منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

الأمرين ، لأن مرجع الأمر بالمهم إلى طلب سدّ باب العدم من جميع الجهات غير جهة وجود الأهم ، لأخذ عدم الأمر بالأهم في موضوع الأمر بالمهم ، ولا تنافي بين قيام المولى بصدد سدّ باب العدم في طرف الأهم من جميع الجهات حتى جهة وجود ضده المهم ، وقيامه بصدد سدّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح عدم الأهم اتفاقا ، إذ لا محركية له نحو طرد عدم المهم إلا في ظرف عدم الأهم من باب الاتفاق.

وقد أفاد رحمه‌الله بان صحة الترتب ـ بهذا البيان ـ لا تتوقف على كونه بنحو الواجب المشروط ، بل يصح بنحو الواجب المعلق ، فيكون الأمر بالمهم فعليا ، لكنه بالفعل على تقدير العصيان وعدم الأهم اتفاقا ، إذ لا اقتضاء له في هذا الحال نحو عدم الأهم فلا منافاة بين الأمرين (١).

ولكن هذا البيان لا يخلو عن مناقشة من وجهين :

الأول : ان تصحيح الترتب بنحو الواجب المعلق يبتني على الالتزام بالواجب المعلق ، وقد عرفت ما فيه من الكلام ، فلا يلزم بهذا القول من يرى امتناع الواجب المعلق.

الثاني : ان الترتب وان رفع اجتماع المقتضيين المتنافيين في طرف الأهم لتعليق الأمر بالمهم على عدم الأهم من باب الاتفاق ، فلا اقتضاء له نحو عدمه كي ينافي الأمر بالأهم الّذي له اقتضاء نحو وجوده ، إلا انه لا يرتفع به اجتماعهما في طرف المهم ، لأن الأمر به على تقدير العصيان يكون فعليا ، فله اقتضاء نحو وجوده ، والمفروض ان الأمر بالأهم في هذا الحال فعلي لإطلاقه ، فله اقتضاء عدمه ، فيلزم المحذور من طلب الضدين.

هذا إذا لوحظ ما هو ظاهر البيان من أن المحذور في طلب الضدين هو

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٣٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٢١

اجتماع المقتضيين المتنافيين في شيء واحد ، لأن الأمر بأحدهما يقتضي وجوده والأمر بالآخر يقتضي عدمه ، وان هذا المحذور يرتفع بالترتب.

اما إذا كان المقصود كون المحذور هو التنافي في مقام المحركية الفعلية ، وانه يرتفع بالترتب ، لأن تعليق أحدهما على عصيان الآخر يرفع إمكان وصول الأمر معا إلى مرحلة الفعلية في التأثير فلا يقع التزاحم ـ ان كان المقصود ذلك ـ ، فهذا راجع إلى ما تقدم وليس وجها مستقلا في قبال ما تقدم.

وبالجملة : هذا البيان ما لم يرجع إلى ما قربناه لا يخلو عن مناقشة.

وعليه ، فالوجه الصحيح الّذي يقال في تصحيح الترتب ما عرفته ، وحاصله : ان تعليق الأمر بأحدهما على عدم فعلية تأثير الآخر ، أو عدم متعلق الآخر ، يستحيل معه فرض تنافي الأمرين في مقام المحركية الفعلية وهو محذور طلب الضدين.

وجوه الإشكال على الترتب

وفي قبال هذه الوجوه المذكورة في تصحيح الترتب وجوه أخرى ذكرت لبيان استحالة الترتب وهي :

أولا : انه من المقرر امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ، بحيث يكون أحدهما محكوما بغير ما حكم به الآخر ، بل اما ان يكونا متوافقين في الحكم أو يكون الآخر غير محكوم بحكم أصلا. والالتزام بالترتب يتنافى مع هذه القاعدة المسلمة ، وذلك لأن ترك الأهم ملازم للفعل المهم. ومن الواضح ان ترك الأهم حرام ، لأنه نقيض الواجب ، ووجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه. فيلزم ان يكون أحد المتلازمين حراما والآخر واجبا. وهو خلاف القاعدة المقررة (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٤٣ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٢

وفيه : ان مفروض الكلام الضدان اللذان لهما ثالث ، اما الضدان اللذان لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فهما خارجان عن مسألة الترتب لأن عدم أحدهما يلازم وجود الآخر قهرا ، فلا معنى للأمر به عند عدم الآخر.

وعليه ، فالقاعدة المقررة وان كانت مسلمة لكنها لا تتنافى مع الترتب ، لأن ملاك امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ليس إلا استحالة امتثال الحكمين بعد فرض التلازم بين متعلقيهما ، بل اما ان يمتثل هذا أو يمتثل ذلك.

وهذا المحذور غير جار فيما نحن فيه ، لأنه بعدم ترك الأهم ـ يعني امتثال الحرمة ـ يرتفع موضوع الأمر بالمهم ، فلا تنافي بينهما في مقام التحريك الفعلي.

وبعبارة جامعة : ليس المحذور في اختلاف المتلازمين في الحكم سوى محذور طلب الضدين ، وقد عرفت ارتفاعه بالترتب ، فلا يكون ذلك إشكالا على الترتب ونفيا لصحته.

وثانيا : ـ ما ينسب إلى المحقق الشيرازي قدس‌سره ـ ان المهم إذا كان واجبا كان نقيضه وهو الترك محرما ، وحينئذ نقول : ان المحرم اما ان يكون هو الترك المطلق حتى الموصل إلى فعل الأهم. أو هو خصوص الترك المقارن لترك الأهم ـ وهو غير الموصل ـ. فان كان المحرم هو الترك المطلق كان ذلك منافيا لوجوب الأهم ، وفرض أهميته وارتفاع وجوب المهم بوجوده ، إذ كيف يتلاءم فرض حرمة ترك المهم عند وجود الأهم ، مع فرض ارتفاع وجوب المهم عند وجود الأهم؟. وان كان المحرم هو خصوص الترك غير الموصل ، فليس هذا نقيض الفعل ، بل نقيضه هو تركه ، وهو ملازم لأمرين أحدهما الفعل والآخر الترك الموصل.

ومن الواضح ان الحكم لا يسري من الملازم إلى ملازمه ، وعلى تقدير فرض كونه مصداقا للنقيض وسراية الحكم إليه ، فهو انما يستلزم ثبوت الوجوب التخييري له ، لفرض ان للنقيض فردين أحدهما الفعل والآخر هو الترك

٤٢٣

الموصل.

فمحصل الإشكال : ان الالتزام بحرمة الترك غير الموصل من جهة وجوب الفعل تستلزم اما إنكار وجوب الفعل أو كون الوجوب المتعلق بالفعل وجوبا تخييريا لا تعيينا وهو مما لا يلتزم به ، وذلك لأن الترك غير الموصل ليس نقيض الفعل ، بل الفعل لازم نقيض الترك غير الموصل. فتدبر (١).

ويرد عليه وجهان :

الأول : هو إنا نلتزم بان متعلق الحرمة هو ذات الترك ، إلاّ ان هذه الحرمة لما كانت ناشئة عن وجوب الفعل وليست بدليل مستقل ، والمفروض ان وجوب الفعل مقيد بصورة ترك الأهم ، كانت حرمة الترك مقيدة بحال ترك الأهم ، فمتعلق الحرمة هو ذات الترك ، لكن زمان التحريم هو حال ترك الأهم. ومن الواضح ان ذلك الترك في هذا الحال ينحصر بالترك غير الموصل ، فلا يتصور فيه الإطلاق والسراية للترك الموصل كي يستلزم الخلف المدعى.

الثاني : ان هذا الوجه لو سلم ولم يتمكن من مناقشته ، فهو لا يستلزم إنكار الترتب ونفي صحته ، بل غاية ما يستلزم أحد أمرين اما دعوى عدم تشخيص نقيض الفعل الّذي يتعلق به التحريم ، وإمكان ان يكون امرا ثالثا غير مطلق الترك والترك غير الموصل لا تصل إليه أذهاننا فعلا. واما الالتزام بعدم تأتي قاعدة استلزام وجوب الشيء حرمة ضده العام في هذا المقام ، لأن حرمة الضد يستلزم من وجودها عدمها كما عرفت. وكل من هذين الأمرين لا ينفي صحة الترتب ولا يستلزم إنكاره. فتدبر.

وثالثا : ما ذكره في الكفاية بعنوان الجواب عن دعوى عدم المطاردة بين الأمرين ، لأن الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم من : انه وان انتفت المطاردة

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٤٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٤

بينهما في مرتبة الأهم ، إلاّ انها ثابتة في مرتبة المهم ، لأن الأمر بالمهم فعلي فهو يقتضي متعلقه ، والأمر بالأهم فعلي كذلك فهو يقتضي متعلقه أيضا ، وليس محذور طلب الضدين في عرض واحد سوى ان أحدهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر ومعاندة ، مع انه يكفي في المحذور ثبوت المطاردة من طرف الأهم ، لأنه على هذا الحال يكون طاردا للضد كما لو لم يكن ترتب أو عصيان فيلزم المحذور (١).

وفيه : ما تقدم من ان محذور طلب الضدين في عرض واحد ليس هو اقتضاء أحدهما ما ينافي مقتضى الآخر ، كي يدعى عدم ارتفاعه بالترتب ، بل المحذور هو تزاحم المقتضيين في مقام التأثير والمحركية الفعلية ولولاه لما امتنع طلب الضدين وان اقتضى أحدهما ضد ما يقتضيه الآخر ، كما لم يمتنع اجتماع نارين في آن واحد إحداهما تقتضي ضد ما تقتضيه الأخرى إذا لم يصلا إلى مرحلة فعلية التأثير.

وقد عرفت ان الترتب يرفع تنافي الأمرين في مقام الفعلية ، بل يستحيل تحقق تنافيهما في صورة الترتب.

وقد تعرض السيد الخوئي ( حفظه الله ) ـ على ما في المحاضرات ـ إلى نقل كلام صاحب الكفاية ، والإيراد عليه بنحو مفصل (٢). ولا موجب لنقل مناقشته ولكن نشير إلى امرين في كلامه لا يخلوان عن غرابة :

أحدهما : حكمه على صدور إشكال صاحب الكفاية منه بالغرابة. فان ما ذكره صاحب الكفاية ليس إلا تلخيصا لروح الإشكال على الترتب ، وليس الإشكال على الترتب بذلك قبل تصدي من تأخر لدفعه وحلّه ، امرا يعد غريبا ، فانه هو الإشكال المتداول المعروف لخّصه صاحب الكفاية بما ذكر ، فالحكم بغرابة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ١٣٧ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٥

صدوره عن صاحب الكفاية مساوق لحكمه بغرابة التزامه بعدم صحة الترتب.

ثانيهما : ما ذكره في بيان عدم تحقق الطرد من طرف الأهم فقط ، من ان الأمر بالأهم انما يكون طاردا للأمر بالمهم لو كان ناظرا إلى متعلقه ومستدعيا لهدمه ، ولكن الفرض أنه غير ناظر إليه وانما هو ناظر إلى موضوعه ومقتض لدفعه.

ووجه غرابته : ان المطاردة لا تتوقف على ان يكون أحدهما مستدعيا لهدم متعلق الآخر ، وإلاّ لم يكن بين طلب الضدين في عرض واحد مطاردة لعدم تعرض أحدهما لمتعلق الآخر ، بل كل ناظر إلى متعلقه ، وانما هي تتحقق باعتبار مطالبة كل من الأمرين صرف القدرة في متعلقه والمفروض انها قدرة واحدة ، فيقع التزاحم بينهما.

والخلاصة : ليس إشكال صاحب الكفاية سوى الإشكال البدوي المعهود ، فجوابه هو التقريب الّذي يقال في تصحيح الترتب ، فلا حاجة إلى تكلف الجواب عنه بنحو آخر. فلاحظ.

ورابعا : ما ذكره في الكفاية أيضا ، من ان الالتزام بتعدد الأمر بنحو الترتب هو ترتب العقاب على مخالفة كل من الأمرين ، فيستحق التارك لكلا الضدين عقابين لتعدد المعصية بعد فرض تعدد الأمر ، مع ان استحقاقه عقابين غير معقول ، إذ الجمع بين الضدين ممتنع ، فلا معنى لترتب العقاب على ترك الضدين لأنه عقاب على ما ليس بمقدور.

وبالجملة : فلازم الترتب تعدد العقاب في صورة ترك كلا الضدين وهو يستلزم العقاب على ترك غير المقدور ، وهو عدم فعل الضدين في زمان واحد وهو محال. فالترتب مما يستلزم المحال (١).

وأجيب عن هذا الإشكال بما ملخصه : ان العقاب ليس على ترك

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٢٦

الضدين وعدم فعلهما ، فلا يقال له لم لم تفعل الضدين كي يدعى ان فعلهما غير مقدور فكيف يعاقب على تركه؟ ، بل العقاب على الجمع بين ترك الضدين ، فيعاقب على تركه كلاهما ، بمعنى انه يقال له لم تركت كلا الضدين ، ومن الواضح ان ترك الضدين أمر مقدور له. فان ترك الأهم كان مقدورا له للقدرة على فعله ، فتركه يستلزم استحقاق العقاب ، وفي حال تركه يكون فعل المهم مأمورا به وهو مقدور عليه ، فتركه في حال ترك الأهم مقدور ، فيصح العقاب عليه.

وبالجملة : فكل من الضدين في حال الأمر به مقدور فيكون تركه مستلزما للعقاب فمع تركه كليهما فقد عصى كلا الأمرين فيعاقب على عصيانهما بعقابين ولا يلزم عن ذلك ترتب العقاب على أمر غير مقدور (١). فالتفت.

هذا تمام الكلام في أصل الترتب إثباتا ونفيا وقد نتج مما ذكرناه صحة الترتب وعدم ثبوت استحالته.

ويقع الكلام بعد ذلك في بعض ما يتعلق به من مسائل وجهات في ضمن تنبيهات خمسة.

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ١٤٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٢٧

تنبيهات الترتب

التنبيه الأول : قد يتساءل متسائل ، بأن غاية ما ثبت مما تقدم هو صحة وقوع الترتب وإمكانه ثبوتا ، ولكنه مما لا دليل عليه إثباتا ، إذ لم يرد في لسان أي دليل ثبوت حكم بنحو الترتب ، فلا أثر له لهذا البحث المطنب خارجا.

وقد تنبه لذلك صاحب الكفاية وتابعة غيره ، فتصدى للإجابة عن هذا السؤال بان الترتب لا يحتاج إلى دليل إثباتي خاص ، فإمكان ثبوته مساوق لوقوعه لمساعدة مقام الإثبات عليه (١).

وتلخص الدعوى : بان العقدة في مسألة الترتب هو إمكانه وتصحيحه ثبوتا ، وإلاّ فمقام الإثبات لا يحتاج إلى دليل خاص ، بل نفس دليلي الأمرين يكفي في ذلك. بيان ذلك : ان التنافي بين الأمرين انما ينشأ من إطلاق دليل كل منهما ، بحيث يثبت الأمر في زمان داعوية الآخر. وإذا ثبت ان هذا المعنى غير معقول فلا بد من علاجه ، فاما ان يرفع اليد عن أصل دليل أحدهما ، أو يرفع اليد عن إطلاقه فيقيد ثبوت الأمر بحال عصيان الآخر أو ترك متعلقه ـ كما هي دعوى الترتب ـ.

والثاني هو المتعين ، إذ لا وجه لرفع اليد عن أصل الدليل مع ارتفاع التنافي بالتقييد. لأن الدليل يتكفل ثبوت الحكم مطلقا. غاية الأمر ان ذلك غير معقول ، فيرفع اليد عن الإطلاق لا أصل الحكم ، إذ دليل أصل الحكم موجود ولا وجه لرفع اليد عنه.

وبالجملة : الترتب عملية للجمع بين الحكمين اللذين دل الدليل عليهما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٢٨

معا ، لعدم إمكان الالتزام بهما معا من دون الترتب ، فيتعين الالتزام به بمجرد تصور إمكانه ، إذ لا وجه لطرح أحد الحكمين مع تصور الوجه المعقول لثبوته وقيام الدليل على ثبوته.

وبعبارة أخرى : ان دليل الأمر بالمهم يتكفل ثبوته مطلقا ، وبما انه ثبت استحالة ثبوته مع فعلية الأهم يرفع اليد عن الدليل في خصوص ذلك الفرض للقطع بخلافه ، فيبقى الدليل متكفلا للأمر بالمهم في غير ذلك الفرض ، إذ لا وجه يقتضي رفع اليد عنه مع حجيته في نفسه. فلا يحتاج الترتب إلى دليل ، بل هو عملية تجري على الدليل الثابت خارجا ، ويتعين إجراؤها حيث لا يتصور غيرها مع المحافظة على نفس الدليل.

التنبيه الثاني : ان الواجبين المتزاحمين يتصوران على أنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون كل منهما مضيقا ، كالإزالة والصلاة في آخر وقتها.

الثاني : ان يكون كل منهما موسعا ، كصلاة اليومية وصلاة الآيات.

الثالث : ان يكون أحدهما موسعا والآخر مضيقا ، كصلاة الظهر وإزالة النجاسة عن المسجد. ولا إشكال في دخول الصورة الأولى في مبحث الترتب ، فانها محط نظر الأصحاب.

كما لا إشكال في خروج الصورة الثانية عنه ، لما سيأتي إن شاء الله تعالى من بيان خروج هذا النحو عن كبرى التزاحم.

وانما الكلام في الصورة الثالثة :

فقد ذهب المحقق النائيني رحمه‌الله إلى جريان الترتب فيها ودخولها في مبحثه (١). ووجّه هذا الحكم السيد الخوئي ( حفظه الله ) ـ كما في المحاضرات ـ بأنه مبني على التزامه بان التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ،

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣١٤ ـ الطبعة الأولى.

الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ١ ـ ٣٧٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٤٢٩

فإذا امتنع التقييد في مورد يمتنع الإطلاق فيه ، وبما انه يمتنع تقييد الواجب الموسع بصورة الإتيان بالفرد المزاحم ـ لمكان التضاد بينهما ـ امتنع إطلاقه بالنسبة إليه. وعليه فيقع التزاحم بين إطلاق الواجب الموسع وخطاب الواجب المضيق ، فلا يمكن الجمع بينهما ، بل لا بد من رفع اليد عن أحدهما اما إطلاق الموسع أو خطاب المضيق.

وأورد عليه : بأنه قد عرفت ان التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة ، بل تقابل التضاد ، فإذا امتنع التقييد كان الإطلاق ضروريا ، لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت.

ويرجع سرّ ذلك إلى كون الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها فحقيقته بيان عدم دخل القيد في الموضوع أو المتعلق.

ومن الواضح انه لا مانع من الإطلاق بالنسبة إلى الفرد المزاحم ، إذ معناه عدم دخله في الموضوع كعدم دخل الفرد غير المزاحم وهو مما لا محذور فيه.

وعليه ، فلا منافاة بين إطلاق الواجب الموسع وخطاب الواجب المضيق (١).

وفي هذا البيان بحث من جهات ـ مع موافقتنا له في أصل الدعوى ، وهو عدم كون المورد من موارد التزاحم ـ :

الأولى : في إيراده وبيان ان امتناع التقييد يستلزم ضرورة الإطلاق.

إذ فيه : ما تقدم من ان امتناع التقييد تارة يكون لامتناع الحكم على الحصة الخاصة. وأخرى يكون الامتناع ثبوت الحكم لخصوصها.

فعلى الأول يمتنع الإطلاق أيضا ، لأن نتيجته سراية الحكم إلى جميع الحصص ومنها هذه الحصة.

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ١١٤ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٠

نعم على الثاني يكون ضروريا. مع انه يكون ضروريا إذا لم يمكن الحكم على الحصة المقابلة للحصة التي يمتنع ثبوت الحكم لها ، وإلاّ لم يكن الإطلاق ضروريا إذ ثبوت الحكم يتصور على أنحاء ثلاثة : ان يثبت لمطلق الحصص. وان يثبت لخصوص حصة معينة. وان يثبت لخصوص غير تلك الحصة. فإذا امتنع ثبوته لخصوص تلك الحصة ، كان الأمر دائرا بين الاحتمالين الآخرين ولم يكن الإطلاق ضروريا. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان تقييد الحكم بصورة غير الفرد المزاحم لا محذور فيه.

وبالجملة : فما ذكره في الإيراد لا يخلو عن خدشة ، وهو ناشئ عن تخيل كون حقيقة الإطلاق مجرد رفض القيود ، مع انه ليس كذلك ، بل هو تسرية الحكم إلى مطلق الافراد وجميعها الملازم لنفي دخالة خصوصية كل فرد في الحكم. وعليه فلا يكون امتناع التقييد مساوقا لضرورة الإطلاق وشمول الحكم للفرض الّذي يمتنع تقييده به.

الثانية : ان امتناع ثبوت الإطلاق والمحذور فيه ليس إلاّ عدم توفر القدرة على متعلقه عند الفرد المزاحم ، فالمحذور فيه هو عدم القدرة من جهة المزاحم.

ومن البيّن انه قد مرّ الكلام في ذلك مفصلا عند التعرض لكلام المحقق الكركي ، وقد تعرض القائل لحل الإشكال هناك ، فلا يظهر لنا الوجه في عدم تنبيهه هنا على ذلك وعدم إحالة الأمر في هذه الصورة إلى ما تقدم.

الثالثة : ـ وهي المهمة في المقام ـ ان المحقق النائيني قدس‌سره أكد مرارا على ان المحذور المستلزم لتزاحم الواجبين إنما هو من إطلاق كل من الواجبين وهو يرتفع بالترتب ، فلا معنى بعد تأكيده على ذلك لتوجيه ذهابه إلى جريان الترتب في هذه الصورة بكون المحذور في التقييد وهو يستلزم المحذور في الإطلاق.

وبعبارة أخرى : المقصود تطبيق مسألة الترتب على هذه الصورة ،

٤٣١

والمفروض ان نظره في إجراء عملية الترتب هو رفع التزاحم بين الحكمين الناشئ من الإطلاقين ، فامتناع الإطلاقين من جهة أدائهما إلى التزاحم ، فلا معنى لتوجيه انطباق الترتب في هذه الصورة بان امتناع الإطلاق من جهة امتناع التقييد ، إذ لو كان نظره إلى هذه الجهة لتأتي نفس البيان بالنسبة إلى المضيقين ، فيقال : انه يمتنع تقييد كل منهما بصورة وجود الآخر ، فيمتنع الإطلاق ، فيقع التزاحم بين الإطلاقين.

وبالجملة : لا وجه لتركيز كون المحذور في التقييد. فتدبر.

التنبيه الثالث : ذهب المحقق النائيني قدس‌سره إلى عدم جريان الترتب بين الواجبين المقيد أحدهما بالقدرة شرعا.

ووجّهه في بعض كلماته : بان الترتب يتوقف على إحراز الملاك في الواجب المهم حال المزاحمة ، وإذا كان أحد الواجبين مقيدا بالقدرة الشرعية ـ ومعناه القدرة العرفية على الشيء التي هي أخص من القدرة العقلية ، فانها القدرة على الشيء من دون مشقة ـ يرتفع موضوعه بالواجب الآخر ، لعدم القدرة عليه بواسطة المزاحمة. وعليه فلا يكون واجدا للملاك حال المزاحمة لعدم حصول شرط وجوبه الدخيل في ثبوت ملاكه.

اما وجه لزوم واجدية المهم للملاك حال المزاحمة ، فهو لأجل إثبات الأمر بمجرد ارتفاع المزاحمة بالعصيان ، لأن المقتضي موجود والمانع وهو المزاحم مفقود. فلا يحتاج ثبوت الأمر إلى دليل آخر. ومن هنا التزم بان إمكان الترتب مساوق لوقوعه من دون احتياج إلى دليل الإثبات ، لتمامية جهات ثبوت الأمر على الترتب.

وأورد على هذا الوجه بإنكار لزوم واجدية المهم للملاك حال المزاحمة إذ لا وجه له. اما توجيهه بان ذلك لأجل ثبوت الأمر بمجرد ارتفاع المزاحمة. فهو يندفع : بأنه قد عرفت ان طريق ثبوت الأمر الترتبي هو نفس دليل كل من

٤٣٢

الواجبين كما تقدم توضيحه. بل ادعى انه بناء على انه لا طريق لإحراز الملاك سوى الأمر يمتنع توقف الترتب على وجود الملاك حال المزاحمة لاستلزامه الدور ، لأن تعلق الأمر يتوقف على ثبوت الملاك وثبوت الملاك يتوقف على تعلق الأمر فيلزم الدور (١).

ولا يخفى انه قدس‌سره وان اقتصر في بعض كلماته على توجيه المقام بما عرفت ، لكنه ذكر في موضع آخر ما يمكن توجيه المقام به بنحو لا يرد عليه ما عرفت.

بيان ذلك : ان الواجب إذا أخذ في موضوع وجوبه القدرة ، فيراد بها القدرة العرفية ـ كسائر ما يؤخذ في موضوع الحكم في لسان الدليل ، فانه يراد به المعنى العرفي ـ. ومن الواضح انه إذا ورد المنع الشرعي عن الفعل لا يكون مقدورا عرفا ، وان كان مقدورا عقلا ، إذ القدرة العرفية هي التمكن على الشيء من دون مشقة ودون منع شرعي. وعليه يكون المنع الشرعي رافعا لموضوع الوجوب فلا يثبت.

وبما ان أحد الواجبين المتزاحمين ـ فيما نحن فيه ـ يكون مقيدا بالقدرة شرعا ، وهو الوضوء عند تزاحمه بوجوب حفظ النّفس المحترمة ، كان وجوب الآخر المطلق رافعا لموضوعه ونافيا له بذلك ، فلا يبقى موضوع الحكم المقيد عند وجود الوجوب الآخر كي يدعى التمسك بالإطلاق في إثباته حال العصيان لوجود الوجوب الآخر.

فملخص البيانين : ان ثبوت الأمر بالمهم في حال العصيان اما ان يكون بالملاك أو بالإطلاق وكلاهما منتف.

لعدم الملاك بعد ارتفاع موضوعه.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٧٢ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٣

وتوقف شمول الإطلاق على إحراز الموضوع. وهو منتف لأن الأمر بوجوده مانع عن القدرة عرفا.

وقد وقع هذا البيان ـ أعني الثاني ـ موقع الإشكال ، ومحصله : ان الأمر بأحدهما المطلق لا يكون مانعا عن القدرة على الآخر المقيد بها بوجوده ، بل انما يكون مانعا إذا وصل إلى مرحلة الداعوية والتأثير ، وهي منتفية في حال العصيان ، فيكون الموضوع حال العصيان موجودا ، فيشمله الإطلاق بناء على الترتب فلا مانع من الالتزام بالترتب هاهنا.

ولكنه يمكن المناقشة فيه ومنع جريان الترتب في مثل الفرض وموافقة المحقق النائيني في ذلك. وذلك بتقريب : ان فرض الترتب يختلف عن هذا الفرض ، فان الترتب انما يفرض فيما إذا كان كل من الواجبين تام الموضوع بحيث يثبت وجوبه لو لا المزاحم ، فليس المحذور سوى تزاحم الوجوبين فيعالج بالترتب ، وليس الأمر كذلك في الفرض ، إذ ليس الموضوع تاما في كلا الوجوبين ، لأن وجود الأمر بنفسه يكون رافعا للقدرة العرفية ـ فيكون الأمر المطلق رافعا لموضوع الأمر المقيد بالقدرة ، فتكون نسبته إليه نسبة الوارد إلى المورود ـ فلا يقال عرفا لمن هو منهي عن العمل أنه قادر عليه وان كان عاصيا له بحيث لو أقدم يقال انه أقدم مع عدم تمكنه للنهي.

ويشهد لذلك : انه لو جاء بالتيمم قبل ان يصرف الماء في الواجب الآخر ـ أعني حفظ النّفس المحترمة ـ كان مشروعا ، ولا يلتزم أحد ببطلانه. وهذا يعني صدق عنوان غير الواجد للماء على المكلف ، فلو أريد تصحيح الوضوء والحال هذه ـ بالترتب ـ لزم ان يفرض تحقق عنوان الواجد كي يكون موضوعا للوجوب.

ومن الواضح ان صدق عنوان الواجد وغير الواجد في زمان واحد غير معقول.

٤٣٤

ولعل النكتة في توهم كون المقام كسائر موارد الترتب هو الخلط بين القدرة على متعلق الحكم والقدرة على استعمال الماء المفروض أنها موضوع وجوب الوضوء.

ويمكن ان يقرب عدم جريان الترتب في خصوص مسألة الوضوء بنحو آخر : وهو ان يقال ان موضوع وجوب التيمم غير الواجد. ومن الواضح ان الوضوء لا يكون واجبا في المورد الّذي يجب فيه التيمم ، سواء كان موضوعه الواجد أو لم يكن موضوعه ذلك. وعليه فبالأمر الشرعي باستعمال الماء في غير الوضوء يصدق عنوان غير الواجد فيثبت وجوب التيمم ، وبثبوته يثبت عدم وجوب الوضوء فالدليل الدال على لزوم استعمال الماء في سبيل حفظ النّفس المحترمة يكشف بالملازمة عن عدم وجوب الوضوء لإثباته وجوب التيمم بإثبات موضوعه ، والمفروض ان دليل وجوب الوضوء مقيد بمورد لا يثبت فيه وجوب التيمم ، فلا مزاحمة بين وجوب صرف الماء في سبيل حفظ النّفس المحترمة ووجوب الوضوء ، لأن دليله دال بالملازمة على نفي وجوب الوضوء ، فلا تصل النوبة إلى المزاحمة بين الوجوبين.

واعلم ان المستشكل على نفي الترتب في الفرض المذكور ذكر فيما لو تزاحم وجوب الحج مع وجوب أداء الدّين : انه لو كان المعتبر في موضوع وجوب الحج هو التمكن من أداء فريضة الحج كان وجوب الدّين رافعا لموضوعه ، فلا يجب الحجّ لارتفاع موضوعه ، كما انه لا مجال للترتب حينئذ. وان كان المعتبر في موضوع وجوب الحج هو التمكن من الزاد والراحلة فقط ، فيقع التزاحم بين الوجوبين ، لأن التمكن من الزاد والراحلة حاصل فعلا فيثبت موضوع وجوب الحج ويجري الترتب حينئذ. ثم اختار ان الأقوى الثاني لدلالة النصوص عليه.

وهذا الكلام غير واضح ، لأن التفرقة بين الصورتين غير وجيهة ، إذ المعتبر في كلتا الصورتين هو التمكن ، غاية الأمر انه معتبر بقول مطلق في إحداهما

٤٣٥

ومعتبر بخصوص نوع معين ـ وهو التمكن من الزاد والراحلة ـ في الأخرى. وعليه نقول : اما ان يؤخذ التمكن بالمعنى العقلي ، فالموضوع في كلا الفرضين ثابت. واما ان يؤخذ بالمعنى العرفي فهو في كليهما غير ثابت ، إذ مع وجوب أداء الدين لا تمكن عرفا من الزاد والراحلة. ثم لنا سؤال الفرق بين مثال الحج لو كان موضوع وجوبه التمكن على أداء الفريضة ، ومثال الوضوء المأخوذ في موضوعه وجدان الماء ، حيث التزم بعدم جريان الترتب في الأول وجريانه في الثاني ، مع ان نسبة الأمر الآخر إلى موضوع كل منهما على حد سواء في كلا الموردين ، فان كان الأمر بوجوده رافعا للموضوع لزم إنكار الترتب في مسألة الوضوء ، وان كان بداعويته رافعا للموضوع لزم إثبات الترتب في مسألة الحج. فالتفت ولا تغفل.

التنبيه الرابع : لا يخفى ان الترتب انما يجري فيما إذا تعلق الأمران بالضدين اللذين لهما ثالث ، كالصلاة وإزالة النجاسة وكإنقاذ غريقين. اما إذا تعلق الأمران بالضدين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فلا يتأتى الترتب بينهما ، لأن ترك أو عصيان أحدهما يتحقق بفعل الآخر فلا معنى لتعلق الأمر به في ذلك الحال.

وهذا الأمر كبرويا واضح لا غبار عليه ولا شبهة فيه. وانما الإشكال في بعض الموارد التي وقع الخلاف في أنها من صغريات ذلك أو لا؟ وذلك كمسألة ما إذا أخفت في موضوع الجهر وجهر في موضع الإخفات ، فانه قد ورد بان ذلك إذا كان عن جهل تقصيري كان عاصيا وصحت صلاته (١) ، فوقع الكلام في الجمع بين ثبوت العصيان وتعلق الأمر بما أتى به من الصلاة ، ويحقق الكلام في ذلك في مسألة البراءة والاشتغال.

__________________

(١) وسائل الشيعة باب ٢٦ من أبواب القراءة ، حديث : ١.

٤٣٦

وقد ذكر من جملة وجوه الجمع ما ذكره كاشف الغطاء رحمه‌الله من : تخريج هذا الحكم على الترتب ، فالتزم بان الأمر متعلق بالإخفات عند عصيان الأمر بالجهر (١).

ولهذه الجهة تعرضنا للبحث في هذه المسألة ، لكن بالمقدار المرتبط بمبحث الترتب دون سائر الجهات فان تحقيقها موكول إلى محله.

وعلى كل : فقد عرفت ان كاشف الغطاء أفاد ان المسألة من مصاديق الترتب.

وأورد عليه الشيخ في رسائله : بأنا لا نتعقل الترتب. واكتفي بهذا المقدار من البيان (٢).

وأورد المحقق النائيني على الشيخ : بالنقض فيما ذكره في مسألة تعارض الخبرين بناء على السببية من الالتزام بالترتب من الطرفين.

وقد تقدم منّا الدفاع عن الشيخ ، وبيان وجهة نظره في تلك المسألة بنحو لا يتنافى مع إنكاره الترتب في مثل ما نحن فيه فراجع (٣).

كما أورد المحقق النائيني رحمه‌الله على كاشف الغطاء بوجوه :

منها : ان المسألة ليست من مصاديق الترتب كي يدعى تقرره فيها ، لأن الجهر والإخفات عن الضدين اللذين لا ثالث لهما ، إذ القارئ لا يخلو عن أحدهما ، وقد ثبت ان الترتب لا يجري في الواجبين المتضادين اللذين لا ثالث لهما لامتناعه (٤).

وأورد عليه في المحاضرات : بان متعلق الأمر ليس هو الجهر أو الإخفات ،

__________________

(١) كاشف الغطاء الشيخ محمد جعفر. كشف الغطاء ـ ٢٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٣٠٩ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٣٨ ـ الطبعة الأولى.

(٤) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣١١ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٧

بحيث يفرض في موضوع الأمرين هو القراءة كي لا يتخلف القارئ عن أحدهما ، بل متعلق الأمر هو القراءة الجهرية أو القراءة الإخفاتية. ومن الواضح انهما ليسا من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، إذ المكلف قادر على تركهما معا بترك أصل القراءة (١).

وهذا الإيراد غير متوجه ، إذ الفرض الّذي يبحث فيه في المقام فرض معين يقصد إثبات الأمر فيه ، وهو فرض تحقق القراءة الإخفاتية ، فالمأخوذ في الموضوع هو القارئ بنحو إخفاتي ، وليس الموضوع مطلق المكلف فيؤمر بالصلاة الجهرية والإخفاتية بنحو الترتب ، إذ لا يلتزم أحد بلزوم الصلاة الإخفاتية بمجرد ترك الجهرية ، كما لا يلتزم أحد بثبوت عقابين على ترك كلتا الصلاتين كما انه ليس الموضوع هو المصلي فيؤمر بالقراءة الجهرية والإخفاتية بنحو الترتب ، إذ لو ترك أصل القراءة في الصلاة لا يلتزم أحد بأنه مكلف بالقراءة الإخفاتية لتحقق موضوع الأمر بها. إذن فالكلام موضوعه القارئ الّذي قرأ إخفاتا بدل الجهر. ومن الواضح ان القارئ لا يخلو حاله عن أحد الوصفين كما اعترف به نفس المستشكل ، فهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما فلا يتأتى الترتب.

وبالجملة : المفروض هو الجاهل المقصر الّذي جاء بالقراءة الإخفاتية لا الّذي ترك القراءة الجهرية ، فقد أخذ في الفرض موضوعية القارئ إخفاتا لا تارك القراءة جهرا ـ فتدبر ـ وليس المقصود تطبيق الترتب بين القراءتين في سائر الصور كي يتأتى الإيراد المذكور.

ومنها : ان الأمر انما يصير فعليا بإحراز موضوعه وبدونه لا يكون فعليا كما لا يخفى. وعليه فإذا كان موضوعه مما لا يقبل الإحراز بان كان إحرازه

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ١٦٧ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٨

مساوقا لانعدامه لم يعقل ترتيب الحكم عليه للغوية جعله بعد ان كان بما لا يصل إلى مرحلة الفعلية ، ولأجل ذلك يمتنع أخذ النسيان والغفلة موضوعا لحكم من الأحكام ، لأن إحراز نسيان الشيء والالتفات إليه يلازم ارتفاع النسيان وانعدامه كما لا يخفى ، فلا يصل الحكم المرتب عليه إلى مرحلة الفعلية في حال من الأحوال فيكون جعله لغوا. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن العلم بعصيان الأمر بالجهر مساوق لارتفاع الجهل ومعرفة لزوم الجهر عليه فلا يتحقق منه العصيان ، فيمتنع تعليق الحكم على العصيان في الفرض لعدم صيرورته فعليا أصلا فيكون لغوا (١).

ويمكن المناقشة في هذا الوجه : بأنه انما يلزم ويتم لو كان المأخوذ في الأمر بالإخفات عصيان الأمر بالجهر. اما إذا أخذ في موضوعه ترك الجهر فلا يتم ما ذكر ، لإمكان العلم بترك الجهر والالتفات إليه مع الجهل بوجوبه فيكون الحكم فعليا.

وقد عرفت ان تقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم بلا ملزم ، بل يمكن تقييده بترك الأهم لارتفاع التزاحم به ، فليلتزم فيما نحن فيه بذلك.

وعليه ، فالإيراد الأول هو المتوجه دون الثاني. ونضيف إليه محذورا آخر في جريان الترتب ، وهو : ان عصيان الأمر بالجهر أو تركه لا يكون في الفرض إلاّ بالإتيان بالإخفات. وعليه فيمتنع ان يتعلق به الأمر معلقا على عصيان الأمر بالجهر أو تركه ، لكون المفروض ان العصيان معلول القراءة الإخفاتية ، فكيف تتفرع القراءة الإخفاتية على العصيان لتفرع الأمر بها عليه وهي متفرعة على الأمر؟!.

بيان ذلك : ان توجيه صحة الصلاة الإخفاتية مع تحقق العصيان انما

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٣١١ ـ الطبعة الأولى.

٤٣٩

يكون ببيان ان الصلاة الإخفاتية تفي بمقدار من المصلحة الملزمة بنحو لا مجال حينئذ لتدارك الباقي من مصلحة الجهر مع لزومه ، وإلاّ فيؤمر بالجهر حينئذ ، فالحال فيهما نظير أكل الشخص المأمور بالأكل الجيّد ، للنوع الرديء الموجب للشبع فلا يبقى معه مجال للأكل الجيد فيسقط الأمر به مع مؤاخذته لتفويته مصلحة الجيد الملزمة.

وعليه ، فثبوت الأمر بالإخفات انما يكون في الفرض الّذي لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة الجهر ، وإلاّ فيؤمر به لا بالإخفات. وليس ذلك إلاّ حال الإتيان بالإخفات ، إذ قبل الإتيان به إما ان يترك الجهر آناً ما أو يترك الصلاة بالمرة إلى آخر الوقت. اما تركه الجهر في بعض الوقت فلا يكون موضوعا لوجوب الإخفات ، إذ لا يلتزم أحد بأنه متى ما أخر المكلف صلاته الجهرية عن أول الوقت كلف بالإخفات ، كما انه لا معنى للأمر به مع إمكان استيفاء مصلحة الجهر. واما لو ترك الصلاة بالمرة فكذلك لا يكون مكلفا بالصلاة الإخفاتية لخروج الوقت ولا يكشف ذلك عنه ، فموضوع الأمر بالإخفات هو الترك أو العصيان المساوق لاستيفاء بعض المصلحة وعدم إمكان استيفاء الباقي منها ، وذلك لا يكون إلا بالإتيان بالصلاة إخفاتا. فيلزم ان يعلق الأمر بالشيء على الترك المتحقق بذلك الشيء وهو مما لا إشكال بامتناعه. ومن الواضح ان هذا المحذور لا يبتني على ان يكون الجهر والإخفات من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، إذ هو يتأتى حتى بناء على ان الأمر يتعلق بالقراءة الجهرية والإخفاتية ، أو بالصلاة الجهرية والإخفاتية ، لأنه ينشأ من تقييد الأمر بالإخفات بالترك الخاصّ لا بمطلق الترك. فالتفت.

التنبيه الخامس : لا يخفى ان الترتب انما يجري لرفع محذور التزاحم بين الحكمين ، فلو كان في اجتماع الحكمين محذور آخر غير التزاحم فلا يرفعه الترتب ، كما لو لزم من اجتماع الحكمين اجتماع الضدين في شيء واحد. مثاله :

٤٤٠