منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

غض النّظر عن الواقع ، فيتكفل قهرا ثبوت الحكم لهذا الفرد يوجب التوسعة في موضوع الحكم ، فيكون أعم من الفرد الواقعي والظاهري ، فلا يتصور فيه كشف خلاف. ولسان الأمارة مفاده جعل الفرد الواقعي واعتباره وبيان ان مفاد الأمارة هو الواقع ، فلا تتكفل جعل شيء في قبال الواقع بل تتكفل اعتبار هذا هو الواقع ، فلا يقتضي التوسعة في موضوع الحكم ، بل تتكفل ثبوت آثار الواقع لما اعتبر بها ، فإذا تبين انه غير الواقع كان من باب انكشاف الخلاف ، إذ لم تثبت الآثار الواقعية له ، بل تثبت آثار الواقع للبناء على انه الواقع ، فيتصور فيه انكشاف الخلاف بخلاف الأصل ، فانه لما لم يكن الاعتبار فيه بلحاظ الواقع كان متكفلا للتوسعة في الموضوع وثبوت الآثار الواقعية ، فلا معنى لانكشاف الخلاف ، بل يزول الحكم بزوال موضوعه (١).

ولا يخفى ان هذا الجواب لا يدفع الإشكال على ما قرّبنا به عبارة الكفاية ، لأنه لم نلتزم بتكفل دليل الأصل التوسعة في الموضوع وترتيب الحكم على الفرد الظاهري ، كي يفرق بين الأصل والأمارة في كيفية المفاد ونحو اللسان ، بل قد عرفت تقريبه ، بان الأصل لا يتكفل سوى جعل الموضوع الظاهري من دون لحاظ ترتب الحكم عليه ، فيترتب عليه الحكم الثابت بدليله الخاصّ على طبيعي الموضوع الاعتباري ، فهو انما يوجب التوسعة في دائرة صدق الموضوع لا دائرة نفس الموضوع. وهذا المعنى يتأتى في مفاد الأمارة ، فانها تتكفل جعل الموضوع الاعتباري ظاهرا فتحقق فردا للموضوع فيثبت له الحكم قهرا بدليله لأنه أحد افراد الموضوع ، واختلاف اللسان وكون النّظر في الأمارة إلى جعل الموضوع بلحاظ الواقع لا يكون فارقا بعد ان كانا مشتركين فيما هو ملاك ثبوت الأثر الواقعي واقعا وهو تكفلها إيجاد فرد للموضوع الاعتباري ،

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٥٣ ـ الطبعة الأولى.

٦١

ولا نظر لهما إلى ترتب الآثار ، كي يقال : ان نظر الأصل إلى ترتب الأثر الواقعي واقعا ، ونظر الأمارة إلى ترتب أثر الواقع ظاهرا.

فالحق في الجواب ان يقال : ان الفرق الفارق بين الأصل والأمارة لا يرجع إلى اختلاف لسانيهما ، بل إلى اختلاف المجعول بهما ، فالمجعول بالأصل غير المجعول بالأمارة ، بيان ذلك : ان المجعول بالأصل هو الطهارة بلا نظر إلى الواقع أصلا ، بل تعتبر الطهارة بالأصل مع غض النّظر عن الواقع وبإسدال الستار عليه ، فيكون الطهارة الثابتة بالأصل فردا لطبيعي الطهارة الاعتبارية الثابت لها الأثر بالدليل المعين ، في مقابل الفرد الواقعي وفي عرضه فيثبت لها الأثر الواقعي كما يثبت للطهارة الواقعية ، لكون كل منهما فردا تكوينيا لما هو موضوع الأثر. وهذا بخلاف الجعل في الأمارة ، فانه بلحاظ الوصول إلى الواقع ، فالمجعول بالأمارة هو الطهارة بما انها الطهارة الواقعية وبما هي ثابتة واقعا ـ ولذا يصح نسبة مفاد الأمارة إلى الله على انه الواقع ، والالتزام به على انه كذلك ، بخلاف مفاد الأصل فانه لا يصح الالتزام به على انه الواقع ، وهذا امر تشترك فيه جميع الالتزامات في المجعول في باب الأمارة من المنجزية أو الطريقية أو الحجية أو الحكم المماثل ، فان الجميع يلتزمون بهذا المعنى وانه عند قيام الأمارة يصح الالتزام بمفادها بما انه الواقع ويصح نسبته إليه تعالى كذلك فيقال حكم الله الواقعي كذا ـ.

وعليه ، فالفرد الثابت بالأمارة لا يكون في عرض الواقع ، بل في طوله فتترتب عليه آثار الواقع ظاهرا لا الأثر الواقعي ، فيتصور فيه كشف الخلاف بانكشاف انه غير الواقع دون ما هو مفاد الأصل.

ولإيضاح هذا المعنى جيدا ورفع الإبهام فيه كاملا نقول : انه إذا ثبت حكم على طبيعي موضوع ، كما إذا ثبت الحكم على طبيعي العالم ، فكان له فرد تكويني حقيقي ، وثبت بالدليل فرد اعتباري ـ وان لم يكن حقيقة كذلك ـ ثبت

٦٢

ذلك الحكم لكلا الفردين الحقيقي والاعتباري ، لأن كلا منهما فرد للطبيعي ، فإذا اعتبر الفرد الاعتباري ـ بلحاظ جهة ما كالشك فيه ـ ثابتا متحققا ، بان ورد الاعتبار على الفرد لا على الطبيعي ، كان دليل الاعتبار بمقتضى ذلك متكفلا لثبوت آثار الفرد الاعتباري عليه في مرحلة الشك ، فإذا تبين انه ليس الفرد الاعتباري كان من باب انكشاف الخلاف ويزول الحكم حينئذ ، ويتبين ان لا موضوع لترتيب الآثار ، إذ لم يكن ذلك الفرد الاعتباري ثابتا في الواقع ، إذ الاعتبار الثاني في طول الاعتبار الأول فتترتب عليه آثاره لا في عرضه ، كي تترتب عليه الآثار الواقعية.

إذا عرفت هذا فما نحن فيه كذلك ، فان الأثر وهو الشرطية قد ترتب على طبيعي الطهارة التي هي امر اعتباري ، فلها فرد واقعي لم يؤخذ في موضوعه الشك كالطهارة المعتبرة عند التطهير بالكرّ أو كالطهارة الأصلية.

وقد ثبت لها فردا آخر ظاهرا وهو الطهارة المعتبرة بالأصل ، لكنه ثابت في عرض الفرد الواقعي ، ولذا كان الاعتبار واردا على مفهوم الطهارة وكلّيها. فثبت له الشرطية كما تثبت للفرد الواقعي.

ولكن الطهارة الثابتة بالأمارة ليست كذلك ، فانه لم يعتبر بها مفهوم الطهارة وطبيعيها ، وانما المعتبر هو الطهارة الواقعية ، أعني الفرد الواقعي للطهارة الاعتبارية ـ وهو غير المأخوذ في موضوعه الشك ـ ، فظهر : ان المعتبر في الأمارة هو الطهارة بما انها الواقع.

وعليه ، فلا تثبت لها آثار طبيعي الطهارة المأخوذ في الموضوع ، بل تثبت لها آثار الواقع ، إذ هي فرد اعتباري للواقع ، فهي في طوله ، فتترتب عليه آثاره ، وإلاّ لما اتجه اعتبار الواقع ، بل كان اللازم ان يعتبر أصل الطهارة ويتحقق كليهما في عالم الاعتبار والجعل كي تترتب عليه الآثار الواقعية ، ومعه يتصور انكشاف الخلاف بظهور عدم ثبوت الطهارة الواقعية والفرد الواقعي المعتبر للطهارة ،

٦٣

فينكشف عدم تحقق ما هو موضوع الأثر ـ وهو الشرطية ـ فيكون العمل فاقدا للشرط الواقعي. وذلك لا يثبت في مفاد الأصل ، لأن المعتبر هو المفهوم ـ وهو ثابت في عالم الاعتبار لا ينكشف عدم تحققه ـ وليس المعتبر به الفرد الواقعي. وعليه فترتب عليه آثار المفهوم ومنها الشرطية واقعا ، فيكون العمل واجدا للشرط الواقعي في ظرفه. ولم ينكشف عدم تحقق الشرط لتحقق موضوع الشرطية ، بل يزول الشرط وينعدم بزوال الشك فتدبر.

وخلاصة القول : ان الفرق الفارق هو الاختلاف في ما هو المجعول فيهما واقعا وثبوتا فلاحظ.

وبهذا البيان يتضح ان ما أفاده في الكفاية من الاجزاء في موارد الأصول الجارية في تحقيق ما هو موضوع التكليف أو متعلقه ، لا مانع عن الالتزام به ، بل لا محيص عنه لسلامته عن أيّ محذور قيل فيه.

ثم انه قدس‌سره التزم بعدم الاجزاء في موارد الأمارات الجارية في تنقيح ما هو الموضوع أو المتعلق بناء على الطريقية ، وبالاجزاء بناء على السببية.

واما الأصول والأمارات الجارية في نفس الأحكام الشرعية ، فقد التزم بعدم الاجزاء في مواردها مطلقا ، قيل بالطريقية أو السببية (١).

اما عدم التزامه بعدم الاجزاء في مورد الأمارة الجارية في تحقيق الموضوع أو متعلق الحكم بناء على الطريقية فقد بين سرّه بما تقدم من المحقق الأصفهاني قدس‌سره في بيان الفرق بين الأصل والأمارة ـ ولعله استخلصه من ظاهر عبارة الكفاية ـ ، من ان لسان دليل الأمارة جعل الموضوع بما انه الواقع ، فتتكفل جعل آثار الواقع عليه ، فالأمارة القائمة على الطهارة تتكفل بيان تحقق ما هو الشرط واقعا ، فيتصور فيه كشف الخلاف بانكشاف عدم ثبوت الطهارة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٦٤

الواقعية ، وقد تقدم بيان عدم وفاء هذا المعنى بالمطلوب ، وبيان ما هو التحقيق في الفرق الفارق من انه اختلاف المجعول واقعا وثبوتا فلا نعيد.

واما التزامه بالاجزاء في مورد الأمارة الجارية في تحقيق الموضوع أو المتعلق بناء على السببية ، فقد بيّنة بأنه حيث يكون مؤدّى الأمارة بقيام الأمارة ذا مصلحة واقعية ، فيتأتى فيه الاحتمالات الثبوتية المتأتية في المأمور به الاضطراري ، من ان المصلحة اما ان تكون وافية بتمام مصلحة الواقع أو بعضها ، ولم يمكن تدارك الباقي أو أمكن ، وكان لازم التدارك أو غير لازم التدارك ، وقد تقدم ان جميع الاحتمالات الثبوتية غير الاحتمال الثابت ملازم للاجزاء ، كما عرفت ان مقتضى الإطلاق نفي الاحتمال الثالث المستلزم لثبوت الاجزاء.

وقد أورد عليه : بان هذا انما يتم بناء على السببية التي يلتزم بها المصوبة وأهل الخلاف ، دون التي يلتزم بها أهل الحق المخطئة (١).

ولا بد لنا في وضوح كلام الكفاية نفيا أو إثباتا في هذه الجهة والجهة الأخرى ـ أعني التزامه بعدم الاجزاء مطلقا في الأصول والأمارات القائمة على الحكم ـ وما ذكره من الأصل العملي عند الشك في اعتبار الأمارة من باب الطريقية أو السببية ، واختلاف الحال فيه عن الأصل العملي في باب الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناء على السببية. من البحث في الاجزاء مستقلا بنحو كلي ، وبه تتضح كل جهة من جهات كلامه. فنقول : ان الأصل أو الأمارة التي يثبت بها حكم ظاهري ، تارة تكون جارية في الموضوع. وأخرى في نفس الحكم.

فالأولى : كما إذا قامت البينة أو الاستصحاب على موت زيد الّذي يترتب عليه آثار شرعية.

والثانية : كالأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٠٢ ـ الطبعة الأولى.

٦٥

وانكشاف الخلاف وان الواقع على خلاف مؤدى الأمارة ، تارة يحصل بالعلم الوجداني التكويني. وأخرى يحصل بحجة وأمارة أخرى بحيث تمنع من نفوذ الأولى.

ولا يخفى انه قد يشتبه الأمر على بعض ، فلا يتصور دخول صورة قيام الحجة الأخرى على خلاف الأولى في موضوع الكلام ، ويخصص الكلام فيما إذا حصل الانكشاف بالعلم.

وجهة ذلك : ان قيام الأمارة الأخرى والحجة الثانية المتأخرة لا يمنع من حجية الأمارة الأولى في ظرفها ، ولا ينفي كون مفاد الأولى هو الوظيفة العملية الفعلية للمكلف في حينه ، وعليه فلا يتصور فيه كشف خلاف الأولى من أول الأمر وان الواقع على خلاف مفادها ، إذ لا تنفي حجيتها في ظرف قيامها وعدم وجود الحجة الأقوى المتأخرة.

ولا يخفى انه توهم فاسد ينشأ من عدم الالتفات إلى ما هو محل الكلام وموضوع النزاع.

وذلك لأن موضوع الكلام : ما إذا قامت أمارة على تعيين الوظيفة الفعلية الظاهرية واستمر ذلك ، ثم انكشف ان هذه الوظيفة الظاهرية لم تكن على طبق الواقع.

وهذا كما يتصور في العلم كذلك يتصور بقيام حجة أخرى.

اما صورة قيام العلم فواضحة. واما صورة قيام الحجة ، فلان الحجة الأخرى وان لم تمنع من حجية الأولى في حينها ولا تنفي كون مفاد الأولى هو الوظيفة الظاهرية الفعلية في ظرفها ، لكن مفادها ان الواقع هو مؤداها وان غيره ليس بواقع ، فيكون مفادها ان الوظيفة الظاهرية السابقة على خلاف الواقع ، فالعلم والأمارة الأخرى يشتركان في عدم نفي حجية الأمارة السابقة وكون مؤداها في حينها هو الوظيفة الفعلية ـ إذ بالعلم ينكشف الواقع ، وذلك لا يمنع

٦٦

من كون الأمارة القائمة على خلافه حجة قبل حصوله ـ ، إلاّ انهما يتكفلان الكشف عن ان تلك الوظيفة الفعلية لم تكن على طبق الوظيفة الواقعية ، فيقع الكلام في ان تلك الوظيفة الفعلية الظاهرية مع العلم بمخالفتها للواقع وجدانا أو تعبدا وبالأمارة ، هل تجزي عن الواقع ولا يلزم الإتيان بالوظيفة الواقعية فعلا ، أو بما يترتب الآثار الشرعية على فوات الواقع ـ لو فرض فواته ـ أو لا تجزي؟.

وبالجملة : بعد العلم بعدم الإتيان بالوظيفة الواقعية ، يتكلم في ان ما جاء به من الوظيفة الظاهرية هل يكفي فلا يلزم الإتيان بالواقع أو بما يترتب على فواته شرعا ، أو لا يكفي فلا بد من ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع من الإتيان به لو لم يفت وقته أو قضائه لو فات الوقت ونحو ذلك من الآثار الشرعية؟.

والمتحصل : ان عدم تكفل الأمارة الأخرى نفي حجية الأولى ، بل تتكفل تحديدها زمانا لا يكون ملاكا لخروج المورد عن محل الكلام ، إذ مورد العلم الوجداني بالخلاف كذلك ، إذ لا ينكشف بالعلم عدم حجية الأمارة القائمة ، بل هي حجة في ظرفها. فالملاك في موضوع الكلام هو انكشاف كون مؤدى الأمارة على خلاف الواقع ، وهذا كما يحصل بالعلم يحصل بأمارة أخرى لأنها تنفي مفاد الأولى ـ وان لم تنفي حجيتها ـ. فيقع الكلام ـ كما عرفت ـ في اجزاء الوظيفة الظاهرية عن الواقع وعدمه.

وأنت خبير بأنه بعد وضوح ما هو محل النزاع لا يبقى مجال لتوهم الاجزاء بناء على الطريقية ، بل عدم الاجزاء بملاحظة ما هو محل الكلام من القضايا التي قياساتها معها ، إذ بعد العلم ـ وجدانا أو تعبدا ـ بعدم الإتيان بما هو الوظيفة في الواقع لا وجه عقلائيا ولا عقليا في الالتزام بعدم ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع وكفاية فعل أجنبي عن الواقع عنه.

نعم غاية ما تتكفله الأمارة الأولى هو المعذرية وعدم استحقاق المؤاخذة على مخالفة الواقع للجهل به مع العذر الموجب لقبح العقاب. ولكن الجهل لا

٦٧

يرفع الآثار المترتبة على مخالفة الواقع ، فلا بد من ترتيبها بعد العلم بالمخالفة.

وبالجملة : إطلاق أدلة الآثار المترتبة على عدم الإتيان بالواقع كإطلاق دليل القضاء ونحوه محكم ، ولم يثبت ان الإتيان بالوظيفة الظاهرية مانع عن شموله.

ومع هذا فقد ذكر للاجزاء وجوه :

الأول : ما تقدم ذكره من ان قيام الحجة الأخرى لا يمنع من حجية الأولى في ظرفها ، فيكون لدينا حجتان ، إحداهما تقضي بالاجزاء وهي الأولى التي تحدد أمدها بالأخرى. والثانية تقضي بعدمه وهي الأخرى الفعلية ، ولا وجه لترجيح الأخرى على الأولى والالتزام بمقتضاها من عدم الاجزاء.

ووضوح وهن هذا الوجه لا يخفى على من له أقل فضل ، فان الحجة الأخرى وان لم تنف حجية الأولى في حينها ، إلاّ انها تمنع من حجيتها فعلا وبقاء ، فالحجة الثابتة فعلا على الواقع هي الثانية ، وهي تقتضي بان الحكم الواقعي غير ما أدّت إليه الحجة السابقة ، وانه لا بد من ترتيب الآثار الواقعية لعدم الإتيان بالواقع ، فلا بد من العمل بها لأنها حجة في حقنا فعلا ، وغيرها ليس حجة فعلا ، بل كان حجة وانقطعت حجيته بقيامه.

وبعبارة أخرى : انه لا بد علينا من العمل بالأمارة الفعلية والالتزام بمقتضاها ، ومقتضاها ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع في ظرفه ، وليس هناك حجة فعلية تعارضها ، لانقطاع حجية الأولى بقيام الأمارة الثانية.

الثاني : ان الإتيان بالوظيفة الظاهرية المخالفة للوظيفة الواقعية كان عن استناد إلى حجة في حينه ، ومرجع الحجية إلى الاكتفاء بما قامت عليه عن الواقع وعدم المؤاخذة عليه ، وقيام الحجة الأخرى لا ينفي حجية الأولى في ظرفها ، بل يمنع من حجيتها بقاء ، فلا يكون مقتضاها عدم الاستناد في مقام العمل إلى الحجة.

٦٨

وهذا الوجه وان لم يكن كسابقه في الوهن ، لكنه غير سديد ، فانه لا يخلو عن نوع مغالطة ، وذلك لأن معنى الحجية الثابتة للأمارة هو المنجزية والمعذرية ، أعني ما يصح به احتجاج المولى على العبد لو صادف الواقع ، واحتجاج العبد على المولى لو خالف ، والأول المقصود بالمنجزية والثاني هو المقصود بالمعذرية ، فيكون العبد موظفا بما تؤدّيه الأمارة ما دامت قائمة ويكتفي به عن الواقع في حال قيامها. فإذا انقطعت حجيتها وانكشف ان الواقع على خلاف ما أدّته لزم ترتيب الآثار الواقعية على عدم إتيانه ، ولا مجال للاكتفاء بالوظيفة الظاهرية عن الواقع بعد فرض انكشاف الخلاف والعلم بأنها على خلاف الواقع بالحجة الأخرى ، لأن الاكتفاء بمؤداها عن الواقع ـ بمعنى المعذورية عنه ـ انما يثبت ما دامت قائمة وحجة ، فإذا انتفت حجيتها لم يثبت الاكتفاء بها عن الواقع. وهكذا الحال لو التزم بان المجعول في الأمارة هو الحكم المماثل ، فانه بلحاظ ترتب المنجزية والمعذرية عليه ، والمعذرية مستمرة باستمرار الحجية ، فإذا انقطعت الحجية انقطعت المعذورية ولزم العمل بالواقع الّذي قامت عليه الحجة المخالفة.

وبالجملة : الاكتفاء بمؤدى الأمارة عن الواقع انما هو ما دامت الأمارة حجة ، فإذا انتفت حجيتها بقيام حجة أخرى أقوى منها امتنع الاكتفاء بمؤداها ، إذ لا وجه له ، لأن غاية ما تتكفله الأمارة الأولى هو المعذرية عن الواقع ، بمعنى عدم صحة المؤاخذة على الواقع ، وهي ثابتة ، ولكنها انقطعت بقيام الأمارة الأخرى فلا بد من ترتيب الآثار الواقعية التي تقضي بها الأخرى ، ومنها وجوب القضاء أو الإعادة ونحوهما. فلاحظ.

الثالث : ان الالتزام بعدم الاجزاء مستلزم للعسر والحرج ، وذلك فان إعادة الصلاة أربعين سنة على من قلد مجتهدا لا يقول بوجوب السورة هذه المدة ، ثم قلد من يقول بوجوبها ، وكان قد أتى بالصلاة بدون سورة ، موجب للحرج الشديد بلا كلام ، وهكذا الالتزام ببطلان جميع معاملات من قلّد مجتهدا يذهب

٦٩

إلى جواز العقد بالفارسية وعمل على قوله ، ثم قلّد من يذهب إلى بطلان العقد بالفارسية ، فانه موجب للعسر ، ونحو ذلك من موارد البناء على بطلان الأعمال السابقة وعدم ترتيب الأثر عليها. وعليه فينفي عدم الاجزاء بأدلة نفي العسر والحرج فيثبت الاجزاء.

وفيه : انه لو تم الدليل على نفي الحرج في الشريعة ـ فانه أول الكلام ـ ، فموضوعه الحرج الشخصي لا النوعيّ. ولذا لا يجوز ترك الوضوء بالماء البارد لمن لا يكون عليه حرجيا بلحاظ انه موجب للحرج نوعا. ومعه لا بد من ملاحظة كل مورد بخصوصه ، فإذا كان عدم الاجزاء فيه موجبا للحرج بنى على الاجزاء بمقدار ما يرتفع به الحرج لا مطلقا وفي جميع الأعمال. ومن الطبيعي ان أصل الحرج ومقداره يختلف باختلاف الأشخاص ، فلا يمكن الحكم لأجله بالاجزاء بقول مطلق ، بل يحكم بالاجزاء في مورد الحرج خاصة.

ولا يخفى ان هذا يرجع إلى تسليم كون مقتضى القاعدة عدم الاجزاء ، ورفع اليد منها بلحاظ العنوان الثانوي ، كرفع اليد عن سائر الأحكام الثابتة بلحاظه.

والمتحصل : انه لا دليل على الاجزاء والقاعدة تقتضي عدمه.

وبعد هذا يقع الكلام في جهات كلام صاحب الكفاية الثلاث :

الجهة الأولى : في التزامه بالاجزاء في موارد الأمارات القائمة على الموضوع أو المتعلق بناء على السببية. وقد عرفت توجيهه بان مؤدى الأمارة يكون ذا مصلحة واقعية ، فتأتي فيها الاحتمالات الثبوتية في المأمور به الاضطراري الّذي عرفت انها تنتهي إلى الالتزام بالإجزاء (١).

وقد أورد عليه المحقق النائيني رحمه‌الله : بان هذا انما يتم بناء على

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧٠

السببية التي يلتزم بها المصوبة وأهل الخلاف. لا السببية التي يلتزم بها أهل الحق والمخطئة المعبر عنها بـ : « المصلحة السلوكية ». فان ما ذكره لا يصح مطلقا بناء عليها ، وذلك : لأن الواقع يبقى على ما هو عليه من المصلحة بعد قيام الأمارة ، ولا يكون مؤدى الأمارة ذا مصلحة بنفسه ، نعم لا بد ان يكون في العمل على طبق الأمارة مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع ، فلا وجه للاجزاء بالنسبة إلى الإعادة ولا بالنسبة إلى القضاء.

اما الإعادة فواضح ، إذ لم تفت مصلحة العمل بعد لبقاء الوقت وإمكان الإتيان به واستيفاء مصلحته ، فلا يكون هناك مصلحة متداركة لمصلحة الواقع ، نعم إذا كان انكشاف الخلاف بعد فوات أول الوقت في مثل الصلاة ، لزم ان يكون في سلوك طريق الأمارة مصلحة يتدارك بها مصلحة أول الوقت لا أكثر ، لأنها هي الفائتة دون غيرها.

واما القضاء ، فلان الفائت ليس إلاّ مصلحة الوقت دون المجموع من العمل والوقت ، إذ يمكن استيفاء مصلحة ذات العمل بالإتيان به بذاته خارج الوقت ، فالثابت من المصلحة في العمل على طبق الأمارة ليس إلاّ ما يتدارك به مصلحة الوقت الفائتة دون مصلحة ذات العمل ، لإمكان الاستيفاء ، فيجب القضاء لأن مصلحة ذات العمل ملزمة يلزم استيفاؤها. نعم إذا استمر الاشتباه إلى آخر العمل كان للاجزاء وجه لفوات مصلحة العمل على المكلف أيضا ، فلا بد من ان تكون هناك مصلحة يتدارك بها تلك المصلحة. فتدبر (١).

وأورد عليه : بان ما ذكر من عدم الاجزاء وجيه بالنسبة إلى الإعادة دون القضاء ، وذلك.

اما بالنسبة إلى الإعادة ، فلان غاية ما يفوت من المصلحة مصلحة أول

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٠٢ ـ الطبعة الأولى.

٧١

الوقت ، وهي مما يمكن تداركها مستقلا ، لأن مصلحة إيقاع الصلاة أول الوقت ليست مصلحة مرتبطة بمصلحة أصل الصلاة ، بل هي مصلحة استقلالية ظرفها الصلاة ، مثل مصلحة القنوت ونحوه من المستحبات ـ هذا يبتني على ما يلتزم المورد من عدم معقولية الجزء أو الشرط المستحب ، بل مرجع الكل إلى المستحب في الواجب فيكون ذا مصلحة مستقلة ـ ، اما مصلحة نفس الصلاة فهي غير فائتة لإمكان استيفائها بفعل الصلاة لعدم فوات الوقت.

واما بالنسبة إلى القضاء ، فلأنه بخروج الوقت وانكشاف الخلاف بعد مضيه تفوت مصلحة الوقت الملزمة ، وهي مصلحة ارتباطية بمصلحة أصل الصلاة ، بمعنى انه لا يمكن تداركها واستيفاؤها الا في ضمن الصلاة. نظير حسن طعم الطعام ، في التكوينيات ، فانه لا يمكن استيفاؤه بدون نفس الطعام كما لا يخفى.

وعليه بعد فرض تدارك ما فات من المصلحة يلزم تدارك مصلحة الوقت الفائتة ، وقد عرفت ان تداركها لا يكون إلاّ في ضمن مصلحة الصلاة ، ففرض تدارك مصلحة الوقت يلزمه فرض تدارك مصلحة الصلاة ، ومعه لا مجال لإيجاب القضاء لحصول مصلحة العمل بدونه.

وبالجملة : فلا بد من التفصيل ـ بناء على السببية الحقة ـ بين الإعادة والقضاء ، فيلتزم بالاجزاء في الثاني دون الأول (١).

ولكن هذا الإيراد لا يخلو من بحث ، وذلك لأنه انما يتم لو كان اللازم ـ في صورة خطاء الأمارة ـ تدارك نفس المصلحة الفائتة وإيجاد فرد مماثل لها. واما لو كان اللازم هو جبران المصلحة الفائتة بما يرفع الفوات والخسارة ، سواء كان بتدارك نفس المصلحة الفائتة أو بمصلحة أخرى تجبر فوات تلك المصلحة كما

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٢٧٤ ـ الطبعة الأولى.

بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول ١ ـ ٢٧٦ ـ الطبعة الأولى.

٧٢

هو الحق فلا يتم هذا الإيراد.

وتوضيح ذلك : ان وجه الالتزام بالمصلحة السلوكية هو ان الأمارة كثيرا ما لا تصادف الواقع ، فيكون العمل عليها مفوتا لمصلحة الواقع ، وعليه فإيجاب العمل عليها من قبل المولى الحكيم يلزمه عقلا ان يجبر فوات مصلحة الواقع بجعل مصلحة في سلوك الأمارة والعمل عليها ، وإلاّ لكان الالتزام بالعمل بها قبيحا ، لأن فيه تفويتا للمصالح الواقعية الملزمة. ومن الواضح ان العقل لا يحكم ـ رفعا للقبح ـ بلزوم تدارك نفس المصلحة الفائتة ، بل غاية ما يحكم به هو لزوم الجبران ، بحيث لا يفوت العبد شيئا من آثار المصلحة سواء كان يتدارك نفس المصلحة أو بإيجاد مصلحة أخرى جابرة ، فان القبح يرتفع بذلك كما لا يخفى.

وإذا ثبت انه يمكن ان يكون الجبران بمصلحة ليست من سنخ المصلحة الفائتة ، فيمكن ان يكون تدارك مصلحة الوقت بمصلحة أخرى غير مرتبطة بمصلحة الصلاة فتبقى مصلحة الصلاة بلا تدارك فيجب القضاء ، ومع الشك في ذلك فاللازم هو الاحتياط ، للعلم أولا بعدم استيفاء مصلحة الصلاة والشك في تداركها ، فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم تحصيل العلم باستيفائها وهو لا يكون إلاّ بالقضاء.

فالمتحصل : ان إيراد المحقق النائيني رحمه‌الله على صاحب الكفاية وجيه.

الجهة الثانية : في تفصيله ـ بناء على السببية ـ بين الأمارات القائمة على الموضوع أو المتعلق ، كالأمارات القائمة على جزئية السورة للصلاة والأمارات القائمة على الحكم ، فالتزم بالاجزاء في الأولى وبعدمه في الثانية ، فانه قد يتساءل عن وجه الفرق والسرّ في التفصيل (١).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧٣

ولتوضيح جهة الفرق : لا بد أولا من الإشارة إلى جهة ثبوت المصلحة في المؤدى الّذي هو مفاد الالتزام بالسببية ، فنقول : ان الوجه فيه أحد امرين :

الأول : ان الأمر الّذي تتكفله الأمارة كسائر الأوامر الشرعية الواقعية لا بد ان يكون بملاك وجود المصلحة في متعلقه ، وإلاّ لم يتجه البعث نحو متعلقه من الحكيم العادل. ولا خصوصية للأمر الواقعي في كونه تابعا للمصلحة في متعلقه دون غيره ، فما تقوم عليه الأمارة من امر يكون متعلقه ذا مصلحة.

الثاني : ان إيجاب العمل على طبق الأمارة كثيرا ما يفوّت مصلحة الواقع على المكلف ، لكثرة خطاء الأمارة ، وعليه فلا بد ان يكون مؤداها مشتملا على مصلحة تجبر بها فوات مصلحة الواقع.

إذا عرفت هذا فاعلم ان سرّ الفرق يرجع إلى كون الوجه في الالتزام بالسببية هو الأول.

وذلك : لأن الأمارة القائمة على الموضوع أو المتعلق مرجعها إلى بيان كون الأمر الواقعي متعلقه كذا ، والأمر بالإتيان بهذا المتعلق ، ومقتضى ذلك ثبوت المصلحة الباعثة للأمر الواقعي في ما هو مؤدّى الأمارة ـ كالصلاة بدون السورة مثلا ـ ، فيكون امتثاله سببا للاجزاء لاستيفاء مصلحة الأمر الواقعي وصيرورته بعد العمل بلا ملاك فيسقط ، ولا يمكن ان يتعلق بنفسه بالمتعلق الواقعي لتعلقه واقعا بما هو مؤدى الأمارة لثبوت الملاك فيه ، وهو لا يتعلق واقعا بأمرين. وأما الأمارة القائمة على الحكم ، كالأمارة القائمة على وجوب الجمعة ، فهي لا تنفي وجوب صلاة الظهر واقعا ، لأن غاية ما تتكفله احداث مصلحة في وجوب الجمعة ، فيكون وجوبها واقعيا ، وهو لا ينافي وجوب الظهر ، لأن مفاد الأمارة وجوب هذا العمل ، ولا تتكفل نفي وجوب غيره فيبقى وجوب غيره على ما هو عليه من المصلحة. ولا تفي مصلحة مؤدى الأمارة بها لأنها مصلحة أخرى

٧٤

وكل منهما ملزمة. نعم لو كان مفاد الأمارة كون الواجب الواقعي هو الجمعة كان للاجزاء وجه لانقلاب مصلحة الواقع من الظهر إلى الجمعة ، ولكنه خلاف الفرض ، لأنه من مورد قيام الأمارة على المتعلق وان الواجب هذا ، لا على أصل الحكم وان هذا واجب من دون تعرض لإثبات ونفي غيره.

وبالجملة : مع قيام الأمارة على أصل الحكم يكون كل من الواقع ومؤدى الأمارة واجبا واقعيا ذا مصلحة في متعلقه ولا يجزي أحدهما عن الآخر ، إلاّ ان يدل دليل خارجي على عدم وجوب عملين واقعيين من سنخ واحد كصلاتين في وقت واحد ، فانه كلام آخر غير مقتضي القاعدة.

ومحصل الفرق : ان الأمارة القائمة على المتعلق أو الموضوع بما ان لها نظرا إلى الواقع الثابت المتقرر ، فهي تقلبه عما كان عليه وتجعل المصلحة الباعثة نحوه في مؤداها ، فيسقط بالإتيان بمؤداها. واما القائمة على الحكم ، فغاية ما تثبته تحقيق مؤداها واقعا لصيرورته بها ذا مصلحة ، واما الواقع الثابت فلا تقبله عما هو عليه من المصلحة لعدم نظرها إليه أصلا.

واما بناء على الوجه الثاني ، فلا يفترق الحال بين الأمارة القائمة على الحكم وغيرها في الاجزاء مطلقا ، إذ بقيام الأمارة على الحكم أو غيره لا بد ان يكون فيه مصلحة تسدّ عن مصلحة الواقع وتفي به ، وهذا ملازم للاجزاء لاستيفاء مصلحة الواقع بما هو مؤدى الأمارة ، لأن المصلحة الثابتة فيه قد لوحظ فيها تدارك مصلحة الواقع مطلقا ، وهو يقتضي الاجزاء.

الجهة الثالثة : فيما ذكره عند الشك في كون حجية الأمارات بنحو الطريقية أو بنحو السببية ، من ان القاعدة تقتضي عدم الإجزاء ولزوم الإعادة في الوقت للعلم باشتغال ذمته بما يشك في فراغها منه بما أتى به بضميمة أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، ولا يعارض هذا الأصل استصحاب عدم

٧٥

فعلية التكليف ، لأنه لا يثبت مسقطية ما أتى به إلاّ بنحو الأصل المثبت (١).

فان هذا الكلام لا يخلو عن إجمال وغموض ، ولا بد في توضيحه من الإشارة إلى مواضع الغموض والتساؤل. فنقول : ما المراد من العلم باشتغال الذّمّة وثبوت التكليف؟ هل العلم التفصيليّ بثبوت التكليف الواقعي بعد كشف الخلاف ، أو المراد العلم الإجمالي؟.

فان كان المراد من العلم العلم التفصيليّ ، ففيه : ان مجرد العلم التفصيليّ بثبوت التكليف لا يكفي في لزوم إفراغ الذّمّة ما لم يعلم فعلية ذلك التكليف الثابت ، وهي غير معلومة ، لأن حجية الأمارة إذا كانت بنحو الطريقية كان التكليف فعليا ، وإذا كانت بنحو السببية لا يكون التكليف الواقعي فعليا ، بل التكليف الفعلي على طبق مؤدى الأمارة ، وقد أتى به دون الواقع ، وبذلك يحصل له الشك في ثبوت التكليف الواقعي وأصل البراءة ينفيه. ولو تنزلنا وقلنا : بكون التكليف الواقعي المعلوم فعليا ، كان ذلك بنفسه موجبا للزوم امتثاله جزما بحكم العقل ، لعدم الإتيان بمتعلقه ، فإجراء أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف وضمنه إليه لم يعرف وجهه الصناعي.

وان كان المراد به العلم الإجمالي ، فإما ان يراد به العلم الإجمالي في مرحلة الحدوث ، فيقال : انه يعلم قبل العمل وبعد قيام الأمارة بثبوت تكليف فعلي عليه اما على طبق مؤدى الأمارة ـ لو كانت حجيتها بنحو السببية ـ ، أو بالواقع ـ لو كانت حجيتها بنحو الطريقية ـ. واما ان يراد به العلم الإجمالي في مرحلة البقاء ، فيقال : انه يعلم بعد العمل وانكشاف الخلاف بأنه مكلف بالواقع المنكشف فعلا أو بمؤدى الأمارة الّذي جاء به.

فان أريد به العلم الإجمالي في مرحلة الحدوث ، الّذي يقتضي بدوا الإتيان

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧٦

بكل من مؤدى الأمارة والواقع بمقتضى تنجيز العلم الإجمالي ، لاحتمال فعلية كل من التكليفين فتجب موافقته قطعا ، فهو منحل حكما بقيام الأمارة على كون التكليف الفعلي على طبق مؤداها ونفي فعلية غيره بالملازمة ، إذ قد تقرر في محله انه إذا قامت أمارة معينة لما هو المعلوم بالإجمال في أحد الأطراف ينحل العلم الإجمالي ولا يكون منجزا ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد هذين الإناءين ، فقامت البينة على ان النجس هو هذا الإناء فانها تنفي نجاسة الآخر بالملازمة ، ومعه لا يجب الاجتناب الا عما قامت البينة على نجاسته دون الآخر ، لانحلال العلم الإجمالي حكما. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن مفاد الأمارة كون التكليف الفعلي هو مؤداها ، فتنفى بالملازمة فعلية الواقع ، وعليه فلا يجب الإتيان بغير مؤداها ، لعدم كون الواقع فعليا بمقتضى الأمارة وانحلال العلم الإجمالي. ولو فرض التنزل والالتزام بعدم انحلال العلم الإجمالي وكونه منجزا في المقام ، فهو بنفسه يقتضي بالإتيان بالفرد المشكوك الآخر ، أعني الواقع بعد الإتيان بمؤدى الأمارة بلا احتياج للتمسك بأصالة عدم الإتيان بما هو مسقط للتكليف ، لأن مقتضى تنجيز العلم الإجمالي لزوم الإتيان بجميع افراده تحصيلا للموافقة القطعية ، فأي ميزة لهذا العلم أوجبت الاحتياج إلى ضمّ أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف؟.

وان كان المراد به العلم الإجمالي في مرحلة البقاء ، فمرجعه إلى العلم باشتغال الذّمّة اما بتكليف ساقط ـ لو كان مؤدى الأمارة ـ ، أو بتكليف باق ـ لو كان هو الواقع ـ ، ومثل هذا العلم لا حظّ له من التنجيز لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء وعدم كون التكليف المعلوم على جميع تقاديره فعليا فلا يكون منجزا.

وبعد هذا كله ننقل الكلام إلى جهة أخرى من كلامه ، وهي ما ذكره من ان استصحاب عدم فعلية الواقع لا تثبت مسقطية المأتي به إلاّ على القول

٧٧

بالأصل المثبت (١).

فانه قد يتساءل : بان مجرد إثبات عدم فعلية الواقع تكفي في نفي التكليف فعلا ، سواء كان ما أتى به مسقطا أو لم يكن ، فما هي جهة الاهتمام بهذا الأمر مع فرض ثبوت عدم فعلية الواقع بالأصل؟.

هذه هي مواضع الغموض في كلامه وقد تبين انها في جهتين :

الجهة الأولى : في تشخيص المراد من العلم ، وبيان جهة الحاجة إلى أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف.

ويمكن رفع الغموض في هذه الجهة بان يقال : ان المقصود بالعلم هو العلم التفصيليّ ، وبالأصل الاستصحاب الموضوعي الّذي يثبت به بقاء التكليف ، لا الاستصحاب الحكمي ـ أعني استصحاب نفس بقاء التكليف ـ. بيان ذلك : انا نعلم تفصيلا بثبوت الحكم الواقعي قبل الإتيان بمؤدى الأمارة ، سواء كانت حجية الأمارة من باب الطريقية أو من باب السببية ، فان الحكم الواقعي له نحو تقرر على كلا التقديرين ، وقد وقع الكلام في كيفية ثبوته وتقرره. وقد ذهب صاحب الكفاية في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية إلى انه يكون في مورد الطرق والأمارات حكما إنشائيا لو علم به يصير فعليا ويتنجز (٢).

وعليه ، فبعد الإتيان بمؤدى الأمارة وانكشاف الخلاف نعلم تفصيلا بان الحكم الواقعي كان ثابتا بثبوت إنشائي ، لكنا نشك في بقائه وارتفاعه من جهة الشك في كون المأتي به مسقطا وعدمه ، فيستصحب عدم الإتيان بما هو مسقط للتكليف ، فيترتب عليه بقاء التكليف ـ ولا يجري استصحاب بقاء التكليف ، لإمكان إجراء الأصل في الموضوع ، ومعه لا تصل النوبة إلى إجرائه في المسبب ـ ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٧٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٧٨

وبمقتضى ان الاستصحاب يكون بمنزلة العلم الموضوعي الطريقي ، يكون الحكم الواقعي الثابت بالاستصحاب الموضوعي معلوما تعبدا لا تكوينا ، فتثبت فعليته ، لأن المفروض ان ثبوته كان بنحو لو علم به كان فعليا. وإذا ثبتت فعليته وجب امتثاله بالإتيان بمتعلقه.

وقد يستشكل على هذا الاستصحاب بلزوم الدور ، وذلك لأن جريانه متوقف على ثبوت الأثر المتوقف على فعلية الحكم ، وفعلية الحكم تتوقف على جريان الاستصحاب ، فيلزم الدور ، ولا يخفى ان هذا الإشكال سار في جميع الموارد التي يجري فيها الأصل لإثبات الأثر المأخوذ في موضوعه العلم بالحكم الواقعي كالفعلية ونحوها. وجوابه في محله وليس محله هاهنا.

الجهة الثانية : جهة الارتباط بين أصالة عدم كون الواقع فعليا وإثبات مسقطية المأتي به.

ولرفع الغموض من هذه الجهة نقول : ان النّظر في إجراء استصحاب عدم فعلية الواقع هو إيجاد المعارض لأصالة عدم كون الإتيان بما يسقط معه التكليف ، كي تسقط عن العمل ، والمعارضة تتوقف على كون استصحاب عدم فعليه الواقع مثبتا ، لكون المأتي به مسقطا ، فإذا كان إثباته بالملازمة العقلية ، يكون من الأصل المثبت فلا يكون حجة ، فلا يعارض أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، بل يكون هذا مقدما على استصحاب عدم فعلية الواقع بملاك تقدم الأصل السببي على المسببي. بيان ذلك : ان التنافي بين الأصلين وان كان موجودا ، لأن الغرض من أصالة عدم الإتيان بمسقط التكليف إثبات فعلية الواقع واستصحاب عدم فعليته ينفيه ، إلاّ ان الأصل المثبت للفعلية لما لم يكن مثبتا لها رأسا ـ بمعنى ان موضوعه ليس هو بقاء الفعلية ـ وانما يثبتها بتوسط إثبات عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، واستصحاب عدم فعلية الواقع لا يثبت الإتيان بالمسقط إلاّ بنحو الملازمة ، كان استصحاب عدم الإتيان بالمسقط

٧٩

مقدما على استصحاب عدم فعلية الواقع ، لأنه يتكفل نفي مفاد استصحاب عدم الفعلية بإثباتها ، واستصحاب عدم الفعلية لا ينفي مفاده ومجراه إلاّ بالملازمة غير المعتبرة شرعا ، فيكون رفع اليد عن استصحاب عدم فعلية الواقع بوجه ـ وهو استصحاب عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف لأنه ينفيه ـ ، ولا يكون رفع اليد عن استصحاب عدم الإتيان بما هو المسقط بوجه ، إذ الأصل الآخر لا ينفيه كما هو الفرض ، أو بوجه دائر ، وهو نفي جريان استصحاب عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف بأصالة عدم الفعلية المتوقفة على عدم جريان استصحاب عدم الإتيان بالمسقط.

وبالجملة : الوجه في تقديم استصحاب عدم المسقط على استصحاب الفعلية هو الوجه في تقديم الأصل السببي على المسببي ، فانهما من قبيلهما وان لم يكونا من مصاديقهما.

ومثل هذا يقال في الجواب عما يدعى من معارضة الاستصحاب التعليقي بالاستصحاب المنجز دائما بتقريب : ان المستصحب حرمته تعليقا كان حلالا جزما قبل حصول المعلق عليه ، فتستصحب حليّته بعد حصوله ، فيتعارض الأصلان. مثلا : بعد قيام الدليل على حرمة العنب إذا غلى ، وشك في سراية هذا الحكم إلى الزبيب وعدمها ، فتستصحب هذه الحرمة التعليقية ، فيقال : ان الزبيب حين كان عنبا كان إذا غلى يحرم والآن بعد ان صار زبيبا يشك في ذلك فيستصحب كونه كذلك وبقاؤه على ما كان. ولكن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب فعلي منجز ، وهو استصحاب حلية الزبيب الثابتة له قبل الغليان ، فيقال : ان الزبيب كان حلالا قبل الغليان ، وبعد الغليان يشك في حليته وحرمته فيبنى على انه حلال بالاستصحاب.

فانه يقال في مقام رد هذه الدعوى : ان استصحاب الحلية الفعلية لا ينفى الحرمة التعليقية التي هي مؤدى الاستصحاب الآخر إلاّ بالملازمة العقلية ، لأن

٨٠