منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

نعم هناك دلالة تصورية على مفهوم الجزء في كلا المقامين ، ولكنه لا ينفع ، فان المقصود ثبوت الجزء ووجوده. وقد عرفت انه لا دلالة تضمنية عليه في المركب الحقيقي لعدم وجود الجزء مستقلا.

وما نحن فيه من هذا القبيل ـ أي من قبيل المركب الحقيقي ـ ، إذ لا يدعي أحد ان الوجوب مركب من أمرين مستقلين وإنشاءين متعددين ، بحيث يكون لكل منهما وجود مستقل كي لا ملازمة بين انتفاء وجود الكل وانتفاء وجود الجزء. بل وجود الوجوب بجزئية وجود واحد. فلا تبقى دلالة الدليل التضمنية بانتفاء المدلول بالدلالة المطابقية. فلاحظ.

وإذا لم يثبت الدليل على بقاء الجواز فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي.

وعليه ، فقد يدعى إجراء استصحاب الجواز لليقين به سابقا والشك فيه لاحقا فيثبت الجواز بالأصل.

وناقشه صاحب الكفاية : بان هذا الاستصحاب من استصحاب الكلي القسم الثالث ، وضابطه الشك في بقاء الكلي الموجود في ضمن فرد للشك في حدوث فرد آخر مساوق لارتفاع الفرد السابق. وهو لا يجري كما حقق في محله.

نعم يستثنى منه ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه ليس فردا مغايرا للأول في نظر العرف كما إذا كان من نظير الشك في بقاء كلّي السواد الموجود سابقا في ضمن مرتبة قوية منه للشك في بقاء ذلك الفرد في ضمن مرتبة ضعيفة بحيث يعدّ في العرف انه من تغير الحالات لا من تعدد الافراد. فانه لا مانع من إجراء الاستصحاب هنا ، ولكن الأحكام ليست كذلك بل هي متغايرة عرفا.

ومن هنا قد يرد عليه : بان الوجوب والاستحباب من هذا القبيل ، لأن الاختلاف بينهما في المرتبة ، فإذا شك في بقاء الجواز في ضمن الاستصحاب صح إجراء استصحاب الكلي.

٤٨١

ولكنه دفعه : بان الاختلاف بينهما حقيقة وان كان من حيث المرتبة ، إلاّ انهما بنظر العرف فردان متغايران ، ومن الواضح ان المحكم في باب الاستصحاب هو نظر العرف والمدار عليه لا على النّظر الدّقّي (١).

هذا ما أفاده في الكفاية. ولكن ناقشه المحقق الأصفهاني : بان المراد من الوجوب والاستحباب ان كان هو الأمر الاعتباري المجعول من قبل الشارع ، فهما متباينان وليس الاختلاف بينهما في الشدة والضعف. وان كان هو الإرادة ، فالاختلاف بينهما من حيث الشدة والضعف ، ولا يكون كل منهما بنظر العرف مغايرا للآخر. ولكن هذا لا يعني الالتزام بإجراء الاستصحاب ، بل لا بد من التفصيل بين الالتزام في باب الاستصحاب بان المجعول بأدلته الحكم المماثل للحكم المستصحب أو الحكم المستصحب كما يظهر من صاحب الكفاية (٢) والشيخ (٣) رحمه‌الله. والالتزام بان المجعول بأدلته هو منجزية الواقع أو الطريقية إليه وفرض الشاك متيقنا بالواقع. فعلى الأول لا يجري استصحاب الإرادة لأنها ليست من المجعولات الشرعية وليست موضوعا لحكم شرعي فلا معنى للتعبد ببقائها وجعلها من قبل الشارع. وعلى الثاني يجري استصحاب الإرادة لأنها قابلة للتنجيز أو يترتب عليها الحكم العقلي بالجري على طبقها كما لو كان متيقنا بها (٤).

هذا ملخص ما أفاده المحقق الأصفهاني نقلناه لأجل التنبيه على عدم كون الإرادة من المجعولات الشرعية وليست من موضوعات الأحكام الشرعية. فالتفت فانه ينفعك في بعض الموارد.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٤١٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٨٣ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٥١ ـ الطبعة الأولى.

٤٨٢

فصل

الوجوب التخييري

لا إشكال في وقوع الوجوب التخييري في الشرعيات والعرفيات ، وانما الكلام في تصويره بنحو لا يتنافى مع حقيقة الوجوب ، فان جهة الإشكال فيه هي منافاته لحقيقة الوجوب ، إذ أساس الوجوب عدم جواز ترك متعلقه ، والوجوب التخييري يجوز ترك متعلقه ، والمذكور في تصويره وجوه أشار إلى بعضها صاحب الكفاية.

الاحتمال الأول : ـ وقد اختاره صاحب الكفاية ـ كونه سنخ وجوب مشوبا بجواز الترك.

ببيان : ان الغرض المترتب على الأمرين ان كان واحدا ، فيكشف عن وجود جامع حقيقي بين الفعلين يكون هو المؤثر في ذلك الغرض ، لأن الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد ، ويكون الجامع هو متعلق الأمر واقعا لأنه متعلق الغرض ، ويكون التخيير عقليا لا شرعيا ، وان كان الغرض متعددا ، فلا بد ان يفرض ان حصول أحدهما يمنع من حصول الآخر بحيث لا يمكن اجتماع كل من الغرضين ـ إذ لو أمكن حصولهما معا تعين الأمر التعييني بكل من الفعلين ـ ، فيتعلق الوجوب بكل منهما. لكن يجوز تركه إلى بدله وهو الآخر لا مطلقا ، فهو

٤٨٣

وجوب وسط بين الوجوب التعييني والاستحباب. فملخص دعوى صاحب الكفاية : ان الوجوب التخييري سنخ وجوب يعرف بآثاره ولوازمه كوحدة العقاب على ترك الفعلين وعدم جواز ترك كل منهما لا إلى بدل (١).

ويمكن ان نوضحه : بأنه إرادة وسط بين الإرادة الاستحبابية والإرادة الوجوبية ، فهي أقوى من إرادة الاستحباب ولذا لا يجوز ترك متعلقها مطلقا وأضعف من إرادة الوجوب ولذا يجوز ترك متعلقها إلى بدل ، بخلاف إرادة الوجوب فانه لا يجوز ترك متعلقها أصلا.

وهذا الاختيار وان كنا قد قربناه وقويناه سابقا ودفعنا ما يخدش به ، حتى قيل أنه ناش عن عدم تصور الوجوب التخييري ، وإلاّ فما هو ذلك السنخ من الوجوب وما تحديده؟ ـ ونظير ذلك ما ورد منه قدس‌سره في تعريف الوضع من انه نحو اختصاص ، فكان مورد الاعتراض لعدم تحديده ذلك النحو ـ لكن الّذي يبدو لنا فعلا انه لا يخلو من مناقشة وذلك لوجهين :

الأول : انه يتنافى مع ما يراه الوجدان في الواجبات التخييرية العرفية من ثبوت وجوب واحد لا وجوبين.

الثاني : انه لو فرض تعدد الوجوب وانه سنخ خاص منه ينشأ عن مرتبة معينة من الإرادة ، فما هو الوجه في سقوطه عن أحدهما عند الإتيان بالآخر؟.

وبتعبير آخر نقول : انه بعد فرض تعدد الوجوب وتعلقه بكل من الفردين معينا ، فلو جاء المكلف بأحد الأمرين اما ان لا يسقط الوجوب المتعلق بالآخر أو يسقط؟ ، فان التزم بعدم سقوطه كان ذلك منافيا لما هو الثابت الّذي لا إشكال فيه من سقوط الوجوب وعدم بقائه عند الإتيان بأحد الأمرين. وان التزم بسقوطه كان ذلك التزاما بتقييد وجوب أحدهما بترك الآخر وعدمه ، وهو غير

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٨٤

خال عن المحذور كما سيأتي بيانه في الاحتمال التالي إن شاء الله تعالى.

فما ذكره صاحب الكفاية لا تمكننا المساعدة عليه ، ولو لا تصريحه بامتناع تعلق الوجوب التخييري بالفرد على البدل لاستظهرنا من كلامه إرادة ذلك بالمعنى الّذي سنوضحه فانتظر.

ثم ان ما ذكره في صورة وحدة الغرض المترتب على الأمرين من رجوع التكليف إلى الجامع ، لأنه هو المؤثر في الغرض لقاعدة ان الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد.

لا يخلو من خدشة وان ذكره في غير هذا المقام (١) أيضا ، وذلك لأن هذه القاعدة تنطبق على الواحد الشخصي. اما الواحد النوعيّ فيمكن صدوره عن متعدد ، إذ لا برهان على امتناعه ، لاختصاص برهان الامتناع بالواحد الشخصي ، بل الوجدان على خلافه لأن صدور الواحد النوعيّ عن المتعدد لا شبهة فيه كالحرارة الصادرة عن الشمس وعن الكهرباء وعن الحركة ، ولا جامع حقيقي بين هذه الأمور كما لا يخفى.

وبالجملة : فكلام صاحب الكفاية بجهتيه لا يخلو عن مناقشة فتدبر.

الاحتمال الثاني : ان الوجوب التخييري في الحقيقة وجوب تعييني متعلق بكل من الفعلين ، لكنه مشروط بترك الآخر.

وأورد عليه المحقق النائيني بإيرادات أربعة ـ بعد ان بناه على تعدد الغرض ، ولكن بنحو لا يمكن الجمع بينهما ، إذ مع إمكان الجمع بينهما يتعين الأمر بكل منهما مطلقا. كما انه مع وحدة الغرض لا معنى لتعين أحدهما عند ترك الآخر ويؤمر به نفسه ، بل الأمر مطلقا لا بد ان يكون بنحو التخيير ـ.

الأول : ان فرض تعدد الغرض فرض لا غير كفرض أنياب الأغوال.

__________________

(١) راجع ما أفاده في تصوير الجامع الصحيحي.

٤٨٥

ولعله يقصد انه لا شاهد عليه من العرف ، فان موارد التخيير في العرف لا تنشأ عن تعدد الغرض ، بل الغرض فيها واحد ، فمن أي طريق يعلم تعدده ويبنى التخيير على فرض التعدد.

الثاني : ان الإطلاق ينفي اشتراط الوجوب على كل منهما بترك الآخر ، إذ التقييد خلاف الأصل.

الثالث : انه يبتني على صحة القول بالترتب لأنه التزام به. وهو مما لا يمكن فرضه على من يقول بامتناع الترتب ، مع ان الوجوب التخييري مما يلتزم به الجميع.

الرابع : ان المورد خارج عن مورد التزاحم بين الخطابين كي يرفع بالتقييد المدعى ، إذ التزاحم بين الملاكين في الملاكية ، فان ملاكية أحد الغرضين انما تفرض عند ترك الآخر ، بمعنى انه لا يمكن ان يكون كل منهما ملاكا للحكم ، بل أحدهما الغالب هو الملاك ، لأن الملاك المزاحم بملاك آخر لا يصلح للداعوية إلى التكليف ، فلا مناص من كون أحد الملاكين على البدل ملاكا فعليا ، فينتج خطابا واحدا بأحد الشيئين على البدل لا خطابين مشروطين (١).

أقول : لا يخفى ان الملتزم بهذا القول تارة يلتزم به من باب انحصار تصوير الوجوب التخييري بهذا النحو وعدم تعقل غيره ، فلا يرد عليه الإيراد الأول والثاني ، إذ نفس الدليل الإثباتي على التخيير كاف في تعين الالتزام به ، وأخرى يلتزم به من باب انه وجه من وجوه تصوير الواجب التخييري فللإيرادين مجال ، فانه لا شاهد عرفا عليه كي تحمل عليه الأدلة الشرعية ، بل يمكن ان يدعى ان غالبية وحدة الغرض قرينة عامة على عدم كونه بهذا النحو مع اندفاعه بالإطلاق. ولكنه انما ينفي بهذين الوجهين لو فرض تصور معنى عرفي

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٨٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٨٦

يمكن حمل الأدلة عليه ، اما لو لم يتصور إلا معنى بعيد أيضا عن فهم العرف فيتردد الوجوب التخييري بين الوجهين وتختلف الآثار العملية والعلمية على كلا القولين ، ولا يمكن الجزم بأحدهما.

اما الإيراد الثالث ، فلا يرد لما عرفت من انه لا تنافي بين الالتزام بالترتب من كلا الطرفين ـ كما هو الحال فيما نحن فيه ـ وبين إنكار الترتب من طرف واحد. وعليه فالالتزام بهذا الوجه لا يتنافى مع إنكار الترتب.

واما الإيراد الرابع ، فلو تم لجرى في مطلق موارد التزاحم ، لأن استيفاء أحدهما يمنع من استيفاء الآخر.

والحل في الجميع : انه لا فرق بين هذا المورد وسائر الموارد في تمامية الملاك والتزاحم بين استيفائي الملاكين لا بين الملاكين في الملاكية ، فيكون التزاحم بين الخطابين لكون المقصود بهما هو استيفاء الملاكين كما لا يخفى.

فالمتوجه من هذه الإيرادات هو الإيرادان الأولان بالمقدار الّذي ينفيان تعينه لا معقوليته.

ويرد عليه ثالثا ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس‌سره : من ان الغرضين ان فرض كون استيفاء أحدهما سابقا يمنع من استيفاء الآخر ، فاللازم الأمر بالفعلين دفعة لتحصيل كلا الغرضين. وان فرض كون استيفاء أحدهما مطلقا يمنع من استيفاء الآخر ، فاللازم انه مع إيجاد كلا الفعلين لا يترتب كل من الغرضين ، فانه نظير اجتماع المقتضيين للضدين فانه لا يتحقق أحدهما كما لا يخفى ، وهذا مما لا يلتزم به أحد. وان فرض كون وجود كليهما موجبا لحصول غرض ثالث ، فاللازم فرض التخيير بين أطراف ثلاثة كل من الفعلين ومجموعهما وهو خلف الفرض (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٥٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٨٧

ونقول : انه ليس خلف الفرض فقط بل غير معقول ، لأن الأطراف إذا كانت ثلاثة كان وجوب أحدهما مشروطا بترك كلا العدلين لا أحدهما ، إذ مع ترك أحدهما لا يتعين وجوب غيره ، بل يجوز الإتيان بكل من الآخرين.

وعليه ، ففيما نحن فيه يلزم ان يكون الأمر بكلا الفعلين مشروطا بتركهما ـ لأن كلا منهما عدل كليهما كما هو الفرض ـ ، وهو غير معقول ، بل الالتزام بثبوت التخيير بين الأقل والأكثر يكشف عن عدم كونه بهذا النحو ، لأنه لو كان بهذا النحو لم يكن التخييريين الأقل والأكثر معقولا ، إذ لا معنى لتقييد وجوب الأكثر بترك الأقل. كما لا يخفى.

ويرد عليه رابعا : ان تقييد وجوب أحدهما بترك الآخر يلزمه عدم وقوع كل منهما على صفة الوجوب لو جاء بهما معا ، لعدم تحقق شرطه وهما مما ثبت خلافه ـ وهذا الوجه يرد حتى لو فرض وحدة الغرض فهو لا يرتبط بعالم تعدد الغرض والتضاد بينهما ـ.

ويرد عليه خامسا : لزوم تعدد العقاب لو ترك كلا الأمرين لوجوب كل منهما في حقه.

ولا يرد عليه : انه لا مانع من الالتزام به إذ لم يثبت خلافه. إذ ثبوت خلافه في العرفيات مما لا إشكال فيه وهي شاهد على ما نحن فيه.

الاحتمال الثالث : تعلق الوجوب بكل منهما تعيينا مطلقا لكنه يسقط بفعل الآخر.

وقد ادعى المحقق النائيني : انه مما لا يصح ان يتفوه به أحد ، ولذلك حمله على الوجه السابق. والوجه في ذلك : ان سقوط الوجوب انما يكون باعتبار عدم إمكان استيفاء الغرض الثابت في متعلقه ، وهذا انما يتصور في مورد تزاحم الغرضين بحيث يكون كل منهما مع وجوده مانعا من وجود الآخر ، وإذا كان كذلك رجع إلى الوجه السابق ، إذ مع وجود أحدهما لا معنى للأمر بالآخر لعدم إمكان

٤٨٨

استيفاء غرضه ، فيتقيد الأمر بكل منهما بترك الآخر ، وقد عرفت الإشكال فيه (١).

ولا يمكن حمله على صورة وحدة الغرض لما ذكرناه من عدم الوجه حينئذ في وجوب كل منهما تعيينا لعدم ملاك التعيينية فيه.

الاحتمال الرابع : وجوب المعين عند الله تعالى شأنه وهو ما يختاره المكلف في علمه عزّ وجل.

وفيه :

أولا : ان الوجوب التخييري في العرفيات لا يمكن حمله على ذلك ، لعدم كون المولى العرفي ممن يعلم الغيب كي يتعلق امره بما يختاره المأمور في علمه.

وثانيا : انه إذا فرض تساوي الفعلين في الوفاء بالغرض ، فلا وجه للأمر التعييني بأحدهما المعين ، فانه لغو لا يصدر من عاقل إلاّ إذا انحصر تصور التخيير ومعقوليته بذلك.

وثالثا : انه يلزم اختلاف المكلفين في الواجب لاختلافهم في الاختيار ، فيتعدد الواجب بتعدد الأطراف ، وهو مما يعلم خلافه ، إذ من المعلوم كون الواجب في حق جميع المكلفين واحدا لا يختلف.

الاحتمال الخامس : ان يكون الواجب أحدهما. وهو مذهبان :

أحدهما : ان يراد منه مفهوم أحدهما وعنوانه المنطبق على كل من الأمرين في نفسه ، فان كلا منهما يصدق عليه انه أحد الأمرين ، نظير مفهوم : « من يسكن الدار » المنطبق على كل من زيد وعمرو بخصوصه إذا كانا يسكنانها.

ثانيهما : ان يراد منه واقع أحدهما وهو الصوم والعتق ـ مثلا ـ. وهو تارة يقصد به أحدهما المعين كالصوم بعينه وأخرى يقصد به أحدهما غير المعين كالصوم أو العتق ، المعبر عنه بالفرد على سبيل البدل ، فالتقسيم إلى المعين وغير

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٨٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٨٩

المعين انما هو بلحاظ واقع أحدهما لا مفهومه ، فان مفهوم أحدهما لا ينقسم إلى بعينه وإلى لا بعينه فانه معين دائما. ومحل الكلام في أحدهما مصداقا هو أحدهما لا بعينه فلدينا احتمالان :

الأول : كون الواجب مفهوم أحدهما.

الثاني : كون الواجب واقع أحدهما غير المعين.

ولا يخفى ان أحد الافراد لا بعينه تارة يقصد به عدم دخل الخصوصية الشخصية ، فيساوق الإطلاق. وأخرى يراد به الفرد المردد وإحدى الخصوصيّتين من دون تعيين والمقصود به : « لا بعينه » هنا هو المعنى الثاني فانتبه.

اما احتمال وجوب أحدهما مفهوما ، فهو تارة يلتجئ إليه بعد إبطال جميع احتمالات الوجوب التخييري بحيث ينحصر الاحتمال المعقول فيه ، فلا محيص عن الالتزام به وان كان خلاف الظاهر. وأخرى يلتزم به كوجه مستقل في قبال غيره ، فلا إشكال في بطلانه ، إذ متعلق الأمر ما يكون مورد الأثر والغرض ومن الواضح ان الغرض لا يترتب على مفهوم أحدهما ، بل انما يترتب على كل من الأمرين بواقعه.

واما احتمال وجوب أحدهما لا بعينه ـ مصداقا ـ ، فقد التزم به المحقق النائيني قدس‌سره وأطال الكلام في بيانه بما لا أثر له في تحقيق الدعوى. ومحصل ما جاء من كلامه هو بيان عدم المانع من تعلق الإرادة التشريعية بأحدهما لا بعينه ، والمقتضي موجود لترتب الغرض على كل منهما وتعيين أحدهما ترجيح بلا مرجح ، وبيان انحصار المانع في تعلق الإرادة التكوينية بالمردد (١).

وهذا غريب من مثل المحقق المزبور ، فان اللازم عليه كان بيان ما يحتمل ان يكون محذورا ودفعه لا مجرد دعوى عدم وجود المانع لا أكثر من دون بيان

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٨٣ ـ الطبعة الأولى.

٤٩٠

وجه ذلك فان ذلك لا يتناسب مع علمية البحث.

ثم انه قدس‌سره أنكر دعوى تعلق الوجوب بأحدهما مفهوما بدعوى انه لا حاجة إلى توسيط الجامع بعد إمكان تعلق الحكم بالواقع رأسا. ومن الغريب ما جاء في التعليقة للسيد الخوئي من تقرير تعلق الحكم بأحدهما لا بعينه واختياره ، ثم إرجاعه بعد ذلك إلى القول بكون المطلوب مفهوم أحدهما ، مع ما عرفت من تبيانهما وإنكار المحقق النائيني للثاني (١). فالتفت ولا تغفل.

وعلى كل حال فعلينا ان نذكر ما قيل في وجه امتناع تعلق التكليف بالفرد المردد أو الفرد على البدل. وهو وجوه :

الأول : ما يذكره الشيخ الأعظم في مسألة بيع الصاع من صبرة ـ حيث وقع الإشكال في متعلق البيع والتمليك ، فادعى انه الصاع المردد ـ من : ان الفرد المردد لا وجود له في الخارج فيمتنع تعلق الملكية به. وأجاب عنه الشيخ : بان ذلك يتنافى مع تعلق الصفات الواقعية به دون الأمور الاعتبارية كالملكية ونحوها ، لأن الاعتبار خفيف المئونة (٢).

الثاني : ما ذكره في الكفاية في حاشية له في المقام من : ان الصفات الاعتبارية وان تعلقت بالفرد المردد ، بل وكذا الصفات الحقيقية كالعلم الإجمالي المتعلق بنجاسة أحد الإناءين ، إلاّ ان في البعث خصوصية تمنع من تعلقه بالفرد المردد ، فان البعث انما هو لإيجاد الداعي وتحريك المكلف نحو إتيان العمل المتعلق للأمر اختيارا وعن إرادة. ومن الواضح ان الإرادة لا تتعلق بالفرد على البدل ، إذ لا وجود له ولا واقع ، وهي انما تتعلق بالخارجيات فلا يكون التكليف المتعلق بالفرد المردد قابلا للتحريك فيكون ممتنعا (٣).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٨٣ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب ـ ١٩٥ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٩١

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس‌سره : من ان العرض حقيقيا كان أو اعتباريا لا بد وان يتقوم بمحل ، ومن الواضح ان الفرد على البدل والمردد لا واقع له أصلا لا خارجا ولا مفهوما ، فان كل ما يوجد في الذهن أو في الخارج معين لا تردد فيه ، فان الوجود مساوق للتشخص والتعين ويتنافى مع التردد ـ وعلى حد بيان صاحب الكفاية : ان كل موجود هو هو لا هو أو غيره (١) ـ ، وإذا لم يكن للمردد واقع امتنع ان يكون معروضا لغرض اعتباري أو حقيقي كما لا يخفى جدا (٢).

الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني أيضا : من ان الصفات التعلقية كالعلم والتصور والبعث قوامها بمتعلقها ، بمعنى ان وجودها بوجود متعلقها وليس لها وجود وواقع منحاز عن واقع متعلقها ، فوجود التصور عين وجود المتصور بما هو كذلك.

وعليه ، فتعلق البعث بالفرد المردد يلزم منه اما انقلاب المعين ـ وهو البعث ـ إلى المردد. أو انقلاب المردد ـ وهو المتعلق ـ إلى المعين لأن وجودهما واحد ، وكلا الأمرين خلف محال (٣).

هذا محصل الإيرادات على تعلق التكليف بالفرد المردد وهي في الحقيقة ثلاثة ، إذ الأول يرجع إلى الثالث كما لا يخفى.

وشيء منها لا ينهض مانعا عن تعلق التكليف بالفرد المردد ، ولأجل ذلك يمكننا ان ندعي ان متعلق الوجوب التخييري هو أحد الأمرين على سبيل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٤٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٥٥ و ٣ ـ ٢٨٤ في هوامشه على الجزء الأول ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٥٥ و ٣ ـ ٢٨٤ في هوامشه على الجزء الأول ـ الطبعة الأولى.

٤٩٢

البدل في الوقت الّذي لا ننكر فيه ان الفرد المردد لا واقع له ، وان كل موجود في الخارج معين لا مردد.

وبتعبير آخر نقول : ان المدعى كون متعلق الحكم مفهوم الفرد على البدل ، أو فقل هذا أو ذاك ، بمعنى ان كلا من الأمرين يكون مورد الحكم الواحد ، لكن بنحو البدل في قبال أحدهما المعين ، وكلاهما معا بنحو المجموع.

ووضوح ذلك يتوقف على ذكر مقدمتين :

الأولى : ان مفهوم الفرد على البدل أو الفرد المردد الّذي يعبر عنه بالتعبير العرفي بـ : « هذا أو ذاك » من المفاهيم المتعينة في أنفسها ، فان المردد مردد بالحمل الأولي لكنه معين بالحمل الشائع ، نظير مفهوم الجزئي الّذي هو جزئي بالحمل الأولي كلي بالحمل الشائع فالفرد على البدل مفهوم متعين ، ولذا نستطيع التعبير عنه والحكم عليه وتصوره في الذهن كمفهوم من المفاهيم فهو على هذا قابل لتعلق الصفات الحقيقية والاعتبارية به كغيره من المفاهيم المتعينة.

الثانية : ان الصفات النفسيّة كالعلم ونحوه لا تتعلق بالخارجيات ، بل لا بد وان يكون معروضها في أفق النّفس دون الخارج ، وإلاّ لزم انقلاب الخارج ذهنا أو الذهن خارجا وهو خلف فمتعلق العلم ونحوه ليس إلاّ المفاهيم الذهنية لا الوجودات الخارجية.

وإذا تمت هاتان المقدمتان تعرف صحة ما ندعيه من كون متعلق العلم الإجمالي في مورده والملكية في صورة بيع الصاع من صبرة والبعث في الواجب التخييري هو الفرد على البدل ومفهوم هذا أو ذاك. فانه مفهوم متعين في نفسه كسائر المفاهيم المتعينة ولا يلزم منه انقلاب المعين مرددا ، إذ المتعلق له تعين وتقرر ، كما لا يلزم كون الصفة بلا مقوم ، إذ المفهوم المذكور له واقع.

يبقى شيء ، وهو : ان الصفات المذكورة وان تعلقت بالمفاهيم ، لكنها مرتبطة بالواقع الخارجي بنحو ارتباط ومأخوذة مرآة للواقع ، والمفروض انه لا

٤٩٣

واقع لمفهوم الفرد المردد فكيف يتعلق به العلم؟!. وحلّ هذا الإشكال سهل ، فان ارتباط المفهوم المعلوم بالذات بالواقع الخارجي ليس ارتباطا حقيقيا واقعيا ، ويشهد له انه قد لا يكون العلم مطابقا للواقع ، فكيف يتحقق الربط بين المفهوم والخارج؟ ، إذ لا وجود له كي يكون طرف الربط ، ولأجل ذلك يعبر عن الخارج بالمعلوم بالعرض. اذن فارتباطه بنحو ارتباط لا يستدعي ان يكون له وجود خارجي كي يشكل على ذلك بعدم الواقع الخارجي لمفهوم الفرد المردد.

ومما يؤيد ما ذكرناه من إمكان طروّ الصفات على الفرد المردد : مورد الإخبار بأحد الأمرين ، كمجيء زيد أو مجيء عمرو ، فانه من الواضح انه خبر واحد عن المردد ، ولذا لو لم يأت كل منهما لا يقال انه كذب كذبتين ، مع انه لو رجع إلى الإخبار التعليقي لزم ذلك ولا تخريج لصحة الإخبار إلاّ بذلك.

يبقى إشكال صاحب الكفاية وهو : ان التكليف لتحريك الإرادة ، والإرادة ترتبط بالخارج ارتباطا تكوينيا ، فيمتنع التكليف بالمردد ، إذ لا واقع له كي يكون متعلق الإرادة (١).

والجواب عنه : أنّه لا ملزم لأن نقول بان التكليف لأجل التحريك والبعث والدعوة نحو متعلقه بجميع خصوصياته وقيوده ، بل غاية ما هو ثابت ان التكليف لأجل التحريك نحو ما لا يتحرك العبد نحوه من دون التكليف المزبور بحيث تكون جهة التحريك وسببه هو التكليف المعين وان اختلف عن متعلقه بالخصوصيات.

ومن الواضح ان تعلق التكليف بالفرد المردد يستلزم الحركة نحو كل من الفعلين على سبيل البدل ، فيأتي العبد بأحدهما منبعثا عن التكليف المزبور ، وهذا يكفي في صحة التكليف وكونه عملا صادرا من حكيم عاقل.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤١ [ هامش رقم (١) ] ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٩٤

ونتيجة ما تقدم : انه لا مانع من تعلق التكليف بالفرد على البدل وبأحدهما لا بعينه ، بمعنى كون كل منهما

متعلقا للتكليف الواحد ، ولكن على البدل لا أحدهما المردد ولا كلاهما معا. وبذلك يتعين الالتزام به فيما نحن فيه لفرض ثبوت الغرض في كل من الفعلين على حد سواء ومن دون مرجح ، فلا بد من كون الواجب في كل منهما بنحو البدلية والتردد.

وهذا المعنى لا محيص عنه في كثير من الموارد ولا وجه للالتزام ببعض الوجوه في العلم الإجمالي ، كدعوى ان المتعلق هو الجامع والترديد في الخصوصيات. وفي مسألة بيع صاع من صبرة ، كدعوى ان المبيع هو الكلي في الذّمّة ولكن مع بعض القيود ، أو دعوى أخرى لا ترجع إلى محصل. وتحقيق الكلام في كل منهما موكول إلى محله.

فالمختار على هذا في الواجب التخييري كون الواجب أحدهما لا بعينه ، كما التزم به المحقق النائيني ، وان خالفناه في طريقة إثباته.

تتمة في التخيير بين الأقل والأكثر وتصحيحه :

قد ورد في الشريعة التخيير بين الأقل والأكثر ، كالتخيير في التسبيح الواجب في الركعتين الأخيرتين بين التسبيحة الواحدة والثلاث ـ على قول ـ.

وهو بظاهره مورد الإشكال ، إذ لقائل ان يقول : ان الغرض ان كان يحصل بالأقل فلا مجال للامتثال بالأكثر أصلا ، إذ الغرض إذا كان يحصل بالأقل فيسقط الأمر بمجرد الإتيان به. وان كان لا يحصل بالأقل ، فلا وجه لجعله طرف التخيير والاكتفاء به في مقام الامتثال.

وقد تصدى صاحب الكفاية لدفع هذا الإشكال وتصحيح التخيير بين الأقل والأكثر ببيان : انه يمكن ان يكون المحصل للغرض عند وجود الأكثر هو الأكثر دون الأقل الّذي في ضمنه وبعبارة أخرى : يكون الأقل محصلا للغرض

٤٩٥

إذا وجد بحده ولا يكون محصلا للغرض إذا وجد في ضمن الأكثر ، بل المحصل حينئذ للغرض هو الأكثر ، وإذا كان الأمر كذلك تعين التخيير بين الأقل والأكثر ، لأن كلا منهما محصل للغرض ولا مرجح يقتضي تعيين أحدهما دون الآخر.

وقد يشكل : بان هذا انما يتم في المورد الّذي لا يكون للأقل وجود مستقل لو وجد الأكثر نظير الخطّ الطويل والخطّ القصير ، فانه لا وجود للقصير مستقل عند وجود الخطّ الطويل. اما لو كان للأقل وجود مستقل مع وجود الأكثر نظير التسبيحة الواحدة والتسبيحات الثلاث فلا يتم ما ذكر ، إذ الأقل موجود بحده دائما فيتحقق به الغرض فلا تصل النوبة إلى الأكثر أبدا.

وأجاب عنه في الكفاية : بأنه يمكن ان يكون ترتب الغرض على الأقل بشرط عدم الانضمام ، ومع الانضمام يكون الغرض مترتبا على الأكثر ، فيكون الأقل مأخوذا بشرط لا. فيصح التخيير حينئذ. هذا محصل ما جاء في الكفاية (١). وبه يصحح التخيير بين الأقل والأكثر ، وان كانت النتيجة إرجاعه إلى التخيير بين المتباينين ، لإرجاعه إلى التخيير بين المأخوذ بشرط لا والمأخوذ بشرط شيء ، فهو تصحيح للتخيير بين الأقل والأكثر بتخريجه على التخيير بين المتباينين لا التزام بالتخيير بين الأقل والأكثر.

وللمحقق الأصفهاني هاهنا كلام طويل في مقام الفرق بين مثالي الكفاية ، والإيراد عليه أخيرا ، ولكن لا يهمنا التعرض إليه إذ لا جدوى فيه (٢).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٥٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٩٦

فصل

الوجوب الكفائي

قد يظهر من الكفاية ان البحث فيه على حدّ البحث في الوجوب التخييري ، إلا ان موضوع البحث هناك كان متعلق الحكم ، وهاهنا موضوع الحكم وهو المكلف (١).

ولكن سيظهر إن شاء الله تعالى الاختلاف بينهما من بعض الجهات.

وتحقيق الكلام فيه : انه بناء على كون التكليف عبارة عن إرادة الفعل وإبرازها ، يمكن ان يدعى عدم تعلق الوجوب الكفائي بمكلف أصلا ـ كي يبحث عن حقيقته ـ بدعوى إمكان عدم تعلق التكليف بمكلف على هذا المبنى ، إذ يمكن ان تتعلق الإرادة بالعمل من دون ان تتوجه النّفس إلى الشخص المراد منه العمل ، وانما يلزم على العبد تحصيل مراد المولى بحكم العقل لإبراز المولى إرادته بالإنشاء.

اما لو لم يلتزم بذلك ، بل التزم بان التكليف عبارة عن البعث ، وهو كما يتقوم بالمبعوث إليه يتقوم بالمبعوث ، أو انه إرادة فعل للغير ، أو انه اشتغال ذمة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٩٧

الغير بالعمل ، فالتكليف لا بد فيه من مكلف ، فيقع البحث في تحقيق المراد منه في الوجوب الكفائي.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنه سنخ وجوب يتعلق بكل مكلف ، وهو يعرف بآثاره ولوازمه من عقاب الكل لو أخلّوا بامتثاله جميعا وسقوطه بامتثال البعض (١).

وقد تقدم الإشكال فيه فلا نعيد.

وهناك احتمالات أخرى تعرض إليها المحقق الأصفهاني (٢) ـ بعد ان أبان عن لزوم وجود موضوع للتكليف ونفي دعوى عدم ضرورة ذلك التي قد عرفتها ـ نذكرها وغيرها ، وهي : ان يكون الموضوع والمكلف هو الواحد المعين. أو المردد.

أو صرف الوجود. أو المجموع. أو الجميع. أو كل واحد واحد مشروطا بترك الآخر.

اما كون المكلف هو الواحد المعين فهو خلف الفرض في المقام.

واما كونه الواحد المردد ، فقد نفاه المحقق الأصفهاني بما تقدم من الإيرادين على تقوم التكليف بالمردد (٣). وقد عرفت اندفاعهما وانه لا محذور في تقوم التكليف بالمردد.

واما كونه صرف الوجود ، فهو يطلق في اصطلاح الأصوليين على أول الوجود المعبر عنه بناقض العدم الكلي ، كما يطلق على الوجود المبهم من حيث الخصوصيات ، كما انه يطلق أيضا على اللابشرط القسمي المساوق للإطلاق

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٤٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٢٨٤ في هوامشه على الجزء الأول ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٢٨٤ في هوامشه على الجزء الأول ـ الطبعة الأولى.

٤٩٨

الملازم للانطباق على كل فرد فرد. اما اصطلاح الفلسفة ، فالمراد به ما لا تكون فيه جهة عدم فلا ينطبق إلا على الواجب جلّ اسمه.

فان أريد منه المعنى الأول ـ أعني أول الوجود ـ فلا معنى له ، إذ مقتضاه كون المكلف هو أول وجود المكلفين ، وهو أسهم ـ على حد تعبير الأصفهانيّ (١) ـ ، وإرادة أول من قام بالعمل غير صحيحة ، إذ موضوع التكليف لا بد وان يؤخذ مفروض الثبوت فيلزم ان يكون الفعل مفروض الثبوت وهو يتنافى مع طلب تحصيله.

ومن العجيب التزام المحقق النائيني بان المكلف هو صرف الوجود بهذا المعنى (٢). وتقرير السيد الخوئي له (٣) مع ما عرفت ما فيه.

وقد ناقش المحقق الأصفهاني في إطلاق صرف الوجود على أول وجود ونفي صحة هذا الإطلاق ولا يهمنا التعرض إليه (٤).

وان أريد منه المعنى الثاني ـ أعني الوجود المبهم ـ فهو محال ، إذ لا إهمال في مقام الثبوت والواقع ، فانه ممتنع كما أشير إليه مكررا.

وان أريد به المعنى الثالث ـ أعني اللابشرط القسمي ـ ، فمرجعه إلى تعلق الحكم بكل فرد فرد ، وهو راجع إلى الجميع وسيأتي البحث فيه. ومنه يظهر انه يمتنع تعلق التكليف بالجامع الانتزاعي بين المكلفين كعنوان أحدهم لأن المراد به ان كان صرف الوجود فقد عرفت ما فيه وان كان مطلق الوجودات سيأتي ما فيه.

واما كونه مجموع المكلفين :

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٢٨٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٨٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٢٠٣ ـ الطبعة الأولى.

(٤) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٢٨٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٩٩

فأورد عليه المحقق الأصفهاني بإيرادين :

أحدهما : ان تعلق التكليف الواحد بمجموع أشخاص غير معقول ، لأنه لجعل الداعي وانقداح الداعي في نفس كل فرد فرد مع وحدة البعث غير معقول. بل لا بد من تعدد البعث. وليس المجموع شخصا واحدا كي ينقدح الداعي في نفسه.

ودعوى : حصول ذلك خارجا كأمر مجموع اشخاص برفع حجر لا يرفعه إلاّ المجموع.

مندفعة : بان مرجع ذلك إلى أمر كل واحد باعمال قدرته في رفع الحجر لو انضم إليه الآخر ، إذ أثر قدرته لا يظهر إلا مع الانضمام.

ثانيهما : ان لازمه عدم حصول امتثال الواجب الكفائي بفعل البعض ، بل لا بد من الإتيان به من قبل جميع المكلفين. وهو خلف الفرض في الواجب الكفائي (١).

واما كونه كل واحد مشروطا بترك الآخر. فيدفعه : ان لازمه عدم امتثال أحدهم لو جاءوا به دفعة واحدة لعدم تحقق شرط الوجوب بالنسبة إلى كل منهم وهو ترك الآخر بلا فرق بين الأفعال القابلة للتعدد كالصلاة على الميت أو غير القابلة كالتكفين والدفن. وهو مما لا يلتزم به أحد ، بل يعد الجميع ممتثلين.

واما كونه جميع المكلفين ، فقد ذهب إليه المحقق الأصفهاني (٢).

ويرد عليه : أولا : ـ ما ذكره قدس‌سره ـ من ان لازمه عدم حصول الامتثال لو اشترك جماعة في الفعل كدفن الميت ، إذ لم يتحقق من كل منهم المأمور به ، وهو دفن الميت ولا امر بغيره ، مع ان الملتزم به تحقق الامتثال من كل

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٢٨٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٣ ـ ٢٨٥ في هوامشه على الجزء الأول ـ الطبعة الأولى.

٥٠٠