر تفصيلي.

اما الإجمالي : فهو وجوه ثلاثة :

الأول : انه بعد قيام الدليل العقلي القطعي على امتناع الاجتماع ، فلا بدّ من التصرف في ظهور الدليل الدال على اجتماع الحكمين ، لأن الظهور لا يصادم

١١٧

البرهان.

الثاني : أن الإشكال وارد على القائل بالجواز أيضا ، بظهور الدليل في اجتماع الحكمين في شيء واحد بعنوان واحد وهو مما لا اختلاف في امتناعه. فيلزمه التفصي عن هذا الإشكال.

الثالث : ان بعض الموارد المذكورة لا مندوحة فيها كالعبادات المكروهة التي لا بدل لها كـ : « صوم يوم عاشوراء ». ومن الواضح امتناع اجتماع الحكمين في مثل ذلك بالإجماع ، اما لأجل التضاد أو لأجل التزاحم وعدم إمكان الامتثال.

واما التفصيليّ : فبيانه : ان العبادات المكروهة على أنحاء ثلاثة :

الأول : ما تعلق النهي به بذاته وليس له بدل كـ : « صوم يوم عاشوراء » والنوافل المبتدأة في بعض الأوقات.

الثاني : ما تعلق النهي به بذاته وكان له بدل كـ : « الصلاة في الحمام » فان لها بدلا وهو الصلاة في الدار أو المسجد.

الثالث : ما تعلق النهي به لا بذاته ، بل بما هو مجامع معه وجودا أو ملازم له خارجا كالصلاة في مواضع التهمة ، بناء على أن النهي لأجل اتحادها مع الكون في مواضع التهمة فانه منهي عنه في نفسه.

أما القسم الأول : فقد وقع الإجماع على صحته لو جيء به مع أرجحية الترك ، كما يظهر من مداومة الأئمة عليهم‌السلام على الترك.

فلا بد ان يكون الوجه في النهي التنزيهي عنه أحد وجوه ثلاثة :

أحدها : ان يكون الوجه هو انطباق عنوان راجح ذي مصلحة على الترك فيكون الترك ذا مصلحة كالفعل إلاّ ان مصلحة الترك أكثر من مصلحة الفعل ولذلك يرجح عليه. فيكون الفعل والترك بهذا الاعتبار من قبيل المستحبين المتزاحمين فيحكم بالتخيير بينهما مع عدم وجود الأهم وإلاّ فيتعين الأهم. ويقع الآخر صحيحا لأنه ذو مصلحة وموافق للغرض كما في مطلق موارد تزاحم

١١٨

المستحبات والواجبات.

ثانيها : ان يكون الوجه ملازمة الترك لعنوان راجح ذي مصلحة أكثر من مصلحة الفعل ، فيرجح الترك للوصول إلى تلك المصلحة الملازمة له.

ومرجع الوجهين إلى : أن النهي عبارة عن طلب الترك ، فهو هاهنا على حقيقته ، إلا أن طلب الترك تارة ينشأ عن مفسدة في الفعل. وأخرى ينشأ عن مصلحة في الترك أو فيما يلازمه وما نحن فيه من قبيل الثاني ، ولأجل ذلك يصح العمل لاشتماله على مصلحة من دون أيّ منقصة فيه. نعم تفوت به مصلحة الترك وذلك لا يضر في صحته.

ثالثها : أن يكون المقصود بالنهي هو الإرشاد إلى اشتمال الترك أو ملازمه على مصلحة أكثر من مصلحة الفعل من دون ان يكون هناك طلب أو زجر حقيقة. فلا يلزم اجتماع الحكمين في شيء واحد اما لأجل تعدد متعلق الحكمين ـ كما هو مقتضى الوجهين الأولين ـ ، أو عدم وجودهما كما هو مقتضى الوجه الأخير.

هذا ملخص ما أفاده صاحب الكفاية في حل الإشكال في القسم الأول (١).

ولا بد من التنبيه بشيء وهو : أنه لما ذا لم يفرض صاحب الكفاية في الوجه الأول وجود المصلحة في نفس الترك ، وانما فرض وجودها في العنوان المنطبق عليه؟.

وقد ذكر في وجه ذلك أمور :

منها : ان الترك أمر عدمي ، فيستحيل ان يكون له أثر وجودي لاستحالة ترشح الوجود من العدم.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٦١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١١٩

ومنها : ان الترك إذا كان ذا مصلحة راجحة لزم ان يكون نقيضه مرجوحا وهو الفعل ، وهذا يتنافى مع فرض رجحان الفعل. فاشتمال كل من الفعل والترك على المصلحة الراجحة محال.

ويمكن ان يكون الوجه فيه ـ وهو أمتن الوجوه ـ : أن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده العام وهو النقيض ، فإذا كان متعلق الأمر نفس الترك كان الفعل منهيا عنه ، وذلك يتنافى مع صحة العمل إذا كان عباديا مع أنه المفروض حيث يفرض صحة العبادة المكروهة.

وهذا بخلاف ما إذا كان العنوان هو المأمور به ، فان الفعل ليس نقيضا للعنوان كي يلزم المحذور المزبور.

وهذه الوجوه لا نستطيع ان نجزم بصحتها فعلا ، إلا إنا ذكرناها لمجرد التنبيه والأمر سهل.

وبعد ذلك يقع البحث في صحة ما أفاده قدس‌سره تبعا للشيخ الأعظم (١) في حلّ الإشكال. والحق أنه غير تام لوجهين :

الوجه الأول : ما ذكره المحقق النائيني رحمه‌الله من : ان المورد يمتنع أن يكون من موارد التزاحم بين المستحبين بحيث تترتب عليه آثاره من الطلب التخييري مع التساوي؟. وبيان ذلك : ان إجراء قواعد التزاحم انما يصح فيما إذا كان المتزاحمان مما لهما ثالث بحيث يتمكن من تركهما معا ، فانه بعد امتناع تعلق الطلب التعييني بهما لعدم القدرة يتعلق الطلب التخييري بهما ويكون صالحا للدعوة إلى إتيان أحد الأمرين. اما إذا كان المتزاحمان مما لا ثالث لهما كالنقيضين والضدين الذين لا ثالث لهما فلا يعقل تعلق الطلب التخييري بهما ـ بعد امتناع تعلق الطلب التعييني ـ ، إذ المكلف لا بد له من إتيان أحدهما ولا يستطيع

__________________

(١) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ١٣٠ ـ الطبعة الأولى.

١٢٠