منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

ما لو التزم باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده الخاصّ ، فيكون الأمر بكل من الضدين مقتضيا لتعلق النهي بالضد الآخر ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في كل من الضدين. ومن الواضح انه لا يرتفع ذلك بالترتب ، لأن الأمر بكل منهما في حال عصيان الأهم ثابت ، فيثبت منه نهي عن كل منهما. فيجتمع الضدان في شيء واحد.

إلاّ انه ذكر المثال بنحو آخر وهو : اجتماع الوجوب والحرمة في ترك المهم ، لأن الترك مقدمة للواجب الأهم ، فهو واجب كما انه نقيض الواجب فيكون محرما. وهو غير مهم في المقام. فانتبه.

وقد تعرض إلى بيان هذه الجهة المحقق الأصفهاني رحمه‌الله (١).

وهو في نفسه متين. إلاّ ان لنا مناقشة مع المحقق المذكور ترجع إلى عالم الاصطلاح والتعبير ، فانها وان لم تكن أساسية دخيلة في أصل المطلب ، إلاّ انه قدس‌سره لالتزامه بالتعبير عن المطالب بالألفاظ المناسبة لها بنحو الدقة ، ولذا يستشكل كثيرا على التعبير عن بعض المطالب ببعض الألفاظ ويبني على إبدالها بلفظ آخر ـ لأجل ذلك ـ كان موردا لما سنبينه من المناقشة. وبيان ذلك : ان الثابت أن الأحكام بما انها أمور اعتبارية لا تضاد بينها بأنفسها ـ مع الغض عن المبدأ والمنتهى ـ ، لأن الاعتبار خفيف المئونة فلا محذور في اعتبار الأحكام الخمسة في شيء واحد ، إلاّ انه يقع التضاد بين الأحكام من جهة المبدأ ، فان اعتبار الوجوب حيث ينشأ من تعلق الإرادة بالفعل يكون مضادا لاعتبار الحرمة. حيث انه ينشأ من تعلق الكراهة بالعمل ، فالحرمة والوجوب متضادان من جهة مبدئهما.

وقد أنكر البعض وقوع التضاد من جهة مبدأ الأحكام وحصره من جهة

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٤٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٤١

مقام الامتثال ، فذكر : ان التضاد بين الحرمة والوجوب من جهة ان الحرمة تقتضي زجر المكلف عن العمل وردعه ، والوجوب يقتضي بعثه ومحركيته نحو العمل ، والزجر والبعث لا يجتمعان ، فهما إذن ضدان من جهة مقام الامتثال المعبر عنه بحيثية المنتهى.

وقد ذهب إلى ذلك المحقق الأصفهاني وهو المتفرد بذلك من الأصوليين (١).

وعليه ، فليس محذور اجتماع الأمر والنهي في كل من الضدين سوى تزاحمهما في مقام الداعوية والمحركية ، إلا ان الترتب لا يرفع هذا التزاحم لامتناعه ، لأن ترك أو عصيان أحد الأمرين مساوق للإتيان بمتعلق الحكم الآخر ، فعصيان الحرمة مساوق لنفس الفعل كما ان عصيان الوجوب مساوق للترك. فيمتنع الترتب حينئذ لاستلزامه طلب الحاصل.

فكان ينبغي على المحقق الأصفهاني ان يذكر : ان الترتب لا يجري في مثل هذا التزاحم ، وهو التزاحم في فعل واحد بملاك عدم جريانه في مورد التزاحم في الضدين اللذين لا ثالث لهما ، لا ان الترتب انما يرفع محذور التزاحم دون غيره. فلاحظ وانتبه.

التنبيه السادس : إذا كان أحد المتزاحمين أسبق زمانا من الآخر ، كما إذا فرض عدم قدرة المكلف الا على قيام واحد يصرفه في صلاة الظهر أو صلاة العصر ، فيتزاحم وجوب القيام في كل منهما مع وجوبه في الأخرى.

وقد مثّل المحقق النائيني قدس‌سره لذلك بمثال آخر ، وهو : فرض عدم قدرة المكلف الا على القيام في الركعة الأولى أو الثانية (٢).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣١٨ ـ الطبعة الأولى.

الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ١ ـ ٣٨٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٤٢

وبما ان هذا المثال خارج عن موارد التزاحم كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في ضابط التزاحم ، نقتصر في موضوع الحديث على المثال الأول.

فنقول : انه إذا كان الواجب المتأخر أهم من الواجب الفعلي ، فهل يمكن الالتزام بالترتب أو لا؟. بمعنى انه يلتزم بكون وجوب القيام في الواجب الفعلي كالظهر في المثال مترتبا على عصيان الأمر بالقيام في الواجب المتأخر كالعصر.

ذهب المحقق النائيني قدس‌سره إلى امتناع الترتب في المقام لوجهين :

الأول : ان تعليق الأمر الفعلي على عصيان الأمر المتأخر لا بد وان يكون بأخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر ـ كما هو واضح جدا ـ وهو ممتنع كما قرر في محله. نعم تعليق الأمر الفعلي على تعقب العصيان ، فيكون الشرط هو عنوان التعقب لا نفس العصيان ، أمر معقول لكنه يحتاج إلى دليل خاص ، وإلاّ فنفس إمكان الترتب لا يقتضيه ، وليس لدينا ما يدل على شرطية التعقب.

الثاني : ان أساس جواز الترتب هو كون المهم في ظرف عصيان الأهم مقدورا وقابلا لتعلق الخطاب به ، وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه ، فان عصيان الأمر المتأخر لا يوجب مقدورية المهم فعلا ، لحكم العقل فعلا بحفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم ، فلا يرتفع محذور المزاحمة وعدم القدرة بالترتب بعد وجود حكم العقل الفعلي بحفظ القدرة وهو رافع للقدرة على القيام فعلا ومزاحم للأمر بالمهم.

ويمكننا ان نقول : ان نظر المحقق النائيني قدس‌سره في هذا الوجه إلى أن طرف المزاحمة في الحقيقة ليس هو الوجوب المتأخر كي تدفع بإجراء عملية الترتب ، لأن داعويته متأخرة فلا تزاحم داعوية الأمر بالمهم الفعلي. وانما طرف المزاحمة هو الوجوب العقلي الفعلي المتعلق بحفظ القدرة للواجب المتأخر ، فليس مقصوده ان طرف المزاحمة كلا الوجوبين ، فإجراء الترتب بين المهم وأحدهما لا ينفع بعد وجود المزاحم الآخر.

٤٤٣

وقد يقال : بإجراء عملية الترتب بين وجوب المهم ووجوب حفظ القدرة ، فيلتزم بتعليق وجوب الظهر قائما ـ مثلا ـ على عصيان وجوب حفظ القدرة على القيام للعصر. فيرتفع التزاحم بين هذين الحكمين.

ومنعه قدس‌سره : بان المهم ـ كالقيام للظهر ـ من افراد عصيان الحكم بلزوم حفظ القدرة ، فيمتنع ان يعلق الخطاب به على عصيان وجوب حفظ القدرة ، لأن عصيان وجوب حفظ القدرة انما يتحقق بصرفها ، اما في نفس القيام للظهر أو في فعل وجودي آخر كحمل الثقيل.

وعليه نقول : ان شرط الخطاب بالمهم اما ان يكون صرف القدرة في نفس القيام ، فيلزم منه تعلق الحكم بشيء على تقدير وجوده وهو محال. واما ان يكون صرف القدرة في فعل آخر ، فلا يكون المهم مقدورا حينئذ ، فيستحيل تعلق الطلب به على هذا التقدير.

وهذا الأمر مطرد في كل ما كان المهم من افراد عصيان الأهم. فتدبر (١).

فتحصل : ان في إجراء الترتب في ما نحن فيه جهات من الإشكال :

اما الجهة الأولى : وهي كون الترتب مستلزما للشرط المتأخر وهو ممتنع ، وشرطية عنوان التعقب تحتاج إلى دليل. فهي قابلة للمناقشة بأن شرطية عنوان التعقب لا تحتاج إلى دليل خاص كشرطية نفس العصيان ، فانه مقتضى دليل الحكمين ، لأنه بعد ان امتنع الالتزام بإطلاق كلا الدليلين بالنسبة إلى حال تعقب أحدهما بعصيان الآخر وعدم تعقبه ، وكان تقييد أحدهما بتعقبه بعصيان الآخر رافعا للمحذور ، تعين الالتزام بذلك ، إذ لا موجب لطرح الدليل المطلق رأسا إذا أمكن الالتزام به في بعض موارده.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣١٨ ـ ٣٢٠ ـ الطبعة الأولى.

الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ١ ـ ٣٨٠ ـ ٣٨٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٤٤

وبالجملة : التقريب الّذي يذكر لأخذ العصيان شرطا من دون دليل خاص عينه يأتي في أخذ عنوان التعقب فلا حاجة بنا إلى الإطالة.

وقد تعرض المحقق النائيني إلى ذلك في بعض كلماته في مكان آخر. وذكره السيد الخوئي (١) أيضا.

ومن العجيب ما ورد في تعليقة أجود التقريرات للسيد الخوئي من : انتهائه إلى جواز الترتب في المقام بعد دفعه الجهة الأولى من الإشكال ، مما يظهر منه انه فهم من كلام أستاذه النائيني انحصار المحذور في هذه الجهة ، فاندفاعه يستلزم الالتزام بالجواز ، مع انك عرفت ان عمدة المحذور هو الجهة الثانية كما لا يخفى على من لاحظ « أجود التقريرات » (٢).

واما الجهة الثانية : فقد يورد على التقرير الأول لها ، بان تقييد الأمر بالمهم بعصيان الأهم يرفع مزاحمة وجوب حفظ القدرة للأمر بالمهم ، لأن وجوب حفظ القدرة وجوب طريقي للتمكن من امتثال الأمر بالأهم ، فهو نظير الوجوب الغيري المقدمي ينشأ بمقتضى وجود الأمر بالأهم. وعليه فهو يتبعه في الداعوية الفعلية ، فإذا لم يكن الأمر بالأهم ذا داعوية فعلية في ظرفه لم يكن وجوب حفظ القدرة ذا داعوية فعلية نحو متعلقه ، فإذا قيد الأمر بالمهم بعصيان الأهم في وقته ، فقد قيد بعدم داعوية الأهم ، فإذا علم المكلف بتحقق العصيان منه لم يكن وجوب حفظ القدرة فعلا ذا داعوية فعلية ، فيثبت الأمر بالمهم من دون مزاحم.

وبالجملة : بإجراء عملية الترتب بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم ترتفع المزاحمة بين الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة للأهم من دون تقييد للأمر بالمهم

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٢٢ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣١٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٥

بعصيان الأمر بحفظ القدرة ، بل يبقى على ما هو عليه من الإطلاق من هذه الجهة ، إلا ان نتيجة تقييده بالعصيان متحققة ، لعدم داعويته الفعلية مع عصيان الأمر بالأهم.

ولكنه يخدش بوجهين :

الأول : ان أساس عملية الترتب على انه مع امتثال الأمر الأهم والإتيان بمتعلقه يرتفع الأمر بالمهم ، لأن ذلك هو الّذي يرفع التزاحم بين الأمرين. وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه بين الأمر بحفظ القدرة والأمر بالمهم ، فان الأمر بالمهم موجود مع الإتيان بمتعلق الأمر بحفظ القدرة فيما لو بنى على عصيان الأمر بالأهم لتحقق شرط الأمر بالمهم. فيقع التزاحم بينهما ، فلا يترتب أثر الترتب المرغوب ونتيجته المطلوب بين الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة ، بإجراء عملية الترتب بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم.

نعم لو كان الأمر بالمهم يرتفع بالإتيان بمتعلق الأمر بحفظ القدرة من دون تقييده بعصيانه كان لما ذكر وجه ، ولكن الأمر ليس كذلك كما عرفت.

الثاني : ان ما ذكر من ارتباط وتبعية داعوية الأمر بحفظ القدرة لداعوية الأمر بالأهم في ظرفه غير وجيهة ، فانه من الممكن عقلا ان يكون الأمر بحفظ القدرة داعيا مع عدم داعوية الأمر بالأهم. نعم ذلك غير واقع لمنافاته لسيرة العقلاء لأنه عمل غير عقلائي لا انه غير ممكن ، وقد عرفت ان ذلك لا يدفع محذور اجتماع الأمرين بالضدين ، وانما الّذي يدفعه هو فرض داعوية أحدهما في فرض لا يمكن ان يكون الآخر داعيا ، لا انه لا يكون الآخر داعيا مع إمكانه ، إذ مع إمكان داعويته يمكن ان يصل كل منهما إلى مرحلة الفعلية في مقام التأثير فيقع التزاحم.

وبالجملة : الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة يمكن ان يكون كل منهما داعيا فعلا إلى متعلقه في زمان واحد ، وذلك هو محذور التزاحم.

٤٤٦

ولا يخفى ان الإيراد المذكور لا يتوجه على التقرير الثاني لكلام النائيني قدس‌سره لعدم فرض المزاحمة فيه بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم ، وانما هي بين الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة رأسا ، فلا يتجه تقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم المتأخر.

والّذي يظهر من « المحاضرات » ـ بالنظرة العاجلة ـ ان نظر المحقق النائيني في الجهة الثانية من الإشكال هو فرض المحذور في لزوم اجتماع الحكمين ـ أعني الحكم بوجوب المهم والحكم بوجوب حفظ القدرة للأهم ـ في زمان واحد ، فأورد عليه : بان هذا لازم عملية الترتب في سائر الموارد ، بل أساس الترتب لتصحيح اجتماع الحكمين في زمان واحد. فالالتزام بامتناع الترتب هنا لأجل هذا اللازم يستدعي الالتزام بامتناعه مطلقا لأجل هذا اللازم أيضا (١).

وهذا عجيب جدا ، فان نظر المحقق النائيني ليس إلى مجرد اجتماع الحكمين كي ينقض عليه بمطلق موارد الترتب ، بل إلى التزاحم الواقع بينهما لإطلاق كل منهما بالإضافة إلى الآخر ، وهذا المعنى لا يوجد في مطلق موارد الترتب لارتفاع التزاحم بين الحكمين بواسطة عملية الترتب ، وهذا ظاهر بأدنى ملاحظة لكلام المحقق النائيني. فراجع.

واما الجهة الثالثة : فقد أورد عليها السيد الخوئي كما في « المحاضرات » ـ بعد الإسهاب في بيانها ـ ، بأنه إنما يتم ذلك لو فرض ان عدم حفظ القدرة انما يكون بنفس القيام وعينه ، بحيث تكون نسبتهما نسبة المتناقضين ، فمع ارتفاع أحدهما وعدمه يتحقق الآخر ويكون تقدير عدم أحدهما عين تقدير الآخر ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان عدم حفظ القدرة وتركه يلازم القيام لا عينه. ومن الواضح صحة الأمر بأحد افراد اللازم على تقدير تحقق ملازمه ، فيصح

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٣٤٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٧

الأمر بالقيام بصلاة الظهر على تقدير ترك حفظ القدرة ، إذ لا يكون ذلك من الأمر بشيء على تقدير حصوله ووجوده ، لما عرفت من ان ترك حفظ القدرة ليس عين القيام. فحال القيام لصلاة الظهر حال الصلاة على تقدير ترك الإزالة ، إذ المكلف على تقدير تركها لا يخلو عن حال اما فعل الصلاة أو فعل آخر ولا أقل من السكون. هذا ملخص ما جاء في المحاضرات (١).

وهو غير سديد ، فان حفظ القدرة وإبقاءها وان كان عنوانا ثبوتيا ، لكنه لا واقع له غير العدم ، فواقعه عدم صرف القدرة في شيء آخر ، فهو نظير العصيان الّذي واقعه عدم امتثال المأمور به مع انه عنوان ثبوتي ، ونظير الفوت الّذي واقعه عدم الإتيان بالمأمور به مع جهة استقراره عليه ، مع انه عنوان ثبوتي ، ولذلك لا يثبت بالأصل الجاري في عدم الإتيان. فليس واقع هذه العناوين الثبوتية سوى العدم ليس إلاّ. وإذا تبين ان حفظ القدرة من الأمور التي واقعها العدم ، وهو عدم صرف القدرة في شيء آخر ، لا ان لها واقعا وجوديا كسائر الأمور الوجودية ، ولأجل ذلك لا يعبّر عنه إلاّ بالمعنى العدمي الّذي عرفته ـ كما لا يعبر عن العصيان والفوت إلا به ـ.

إذا تبين ذلك تعرف ان عدم حفظ القدرة يتحقق بنفس صرفها في فعل آخر لا انه لازم للعدم ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع تعليق الأمر بالقيام لصلاة الظهر على ترك حفظ القدرة عليه لصلاة العصر ، لأن مرجع ذلك إلى تعليق الأمر بالقيام على تحقق القيام لصلاة الظهر أو في غيرها من الأفعال ، وعلى كلا الحالين يمتنع تعلق الأمر به ، فلاحظ.

التنبيه السابع : في جريان الترتب بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها. كما لو كانت هناك مقدمة محرمة لواجب أهم ، كالاجتياز في الأرض المغصوبة لإنقاذ

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٣٥٠ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٨

الغريق ، فانه لا إشكال في ارتفاع الحرمة لو جاء بالواجب بعد تحقق المقدمة واتصاف المقدمة بالوجوب الغيري ـ على القول به ـ ، كما انه لا إشكال بينهم فتوى في حرمة المقدمة لو لم يتحقق الواجب بعد المقدمة ، فيرون ان الدخول إلى الأرض المغصوبة محرم إذا لم يكن لأجل ان يترتب الواجب عليه ، وقد وقع البحث في تعليل ذلك ، مع أن الدخول في الأرض المغصوبة لا يخرج بذلك عن كونه مقدمة والمفروض انها واجبة.

فذهب الشيخ إلى : ان حرمتها لأجل اعتبار قصد التوصل إلى الواجب في وجوب المقدمة ، وهو منتف في الفرض فتكون المقدمة على حكمها الأول (١).

كما ذهب صاحب الفصول إلى : اعتبار الإيصال في وجوب المقدمة ، وهو منتف فيما نحن فيه ، فتكون المقدمة على حكمها الأول.

وقد مرّ الكلام في كلا القولين مفصلا.

وبما ان المحقق النائيني ممن تبع صاحب الكفاية في الالتزام بوجوب مطلق المقدمة وعدم اختصاصه بحصة منها دون أخرى ، خرّج هذا الفرض على مسألة الترتب ، فذهب إلى : ان حرمة المقدمة مترتبة على عصيان وجوب ذي المقدمة ، فعند عدم الإتيان بذي المقدمة تكون المقدمة محرمة بحكم الترتب.

إلا ان إجراء الترتب في المقام يرد عليه لأول وهلة إيرادان :

أحدهما : استلزامه اما الالتزام بالشرط المتأخر الممتنع لو فرض ان المرتب عليه حرمة المقدمة فعلا هو عصيان وجوب ذي المقدمة. واما الالتزام بما يحتاج إلى دليل خاص وهو غير موجود لو فرض ان المعلق عليه حرمة المقدمة هو عنوان التعقب بعصيان وجوب ذيها.

ثانيهما : استلزامه اجتماع الحكمين المتضادين وهما الوجوب والحرمة ، لأن

__________________

(١) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٧٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٤٩

المقدمة على الفرض محرمة لتحقق المعلق عليه في الخارج وهو التعقب لو فرض أخذه شرطا ، كما انها واجبة بالوجوب الغيري لأن الوجوب النفسيّ قبل تحقق العصيان موجود فيترشح منه وجوب غيري على المقدمة ، فيجتمع الحكمان المتضادان في المقدمة في زمان واحد. وهو محال.

وقد تخلص المحقق النائيني من هذين الإيرادين بعد تقديم مقدمتين :

إحداهما : ان الوجوب الغيري وان كان حكما آخر غير الوجوب النفسيّ ، إلاّ انه في مرتبة الوجوب النفسيّ ، بمعنى انه يقتضي ما يقتضيه الأمر النفسيّ ، فكما ان الأمر النفسيّ بصدد تحصيل متعلقه في الخارج بوضع تقدير الطاعة وهدم تقدير المعصية كذلك الأمر الغيري ، فانه أيضا بصدد تحصيل الواجب النفسيّ فيقتضي تقدير الطاعة ويهدم تقدير المعصية ، وهذا المعنى هو المراد من عبارة صاحب الحاشية بان المقدمة واجبة من حيث الإيصال ، وليس مراده تقييد وجوب المقدمة بالإيصال كما توهّم (١).

ثانيتهما : ان الوجوب الغيري حيث انه وجوب تبعي مترشح عن الوجوب النفسيّ ، فهو تابع له اشتراطا وإطلاقا ، وبما انك قد عرفت عدم معقولية إطلاق الخطاب النفسيّ ولا تقييده بالإضافة إلى فرض طاعته ومعصيته ، فلا يعقل أيضا الإطلاق والتقييد في الوجوب الغيري بالإضافة إلى فرض إطاعة الأمر النفسيّ وعصيانه.

ومن هذين المقدمتين انتهى إلى دفع المحذورين.

اما المحذور الأول : فقد التزم بان الشرط هو عنوان التعقب ، وهو لا يحتاج إلى دليل خاص ، بل هو مقتضى حكم العقل كما في موارد الاشتراط بالقدرة. ببيان : ان المقدمة بعد ان فرض كونها محرمة في حد ذاتها ورفع اليد عن

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد تقي. هداية المسترشدين ـ ٢٠٧ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٠

حرمتها لأجل مقدميتها للواجب ، وبما ان خطابها في مرتبة خطاب ذيها ـ كما هو مقتضى المقدمة الأولى ـ فلا محالة يكون وجوبها في تلك المرتبة ، فإذا فرض عدم وقوعها في طريق التوصل إلى ذيها فلا إشكال في تعلق الحرمة بها حينئذ ، وهذا في الحقيقة يعنى شرطية التعقب بالعصيان للحرمة.

واما المحذور الثاني فيدفعه : ان عدم جواز اجتماع الحكمين المتضادين انما هو لأجل وقوع التزاحم بينهما في مقام الامتثال ، وهذا غير متحقق فيما نحن فيه ، لأن حرمة المقدمة انما هي في فرض عصيان ذي المقدمة ، وقد عرفت ان الوجوب المقدمي لا نظر له إلى ما بعد العصيان والطاعة ، فداعوية كل منهما في فرض غير فرض داعوية الآخر ، وأحد الخطابين هادم لتقدير أخذه موضوعا للخطاب الآخر ، فلا تزاحم بينهما في مقام الداعوية.

وبالجملة : البيان الّذي يصحح به الترتب بين الواجبين النفسيين يصحح به نفسه الترتب بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها.

هذا ما أفاده المحقق النائيني في المقام (١).

وقد أورد عليه السيد الخوئي ( حفظه الله ) في تعليقته على التقرير ، بما تعرضنا إليه في مبحث المقدمة الموصلة من استلزام القول بالترتب محذورين مهمين : أحدهما : طلب الحاصل. وثانيهما : خروج الواجب النفسيّ عن كونه واجبا. ببيان : ان وجوب الشيء يتوقف على القدرة عليه ، وهي تتوقف على القدرة على مقدماته المتوقفة على جوازها شرعا ، فإذا فرض تعليق الحرمة على عصيان ذي المقدمة ، فلازمه فرض اختصاص جواز المقدمة بتقدير عدم عصيانه وهو فرض الإتيان به ، وقد عرفت ان الأمر به يتوقف على جواز مقدميته ، فيكون الأمر به متوقفا على الإتيان به وهو طلب الحاصل. هذا مع أن عدم جواز المقدمة

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣٢١ ـ الطبعة الأولى.

٤٥١

إذا علق على عصيان وجوب ذي المقدمة ، فمع فرض عصيانه تحرم المقدمة ، فيكون الواجب النفسيّ غير مقدور فيرتفع وجوبه ، إذ التكليف بغير المقدور ممتنع (١).

وهذا البيان غريب جدا ، فان مفروض كلام المحقق النائيني هو الجمع بين الحكمين في زمان واحد بحيث تكون المقدمة في حال العصيان واجبة كما انها محرمة ـ فانه مقصود الترتب ـ فكيف يفرض استلزام تعليق الحرمة على العصيان لتعليق الجواز على عدم العصيان؟!. وهذا البيان أخذه السيد الخوئي من إيراد صاحب الكفاية (٢) على من ادعى جواز تصريح الآمر بحرمة المقدمة غير الموصلة دون الموصلة. ولكنه فرق كبير بين المقامين ، إذ لم يفرض في ذلك المورد سوى حرمة المقدمة غير الموصلة وجواز الموصلة. والمفروض هنا هو جواز مطلق المقدمة وانما الغرض تصحيح تعلق الحرمة بنحو الترتب الملازم للمحافظة على بقاء الجواز في حال الحرمة.

هذا مع ما تقدم من الإشكال على أصل الكلام في نفسه وحل جهة المغالطة فيه. فراجع.

فالعمدة في الإيراد على المحقق النائيني ان يقال : ان ما ذكره يبتني على عدم الالتزام بتضاد الأحكام ، وانما لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد لتزاحمها في مقام الامتثال وعدم القدرة على امتثال جميعها ، لأنه قد عرفت ارتفاع التزاحم بالترتب ، إلا أنه قدس‌سره لا يلتزم بذلك ، وقد أشرنا إلى انه قد تفرد المحقق الأصفهاني من بين الأصوليين إلى نفي التضاد من حيث المبدأ (٣).

اما المحقق النائيني وسائر الأصوليين فهم يلتزمون بتحقق التضاد من

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٣٦ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ٢ ـ ٤٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٢

جهة المبدأ ، فتضاد الحرمة والوجوب لأجل انبعاث الحرمة عن الكراهة والوجوب عن الإرادة وهما متضادان. ومن الواضح ان هذا المحذور لا يرتفع بالترتب كما أشرنا إليه سابقا ، فان الترتب انما يرفع محذور التزاحم لا غير.

وعليه ، فالالتزام بالترتب هنا يلزمه الالتزام بجواز اجتماع الحكمين في زمان واحد في مورد واحد ، وهو ممتنع لكونه من اجتماع الضدين.

ونتيجة ما ذكرناه هو : انه بناء على الالتزام بوجوب المقدمة يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذي المقدمة ، لأنه يقتضي وجوب المقدمة ، فيقع التكاذب بينهما ، لاقتضاء أحدهما ضد ما يقتضي الآخر ، وبناء على عدم الالتزام بوجوب المقدمة يكون المورد من موارد تزاحم حرمة المقدمة ووجوب ذي المقدمة لعدم إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ولا مانع من الالتزام بالترتب حينئذ بتعليق حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذيها. وإلى هذا المعنى أشرنا في أول مبحث مقدمة الواجب في بيان ثمرة البحث فراجع.

التنبيه الثامن : في إجراء الترتب بين التدريجيين.

لا يخفى ان الواجبين المتزاحمين ..

تارة : يكونان آنيين كانقاذي الغريقين ، فلا يكون عصيان أحدهما إلا آنيا ، إذ بمجرده يسقط الأمر لفوات موضوعه.

وأخرى : يكون أحدهما تدريجيا والآخر آنيا كإنقاذ الغريق والصلاة.

وثالثة : يكون كل منهما تدريجيا ، لكن عصيان كل منهما يتحقق بمجرد ترك جزء منه ، فلا يكون عصيانه إلا آنيا ، نظير الصوم الّذي يتحقق تركه بمجرد تركه في جزء من النهار فيسقط الأمر بذلك ، ونظير صلاة الآيات مع صلاة الوقت المضيقة.

ورابعة : يكون كل منهما تدريجيا ، وكان عصيان أحدهما وهو الأهم تدريجيا أيضا ، بمعنى ان الأمر به لا يسقط بمجرد العصيان ، بل يجب آناً فآنا فيستمر

٤٥٣

عصيانه باستمرار الأمر به ، نظير الإزالة والصلاة ، فان وجوب الإزالة مستمر فإذا عصاه في الآن الأول وجب في الآن الثاني وهكذا.

ومحل الكلام في هذا التنبيه هو هذا القسم دون الأقسام الأخرى ، فيبحث في صحة الترتب فيه بأن يؤخذ خطاب الصلاة معلقا على عصيان خطاب الإزالة.

وجهة الإشكال فيه : ان الأمر بالصلاة امر ارتباطي ، بمعنى ان امتثاله انما يتحقق بالإتيان بجميع اجزائه ، وإلاّ فلا يقع أحدها على صفة المطلوبية. فوقوع التكبيرة على صفة المطلوبية مشروط بالإتيان بالتسليم ، فإذا زاحمها واجب أهم كالإزالة ، فحيث انه لا يكفي مجرد عصيان الأمر بالإزالة في الأمر بالصلاة لغرض تجدد الأمر بالإزالة واستمراره في جميع آنات الصلاة وعدم سقوطه بمجرد العصيان كي يبقى الأمر بالصلاة بدون مزاحم فلا بد في تصحيح الأمر بالصلاة من تعليقه على عصيان الأمر بالإزالة مستقرا ، ولازم ذلك الالتزام بالشرط المتأخر ، إذ لازمه تقييد الأمر بالصلاة بعصيان الأمر بالإزالة في ظرف التسليم وغيره من أجزاء الصلاة ، فيمتنع الترتب في المقام عند من يرى استحالة الشرط المتأخر.

ودعوى : الالتزام بشرطية التعقب بالعصيان وهو شرط مقارن.

تندفع : بان ذلك يحتاج إلى دليل خاص ، وهو غير موجود ، ولا يكفي في الالتزام به بمجرد إمكانه كشرطية العصيان.

هذا محصل الإشكال في جريان الترتب في هذا القسم على ما ذكره المحقق النائيني. ولازمه كما قال : كون مبحث الترتب قليل الجدوى لكثرة هذا القسم في موارد التزاحم وقلة سائر الأقسام.

وقد دفعه المحقق النائيني قدس‌سره بدعوى : عدم احتياج شرطية التعقب هاهنا إلى دليل خاص ، بل مجرد إمكانه يكفي بملاك شرطية القدرة. بيان

٤٥٤

ذلك : انه بعد ان كان اشتراط الأمر بالفعل التدريجي الارتباطي بالقدرة على جميع اجزائه بحيث تكون القدرة على آخر جزء دخيلة في وجوب أول جزء من الأمور المسلمة ، وقد عرفت ان ذلك لا يتوجه إلا بالالتزام بشرطية عنوان التعقب بالقدرة المتأخرة لامتناع شرطية نفس القدرة المتأخرة لاستلزامه الشرط المتأخر وهو محال. فشرطية عنوان التعقب مما يفرضها العقل بدلالة الاقتضاء تصحيحا لتعلق الأمر بالفعل التدريجي الارتباطي الّذي لا ينكره أحد.

ومن الواضح ان شرطية العصيان في سائر موارد الترتب إنما هي من باب شرطية القدرة ، إذ الواجب المهم لا يكون مقدورا إلا في ظرف عصيان الأمر بالأهم.

وعليه ، فدخالة عصيان الأمر بالإزالة في ظرف التسليم في وجوب التكبيرة انما يكون من جهة ان القدرة على التسليم لا تكون إلا بالعصيان المذكور ، وقد عرفت ان دخالة القدرة على الجزء الأخير في وجوب الجزء الأول لا توجّه إلا بأخذ الشرط عنوان التعقب. فالدليل الثابت الّذي يقضي بأخذ الشرط في التدريجيات عنوان التعقب بالقدرة المتأخرة نفسه يقضي بأخذ الشرط عنوان التعقب بالعصيان المتأخر ، لأن التعقب بالعصيان حقيقته التعقب بالقدرة وليس شيئا آخر وراء التعقب بالقدرة ، فلا يحتاج إلى دليل خاص ، لتوفر الدليل على اشتراط التعقب بالقدرة في التدريجيات.

هذا بيان ما أفاده المحقق النائيني في دفع الإيراد المزبور (١).

ويرد عليه : ان قياس المقام على شرطية القدرة غير وجيه لوجوه ثلاثة :

الأول : ان موضوع اشتراط القدرة وعدم العجز انما هو الفعل القابل لطروّ العجز والقدرة عليه ، بحيث يكون مقسما للعجز والتمكن ، ويمكن تحديده

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣١٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٥

بما يرجع عدم قدرة عليه إلى قصور في المكلف لا في نفسه ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فان عدم القدرة على امتثال كلا التكليفين والإتيان بمتعلق أحدهما عند الإتيان بمتعلق الآخر من جهة قصور في نفس العمل لأن ذلك جمع بين الضدين وهو محال في نفسه وخارج عن مقسم العجز والتمكن ، فالتكليف فيما نحن فيه من باب التكليف بالمحال ـ وهو الجمع بين الضدين ـ لا من باب التكليف بغير المقدور ، فهما يختلفان موضوعا فلا يتجه قياس ما نحن فيه على باب اشتراط القدرة.

الثاني : لو تنزلنا وسلمنا اتحاد القسمين موضوعا وانهما من باب واحد وهو التكليف بغير المقدور بإرجاع التكليف بالمحال إليه فهما يختلفان ملاكا ، بمعنى ان الملاك في استحالة التكليف بما يعجز عنه المكلف في نفسه غير الملاك في استحالة التكليف بغير المقدور من جهة المزاحم ، وهو ما نحن فيه ، لأن متعلق كل منهما مقدور في نفسه لا قصور فيه ، وانما ينشأ عدم القدرة من جهة المزاحم.

وذلك لأن ملاك عدم التكليف بغير المقدور في نفسه اما قبح تكليف العاجز ـ بنظر العقل ـ كما هو المشهور. واما دعوى اقتضاء التكليف نفسه الاختصاص بالمقدور ، لأنه لإيجاد الداعي وتحريك المكلف نحو العمل وهو يتصور بالنسبة إلى الفعل المقدور كما عليه المحقق النائيني على ما سبق بيانه مفصلا.

اما ملاك عدم التكليف بغير المقدور من جهة المزاحم فهو يتقوم بأمرين :

أحدهما : عدم إمكان وجود الأمرين بالضدين بعد فرض عدم قدرة المكلف إلا على أحدهما ، فبقاء كل من الأمرين ممتنع.

ثانيهما : انه مع لزوم رفع اليد عن أحدهما وكان أحدهما أرجح من الآخر ، فرفع اليد عن الأرجح لازمه ترجيح المرجوح على الراجح وهو ممتنع ، فيتعين سقوط المرجوح فسقوط المرجوح ملاكه هذان الأمران وهما أجنبيان عن ملاك

٤٥٦

سقوط التكليف بغير المقدور في نفسه كما لا يخفى. ومن الواضح عدم تأتي ملاك الاستحالة في ذلك القسم هنا ، لأن المفروض ان متعلق كل تكليف مقدور في نفسه ، فلا محذور في محركيته نحوه ، ولا قبح في تكليفه به بالنظر إليه خاصة ، كما ان كلا التكليفين لا يرجعان إلى تكليف واحد متعلق بالضدين كي يقبح ذلك بنظر العقل وتمتنع محركية التكليف نحو متعلقه. فليس المحذور الا في الجمع بين التكليفين مع لزوم ترجيح المرجوح على الراجح فيسقط المرجوح لذلك ، ومع هذا لا يصح قياس ما نحن فيه بباب اشتراط التكليف بالقدرة وجعلها من واد واحد ملاكا. فتدبر.

الثالث : لو تنزلنا عن هذا أيضا وسلمنا اتحاد القسمين موضوعا وملاكا ، فلا نسلم جريان ما أفاده قدس‌سره فيما نحن فيه مما كان توقف التكليف فيه على القدرة اتفاقيا لا دائميا.

بيان ذلك : ان الالتزام بشرطية التعقب بالقدرة على الجزء المتأخر في الواجبات التدريجية انما كان من جهة وضوح وجود الواجبات التدريجية الارتباطية وانحصار المصحح لها بأخذ عنوان التعقب شرطا. ومن الواضح ان توقف وجوب الجزء السابق على الإتيان بالجزء اللاحق أمر دائمي في الواجبات الارتباطية لا ينفك عنها لو لم نقل بأنه مقوم لواقع الارتباطية المفروضة ، فيلتزم فيها بشرطية التعقب وان كان ذا مئونة زائدة. اما توقف وجوب المهم على القدرة عليه من جهة عدم الأهم المزاحم له فهو امر اتفاقي لا دائمي ، وبما ان هذه القدرة لا تتحقق إلا في ظرف عصيان الأهم ، تعين قهرا أخذ العصيان شرطا من باب أنه ظرف القدرة على العمل ، نظير ما لو ورد تكليف بشيء ولم يكن مقدورا عليه إلا في زمان خاص تعين تقييده بذلك الزمان من باب انه زمان القدرة عليه ، فشرطية العصيان أمر قهري لا محيص عنه ، لأنه من باب شرطية نفس القدرة كما عرفت. اما عنوان التعقب فهو غير مقوم للقدرة كما لا يخفى ، فأخذه شرطا

٤٥٧

يحتاج إلى دليل خاص ، والدليل الدال على أخذه في المورد المتوقف فيه الجزء السابق على القدرة المتأخرة توقفا دائميا لا معنى لإعماله في المورد الّذي يكون التوقف فيه على القدرة المتأخرة اتفاقيا ، فان عدم الالتزام به في الواجبات التدريجية لازمه إنكار وجود الواجبات التدريجية مع أنها ضرورية الوجود ، وهذا المحذور لا يلزم بعدم الالتزام بشرطيته فيما نحن فيه كما لا يخفى ، إذ غاية ما يلزم عدم صحة الترتب في الواجبات التدريجية وهو ليس بمحذور. فلاحظ.

فالوجه الّذي يصحح به أخذ عنوان التعقب هنا ما أشرنا إليه ، ويمكن استفادته من كلامه قدس‌سره في بعض المواقع ، من ان إطلاق الدليل الدال على وجوب المهم يكفي في إثبات الوجوب مقيدا بعنوان التعقب بالعصيان ، بالبيان الّذي ذكرناه لتصحيح أخذ عصيان الأهم شرطا في وجوب المهم ـ الّذي هو أساس الترتب ـ من دون حاجة إلى دليل خاص إثباتي ، وذلك بان نقول : ان مقتضى إطلاق دليل المهم ثبوت الحكم مطلقا سواء تعنون متعلقه بعنوان التعقب بعصيان الأهم في الآن المتأخر أو لم يتعنون بهذا العنوان ، وحيث ان ثبوت الحكم في الصورة الثانية ـ أعني صورة عدم التعنون بعنوان التعقب ـ يلزم منه محذور حصول التزاحم بين الحكمين في الزمان المتأخر الموجب لسقوط الأمر بالمهم في ظرفه الملازم لسقوطه من أول الأمر ومن حين الشروع بالعمل ، فيرفع اليد عن الإطلاق في هذه الصورة لامتناع الأخذ به لمحذور التزاحم المانع من الجمع بين الحكمين. ويبقى دليله بالنسبة إلى صورة التعقب بالعصيان على ما كان عليه لعدم الموجب لرفع اليد عنه لانحصار محذور التزاحم بتلك الصورة دون هذه. فالتفت وتدبر والله وليّ التوفيق.

انتهى مبحث الضد والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكان تاريخ الانتهاء منه يوم الأحد الثاني عشر من ربيع الثاني سنة ١٣٨٦ ه‍.

٤٥٨

فصل

أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

هذا البحث مما لا ثمرة له أصلا من حيث العمل ، وان ذكرت له ثمرة وهي تصحيح وجوب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان ولم يبق على شرائط الوجوب إلى آخر النهار.

ولكن ناقشها المحقق النائيني رحمه‌الله بظهور عدم ارتباط ذلك بهذا البحث في باب الصوم من الفقه (١).

ولأجل ذلك نكتفي بنقل ما أفاده في الكفاية في هذا المبحث لمجرد الاطلاع على صورة الخطاب من دون تحقيق وتمحيص.

فنقول : انه وقع الكلام في انه هل يجوز امر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أو لا يجوز. ومن الواضح أنه يراد من الجواز الإمكان لا الجواز بمعنى الإباحة والترخيص.

ذهب صاحب الكفاية إلى عدم الجواز. ويظهر وجه اختياره بوضوح

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٠٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٥٩

أمرين أشار إليهما في كتابه.

الأول : ان المراد بالجواز في عنوان البحث هو الإمكان الوقوعي لا الإمكان الذاتي.

ومجمل الفرق بينهما هو : ان الإمكان الذاتي يرجع إلى كون الذات في حد نفسها ممكنة غير ممتنعة الوجود من حيث هي ، كاجتماع النقيضين الّذي يكون محالا في نفسه. اما الإمكان الوقوعي فهو يرجع إلى عدم استلزام وجود الذات للمحال بحيث لا يترتب على وجودها محذور من لزوم خلف أو دور أو نحو ذلك ، فالإمكان الوقوعي ما لا يستلزم المحال ، والذاتي ما ليس بمحال في نفسه. فالمقصود من الإمكان هنا الإمكان الوقوعي دون الذاتي ، إذ لا يتعلق غرض للأصولي في تحقيق ذلك ، فان غرضه يتعلق بوقوع الأشياء وما يترتب عليها من أثر ، مع بعد إنكار الإمكان الذاتي فيما نحن فيه ، إذ لا يدعى كونه محالا في نفسه كاجتماع الضدين.

الثاني : ان المراد من الضمير في : « شرطه » هو : تارة يكون مرتبة أخرى للأمر غير المرتبة التي هو فيها ، كأن يأمر إنشاء مع علمه بانتفاء شرط فعلية الأمر. وأخرى : يكون المراد نفس المرتبة فيأمر إنشاء مع علمه بانتفاء شرط الإنشاء وهكذا. اما الأول فليس هو موضوع البحث ، إذ لا إشكال في جوازه كالأوامر الامتحانية ونحوها ، إذ قد يأمر الآمر من دون ان يكون له داعي للبعث حقيقة.

وعليه ، فموضوع البحث هو الإمكان الوقوعي لأمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط مرتبة الأمر التي يقصدها الآمر من الأمر. ومن الواضح أنه غير جائز وقوعا لاستلزامه حصول المعلول من دون علته وهو خلف ، وذلك لأن الشرط من اجزاء العلة فحصول الأمر مع عدم الشرط يكون من وجود المعلول بدون علة وهو خلف فرض العلية.

٤٦٠