منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

هذا بيان ما أفاده في الكفاية (١).

ولا بد من التنبيه إلى لزوم البحث في نقطتين من كلامه :

إحداهما : في بيان وجود الفرق بين الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي ، وتحقيق ذلك إثباتا أو نفيا في غير هذا المقام. وقد تعرض له المحقق الأصفهاني مفصلا في مباحث القطع (٢).

ثانيتهما : في تصور الأمر الإنشائي مع علمه بانتفاء شرط الفعلية كالأوامر الامتحانية ، وان مثل ذلك هل هو إنشاء للطلب حقيقة أو صورة إنشاء وحقيقته معنى آخر ، ولذا لا يطلق عليها لفظ الأمر إلاّ مجازا كما اعترف به قدس‌سره؟. وتحقيق ذلك موكول إلى غير هذا المجال ، لعدم الثمرة العلمية في تحقيقه فعلا.

وقد حاول المحقق النائيني إنكار الموضوع لهذا المبحث ببيان : ان الحكم ان كان مجعولا بنحو القضية الحقيقية فهو مرتبط بواقع الشرط وليس لعلم المولى وعدمه أي أثر في ثبوته وعدمه ، وانما التشخيص بيد المكلف. وان كان مجعولا بنحو القضية الخارجية فلا إشكال في ان الحكم يدور مدار علم الحاكم من دون دخل لوجود الموضوع خارجا وعدمه ، لأن الإرادة تنبعث عن الصور الذهنية وما يكون في أفق النّفس دون ما يكون في خارجها. فلا موضوع للنزاع المذكور ، إذ على تقدير لا دخل للعلم وعدمه في ثبوت الحكم لموضوعه ، وعلى تقدير لا إشكال في ارتباط الحكم بالعلم (٣).

وتحقيق صحة هذا البيان وعدم صحته مما لا يهمنا كثيرا بعد ان عرفت انتفاء الثمرة في البحث المذكور ، وانما المقصود هو الإشارة لا غير.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤١ و ١ ـ ٦٢ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٠٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٦١
٤٦٢

فصل

متعلق الأوامر

وقع الكلام بين الأعلام في أن متعلق الأوامر والنواهي هل هو الطبائع أو الأفراد؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى الأول. وقد تعرض في هذا المبحث إلى بيان جهات أربع :

الأولى : ان متعلق الأمر هو وجود الطبيعة لانفسها.

الثانية : بيان المقصود من الطبيعة والفرد في محل النزاع.

الثالثة : في بيان المقصود من طلب الوجود بعد ان كان الوجود مسقطا للطلب.

الرابعة : الإشارة إلى عدم ارتباط البحث بمبحث أصالة الماهية أو الوجود.

اما الجهة الأولى : فتحقيقها ، ان الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي لا تكون مقسما لتعلق الأمر وعدمه ، فهي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، ولذا قيل ان ارتفاع النقيضين جائز في هذه المرتبة ، فمتعلق الأمر انما هو وجود الطبيعة لا ذات الطبيعة.

٤٦٣

واما الجهة الثانية : فالفرق بين الطبيعة والفرد هو : ان المراد بالطبيعة ذات الماهية مع قطع النّظر عن العوارض اللازمة لوجودها من زمان ومكان ونحوهما ، والمراد بالفرد هو الماهية المقيدة بهذه العوارض اللازمة. فمن يدعي ان متعلق الأمر هو الطبيعة يريد ان الأمر هو طلب وجود الطبيعة بذاتها من دون نظر إلى العوارض والمشخصات اللازمة لها في الوجود ، بحيث لو تصور ـ محالا ـ انفكاكها عن الطبيعة لم يلزم تحقيقها. ومن يدعي ان متعلق الأمر هو الفرد يريد ان متعلق الأمر هو وجود الطبيعة المتقيدة بهذه العوارض ، فهي دخيلة في متعلق الأمر ومقومة له.

وقد أوكل صاحب الكفاية معرفة صحة اختياره ، وهو تعلق الأمر بالطبيعة لا الفرد إلى مراجعة الوجدان فانه يقضي بذلك ، فان الآمر لا يجد في نفسه إلاّ إرادة ذات العمل من الغير مع غض النّظر عن العوارض اللازمة ومن دون تعلق غرض له بها أصلا ، بل ليس مطلوبه سوى الطبيعة بذاتها.

وبالجملة : فقضايا الأحكام في نظر صاحب الكفاية كالقضايا الطبيعية في غيرها في كون الحكم على نفس الطبيعة بما هي من دون ملاحظة دخل الخصوصيات اللازمة لوجودها فيها ، بل كالقضايا المحصورة فان الحكم فيها أيضا على الطبيعة ، لكن لوحظ فيها سرايتها في جميع افرادها أو بعضها.

وخلاصة رأي الكفاية هو : ان الأمر يتعلق بوجود الطبيعة من دون لحاظ تقييدها بالعوارض اللازمة من مكان وزمان وغيرهما. وإثباته لا يحتاج إلى برهان بل في مراجعة الوجدان كفاية (١).

ووضوح تمامية هذا الرأي بشئونه وعدم تماميته تظهر بالتعرض إلى كلمات غيره من الاعلام وتمييز صحيحها من سقيمها.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٦٤

والّذي ذكره المحقق النائيني قدس‌سره في هذا المقام بعد ان تعرض إلى نقل ما ذهب إليه بعض الأعاظم من رجوع النزاع في هذه المسألة إلى النزاع في كون التخيير بين الافراد عقليا أو شرعيا ، لأنه ان كان متعلق الأمر هو الطبيعة كان التخيير بين افرادها عقليا. وان كان الافراد كان الفرد متعلقا للأمر بنفسه فيكون التخيير فيها شرعيا. ومناقشته : بان التخيير الشرعي يستلزم تقدير كلمة : « أو » بالنسبة إلى كل فرد ، لأنها هي التي تؤدي التخيير فيكون الواجب هذا أو ذاك أو ذاك وهكذا. ومن الواضح ان افراد الطبيعة بحسب الغالب لا نهاية لها فيمتنع التقدير المذكور. هذا مع ان التخيير العقلي في الجملة مسلم لا نزاع فيه ، فلا وجه لتوجيه النزاع وإرجاعه إلى ما ذكر للتنافي بين التسالم المطلق على وقوع التخيير العقلي وذهاب البعض إلى تعلق الأوامر بالافراد الّذي حقيقته هو التخيير الشرعي كما عرفت : الّذي أفاده قدس‌سره بعد هذا البيان ـ : ان أساس النزاع في الحقيقة على النزاع في إمكان وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده. وتوضيح ذلك : ان المراد من وجود الطبيعي ليس وجوده بما هو كلي يقبل الانطباق على كثيرين ، فان هذا يتنافى مع ما هو مسلم من ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد. بل المقصود ان الوجود الطارئ هل يطرأ على ذات الطبيعة مع قطع النّظر عن اللوازم القهرية والمشخصات من زمان ومكان ونحوهما ، وانما هي توجد قهرا من باب امتناع وجود الشيء بدون تشخص ، أو انه يطرأ على الطبيعة المتشخصة بهذه المشخصات والمتقيدة بهذه العوارض؟. وبتعبير آخر : ان المشخصات هل تكون في مرتبة الوجود فيكون معروض الوجود ـ كالتشخصات ـ هو الماهية. أو انها في مرتبة سابقة على الوجود فيكون معروضه هو الماهية المتشخصة؟. فمن يقول بوجود الطبيعي يقصد الرّأي الأول وان الوجود يتعلق بالطبيعي ذاته. ومن يقول بامتناعه يرى الرّأي الثاني وان الوجود يطرأ على الطبيعة المتشخصة لا نفس الطبيعة.

٤٦٥

وعليه ، فالبحث فيما نحن فيه يبتني على النزاع المذكور ، فمن يرى تعلق الوجود بالطبيعة ذاتها يذهب إلى ان متعلق الإرادة التكوينية والتشريعية نفس الطبيعة مع قطع النّظر عن التشخصات. ومن يرى تعلق الوجود بالطبيعة المتشخصة يذهب إلى ان متعلق الإرادة التكوينية والتشريعية الطبيعة المتقيدة بالمشخصات.

واختار قدس‌سره الأول مستشهدا عليه بالوجدان ، وان متعلق الإرادة في أفق النّفس ليس إلاّ ذات الطبيعة ، وبما ان الإرادة التشريعية على حد الإرادة التكوينية كان متعلقها نفس الطبيعة.

ثم انه رتب على هذا المبحث ثمرة عملية مهمة وهي : انه بناء على تعلق الأوامر بالطبائع وإثبات ان نسبة كل من الكليين في مورد الاجتماع إلى الآخر من قبيل المشخص وهو خارجة عن دائرة الحكم ـ بناء عليه ـ ، فيكون جواز الاجتماع من الواضحات.

هذا ملخص ما أفاده قدس‌سره في المقام (١).

ولا يخفى انه يختلف عن التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية.

والجهة التي يشتركان فيها معا هي : جعل المقصود بالفرد الطبيعة المتقيدة باللوازم والمشخصات ، فقوام الفردية بنظرهما قدس‌سرهما عن النحو الّذي سلكه صاحب الكفاية في تقريب المطلب ونهجه مسلكا آخر ، فيمكن ان يكون فيما بيانه : ان صاحب الكفاية فرض أمرين مفروغا عنهما وهما :

أولا : كون متعلق الغرض هو ذات الطبيعة مع قطع النّظر عن عوارضها

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٦٦

اللازمة.

وثانيا : إمكان وجود الطبيعي.

ومن الواضح انه بعد فرض هذين الأمرين لا مجال لتحقق النزاع في أن متعلق الأمر هو الطبيعة أو الفرد ، بل لا محيص عن الالتزام بتعلقه بالطبيعة لوجود المقتضي وقابلية المحل. فكلام الكفاية في تحرير النزاع واختيار أحد القولين أشبه بالقضية بشرط المحمول ، وهو لا يتناسب مع النزاع العلمي الّذي لا بد ان يتجه فيه أحد القولين.

وبالجملة : لا وجه لأخذ الأمرين المذكورين مفروغا عنهما ، ثم تحرير النزاع ، إذ لا نزاع بعد المفروغية عنهما. إذن فيتجه النزاع المذكور لو تحقق النزاع في أحد الأمرين المذكورين ، والأول منهما لا يشك فيه اثنان ، بخلاف الثاني ، فيتعين ان يبنى النزاع في تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد على النزاع في إمكان وجود الطبيعي فيكون متعلق الطلب لوجود المقتضي وقابلية المحل ، وعدم إمكان وجوده فيكون متعلق الطلب هو الفرد لعدم قابلية الطبيعي للوجود كي يتعلق به الطلب ، لأن المطلوب هو الوجود. فلا يكتسب النزاع صورة معقولة الا على هذا الأساس دون النحو الّذي سلكه صاحب الكفاية ، وهذا هو نظر المحقق النائيني في تغيير نحو تحرير المبحث وان لم يصرح به.

اما ما ذكره المحقق النائيني من القول برجوع البحث في المسألة إلى البحث عن ان التخيير بين الافراد عقلي أو شرعي ومناقشته بوجهين ، فسيأتي التعرض لذلك في آخر المبحث في ضمن تنبيه ، وفيه تعرض صحة القول المذكور وعدمه كما تعرف وجاهة المناقشة التي ذكرها المحقق النائيني وعدمها. كما تعرف ان النّظر في هذا القول هو بيان ثمرة المسألة أو بيان رجوع النزاع إلى ذلك كما فهمه منه المحقق النائيني فانتظر.

يبقى الكلام في جهتين من كلامه قدس‌سره جهة اختص بها وجهة

٤٦٧

اشترك فيها مع صاحب الكفاية.

اما ما اختص بذكرها فهي : ما ذكره في بيان المراد من وجود الفرد والطبيعي من ان المشخصات هل تكون عارضة على الطبيعة في مرتبة الوجود وفي عرضه ـ وهو المراد من وجود الطبيعي ـ ، أو تكون عارضة في رتبة سابقة على الوجود ، فيكون الوجود عارضا على الطبيعة المتشخصة ـ وهو المراد من وجود الفرد ـ؟. ولا يخفى ان هذا الترديد لا منشأ له ولا يظهر من كلمات المختلفين في وجود الطبيعي والفرد ، فانه لا خلاف لديهم ولا إشكال عندهم في ان هذه المشخصات من آثار الوجود ولوازمه لاحتياجه إلى زمان ومكان ونحوهما ، فلا معنى لأن ينسب إليهم كونها في رتبة سابقة على الوجود وان الوجود يطرأ على الماهية المتشخصة ، وتفسير وجود الفرد بذلك. فانتبه.

واما ما اشترك فيه مع صاحب الكفاية فهو : ما عرفته من بيان تقوم الفردية بالمشخصات والعوارض اللازمة.

وهذا أمر لا يخلو عن مناقشة ، فان التفرد إنما يكون بالوجود نفسه لا باللوازم العارضة ، فان كل عارض موجود فرد لطبيعي وفرديته بوجوده ، ويمتنع ان يكون تفرد الطبيعة بالعوارض اللازمة لأجل ذلك.

وعلى هذا فيتحصل لدينا فعلا على صاحب الكفاية إيرادان :

أحدهما : في كيفية تحريره النزاع وفرضه.

ثانيهما : في جعله العوارض اللازمة قوام الفردية وما به تفرد الطبيعة.

ويرد عليه ثالثا : انه خرج عن موضوع النزاع ، فان ظاهر النزاع في ان متعلق الأوامر هو الطبيعة أو الفرد المغايرة بين القولين والتباين بينهما ، وليس هذا ظاهر الكفاية ، فقد أفاد ان متعلق الأمر هو الطبيعة وليس هو الطبيعة مع العوارض اللازمة.

وهذا نزاع آخر غير الأول ، فان النزاع الأول في ان متعلق الأمر ما هو؟.

٤٦٨

والنزاع الآخر في سراية الأمر من الطبيعة إلى العوارض اللازمة ووجهه أحد الأمرين : أحدهما : اتفاق المتلازمين في الحكم. ثانيهما : مقدمية الفرد لوجود الطبيعي على قول ، فيجب بالوجوب المقدمي.

وقد مر البحث في كل من الوجهين وبيان عدم تمامية دعوى وجوب المقدمة ، ودعوى لزوم اتفاق المتلازمين في الحكم وان الثابت ليس إلا عدم جواز اختلافهما فيه.

وبالجملة : ما ذكره صاحب الكفاية خروج عن عنوان النزاع المفروض وانتقال منه إلى معنى آخر. فالتفت.

وعلى أي حال ، فقد اتضح ان النزاع في ان متعلق الأمر هو الطبيعة أو الفرد ـ بعد فرض كون متعلق الغرض هو الطبيعة ـ يبتني على النزاع في وجود الطبيعة ، فإذا ثبت وجود الطبيعي ثبت تعلق الأمر به.

والّذي ينبغي ان يقال في تحقيق الكلام : انه مما لا إشكال في ان افراد الطبيعة الموجودة متباينة ، فكل فرد يباين الآخر مباينة تامة ، ولذا لا يصح حمل أحدهما على الآخر ، كما انه مما لا إشكال فيه انتزاع مفهوم الوجود من هذه الخصوصيات والوجودات المتعددة ، ومن المقرر امتناع انتزاع مفهوم واحد من الأمور المتباينة ، فلا بد اذن من وجود جهة مشتركة بين هذه الوجودات تصحح انتزاع مفهوم واحد منها ، فكل وجود يشتمل على جهتين جهة خصوصيته التي بها يباين غيره. وجهة مشتركة بينه وبين غيره ـ ولأجل ذلك قيل ان ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك وهو الوجود ـ ، فبملاحظة الجهة الخاصة يكون الوجود وجود الفرد ، وبملاحظة الجهة المشتركة يكون وجودا للطبيعي ، فهو وجود واحد يكون وجودا للفرد وللطبيعي من جهتين ، فيلتزم بوجود الطبيعي بهذا التقريب وهو يعين ان يكون متعلق الأمر هو الطبيعة لتمامية المقتضي وهو تعلق الغرض به وتوقفه على قابلية المحل ، وقد ثبتت بالبيان المذكور فالمطلوب هو

٤٦٩

الوجود بلحاظ الجهة المشتركة بين سائر الوجودات من دون إرادة خصوصيات الوجودات. فالتفت (١).

هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

اما الجهة الأولى التي تتكفل بيان ان متعلق الطلب ليس ذات الطبيعة وانما هو وجودها ، وقد عرفت تعليل صاحب الكفاية لذلك بان الطبيعة بما هي ليست إلاّ هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، لا موجود ولا غير موجودة فلا تصلح لتعلق الطلب. وهذا المعنى مسلم في الطبيعة بما هي ، ولأجل ذلك قيل ان ارتفاع النقيضين ممكن في هذه المرحلة ، ببيان : ان المقصود بالطبيعة بما هي هي الطبيعة التي قصر النّظر على ذاتها وذاتياتها فقط من دون لحاظ أي أمر خارج عن ذاتها وذاتياتها ، فإذا وصفت بالمطلوبة أو بعدم المطلوبة في هذه الحال لزم ان تكون المطلوبية أو عدمها من ذاتياتها ، وإلاّ لكان خلف قصر النّظر على الذات والذاتيات. ومن الواضح خروج الطلب وعدمه والوجود وعدمه عن قوام ذات الطبيعة.

والإنصاف ان هذا المعنى لا ينفي صحة تعلق الطلب بالطبيعة بما هي ، ولا يستلزم امتناعه كما حاول صاحب الكفاية به ، فان الممتنع بالبيان المزبور انما هو حمل شيء على الماهية في تلك المرحلة ومع المحافظة على هذه الجهة ، اما عروض شيء خارج عن ذات الماهية على ذاتها بما هي فلا يأباه البرهان المزبور ، لعدم استلزامه فرض ذاتية ما ليس من الذاتيات ولا استلزامه الخلف فالطبيعة بما هي لا تأبى عروض أمر خارج عليها. والمفروض في ما نحن فيه هو عروض الطلب على الطبيعة بما هي ، وهو لا يرتبط بنفي حمل الطلب عليها. فاستدلال صاحب الكفاية بذلك منشؤه الخلط بين حمل شيء خارج على الطبيعة بما هي

__________________

(١) ذكر سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) : ان هذا البيان مبني على الالتزام بأصالة الوجود ( منه عفي عنه ).

٤٧٠

وعروض شيء عليها بما هي هي ، والممتنع هو الأول ، دون الثاني ، ومحل الكلام هو الثاني دون الأول.

فالذي ينبغي ان يقال في توجيه تعلق الأمر بوجود الطبيعة لا بذاتها بما هي هو : ان تعلق الأمر يتبع ما فيه تحقق الغرض ووجوده. ومن الواضح ان الغرض لا يترتب على الماهية بما هي ، بل يترتب على وجود الماهية خارجا ، فمن الطبيعي ان يكون هو متعلق الأمر دون ذات الماهية.

وهذا أمر واضح لا غبار عليه.

اما الجهة الثالثة من الكلام : وهي البحث عن تصحيح تعلق الأمر بالوجود. فان هذا يبدو مشكلا لأول وهلة.

وبيان الإشكال : ان الوجود يوجب سقوط الأمر فكيف يكون متعلقا للأمر ، مع ان متعلق الأمر ما به قوام الأمر ووجوده؟. هذا مع ان تعلق الطلب بالوجود يلزمه طلب الحاصل وهو محال لكونه لغوا فلا يصدر من الحكيم.

وقد تفصى صاحب الكفاية عن الإشكال : بان المطلوب ليس هو وجود الفعل ، بل متعلق الطلب صدور الوجود وجعله البسيط وإفاضته. وبعبارة أخرى : المطلوب هو الإيجاد لا الوجود (١).

وفي هذا الجواب ما لا يخفى : فانه قد تقرر ان الإيجاد والوجود والجعل والمجعول شيء واحد في الحقيقة والتغاير بينهما اعتباري ، فان الوجود بملاحظة صدوره من الفاعل يعبر عنه بالإيجاد وبملاحظة وروده على الفعل القابل يعبر عنه بالوجود. وإذا كانا امرا واحدا حقيقة فيمتنع تعلق الطلب بالإيجاد لعين الوجه في امتناع تعلقه بالوجود وهو طلب الحاصل. والتغاير الاعتباري اللحاظي لا يرفع المحذور ، إذ لا يغير الواقع والمحذور بلحاظه كما لا يخفى.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٧١

وهناك وجه آخر لحلّ هذا الإشكال نقله في الكفاية وهو : الالتزام بان متعلق الطلب هو نفس الماهية والغاية منه وجودها ، فلا يلزم تعلق الطلب بما هو حاصل كما لا يخفى.

وأورد عليه في الكفاية : ان الطبيعة بما هي هي ليست إلاّ هي فلا يعقل تعلق الطلب بها (١).

وقد تقدم منا توضيح هذا القول والمناقشة فيه.

فالذي ينبغي ان يقال في الإشكال على هذا الوجه وبيان بطلانه هو : ان الإشكال المذكور ـ أعني استلزام تعلق الطلب بالوجود لطلب الحاصل ـ لا يختص بالطلب فقط ، بل يتأتى في غيره وهو الإرادة التكوينية لسائر الأفعال ، فانها عبارة عن الشوق الواصل إلى حد التأثير وعدم وجود الموانع في الخارج ، فتعلق الشوق بالوجود يستلزم تعلقه بما هو حاصل ، وهو مما لا معنى له لأنه يستلزم تحصيل الحاصل.

بل في الحقيقة ان الإشكال في باب الطلب انما هو لأجل تأتي الإشكال في باب الإرادة والشوق ، لأن الطلب ينشأ في الحقيقة عن وجود الإرادة التشريعية وتعلقها بفعل المكلف المستتبعة لطلبه منه ، كما ان الطلب انما هو لأجل دعوة المكلف وتحريكه نحو متعلقه ، فهو يستتبع تعلق الإرادة التكوينية من المكلف بما تعلق به.

وعليه ، فالتصدي إلى حلّ الإشكال في خصوص الطلب لا يجدي بعد ان كان الإشكال متأتيا في الإرادة والشوق ، وهما من مستلزمات وجود الطلب ، فان الطلب تابع للإرادة التشريعية ومستتبع للإرادة التكوينية المتعلقتين بما تعلق به ، فلا بد من بيان الوجه الّذي به يصحح تعلق الجميع بالوجود.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٧٢

وجملة القول : ان عمدة الإشكال في متعلق الإرادة في مورد الطلب وغيره ، وإلاّ فالطلب أمر اعتباري خفيف المئونة يمكن حلّ الإشكال فيه بسهولة ، ولكن لا ينفع في دفع الإيراد عن تعلق الإرادة. فالمهم هو التصدي لحلّ الإشكال في متعلق الإرادة ، ومنه يظهر اندفاعه في متعلق نفس الطلب فانه خفيف المئونة.

فنقول حينئذ : قد عرفت ان الإرادة عبارة عن الشوق الواصل إلى حد التأثير في متعلقه دون مطلق الشوق ، فلذا لا يعد الشوق إلى الممتنعات إرادة. ومن الواضح انه لا يمكن فرض متعلق الشوق هو الطبيعة بداعي وجودها ، إذ الشوق من الصفات النفسيّة غير الاختيارية فلا معنى لوجود الداعي لها وعدمه ، بل هي اما ان توجد أو لا توجد. هذا أولا.

وثانيا : ان الشوق قد يتعلق بما يعلم بعدم تحققه عقلا أو عادة كالشوق إلى اجتماع النقيضين أو الطيران إلى السماء ، ولا معنى لأن يقال ان متعلق الشوق هنا هو الطبيعة بداعي وجودها للعلم بعدم وجودها. اذن فالوجه المزبور وان دفع الإيراد من جهة الطلب لتأتيه فيه لأنه خفيف المئونة بعد كونه اعتباريا ، لكنه لا يدفع الإيراد من جهة الإرادة. وقد عرفت ان الإشكال في مورد الطلب لا يختص بمتعلق الطلب ، بل هو ثابت في متعلق الإرادة.

فيتلخص : ان متعلق الإرادة والشوق لا يمكن ان يكون هو الوجود الخارجي للشيء لأنه تحصيل الحاصل ، كما لا يمكن ان يكون هو ذات الفعل بداعي الوجود لخروج باب تعلق الشوق عن عالم الدواعي ، كما انه قد يتعلق بما لا يقبل الوجود. وتعلقه بالوجود الذهني لا معنى له ، لأنه ليس مورد الأثر ومصدر الغرض بلا كلام فلا يتعلق به الشوق والإرادة.

وهذا من جهة ، ومن جهة أخرى ان وجود الإرادة والشوق في النّفس أمر لا يقبل الإنكار والمكابرة. اذن فما هو الحل؟!.

التحقيق ان يقال : ان متعلق الشوق هو الوجود الخارجي ، لكن ليس

٤٧٣

الفعلي بل الفرضي والتقديري. بيان ذلك : ان النّفس عند لحاظها وجود الشيء قد تتعلق به الرغبة والشوق لملاءمته للطبع ولترتب بعض الآثار المرغوبة عليه ، ومرجع ذلك ليس إلى تعلق الشوق بالوجود الذهني اللحاظي لعدم كونه مورد الأثر ، ولا إلى تعلقه بالوجود الخارجي الفعلي لامتناعه في بعض الأحيان كتعلق الشوق بالطيران إلى السماء ، وانما مرجعه إلى ان النّفس تفرض الوجود الخارجي وتزعم ثبوته وتخلقه في عالمها ، فتراه مورد الأثر فيتعلق به الشوق ، فحين يلحظ الشخص الوجود الخارجي للشيء ويراه مورد الأثر لو ثبت فعلا ، تعلق به شوقه قبل تحققه فعلا ويكون متعلق شوقه هو الوجود الخارجي الفرضي المخلوق للنفس ، وبما ان هذا الوجود له جهة فقدان وهي الفعلية فيتحرك المشتاق إلى تحقيق الفعلية في فرض إمكانها ، فالوجود الخارجي بجهة خلقه وفرضه متعلق الشوق ، وإعمال الإرادة فيه بلحاظ إخراجه من عالم الفرض إلى عالم الفعلية فله جهتان : جهة وجدان وهي بالفرض ، وبها يكون متعلق الإرادة. وجهة فقدان وهي الفعلية ، وهي مورد إعمال الإرادة وتحريك العضلات وهي مما لا بد منها إذ لا تتعلق الإرادة بما هو موجود من جميع الجهات وهذا المعنى الّذي ذكرناه امر ارتكازي وان كان مغفولا عنه ، فهو مضافا إلى كونه برهاني لانحصار حل الإشكال فيه امر عرفي.

ولعل هذا هو مراد المحقق العراقي على ما يحكى عنه من : ان متعلق الإرادة هو الوجود الزعمي ، يعني ما تزعم النّفس ثبوته وتحققه بتقريب : ان النّفس لها قوة الخلق والإيجاد في عالم النّفس. فللشيء أنحاء من الوجود ، كالوجود الذهني والوجود الفرضي الزعمي الّذي تخلقه النّفس والوجود الخارجي. وهو بنحو الثاني متعلق للشوق ولا محذور فيه (١).

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ١ ـ ٣٨٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٧٤

اما الجهة الرابعة في كلام صاحب الكفاية : فهي ما أفاده من نفي ارتباط الكلام بالقول بأصالة الوجود. وتوضيح ذلك : انه قد تقرر ان كل ممكن مركب من زوجين أحدهما الذات والآخر الوجود. فزيد الخارجي مركب من أمرين الزيدية والوجود. وتقرر أيضا امتناع ان يكون كل من هذين الأمرين أصيلا في عالم الثبوت والتقرر وعدم معقولية ذلك ، فوقع النزاع في ان الأصيل منهما ما هو؟ هل هو الوجود والماهية امر انتزاعي لا تقرر له واقعا ولا أصالة له؟. أو انه الماهية والوجود ينتزع عنهما؟. فقد يقال : ان البحث المزبور في تعلق الأمر بالوجود وان المطلوب وجود الطبيعة انما يتأتى بناء على الالتزام بأصالة الوجود. اما بناء على أصالة الماهية فلا مجال له ، إذ لا واقعية للوجود ولا يكون مورد الغرض فلا معنى لتعلق الأمر به بل الأمر يتعلق بالطبيعة.

ولكنه يندفع : بأنه بناء على أصالة الماهية وان لم يكن الوجود متعلقا للأمر لكن الطبيعة بما هي لا تكون أيضا متعلقة للأمر وانما متعلق الأمر الماهية الخارجية ، لأن ما يكون متعلقا للغرض هو الأمر الخارجي دون ذات المفهوم ، فاما ان يتعلق الطلب بالوجود ان كان هو الأصيل أو بالماهية الخارجية ان كانت هي الأصيل. فتدبر.

يبقى شيء في كلام الكفاية وهو : انه بعد ان ذكر ان متعلق الطلب هو وجود الطبيعة لا الطبيعة بما هي هي ، لأنها ليست إلاّ هي غير قابلة لتعلق الطلب وعدمه. قال : « نعم هي كذلك ( يعني الطبيعة بما هي هي ) تكون متعلقة للأمر لأنه طلب الوجود ، فافهم » (١).

وتوضيح ذلك : انه وقع الكلام في ان حقيقة النهي هل هي غير حقيقة الأمر ، أو انها حقيقة واحدة. ولكن الاختلاف في المتعلق ـ ويأتي التعرض لذلك

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٧٥

في أول مبحث النواهي إن شاء الله تعالى ـ؟ فالأوّل يراد به ان حقيقة النهي هي الزجر عن العمل وحقيقة الأمر هي البعث نحو العمل ، والمتعلق لكليهما واحد والاختلاف في حقيقتهما. والثاني يراد به ان حقيقة كل من الأمر والنهي هي الطلب ، إلاّ ان الأمر طلب الوجود والنهي طلب الترك وأخذ الوجود والترك في حقيقة الأمر والنهي أخذ لهما في مدلول الهيئة ، فان مدلول المادة في كليهما واحد لا يتغير ، فان مادة : « صل » و: « لا تصل » يؤديان معنى واحد وهو الصلاة. اذن فالاختلاف لا بد وان يرجع إلى الهيئة ، فيتعين ان يكون مدلول الهيئة في الأمر هو طلب الوجود ومدلول الهيئة في النهي طلب الترك ، كي يحصل التمييز بين الأمر والنهي. وهذا لا يحتاج إليه القائل بالأول ، إذ الاختلاف والتمييز بين الحقيقتين حاصل بأخذ الأمر بمعنى البعث وأخذ النهي بمعنى الزجر ، فلا يحتاج إلى تقدير الوجود والترك. وصاحب الكفاية ممن يلتزم بالثاني ، فيتعين عليه ان يقول بان مدلول الهيئة في الأمر هو طلب الوجود ، وبما ان الهيئة من مصاديق الأمر فالامر على هذا اسم لطلب الوجود ، والمفروض ان الوجود وارد على الطبيعة بما هي فيكون الأمر بذلك واردا عليها بما هي هي.

ولكن الّذي يظهر من صاحب الكفاية بقوله : « فافهم » انه يتوقف في صحة هذا البيان. والوجه الّذي به يظهر عدم صحة هذا البيان هو : ان مقتضى هذا البيان ان لفظ الأمر اسم للمركب من طلب الوجود ، فلا واقع له سوى هذا المركب. ومن الواضح ان هذا المركب بما هو غير عارض على الماهية بما هي ، فليس متعلق طلب الوجود هو الماهية ، بل الماهية متعلق نفس الوجود وهو متعلق لنفس الطلب. فليس للأمر واقع بسيط يكون متعلقا بالطبيعة بما هي ، وانما واقعه المركب المذكور وهو بمجموعه غير عارض على الماهية ، بل العارض عليها أحد جزئيه وهو الوجود. فلا يقال ان طلب الوجود متعلق بالطبيعة بما هي هي. فلاحظ.

٤٧٦

واما ما ذكره قدس‌سره في مقام بيان ان متعلق الأمر هو الطبيعة من : ان متعلق الأمر هو الطبيعة بوجودها السّعي لا وجودها الخاصّ (١).

فلا يتوجه عليه : ان الوجود يلازم التفرد والتخصص فلا معنى للتعبير بالوجود السعي فانه غير معقول ، لمنافاة الفردية للسعة.

وذلك لأن الفردية في نظر صاحب الكفاية على ما عرفت ليست بالوجود ، بل باللوازم والمشخصات. وعليه فيصح له فرض السعة في الوجود. اما ان هذا الوجود السعي المتعلق للأمر هل يكتفي فيه بواحد أو لا بد من الإتيان بجميع الوجودات؟ فبيان ذلك محله في أول مبحث النواهي. فانتظر.

تنبيه : قد تقدم ان ذكرنا ان المحقق النائيني نسب إلى بعض الأعاظم إرجاع النزاع في المسألة إلى ان التخيير بين الافراد عقلي أو شرعي ، وتقدم منه قدس‌سره الإيراد عليه بوجهين :

أحدهما : احتياج التخيير الشرعي إلى تقدير كلمة : « أو » بعدد الافراد وهي غير متناهية غالبا.

وثانيهما : مسلمية وجود التخيير العقلي في الجملة من قبل الكل ، وهو ينافى الاختلاف في ان متعلق الأمر هو الطبيعة أو الفرد لأن مرجع دعوى تعلقه إلى الفرد إلى امتناع تعلقه بالطبيعة وهو ينافي الالتزام بجوازه في بعض الأحيان الظاهر من الالتزام بالتخيير العقلي (٢).

وتحقيق الحال على وجه يرتفع به الغموض عن أصل الدعوى والإيراد ، ان التخيير الشرعي :

تارة : يلتزم بأنه تعلق الحكم بكل فرد وخصوصية بنفسها ، بمعنى ان كل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٧٧

خصوصية لوحظت بنفسها وأخذت في متعلق الوجوب التخييري.

وأخرى : يلتزم بان مرجعه إلى تعلق الحكم بعنوان انتزاعي ينطبق على كلتا الخصوصيّتين ـ مثلا ـ ، وهو عنوان : « أحدهما » فيكون الفرق بينه وبين التخيير العقلي هو ان متعلق الحكم في التخيير العقلي هو الجامع الحقيقي بين الافراد ، وفيه يكون هو الجامع الانتزاعي.

فعلى الأول : لا تكون مسألتنا راجعة إلى ما ادعى من كون التخيير عقليا أو شرعيا ، إذ من يدعي كون متعلق الأمر هو الافراد لا يلتزم بملاحظة كل فرد بخصوصيته المباينة لخصوصية الفرد الآخر ، بل يلتزم بملاحظة الجهة الجامعة والمشتركة بين سائر الافراد بما هي افراد ، وهي مثلا الطبيعة المتشخصة أو الطبيعة الموجودة ، فخصوصيات الافراد غير ملحوظة ، والمفروض توقف الوجوب التخييري على هذا المبنى على لحاظ خصوصيات الأفراد.

وعلى الثاني : لا يتوقف الوجوب التخييري على ملاحظة الخصوصيات ، كما لا يتوقف على تقدير كلمة : « أو » لكون المتعلق شيئا واحدا ينطبق على الخصوصيات وهو العنوان الانتزاعي ، فيكون القول بكون متعلق الأمر هو الافراد قولا بكون التخيير شرعيا لأن الفرد جامع انتزاعي عن الافراد بما هي افراد لا حقيقي ، والقول بكون المتعلق هو الطبيعة قولا بكون التخيير عقليا لأن الطبيعة جامع حقيقي.

فيتلخص : ان رجوع المسألة إلى كون التخيير شرعيا أو عقليا انما يتم بناء على الالتزام في الوجوب التخييري بان المتعلق هو عنوان انتزاعي عن الافراد بما هي افراد كعنوان : « أحدهما ». والمحقق النائيني يرى هذا الرّأي ، فلم يظهر وجه إيراده باحتياج التخيير إلى تقدير كلمة : « أو ».

اما الوجه الثاني من الإيراد فوضوح اندفاعه في مجال آخر. فالتفت وتدبر والله سبحانه الموفق.

٤٧٨

فصل

نسخ الوجوب

إذا وجب شيء ثم نسخ وجوبه بدليل ، فهل للدليل المنسوخ أو الناسخ دلالة على بقاء الجواز بالمعنى الأعم أو لا؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني (١) ، وهو الصحيح.

وتقريبه : ان الدليل الناسخ لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت وهو الوجوب من دون تعرض إلى حال الجواز وغيره ، فعدم دلالته واضح جدا. واما الدليل المنسوخ الدال على الوجوب ، فإذا التزمنا بان الوجوب أمر بسيط لا تركب في حقيقته فعدم دلالته على الجواز واضح ، إذ ما كان يدل عليه وهو الوجوب قد ارتفع بالفرض ولا دلالة له على غيره أصلا. وان التزم بان الوجوب مركب من جزءين جواز الفعل والمنع من تركه. فقد يدعى دلالة المنسوخ على الجواز بالدلالة التضمنية ، إذ هو قبل النسخ كان يدل بالمطابقة على الوجوب وبالتضمن على الجواز ، لأنه جزء الوجوب ، فإذا ارتفعت دلالته المطابقية عن الحجية بواسطة الناسخ تبقى دلالته التضمنية على حالها لعدم تبعية الدلالة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٧٩

التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية. ولكن هذا غير صحيح :

لإنكار المقدمة الأولى أولا. وهي : دعوى تركب الوجوب ، فان الوجوب أمر بسيط لا تركب فيه ، والتعبير عنه بالمضمون المركب تعبير عنه باللازم.

وإنكار المقدمة الثانية ثانيا ، وهي : دعوى عدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية ، وتحقيق ذلك وان كان ينبغي ان يكون فيما تقدم من مبحث تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية ، لكن جرت السيرة على التعرض إليه في مبحث التعادل والترجيح فهو موكول إلى محله. ولو تنزلنا وسلمنا عدم التبعية فهو انما نسلمه في المركبات الاعتبارية التي يكون لكل جزء منها وجود مستقل عن وجود الآخر نظير الدار. دون المركبات الحقيقية التي لا يكون لها الا وجود واحد بسيط.

والسر فيه : ان انتفاء وجود المركب الاعتباري لا يساوق انتفاء وجود اجزائه ، لفرض ان لها وجودا مستقلا ، فيمكن ان يقال بقاء دلالة الدليل الدال على وجود الجزء بالتضمن اما انتفاء وجود المركب الحقيقي فهو مساوق لانتفاء وجود اجزائه ، لفرض ان الوجود واحد فقط فليس هناك وجودان أحدهما للجزء والآخر للكل ، فلا معنى لبقاء الدلالة التضمنية بعد انتفاء الدلالة المطابقية لعدم المدلول التضمني بعد انتفاء المدلول المطابقي لأن المدلول المطابقي هو وجود المركب الملازم لوجود جزئه. وقد عرفت انه وجود واحد لا تعدد فيه ، فانتفاؤه ملازم لانتفاء وجود جزئه.

وبعبارة أخرى نقول : مع وحدة وجود المركب لا ثبوت للدلالة التضمنية للجملة ، إذ دلالتها التضمنية عبارة عن كشفها عن ثبوت الجزء ووجوده بتبع كشفها عن وجود الكل ، والمفروض انه لا وجود للجزء بنفسه كي يكون مدلولا للكلام. بخلاف ما إذا كان المركب اعتباريا ، فان الجزء له وجود مستقل في نفسه ، فدلالة اللفظ على وجود المركب يكون موجبا للكشف عن وجود الجزء أيضا.

٤٨٠