منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

بالشرط المتأخر والواجب التعليقي وكلاهما باطلان.

ثانيهما : ان الأمر بالمهم إذا كان مترتبا على عصيان الأهم فلا يثبت إلا بعد تحقق العصيان ومضي زمان امتثال الأمر بالأهم ، فيكون حدوث الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر بالأهم ، لتأخر الأمر بالمهم عن عصيان الأهم ، فلا يلزم اجتماع الأمرين في زمان واحد ، وهذا خلف فرض الترتب لأنه لتصحيح اجتماع الأمرين في زمان واحد.

وهذا الإشكال وان لم يذكره بهذا الترتيب ، بل ذكره بنحو التشقيق ، إلاّ ان الّذي يعنينا أمره هذا المقدار.

وعلى كل ، فقد أجاب عن الإشكال الأول بوجهين :

أحدهما : انه قد يتبين بالمقدمة المذكورة ان زمان الامتثال لا ينفك ولا يتأخر عن زمان الخطاب ، فزمان الخطاب بالمهم وزمان امتثاله وزمان عصيان الأمر بالأهم متحد.

ثانيهما : انه إشكال لا يختص بمسألة الترتب ، بل يعم جميع الواجبات ، فما يتفصى به عن المحذور فيها يتفصى به عنه فيما نحن فيه.

وأجاب عن الإشكال الثاني : بان الالتزام بتأخر خطاب المهم عن العصيان زمانا يبتني على القول بلزوم تأخر الحكم عن شرطه. واما على التحقيق من مقارنة الخطاب بشرطه ، فيكون الأمر بالمهم في زمان عصيان الأهم ، وهو زمان الأمر بالأهم ـ لما عرفت من اتحاد زمان الأمر وزمان عصيانه أو امتثاله ـ ، فيجتمع الأمران في زمان واحد.

ثم بين غرابة التزام الشيخ رحمه‌الله بلزوم تأخر الخطاب بالمهم عن العصيان ـ في المقام ـ ، مع انه لا يقول بذلك في مطلق الشرائط.

مع انه لا يعقل الفرق بين ما نحن فيه وبين سائر الشرائط.

٤٠١

هذا خلاصة ما حرره في المقدمة الثالثة (١).

وهو لا يخلو عن إشكال. بيان ذلك : ان المستشكل على الترتب باستلزامه الشرط المتأخر ، وانه يبتني على القول بإمكانه أخذ جهة انفصال الخطاب عن امتثاله زمانا امرا مفروغا عنه ومما لا بد منه ، وعليه فرع الإشكال المذكور ، فالالتزام بالواجب المعلق عند المستشكل أمر مسلم وانما الإشكال من جهة ابتناء إمكان الترتب على الالتزام بالشرط المتأخر.

وعليه ، فتحرير الإشكال بالنحو الأول الوارد في كلام المحقق النائيني ليس تحريرا علميا صحيحا ، فانه أخذ انتهاء القول بالترتب إلى الالتزام بالواجب التعليقي محذورا كانتهائه إلى الالتزام بالشرط المتأخر ، وأورد عليه بسراية هذا الإشكال إلى جميع الواجبات ، وقد عرفت انه ليس محذورا في نظر المستشكل بل هو أمر مفروغ عنه في محله ، وانما هو مبنى الإشكال بالشرط المتأخر ، فليس استشكاله من جهة استلزام الترتب للقول بالواجب التعليقي ، لأنه يقول به بل استشكاله من جهة استلزامه الترتب للشرط المتأخر فيمتنع عند من يقول به وذلك بتقريبين :

الأول : ان عصيان الأمر بالأهم كامتثاله منفصل زمانا عنه ، فإذا رتب الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم لزم ان يكون الأمر بالمهم في غير زمان الأمر بالأهم لفرض انفصاله عن عصيانه زمانا. فلا بد ان يؤخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يكون الأمر بالمهم سابقا عليه زمانا ، فيجتمع الأمران في زمان واحد الّذي هو محط نظر دعوى الترتب.

الثاني : ان زمان الامتثال إذا كان متأخرا عن زمان الأمر ، فالامر بالمهم متعلق بفعل متأخر زمانا ، ففي حال وجود الأمرين ـ أعني حال العصيان الّذي

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٨٨ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٢

هو شرط المهم ـ لا مزاحمة ، لعدم محركية المهم لمتعلقه في تلك الحال ، وبعد العصيان يسقط الأمر بالأهم ، فيكون الأمر بالمهم وحده من دون مزاحم ، وهذا خلف الترتب ، فلا بد من أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يكون الأمر سابقا عليه ، فيكون محركا نحو متعلقه في حال وجود الأمر بالأهم.

فالقول بالترتب لا يصح ما لم يلتزم بأخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر على القول بكون الواجبات تعليقية ـ ولأجل ذلك ذكر صاحب الكفاية شرطية العصيان بنحو الشرط المتأخر ، بنحو كأنه مفروغ عنه لو سلم شرطيته فلاحظ عبارته (١) ـ.

ويشهد لما ذكرناه ـ مضافا إلى اعتراف المحقق المزبور به ، والتصريح بان هذين الإشكالين يردان ممن يلتزم بلزوم تقدير آن ما بين الحكم وامتثاله ـ ان الإشكال بالشرط المتأخر على الترتب بالنحو الّذي عرفته وبالنحو الّذي ذكره هو لا يتأتى إلا على هذا التقدير ، فلو لم يلتزم بلزوم الفصل الزماني بين الحكم وامتثاله لم يكن الترتب مبتنيا على القول بالشرط المتأخر ، كي تبتني صحته على صحة الشرط المتأخر.

وبالجملة : فما ذكره في تحرير الإشكال والجواب عنه ليس نحوا علميا.

وخلاصة الجواب عن الإشكال المذكور بتقريبيه هو : إنكار مبنى الإشكال وهو ضرورة انفكاك الحكم عن متعلقه زمانا التي ادعاها صاحب الكفاية في مبحث الواجب المعلق فينحل الإشكال المزبور.

وكما يرد ما عرفت على هذه الجهة من كلامه يرد على ما أفاده في الجواب عن الإشكال الثاني الّذي ذكره من انه يبتني على القول بلزوم انفكاك الحكم عن شرطه ، بان الالتزام بلزوم انفكاك الحكم عن شرطه ولزوم تقدم الشرط على

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٠٣

الحكم زمانا مما لا يقول به أحد ، فانه يرجع إلى إنكار الشرط المقارن وإرجاع جميع الشروط إلى الشرط المتقدم ، وهذا مما لا يظن التزام أحد به ، كيف؟ والمفروض ان الإشكال انما هو في تقدم الشرط وتأخره لا في مقارنته ، فنسبة هذا القول إلى أحد عجيبة جدا ، وأعجب منها نسبتها إلى الشيخ الأنصاري قدس‌سره كما يظهر من استشكاله عليه في التزامه بلزوم تقدم العصيان على الحكم بالمهم بان ملاكه موجود في جميع الشروط فلا وجه للتفكيك بين الشرائط ، مما يكشف عن كون ملاكه أمر سار في جميع الشرائط ، وليس هو إلاّ دعوى لزوم انفكاك الشرط عن المشروط زمانا وضرورة تقدمه عليه.

وخلاصة ما تقدم : ان كلام المحقق النائيني في هذا المقام خال عن التنقيح ولا يخلو عن بعض خلط.

واما الإيراد على صحة الترتب وانه يبتني على الشرط المتأخر : بان تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأهم يستلزم ثبوت الأمر بالمهم في حال عصيان الأمر بالأهم ، وهو حال سقوطه ، لأن العصيان علة لسقوط الأمر ، فلا يجتمع الأمران في زمان واحد ، إذ العصيان كما يكون علة لثبوت الأمر بالمهم يكون علة لسقوط الأمر بالأهم ، فلا بد من أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يسبقه الأمر بالمهم فيجتمع الأمران في زمان واحد.

فقد تعرض له المحقق النائيني وأشار إلى جوابه (١).

وتحقيق الكلام في جوابه ـ كما أوضحه الأصفهاني ـ هو : انه لا إشكال في ان العصيان سبب لسقوط الأمر وارتفاعه ، وإلاّ لم يتحقق العصيان كما في ترك الواجب الموسع في أول وقته. كما انه لا إشكال في ان تحقق العصيان يلزم وجود الأمر في حاله كي يضاف إليه العصيان والمخالفة ، وإلا فلا موضوع للعصيان كي

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٩١ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٤

يقال أنه عصى الأمر إذ لا امر. فهو نظير امتثال الأمر في لزوم ثبوت الأمر في حاله ، وإلاّ فلا موضوع للامتثال.

والجمع بين هذين الأمرين البديهيين وهما سببية العصيان للسقوط وضرورة وجود الأمر حال العصيان هو ان يقال : ان سقوط الأمر بالعصيان المتحقق الّذي لا يصدق ـ أعني العصيان المتحقق ـ إلا بمضي آن ما عن زمان الامتثال ، والأمر انما يثبت في الحال الّذي يتحقق فيه العصيان.

وتوضيح ذلك : انه في الآن الّذي يتحقق فيه العصيان والمخالفة يكون الأمر ثابتا وهو آن الامتثال ، وبمضيّ آن ما على ذلك الحال وزمان الامتثال يسقط الأمر لعدم إمكان امتثاله ، فمثلا في الآن الأول من النهار يكون الأمر بالإمساك ثابتا ، فإذا لم يمسك المكلف ومضي ذلك الآن فقد مضى زمان الامتثال فيسقط الأمر في الآن اللاحق لآن الامتثال.

فان شئت قلت : المسقط للأمر هو مضي زمان الامتثال ولو آناً ما ، أو المسقط له هو العصيان المتحقق ، وقد عرفت عدم تحقق هذا العنوان الا بمضي آن ما من زمان الامتثال. فمن يقول بان العصيان مسقط للأمر غرضه هذا المعنى ، لا انه حال العصيان يسقط الأمر ، فان ذلك محال كما عرفت.

وعليه ، ففي حال العصيان يكون الأمر بالأهم ثابتا ، فيجتمع مع الأمر بالمهم زمانا لثبوته في ذلك الحال أيضا ، وبعد مضي زمان العصيان والامتثال يسقط الأمر بالأهم فلا يكون زمان ثبوت الأمر بالمهم هو زمان سقوط الأمر بالأهم. فتدبر (١).

ثم انه قد اتضح ان مهمة هذه المقدمة ليست إلا دفع بعض الإشكالات على الترتب ، فليست هي من مقدمات تصحيح الترتب وبيان صحته من الجهة

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٣١ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٥

المقصودة من الترتب ، وهي رفع محذور اجتماع الأمرين بالضدين في زمن واحد.

فجعلها من مقدمات الترتب لا يخلو عن مسامحة. واعلم ان السيد الخوئي ذكر جهتين :

إحداهما : ان القول بإمكان الترتب وعدمه لا يبتني على القول بإمكان الواجب المعلق وعدمه ، لأن ملاك أحدهما يختلف عن ملاك الآخر ولا يرتبط به ، فيمكن القول بالترتب على القولين في الواجب المعلق.

ثانيتهما : بيان ان إمكان الترتب لا يتوقف على القول باستحالة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، فمع القول بإمكانهما لا يكون الترتب ممكنا (١).

ولا يخفى ما في كلتا الجهتين :

اما الأولى : فالإشكال فيها من وجهين :

الأول : ان أساس الإشكال في الترتب في فرض أخذ العصيان شرطا هو انتهاؤه إلى الالتزام بالشرط المتأخر لا الواجب المعلق ، فانه قد عرفت أخذه مفروغا عنه في مقام الإشكال ، فإغفال الإشكال في الترتب من جهة الشرط المتأخر وقصر النّظر على خصوص جهة الواجب المعلق فيه نحو من المسامحة.

الثاني : ان الاستشكال في الترتب باستلزامه الشرط المتأخر أو الواجب المعلق ليس استشكالا عليه بقول مطلق وبجميع صوره ، بل على خصوص صورة أخذ العصيان شرطا دون البناء على العصيان أو نفس الترك ، فلا يتخيل أحد بان الترتب بجميع صوره يترتب على إمكان الواجب المعلق ، حتى يدفع ذلك ويبين ان الترتب بقول مطلق لا يرتبط بالواجب المعلق إمكانا واستحالة. فتدبر.

واما الثانية : فوجه الغرابة فيها هو انه لم نعهد من يدعي أو يتخيل توقف

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ١٠٩ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٦

القول بالترتب على القول باستحالة الشرط المتأخر والواجب المعلق ، فالتعرض لهذا التخيل ودفعه خارج عن حدود البحث العلمي فانه تطويل بلا طائل.

واما الوجه الّذي ذكره للتخيل المزبور : فهو وجه واضح الإشكال لأول وهلة ، وليس له صورة برهان قوية بحيث يولد هذه الشبهة لدى البعض ، فلاحظه في تقريرات الفياض تعرف ما قلناه.

ثم أنه تعرض في بعض كلماته إلى ما يقال : من تأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم برتبتين ، لأن الأمر بالمهم متأخر عن عصيان الأمر بالأهم لأنه شرطه ، وهو ـ أي العصيان ـ متأخر رتبة عن نفس الأمر بالأهم ، فيتأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بمرتبتين.

وناقشه : بان التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع منوط بملاك كامن في صميم ذات المتقدم أو المتأخر ، وليس امرا خارجا عن ذاته ، ولذا يختص هذا التقدم أو التأخر بما فيه ملاكهما فلا يسري منه إلى ما هو متحد معه في الرتبة فضلا عن غيره ، ولذا قلنا بتقدم العلة على المعلول لوجود ملاك التقدم فيها ، واما عدمها فلا يتقدم عليه مع أنه في مرتبتها. وعلى هذا الضوء ففيما نحن فيه وان كان الأمر بالأهم مقدما على عصيانه بملاك أنه علة له ، إلا انه لا يوجب تقدم على الأمر بالمهم لانتفاء ملاكه. « انتهى » (١).

وأنت خبير بان ما ذكره لا يرجع إلى محصل ، فان الملاك الّذي يذكر للتقدم والتأخر الطبعي موجود في الأمر بالمهم والأمر بالأهم ، وهو ان لا يوجد المتأخر إلا والمتقدم موجود ولا عكس ، فان الأمر بالمهم لا يوجد إلا والأمر بالأهم موجود ولا عكس. فيكون الأمر بالأهم متقدما رتبة قهرا.

وببيان آخر : ان الأمر بالأهم إذا كان علة للعصيان وكان العصيان علة

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ١١١ ـ الطبعة الأولى.

٤٠٧

للأمر بالمهم لأنه موضوعه أو شرطه ، كان الأمر بالأهم علة العلة. ومن الواضح ان علة العلة متقدمة على المعلول رتبة وتقدمها برتبتين. فان الوجه الّذي يوجّه به التقدم برتبة أو برتبتين في سائر الموارد ويتلقى بالقبول ليس إلا مثيل هذا الوجه الّذي وجه به التقدم برتبتين فيما نحن فيه. فتدبر جيدا. وهذا الأمر الّذي تعرضنا إليه وان كان أجنبيا عن هذه المقدمة ، لكن رأينا التعرض إليه إتماما للفائدة وتنبيها على بعض موارد التسامح في هذه الكلمات.

المقدمة الرابعة : ـ وهي أهم مقدمات الترتب وأساسه الّذي يرتكز عليه ـ ومحصلها بتوضيح : ان ثبوت التكليف وانحفاظه في تقدير من التقديرات يكون بأحد طرق ثلاثة :

الأول : ان يكون مشروطا بوجوده أو مطلقا بالإضافة إليه ، كثبوت التكليف بوجود إكرام العالم في ظرف العدالة ، لأجل أخذها في موضوعه أو أخذ الموضوع مطلق العالم الشامل للعادل.

وهذا انما يتصور في الانقسامات السابقة على الخطاب ، بمعنى الثابتة من دون ثبوت الخطاب والحكم.

ويكون كل من التقييد والإطلاق فيها لحاظيا. لأن الحكم إما ان يلحظ بالإضافة إليها مقيدا أو مطلقا.

الثاني : ان يكون الحكم مشروطا بوجوده أو مطلقا بالإضافة إليه ، ولكن لا بالإطلاق أو التقييد اللحاظيين ، بل بنتيجة الإطلاق والتقييد ، وهذا انما يكون في الانقسامات اللاحقة وهي المتفرعة في ثبوت على ثبوت الحكم كالعلم والجهل بالحكم ، فانه يمتنع فيها التقييد اللحاظي لامتناع تقييد ثبوت الحكم بالعلم به ، لأن لحاظ العلم به فرع ثبوت الحكم فلا يتفرع ثبوت الحكم عليه ، إلا ان الغرض إذا فرض تقيده بصورة العلم بالحكم ، فيعلم بواسطة الدليل الخارجي ، كما ثبت من الأدلة انحفاظ الخطابات في حال العلم والجهل في غير الجهر

٤٠٨

والإخفات والقصر والإتمام ، واما في موردهما فالخطاب غير محفوظ في ظرف الجهل. فنفس الخطاب المثبت للحكم يمتنع ان يقيد بالتقييد اللحاظي بالانقسامات اللاحقة للحكم. نعم يقيد بدليل آخر بذلك المعبّر عنه بمتمم الجعل. ويصطلح على هذا الإطلاق بالإطلاق الذاتي والملاكي في قبال الإطلاق اللحاظي.

الثالث : ان يكون منشأ انحفاظ الحكم في التقدير هو نفس الحكم ، لاقتضائه وضع هذا التقدير أو رفعه ، فيكون محفوظا في كلتا الصورتين لا محالة ، وهذا كما في كل خطاب بالنسبة إلى وجود متعلقه وعدمه. فان الإطلاق والتقييد بقسميهما ـ يعني الذاتي واللحاظي ـ مستحيلان بالنسبة إلى تقدير وجود المتعلق وعدمه.

اما استحالة التقييد اللحاظي ، فلان وجوب الفعل بقيد وجوده يستلزم اختصاص وجوبه بصورة وجوده ، وهو يستلزم طلب الحاصل ، ووجوبه بقيد عدمه يستلزم اختصاص وجوبه بصورة عدمه وهو طلب المحال ، لأن تحقق الفعل في ظرف الترك محال لانتهائه إلى اجتماع النقيضين. وإذا ثبت امتناع التقييد ثبت امتناع الإطلاق ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

واما استحالة التقييد الذاتي ، فلما تقدم أيضا.

ومنه يعلم استحالة الإطلاق الذاتي ، لأن الإطلاق في قوة التصريح بكلا التقديرين ، فيلزم منه طلب المحال والحاصل.

وعليه ، فلا وجه لدعوى ان انقسام المكلف إلى المطيع والعاصي من الانقسامات اللاحقة ، فيثبت الإطلاق بالإضافة إليها بنتيجة الإطلاق.

وذلك لأن المفروض إثبات انحفاظ الحكم في تقدير الفعل والترك اللذين هما منشأ الإطاعة والمعصية. ومن الواضح ان تقدير الفعل والترك ليس من الانقسامات اللاحقة ، لأنه يمكن لحاظ الفعل والترك حال الأمر ، بل لا بد من

٤٠٩

لحاظهما كي يكون الأمر بعثا نحو الفعل وزجرا عن الترك ، فليس منشأ عدم الإطلاق اللحاظي هو عدم إمكان لحاظهما كي يقال بثبوت نتيجته ، بل منشؤه محذور آخر ثابت في كلا القسمين من الإطلاق والتقييد.

ويظهر مما بيناه : ان انحفاظ الحكم في القسم الثالث من جهة انه من لوازم ذاته ، فان ثبوت الحكم وتعلقه بشيء يقتضي وضع تقدير وهدم تقدير آخر ، فالوجوب يقتضي وضع تقدير الوجود وهدم تقدير العدم والتحريم بعكسه. واما انحفاظ الحكم في القسمين الأولين فهو من جهة التقييد بالتقدير أو الإطلاق بالإضافة إليه ، وإلاّ فذات الحكم لا يقتضي انحفاظه في ذاك التقدير.

وبذلك يحصل الفرق بين انحفاظ الحكم في القسم الثالث وانحفاظه في القسمين الأولين من جهتين :

الأولى : ان نسبة الحكم إلى التقدير في القسمين الأولين نسبة المعلول إلى العلة ، لأن تقييد الحكم بأمر مرجعه إلى أخذه في موضوعه ، وقد ثبت ان نسبة الموضوع إلى حكمه من سنخ نسبة العلة إلى معلولها ، هذا في صورة التقييد.

واما في صورة الإطلاق ، فلأنه في رتبة التقييد ، فإذا كانت مرتبة التقييد مرتبة العلية كانت مرتبة الإطلاق كذلك. واما نسبة الحكم إلى التقدير في القسم الثالث ، فهي نسبة العلة إلى المعلول ، لأن الخطاب له نحو علية بالإضافة إلى الامتثال ، لأنه يقتضي وضع أحد التقديرين وهدم الآخر ، فتكون نسبته إلى التقدير المحفوظ فيه نسبة العلية.

الثانية : ان الحكم في القسمين الأولين لا يكون متعرضا لحال التقدير وضعا ولا رفعا ، لأن نسبته إليه نسبة الموضوع إلى الحكم. ومن الواضح ان الحكم لا يكون متعرضا لحال موضوعه ، بل هو مترتب على وجوده. بخلاف الحكم في القسم الثالث ، فانه متعرض لحال التقدير المحفوظ فيه وضعا ورفعا ، فانه يقتضي وضع تقدير وهدم آخر.

٤١٠

وعلى ضوء هذا البيان يتضح : عدم التنافي والتزاحم بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم المقيد بالعصيان ، وذلك فان الأمر بالأهم محفوظ في تقدير عصيانه لاقتضائه هدمه ، إلاّ انه لا يتعرض لأكثر من هدم تقدير العصيان من دون ان يكون له نظر على تقدير ثبوت هذا التقدير.

والأمر بالمهم لا يتعرض لحال هذا التقدير ، لأنه مأخوذ في موضوعه ، وقد عرفت استحالة تعرض الحكم لحال موضوعه ، نعم هو يقتضي إيجاد متعلقه على تقدير العصيان. فالامر بالمهم لا يترقى ويصعد إلى مرتبة الأهم ويكون فيه اقتضاء لموضوعه ، والأمر بالأهم لا يتنزل ويقتضي شيئا ما وراء رفع موضوع الأمر بالمهم حتى يكون في عرض المهم ، فالخطابان وان كانا محفوظين في ظرف العصيان ، إلاّ انهما لا يتمانعان لأنهما في مرتبتين طوليتين.

هذا توضيح ما جاء في أجود التقريرات لبيان هذه المقدمة (١).

وقد أشرنا إلى ان على هذه المقدمة يرتكز الترتب وينهض القول به.

إلاّ ان هذا المقدار والنحو من البيان لا يفي بما هو الغرض الأساسي والنكتة الأصلية منه ، بل ظاهره لا يخلو عن إيرادات ، ولذا تناولتها أقلام الأعلام فأورد عليها :

أولا : بأنّ امتناع التقييد لا يستلزم امتناع الإطلاق ، بل يستلزم ضرورته ، لأن التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب لا العدم والملكة (٢).

وثانيا : بان كون الإطلاق في مرتبة التقييد لا يقتضي تأخر الحكم عما يكون مطلقا بالنسبة إليه ، كما كان يقتضي ذلك تقييد الحكم ، فان التقديم والتأخير لا يكون إلا بملاك ، وملاك التأخر في التقييد والحكم موجود. واما في

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٩٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ١١٤ ـ الطبعة الأولى.

٤١١

الإطلاق ـ المفروض كونه في مرتبة التقييد ـ والحكم فلا. فان العلة متقدمة رتبة على المعلول. واما عدم العلة فهو وان كان في رتبة العلة فلا موجب لتقدمه على المعلول.

وثالثا : بان نسبة الحكم إلى العصيان ليست نسبة العلة إلى المعلول كما هو واضح ، بل نسبة المعروض إلى العارض ، لأن العصيان يضاف إلى الأمر فيقال عصيان الأمر فهو مترتب عليه ومتقدم به ، لكن بنحو تقدم العارض بالمعروض لا المعلول بالعلة ، فيختلف العصيان عن الامتثال في ذلك.

ورابعا : بالعجب عن إهماله الإطلاق والتقييد في متعلق الحكم ، وقصر الكلام في الإطلاق والتقييد في موضوعه ، مع تأتي ما ذكر من الإطلاق الذاتي واللحاظي في المتعلق كما يتأتى في الموضوع (١).

وخامسا : بان الأساس الّذي من أجله يلتزم بالترتب هو ارتفاع طلب الجمع بين الضدين بالترتب وهذا لا يتم بالبيان المذكور.

بهذه الإيرادات التي نقلناها بنحو مختصر جدا أورد على البيان السابق.

ولكن أعود فأكرر : ان هذه المقدمة هي الأساس الّذي يبتنى عليه الترتب وما ذكره المحقق الأصفهاني في تصحيحه نستطيع ان نقول انه مستقى منه كما سيتضح. إلاّ ان المنشأ الّذي سبب توجه هذه الإيرادات هو عدم أداء النكتة الأساسية المقصودة بيانها في مثل البيان السابق ، بل يضاف إلى هذه الإيرادات إيراد آخر وهو التنافي الظاهر بين دعوى عدم إطلاق الأمر بالنسبة إلى وجود متعلقه ، مع ان المطلوب به ليس إلا وجود الطبيعة والملحوظ في متعلقه هو وجودها. وهذا كغيره ناشئ من عدم التنبيه على الغرض الأصلي الّذي كان

__________________

(١) هذا الإيراد وتاليه للمحقق الأصفهاني ، وهما أكثر واقعية ومساسا بواقع المطلب من سوابقهما ، لأنها أشبه بالإيرادات اللفظية. هكذا تفضل سيدنا الأستاذ ( دام ظله ). فالتفت ( منه عفي عنه ).

٤١٢

المرحوم النائيني بصدد بيانه.

ولأجل ذلك يلزمنا توضيح المقصود وبيان روح المطلب وحذف ما أضيف إليها من زوائد. لكي يتضح لك صدق ما قلناه من ان الوجه الّذي يصحح به الترتب هو هذا البيان ، فنقول : ان المدعى هو ان الترتب يرفع التنافي بين الأمرين في مرحلة التأثير الفعلي والداعوية الفعلية ، فهو يتكفل منع اجتماع تأثيرهما في زمان واحد ، بمعنى أنه بالترتب يمتنع ان يفرض حصول تأثير كل منهما الفعلي في زمان واحد ، وان اجتمع كلاهما في زمان واحد ، وهذا المعنى الّذي يقتضيه الترتب ناشئ عن وجود خصوصية تكون حدا لتأثير أحدهما وبداية لتأثير الآخر. هذه الخصوصية هي العصيان بتعبير ، ومخالفة الأمر وعدم تأثيره بتعبير آخر ( وهو الّذي نواظب على تكراره ).

ووضوح ما ادعيناه يكون ببيان ان الأمر لا إطلاق له ولا تقييد بالنسبة إلى عدم مؤثريته ، سواء لوحظ الإطلاق أو التقييد في الموضوع أو في المتعلق ، وذلك لأن معنى التقييد في الموضوع هو ترتب الحكم على الخصوصية المأخوذة قيدا وأخذها مفروضة الوجود بحيث يكون ثبوت الحكم مرتبطا بتحقق تلك الحصة المقيدة ، واما الإطلاق في الموضوع فمرجعه إلى نفي دخالة الخصوصيات ، وهو يعني ثبوت الحكم بثبوت أي فرد من الافراد ، لتعليق الحكم فيه على نفس الطبيعة الموجودة في ضمن افرادها. والتقييد في المتعلق معناه تعلق الحكم بالحصة الخاصة وداعويته إليها بالخصوص فلا تتصف الطبيعة بالطلب إلاّ إذا كانت الخصوصية المأخوذة قيدا منضمة إليها ، والإطلاق فيه يعني نفي دخالة الخصوصية في مرحلة تعلق الحكم ، ومرجعه إلى ثبوت الحكم لكل فرد من افراد الطبيعة واتصاف كل فرد بالطلب.

وجملة القول : ان مرجع التقييد والإطلاق إلى التوسعة والتضييق في الموضوع الّذي يترتب عليه الحكم أو في المتعلق الّذي يرد عليه الحكم ويتصف

٤١٣

به.

وهما لا يتأتيان بالنسبة إلى خصوصية عدم مؤثرية الأمر ، فانه لا يتصور الإطلاق فيها ولا التقييد لا بلحاظ الموضوع ولا بلحاظ الحكم.

وذلك لأن مؤثرية الأمر وعدم مؤثريته من الأمور اللاحقة لتحقق الأمر والمتفرعة عليه ، بحيث لا يتصور وجودها من دون وجود الأمر ، ففي الظرف الّذي يفرض فيه وجود المؤثرية أو عدمها لا بد ان يفرض فيه وجود الأمر نفسه.

وعليه ، فيتضح الحال في نفي إمكان الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى عدم المؤثرية بوجهين.

الأول : ان عدم مؤثرية الأمر لا تفرض إلاّ بفرض وجود الأمر وتقومه بالمتعلق وتفرعه على الموضوع المفروض له ، فلا معنى لأن يؤخذ في متعلق الأمر أو موضوعه ، لأن فرضها مستلزم لفرض ثبوت الأمر ومتعلقه وموضوعه وتمامية هذه الجهة ، كما لا معنى لأن ينفي أخذه في متعلقه وموضوعه بالإطلاق ، لأن مرجعه إلى بيان ان متعلق الأمر أو موضوعه هو الطبيعة سواء انضم إليها عدم المؤثرية أو لم ينضم وقد عرفت انه لا معنى لذلك بعد فرض ثبوت المتعلق والموضوع للأمر كل بحده ، بفرض عدم مؤثرية الأمر. ـ وهذا الوجه عرفي وجداني ـ.

الثاني : ان عدم المؤثرية إذا كان متفرعا على الأمر ، فأخذه في متعلق الأمر ممتنع للزوم الخلف ، مع لزوم داعوية الشيء لداعوية نفسه ، لأن الأمر يدعو إلى ما تعلق به ، وذلك يساوق علية الشيء لعلية نفسه. كما يمتنع أخذه في موضوع الأمر ، لأن مرجعه إلى فرض تفرع وجود الأمر عليه وكون ثبوته منوطا به. وقد عرفت ان الأمر بالعكس. وهكذا الحال في الإطلاق في المتعلق والموضوع ، فان مرجع الإطلاق وان كان إلى نفي دخالة الخصوصية وكون الحكم مرتبا على الذات أو متعلقا بالذات انضم إليها القيد أو لم ينضم ، إلا انه بعد ان كان فرض عدم المؤثرية ملازم لفرض ثبوت الحكم كان ثبوت الحكم وتعلقه بالذات أو ترتبه

٤١٤

على ذات الموضوع في ظرف عدم المؤثرية امر معلوم لا يحتاج إلى بيان ، كي يتكفله الإطلاق ببيان عدم دخل أي خصوصية في المتعلق أو الموضوع ، فإطلاق الحكم بالنسبة إلى مؤثرية نفسه كإطلاقه بالنسبة إلى نفسه مما لا معنى له.

ويتضح من ذلك : ان الحكم في حال عصيان الأمر ومخالفته ثابت ، لكنه لا بالتقييد ولا بالإطلاق ، بل نفس فرض عصيان الأمر ملازم لفرض الأمر في ذلك الحال ، بل نستطيع ان نقول ان إطلاق الموضوع من جهة عدم مؤثرية الأمر غير معقول بعد فرض ان الحصة المقيدة به متفرعة على الأمر ، وذلك لأن معنى الإطلاق وان كان نفي تأثير الخصوصية إلا ان مرجعه إلى سراية الحكم إلى جميع الافراد ، فالإطلاق في الموضوع مرجعه إلى كون الحكم مترتبا على كل فرد فرد وان لم يكن لخصوصية فرديته ، بمعنى ان حصول أي فرد موجب لتحقق الحكم ، وقد عرفت انه لا معنى لأن يكون حصول الفرد المقيد بالعصيان موجبا لتحقق الأمر ، بل حصوله متفرع على تحقق الأمر ، فلا يتصور الإطلاق بالإضافة إلى هذا الفرد.

وبعبارة أخرى : ان الموضوع ـ بالإطلاق ـ وان كان هو ذات الطبيعة السارية في جميع افرادها. إلاّ ان من الواضح ان المأخوذ هو الذات التي يمكن فرض ترتب الحكم عليها ، فهي لا تشمل الذات المقيدة بعدم مؤثرية الأمر ، لأنها مما لا يمكن فرض ترتب الحكم عليها ، فهي ليست من افراد الموضوع ، فلا ينفع الإطلاق في إثبات تعلق الحكم على عدم مؤثريته.

وإذا تبين ذلك تعرف ما رمينا نحوه من تصحيح الترتب ، وذلك لأن المفروض ان الأمر بالمهم معلق على عصيان الأمر بالأهم ، فمرحلة داعويته انما هي بتحقق عصيان الأهم ، وظرف عصيان الأهم ظرف لانتهاء داعوية الأهم ، لما عرفت من عدم كونه ناظرا إلى عصيانه إطلاقا أو تقييدا ، ولا يتكفل أمرا وراء العصيان ومترتبا عليه ، فالعصيان نهاية داعوية الأهم وتأثيره ، كما انه ابتداء تأثير

٤١٥

المهم ، وبذلك لا تتحقق أي مزاحمة بين الأمرين في مقام الداعوية والتأثير ، فلا مانع من وجودهما في زمان واحد.

وقد أوضح المحقق الأصفهاني هذا المعنى ببيان مختصر. أجمع ، فأفاد قدس‌سره : بان التنافي بين الأمرين انما هو ناشئ من تزاحمهما في مقام المؤثرية الفعلية ، لأن كلا منهما يحاول التأثير الفعلي لإتيان متعلقه ، فان الغرض من الأمر هو ذلك ، والمفروض عدم القدرة على أكثر من واحد ، وبالترتب ترتفع هذه المنافاة وينتهي التزاحم في مقام الدعوة الفعلية بحيث لا يتصور فعلية دعوة أحدهما مع فعلية دعوة الآخر ، وذلك لأن الأمر بالمهم إذا علق على عصيان الأهم ، ففي فرض فعلية تأثير الأهم لا موضوع للأمر بالمهم فلا وجود له كي يتخيل مزاحمته للأهم. وفي فرض فعلية تأثير المهم يستحيل تصور مزاحمته لفعلية تأثير الأهم ومانعيته عنه ، لأن المفروض ان اقتضاء المهم منوط بعدم فعلية تأثير الأهم ، فكيف يتصور ان تكون فعلية تأثيره اللاحقة لاقتضائه مانعة عن فعلية تأثير الأهم؟.

وبالجملة : لا يتصور فعلية تأثير المهم مع وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير ، لأنه بوصوله إلى ذلك ترتفع فعلية تأثير المهم بارتفاع نفس الأمر ، فلا يعقل ان يصل كلا الأمرين الترتبيين إلى مرحلة الفعلية في التأثير في زمان واحد ، بل الفرض الّذي يصل فيه أحدهما ـ أيهما كان ـ إلى مرحلة الفعلية في التأثير مساوق لفرض عدم وصول الآخر إلى حد التأثير الفعلي ، وإذا تبين ارتفاع التزاحم في التأثير ظهر صحة الترتب ، إذ لا محذور في جعل كلا الأمرين ما لم ينته إلى التزاحم في التأثير الفعلي (١).

وهذا البيان وان كان يختلف بحسب الصورة عن البيان السابق الّذي

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٤٣ ـ الطبعة الأولى.

٤١٦

وجهنا به كلام المحقق النائيني ، لكنه في الحقيقة مستقى منه ومستوحى عنه.

والاختلاف بين المحققين في ان المحقق الأصفهاني فرض المحذور في اجتماع طلب الضدين هو التنافي بينهما في مرحلة تأثيرهما الفعلي ومحاولة كل منهما صرف القدرة إلى متعلقه ، وهو يرتفع بالترتب بالتقريب الّذي عرفته. واما المحقق النائيني فقد فرض المحذور هو طلب الجمع بين الضدين ، وجعل مصب كلامه نفي ذلك ، ولكن كلامه ـ على ما قربناه ـ لا يرتبط برفع هذا المحذور ، ولعله عدل عن ذلك أو ان نظره من أول الأمر إلى ما ينظر إليه المحقق الأصفهاني من ان طلب الجمع يعني تحقيق التزاحم بين الأمرين في مقام تأثيرهما الفعلي ، ولأجل ذلك أغفله بالمرة في هذه المقدمة.

وعلى أي حال فقد تحصل لدينا في تصحيح الترتب وجهان :

أحدهما : ما ذكرناه توجيها لكلام المحقق النائيني من ان داعوية كل منهما تفترق زمانا عن داعوية الآخر ، فداعوية الأهم محدودة بالعصيان لعدم نظر الأمر إلى ما وراء العصيان ، لأنه مما لا يقبل النّظر لا بالإطلاق ولا بالتقييد ، وداعوية المهم تبتدي بالعصيان لتعليقه عليه ، فأي تزاحم بين الأمرين حينئذ.

ثانيهما : ما ذكره المحقق الأصفهاني من ان الترتب يستلزم نفي فرض وصول كل من الأمرين إلى مرحلة التأثير الفعلي في ظرف واحد ، بل فرض فعلية تأثير أحدهما مساوق لفرض عدم وصول الآخر إلى حد التأثير الفعلي ، فيرتفع به أساس المحذور وهو التزاحم في مقام التأثير الفعلي. فانه انما يتصور لو فرض إمكان وصول كل منهما إلى حد التأثير الفعلي في زمان واحد.

وبكلا هذين الوجهين يرتفع إشكال صاحب الكفاية على الترتب : بان الأمر بالمهم وان كان لا يزاحم الأمر بالأهم لأنه في طوله ، لكنّ الأمر بالأهم بإطلاقه يطارد المهم ويزاحمه.

فانه يدفع : بان المقصود ان المحذور ان كان ناشئا عن إطلاق الأهم

٤١٧

بخصوصية ، فقد عرفت بالوجه الأول ان الأمر بالأهم لا إطلاق له بلحاظ ظرف العصيان. وان كان المقصود ان المحذور في ثبوت الأمر بالأهم في زمان المهم لاستلزامه مطاردته ومزاحمته في مرتبته ـ أي مرتبة المهم ـ فقد عرفت اندفاعه بالوجه الثاني ، فان الأمر بالأهم وان كان موجودا في زمان الأمر بالمهم ، إلاّ انه لا يزاحمه ، إذ المزاحمة انما تنشأ من فعلية تأثير كل من الأمرين. ومن الواضح انه مع فعلية تأثير الأهم لا تأثير للمهم ، فكيف يتصور وقوع التزاحم بينهما ، بعد تفرعه على وصول كل من الأمرين إلى حد التأثير الفعلي؟!.

وغريب من السيد الخوئي أمران :

أحدهما : ان يكرر في عباراته : طلب الجمع ، وبيان ارتفاعه بالترتب ، مع ما عرفت من إن المحذور ليس هو إلاّ الجمع بين التأثيرين الفعليين مع عدم ارتفاع طلب الجمع بالترتب ، لاجتماع الأمرين في زمان واحد.

ثانيهما : أن يكون قصده هو نفي مزاحمة المهم للأهم ، وليس في كلامه لنفي مزاحمة الأهم للمهم عين ولا أثر ، مع ما عرفت انهما عمدة إشكال الكفاية على الترتب. فانتبه.

واما ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه‌الله في باب تعارض الأمارتين من الالتزام ـ بناء على السببية ـ بالترتب من الجانبين ، فيجب الإتيان بمؤدى كل منهما عند ترك الآخر (١) ، وأورد عليه المحقق النائيني بما تقدم من أن استحالة الترتب من جانب واحد تستدعي استحالته من الجانبين بطريق أولى.

فيمكن ان يكون نظره إلى دفع محذور صاحب الكفاية حيث رآه صحيحا ، وهو لا يندفع إلاّ باشتراط الأمر بكل منهما بترك الآخر لارتفاع

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٣٨ ـ الطبعة الأولى.

٤١٨

المطاردة بينهما بذلك ، كما لا يطارد المهم الأهم ، وقد ذكرنا هذا التوجيه فيما تقدم. واما ارتباط ما ذكره الشيخ بالترتب ـ حيث ان ظاهره التخيير بين الضدين ـ فهو يظهر عند ترك كل من المتعلقين ، إذ لازمه اجتماع الأمرين في زمان واحد ، ولا محذور فيه بعد ان كان كل منهما مشروطا بترك متعلق الآخر لارتفاع المطاردة بينهما فلا مانع من اجتماعهما في ظرف واحد.

ومن العجيب ما نقل عن بعض من إنكاره ارتباط ما ذكره الشيخ بالترتب ورجوعه إلى التخيير بين الضدين ولزوم الإتيان بأحدهما ، وهو لا مساس له بالترتب. فان هذا ناشئ عن عدم التأمل في نظر الشيخ ومقصده.

ومما ينبغي ان ينتبه إليه ان الوجهين المزبورين المذكورين لتصحيح الترتب انما يرتبطان ببعض صور الترتب ، وهو تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم ومخالفته ، دون ما لو علق الأمر بالمهم على ترك الأهم ، إذ حديث عدم الإطلاق والتقييد بالإضافة إلى عدم مؤثرية الأمر وعصيانه أجنبي عنه بالمرة ، كما ان حديث عدم التزاحم بين تأثير الأمرين الفعلي لتعليق المهم على عدم فعلية تأثير الأهم لا يرتبط به كما لا يخفى.

ولأجل ذلك رأينا ان نسلك في تقريب الترتب وتصحيحه مسلكا آخر غير هذين المسلكين ، وان كان في الحقيقة مستقى منهما غير مبتكر.

وهو ان نقول : ان ارتفاع التزاحم في مقام التأثير الفعلي يتحقق بمجرد تعليق الأمر بأحدهما على عدم متعلق الآخر ، الملازم لصورة كون فعليه تأثير أحدهما في ظرف عدم تحقق متعلق الآخر ، فان الأمر إذا كان كذلك امتنع تحقق التزاحم بين الأمرين في مقام فعلية التأثير ، إذ مع فعلية الأمر بالأهم لا يتحقق ترك متعلقه فلا يثبت الأمر بالمهم لعدم موضوعه ، ومع فعلية تأثير الأمر بالمهم يمتنع ان تفرض فعلية تأثير الأمر بالأهم ، لأن فعلية تأثير المهم مرتبة على ترك

٤١٩

متعلق الأهم الملازم لعدم وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير ـ إذ لو أثر فعلا لتحقق المتعلق ـ ، فكيف يفرض في هذا الحال ـ أعنى حال الفعلية تأثير لمهم ـ وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير؟.

وبالجملة : ارتفاع التزاحم لا يتوقف على تعليق المهم على عدم مؤثرية الأهم الفعلية ، بل يتحقق ارتفاعه بتعليقه على عدم تحقق متعلق الأهم كما عرفت.

وعليه ، فيصح الترتب سواء علق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم أو على ترك متعلقه.

بهذه البيانات الثلاثة يصح الترتب في الجملة أو مطلقا.

وقد قرب المحقق العراقي صحة الترتب بوجه آخر يختلف عن الوجه الّذي ذكرناه ببياناته الثلاثة.

وإيضاحه ـ على ما ذكره المحقق الأصفهاني ـ : هو ان طلب وجود الشيء مرجعه إلى طلب طرد عدم الشيء من جميع الجهات التي يتحقق بها عدمه ، كعدم مقدماته ووجود أضداده ، فطلب البياض مرجعه إلى طلب طرد عدمه من جهة عدم مقدماته ، فيعني ذلك ان له اقتضاء وجودها ، ومن جهة وجود السواد ، فيعني ذلك ان له اقتضاء عدمه. ومن الواضح امتناع اجتماع طلب كل من الضدين لاستلزامه اجتماع المقتضيين المتنافيين في شيء واحد.

ولكن ذلك إذا أخذ الأمر بقول مطلق ، وقد تخرج إحدى جهات العدم عن حيّز الأمر بحيث لا يكون للأمر اقتضاء بالنسبة إليها ، كما لو أخذ المطلوب طرد العدم من جميع جهاته سوى جهة وجود الضد ، فانها أخذت من باب الاتفاق والمصادفة ، ففي الفرض لا يكون للأمر اقتضاء لعدم ضد متعلقه.

وعليه ، فتقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم يرفع التنافي بين

٤٢٠