منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

واما بالنسبة إلى الأمر الاضطراري بمركب آخر غير المركب المأمور به في حال الاختيار ، فلا يتكفل هذا التقريب بيان إجزاء الإتيان بالمأمور به عنه ، فلو فرض وجود مثل ذلك في الشرع لم يصح تطبيق هذا التقريب عليه ، واستنتاج إجزاء المأتي به الاضطراري عن الأمر الواقعي.

فان أساس ثبوت الإجزاء ـ على التقريب الّذي ذكرناه ـ هو إرجاع الفعل الاضطراري إلى كونه فردا للمأمور به الواقعي في عرض الفرد الاختياري ، فيكون مسقطا للأمر بلا كلام ، لإجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره. وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا تعدد الأمر كما لا يخفى. هذا كله بالنسبة إلى الإجزاء من حيث الإعادة.

واما الإجزاء من حيث القضاء الّذي عرفت ان محل الكلام فيه ما إذا أخذ الاضطرار تمام الوقت موضوعا للأمر الاضطراري ، إذ لا يتصور في المقام الإجزاء من حيث الإعادة ، لأن ارتفاع العذر في الأثناء يكشف عن عدم ثبوت الأمر الاضطراري.

ثم لا يخفى ان الكلام في الإجزاء من حيث القضاء إنما يقع في ما إذا كان مقتضى القاعدة الأولية ثبوت القضاء ، لقيام الدليل عليه. فيتكلم في أن الفعل الاضطراري يكفي عن القضاء أو لا يكفى ، إذ لو لم يثبت القضاء بدليل في نفسه لا معنى للبحث في إجزاء الفعل الاضطراري عنه وكفايته ، لعدم ثبوته. والبحث في الاجزاء والكفاية يقتضي ثبوت كلا الطرفين المجزي والمجزى عنه والكافي والمكفي.

وطريق معرفة ثبوت القضاء بقول مطلق في جميع الواجبات عند عدم الإتيان بما هو المأمور به الواقعي في الوقت. أحد وجوه :

الأول : ان يكون هناك إطلاق يقتضي وجوب الفعل مطلقا في الوقت وخارجه إلى آخر العمر ، ثم يأتي دليل منفصل يدل على التوقيت بوقت معين ،

٤١

ولكن يستكشف من مجموع الدليلين أو من دليل التوقيت ان التوقيت لا يرجع إلى أصل المطلوب بل إلى تمامه. وبعبارة أوضح : يفهم من قرينة داخلية أو خارجية ان التوقيت مأخوذ بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ، أو يرجع إلى دخالة الوقت في ملاك أقوى ملزم ، فإذا فات الفعل في الوقت كان مقتضى الإطلاق ثبوت وجوب الفعل خارجه ، إذ لم يقيد أصل الواجب بالوقت. وانما كان هناك مطلوب آخر لم يؤت به ، وهو الإتيان بالواجب وإيقاعه في الوقت ، أو يكون مقتضى عموم الملاك ثبوت الحكم خارج الوقت لفوات بعضه بخروج الوقت ، والمفروض كون الباقي ملزما بالفعل.

وعلى هذا الأساس يقال بتبعية القضاء للأداء وان دليل الأداء نفسه يتكفل إيجاب القضاء.

الثاني : ان لا يلتزم بإطلاق دليل الفعل الواجب وشموله إلى ما بعد الوقت ، بل ما يدل عليه هو وجوب الفعل في الوقت لا أكثر ، لكن يرد دليل خارجي يدل على ان التوقيت المأخوذ في الدليل انما هو على نحو تعدد المطلوب لا وحدته ، وان في المقام مطلوبين أحدهما الفعل. والآخر إيقاعه في الوقت ، فإذا فات الثاني بخروج الوقت بقي الأول أعني طلب الفعل على حاله.

الثالث : ان لا يكون مقتضى الإطلاق تعدد المطلوب ، ولا ذلك مقتضى دليل خارجي ، بل يكون الوقت والواجب بنحو وحدة المطلوب ، ولكن يثبت دليل خارجي على لزوم الإتيان بالفعل مع عدم الإتيان بالواجب الواقعي في الوقت ، فيثبت لزوم القضاء.

والحاصل : أنه بأحد هذه الوجوه الثلاثة يمكن إثبات لزوم القضاء بقول مطلق في جميع الواجبات ، فيتكلم في هذا الفرض في كفاية الفعل الاضطراري عنه ، واستلزامه لسقوطه وعدم كفايته.

ومع هذا لا وجه للتمسك في نفي وجوب القضاء بإجراء أصالة البراءة

٤٢

باعتبار الشك فيه ، وهو شك في التكليف الّذي تجري فيه أصالة البراءة ، لأن فرض الكلام وجود دليل يدل على لزوم القضاء وهو شامل في نفسه لما نحن فيه. والكلام في إجزاء الفعل الاضطراري عنه ، اما مع الشك فيه فليس هو محل الكلام ، إذ لا معنى للبحث في إجزاء الفعل الاضطراري عنه وعدم إجزائه ـ كما لا يخفى ـ.

ثم ان الوجه في إجزاء الفعل الاضطراري عن القضاء بناء على ما قربناه من الإجزاء عن الإعادة واضح ، إذ موضوع لزوم القضاء هو عدم الإتيان بالواجب الواقعي في الوقت. وقد عرفت بمقتضى التقريب المزبور ـ ان الفعل الاضطراري يكون فردا للمأمور به الواقعي ، لأن دليله اما ان يتكفل بيان محققية الفعل في حال الاضطرار لما هو الشرط الواقعي ، أو يتكفل بيان شرطية الفعل للمأمور به الواقعي في حال العذر ، بحيث ينفي بالملازمة شرطية الفعل الاختياري ، ويستلزم تقييد إطلاقه بحال الاختيار وعدم العذر. وعلى كلا التقديرين يكون إتيان الفعل الاضطراري إتيانا لما هو المأمور به واقعا ، ومعه يسقط الأمر بالفعل ، فلا يبقى ثابتا إلى ما بعد خروج الوقت ، بل الحال فيه هاهنا عين الحال في الإعادة ، كما انه لا يتحقق موضوع القضاء ليشمله دليل القضاء المنفصل ، لعدم ترك الواجب الواقعي في وقته.

وبالجملة : نفس التقريب السابق في نفي الإعادة يتأتى في نفى القضاء بلا زيادة ولا نقصان ، فالتفت.

وقد قرب نفي القضاء في الكفاية بما تقدم بيانه ، من التمسك بإطلاق دليل الفعل الاضطراري في نفي التخيير الملازم للإجزاء عن الإعادة ـ بالبيان المتقدم ـ ، فيستلزم الإجزاء عن القضاء ، إذ مع سقوط الأمر بالإعادة في ظرف الإعادة يسقط الأمر بالقضاء جزما ، لتفرعه على الأمر بالفعل في الوقت. فبيانه قدس‌سره وان اختص بنفي الإعادة لكنه يلازم نفي القضاء.

٤٣

ولكن عرفت الإشكال عليه بان هذا لا يشمل الإجزاء عن القضاء فيما لو كان موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار تمام الوقت ، لأن تعيين الفعل في الوقت الثابت بالإطلاق ليس لازما للقول بالاجزاء. بل القائل بعدم الاجزاء يقول بتعيين الفعل الاضطراري في الوقت وعدم جواز تركه ، فالتمسك بالإطلاق في نفي التخيير وإثبات التعيين لا يلازم الإجزاء ، بل هو لازم أعم للإجزاء وعدمه ، فلا يتكفل تقريبه إثبات الإجزاء عن القضاء.

وجاء في تقريرات المحقق النائيني رحمه‌الله تقرير الإجزاء عن القضاء بما محصله : ان القيد المتعذر في تمام الوقت اما ان يكون دخيلا في ملاك الواجب مطلقا ، حتى في حال التعذر ، كالطهور. فلا يمكن الأمر بفاقده في الوقت لعدم كون الفاقد ذا مصلحة ، واما ان لا يكون دخيلا في ملاك الواجب حين تعذره ، كالطهارة المائية ، فلا تكون الفريضة فائتة بملاكها لحصوله بالفعل مع التيمم ، فلا يجب القضاء لأن القضاء تابع لفوت الفريضة في الوقت بملاكها. فالأمر بالفاقد في الوقت يكشف عن تحقق الملاك به ـ وإلاّ لما أمر به ـ ومعه لا معنى لإيجاب القضاء (١).

وقد أورد عليه : بان هذا انما يتم في ما لو فرض وحدة المصلحة والملاك في الأمر الاضطراري والواقعي وهو غير مفروض ، إذ يمكن ان يكون الأمر الاضطراري بملاك آخر ومصلحة أخرى ـ مع فوات مصلحة الواجب الواقعي في حال التعذر ـ ، فيتكلم في ان هذه المصلحة هل يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع أو لا؟.

وعليه ، فالأمر الاضطراري لا يكشف عن وفاء الفعل بمصلحة الواقع ، لإمكان ان يكون ناشئا عن مصلحة أخرى في الفعل ، دون ان يكون فيه مصلحة

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٩٥ ـ الطبعة الأولى.

٤٤

الواقع لدخالة القيد المتعذر في تحققها.

والّذي يظهر بعد كل هذا ان الوجه التام والقريب إلى الأذهان في إثبات الإجزاء من حيث الإعادة والقضاء هو ما ذكرناه. فتدبر.

الموقع الثاني : في اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ، كما لو قام أصل أو أمارة على عدم وجوب السورة في الصلاة ، فصلى بدون سورة ، ثم انكشف ان السورة واجبة ، فهل تكون الصلاة بدون سورة مجزية عن الواقع أو لا؟.

وقبل الخوض في محل الكلام لا بد من التنبيه على ما هو موضوع البحث ، فنقول : موضوع البحث ما إذا استند في عمله إلى حجة شرعية في الواقع ، بحيث لا تنسلب حجتها في ظرفها مع انكشاف كون الواقع على خلافها.

وبتعبير آخر : ما إذا كان للحكم الظاهري ثبوت واقعي انقطع بانكشاف الواقع وانتهى أمده بمعرفة الواقع ، فلا يشمل ما إذا كان له وجود تخيلي يتضح انتفاؤه من أول الأمر بانكشاف الواقع ، كما إذا استند إلى ما تخيل انه حجة شرعية ، كخبر فاسق تخيل انه خبر عادل فانه وان كان في حين العمل معذورا لجهله المركب ، ولكن لم يثبت في حقه حكم ظاهري واقعا بل تخيلا ، إذ لم تقم الحجة الواقعية في حقه ، بل ما تخيل انه حجة ، وهو لا يستلزم ثبوت الحكم الظاهري.

والسرّ في عدم دخول مثل هذا الحكم الظاهري في موضوع البحث ، ما يشير إليه صاحب الكفاية في ذيل مبحث الاجزاء (١) من عدم اجزاء الحكم المقطوع به عن الواقع ، وذلك لأن جميع ما يقال في تقريب الاجزاء في الأوامر الظاهرية بنحو التعميم أو التفصيل لا يتأتى في مثل هذا ، إذ لا وجود للحكم

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٥

الظاهري كي يبحث عن اجزاء العمل على طبقه عن الواقع. فهو خارج عن موضوع البحث في الاجزاء وعدمه. فموضوع البحث ما إذا كان للحكم الظاهري ثبوت واقعي في زمان محدود يتحدد بانكشاف الخلاف ، بحيث يكون انكشاف الخلاف رافعا للحكم الظاهري من حينه لا من أول الأمر ، فهو لا يكشف عن عدم ثبوت الحكم الظاهري وانما يقتضي ارتفاعه. كما إذا استند في عمله إلى قول المجتهد المفروض انه حجة في حقه ، ثم بعد حين انكشف له باجتهاده ان الواقع على خلاف رأي المجتهد الّذي كان يقلده ، فان انكشاف الخلاف لا يسلب حجية القول المجتهد في ظرفها ولا يكشف عن عدم حجيته ، فلا يقتضي الا رفع الحكم الظاهري لا نفيه من أول الأمر ، فللحكم الظاهري ثبوت واقعي ، فيبحث في انه يقتضي اجزاء العمل المأتي به على طبقه عن الواقع أو لا.

ومن هذا البيان يظهر ان تبدل الرّأي الحاصل للمجتهد وانكشاف كون الحكم الواقعي خلاف ما كان يرتئيه أولا لا يدخل في موضوع البحث ـ بالنسبة إلى عمل نفسه دون مقلديه كما سيظهر ـ ، وذلك لأن الحكم الظاهري الثابت في نظره أولا بواسطة الاستناد إلى حجة حكم تخيلي ، فانه ينكشف لديه انه قد اشتبه في استفادة الحكم المذكور ، اما لاشتباهه في دلالة الدليل فكان يتخيل ظهوره في شيء ثم يظهر له انه ظاهر في غيره ، أو لاشتباهه في سند الدليل بتخيل ان الخبر لعادل فظهر انه لغير عادل.

وبالجملة : الّذي يتبين للمجتهد في أغلب الموارد انه لم يكن ما استند إليه في مقام العمل وإبداء الرّأي حجة شرعية ـ فلم يكن ما تخيل انه ظاهر بظاهر فلا يكون حجة ، وما تخيل انه خبر عادل بخبر عادل وهو غير حجة وهكذا ـ ، فليس للحكم الظاهري السابق وجود واقعي في حقه ، إذ ليس هناك ما يقتضيه ، لأنه ينشأ عن قيام الحجة ، بل كان له وجود تخيلي انكشف عدمه من أول الأمر

٤٦

بانكشاف عدم حجية ما استند إليه في مقام الحكم من ظهور ونحوه. فيشكل الاجزاء في حقه بالنسبة إلى عمل نفسه.

نعم يتأتى بحث الاجزاء في الفرض بالنسبة إلى عمل مقلديه ، إذ قول المجتهد بالنسبة إليهم حجة واقعا ، فيكون الحكم الأول ثابت في حقهم في مرحلة الظاهر واقعا ، وان ارتفع بالحكم الثاني المستنبط أخيرا ، لكنه ارتفع من حين الرّأي الثاني لا من أول الأمر. فتدبر.

وبعد هذا نقول : ان البحث يقع في اجزاء الحكم الظاهري أعم من ثبوته بأصل أو أمارة ، وأعم من كون انكشاف خلافه بأمارة ظنية أو بعلم وجداني. وفي المسألة أقوال كثيرة ، ولا يهمنا سطرها ، وانما المهم بيان ما يحتمل من وجوه الاجزاء.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى الإجزاء في بعض الأصول دون الأمارات إذا كان اعتبارها بنحو الطريقية. ـ ولا يخفى ان الفرق بين الأمارة والأصل ، ان الشك وعدم العلم مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة ، فان عدم العلم مأخوذ فيها بنحو الظرفية لا بنحو الموضوعية ، وتحقيق الفرق بين أخذه موضوعا وأخذه ظرفا يأتي في محله إن شاء الله تعالى من مباحث الأصول العملية ـ.

اما ما ذكره بالنسبة إلى اجزاء بعض الأصول وهو ما كان متكفلا لتنقيح ما هو موضوع التكليف وبلسان جعله وإيجاده ، كأصالة الطهارة وأصالة الحلية واستصحاب الطهارة والحلية ، بناء على كون المجعول في الاستصحاب حكما ظاهريا مماثلا للحكم الواقعي الّذي قواه صاحب الكفاية (١).

فقد أفاد : ان أصالة الحل والطهارة بما انهما يتكفلان جعل الموضوع وإيجاده في ظرف الشك ، كان مقتضى ذلك ترتب الشرطية على ما هو المجعول

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٩٢ و ٤١٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٧

بهما ، فيكون دليلهما متكفّلا لتوسعة صدق موضوع الشرطية المأخوذ في دليل الاشتراط ، فيكون حاكما على أدلة اشتراط الطهارة والحلية لتكفله بيان أحد افراد الموضوع ، ويكون المأتي به مع الطهارة أو الحلية الظاهرية واجدا لشرطه واقعا ، لأن الشرط الواقعي هو الأعم. فتكون الطهارة المجعولة في ظرف الشك نظير الطهارة الأصلية الثابتة لمطلق الأشياء ـ غير ما استثني من الأعيان النجسة ـ أو الطهارة المتحققة بعد التطهير بالكرّ. وعليه فيكون العمل مجزيا عن الواقع للإتيان بما هو المأمور به بشرطه ، ولا يكون العلم بالنجاسة من باب انكشاف فقدان الشرط ، بل من باب ارتفاع الشرط كطروّ النجاسة على ما كان طاهرا حسب أصله ، لتحقق الشرط سابقا وهو الطهارة الظاهرية وقد ارتفعت بالعلم لتحديدها به.

وبالجملة : فأصالة الطهارة تكون حاكمة على أدلة الاشتراط ، فتثبت الشرطية للطهارة الثابتة بها (١).

وقد أورد على ما أفاده قدس‌سره بالنقض والحل ولا بد قبل التعرض لبيان الإيرادات من إيضاح كلام الكفاية وسبر مراده ، كي يتضح الحال في ما أورد عليه نقضا وحلا. وإيضاحه يتوقف على بيان مقدمتين :

المقدمة الأولى : ان الحكومة ـ كما ذكره في محله ـ عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الدليل الآخر وتصرفه فيه في مرحلة دلالته ، اما في عقد الوضع أو الحمل.

وهذا يتصور بأنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون الدليل المحكوم متكفلا لجعل حكم على موضوع اعتباري جعلي ، فيأتي دليل آخر يتكفل إيجاد فرد من افراد ذلك الموضوع وجعله

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٤٨

اعتبارا في مورد ما ، فيترتب عليه الحكم الثابت بالدليل المحكوم قهرا. مثلا : لدينا دليل يتكفل جواز بيع المملوك ، كما لدينا دليل يتكفل جعل الملكية واعتبارها في مورد الحيازة. فان هذا الدليل يتكفل إيجاد الموضوع فيتسع صدق الموضوع به.

ويثبت الحكم له بالدليل الأول المتكفل لجواز بيع المملوك. ومثله ما إذا استصحبت الملكية ، فانه ـ على بعض المباني ـ يتكفل إيجاد الملكية ، نظير دليل من حاز ملك. غاية الأمر ان موارد الاعتبار تختلف ، فهذا يتكفل الاعتبار في مورد الحيازة ، وذلك في مورد الشك. فالدليل المتكفل لإيجاد الموضوع ليس له نظر إلى ترتب الحكم عليه الثابت بالدليل الآخر ، بل الحكم ثابت قهرا بمقتضى الدليل الآخر بعد تحقق الموضوع في عالمه. ـ نعم لا بد من الالتفات إلى ترتب الحكم عليه كي يخرج الاعتبار عن اللغوية بلا ان يكون الاعتبار بلحاظ ثبوت الأثر بدليل الاعتبار ، بل دليل الاعتبار لا يتكفل سوى الإيجاد والاعتبار لا غير ـ.

ومن هنا خرج هذا النحو عن الحكومة الاصطلاحية المتقومة بنظر أحد الدليلين إلى الآخر ، لعدم كون دليل الاعتبار ناظرا لدليل ثبوت الحكم على الموضوع الاصطلاحي وانما يشترك مع الحكومة في الأثر ، وهو تقدم الدليل المتكفل لإيجاد الموضوع على ما يتكفل ترتيب الحكم على الموضوع ، بل لا تنافي بينهما كما عرفت تقريبه.

الثاني : ان يكون الدليل المحكوم بحسب ظاهره متكفلا لجعل الحكم على الموضوع الواقعي ، فيتكفل دليل آخر اعتبار كون هذا الفرد فردا للموضوع مع عدم كونه كذلك حقيقة ، فان هذا الدليل يكون ناظرا إلى ترتيب الأثر الثابت بالدليل المحكوم على الموضوع الاعتباري بتكفله التوسعة في موضوع الحكم وجعله أعم من الحقيقي والاعتباري ، فيثبت الأثر للموضوع الاعتباري بالدليل المحكوم. فالدليل الحاكم يكون ناظرا إلى ترتب الحكم على موضوعه ومتكفلا بنفسه إلى إثباته بالدليل المحكوم ، باعتبار انه يتكفل التوسعة في موضوعه.

٤٩

فالفرق بين هذا النحو وسابقه : ان الحكم يترتب على الموضوع الاعتباري في الأول بنفس الدليل المحكوم بلا ان يكون الدليل الحاكم دخيلا في هذا الأمر ، بخلافه في النحو الثاني فان الأمر وان كان يثبت بالدليل المحكوم لكن بواسطة الدليل الحاكم ونظره في الاعتبار إلى ترتب الأثر الّذي يتكفله الدليل المحكوم.

الثالث : ان يكون الدليل الحاكم متكفلا لإثبات حكم مماثل على موضوعه ، لا إثبات نفس الحكم الثابت بالدليل المحكوم ـ كما في بعض أدلة التنزيل ـ ، ولعل قوله : « الطواف في البيت صلاة » (١) يرجع إلى هذا النحو ، فانه بهذا اللسان ناظر إلى إثبات شرطية الطهارة ونحوها للطواف ، ولكن يثبت به حكم مماثل لحكم الصلاة ، لا ان نفس الشرطية المنشأة في قوله مثلا : « لا صلاة إلاّ بطهور » (٢) تثبت للطواف ، بل يثبت المماثل لها.

المقدمة الثانية : ان الدليل المتكفل لإثبات موضوع ظاهري بلحاظ ترتب أثر معين له ، تارة : يكون لهذا الأثر أثر مناقض ثابت لضد موضوعه ، نظير استصحاب الملكية لزيد ، فانه يترتب عليه أثر الملكية لجواز النقل والانتقال ، وللملكية ضد وهو الوقف ، له أثر مناقض لأثر الملكية ، وهو عدم جواز النقل والانتقال. وأخرى : لا يكون للموضوع الظاهري الثابت بالدليل ضد ذو أثر مناقض لأثره ، نظير الطهارة بلحاظ الشرطية للصلاة ، فانه ليس للنجاسة أثر يناقض الشرطية وهو المانعية عن الصلاة ، إذ لم تؤخذ النجاسة مانعا ، بل المأخوذ هو الطهارة في موضوع الشرطية ـ وقد تقرر ان أحد الضدين إذا أخذ شرطا امتنع أخذ الضد الآخر مانعا لتساوي الضدين رتبة واختلاف الشرط والمانع في

__________________

(١) كنز العمال ٣ ـ ١٠ الفصل الرابع في السعي والطواف. حديث : ٢٠٦.

(٢) وسائل الشيعة ١ ـ ٣٦٥. أبواب الوضوء حديث : ١.

٥٠

الرتبة ـ ، نعم للنجاسة آثار لا تناقض الأثر المرغوب ، كنجاسة الملاقي ونحوها.

وهذان النحوان يشتركان في جهة ويمتازان في جهة أخرى.

اما اشتراكهما : ففي انه بقيام الدليل على ثبوت الموضوع يحكم ظاهرا بنفي جميع آثار الضد الآخر المناقضة لأثر الموضوع وغيرها.

اما في النحو الأول : فواضح ، فانه بعد ان ترتب على استصحاب الملكية ـ مثلا ـ جواز النقل والانتقال يحكم ظاهرا بنفي عدم جواز النقل والانتقال ، ولا يمكن الالتزام بهما للتناقض.

واما في النحو الثاني : فان الأثر المترتب على الضد وان لم يكن مناقضا للأثر المترتب على الموضوع الظاهري ، لكن الحكم بثبوته ظاهرا ملازم لنفي ضده في مرحلة الظاهر المستلزم لنفي آثار الضد ، فبعد ان حكم بطهارة الماء ـ مثلا ـ المستلزم لنفي نجاسته فعلا وفي مرحلة الظاهر لا يعقل ترتيب آثار النجاسة وان لم تكن مناقضة لأثر الطهارة ، إذ لا يعقل الحكم بالطهارة ونفى النجاسة وترتيب آثار النجاسة ، فيحكم بطهارة ملاقيه ظاهرا ونحوه.

واما امتيازهما : ففي ان الدليل المتكفل لإيجاد فرد ظاهري لموضوع الحكم حقيقة إذا لم يكن للأثر المترتب عليه أثر مناقض له ثابتا لضده ، كان ثبوت ذلك الأثر للموضوع المجعول ثبوتا واقعيا ، بمعنى انه يثبت له في مرحلة الواقع ونفس الأمر ، إذ هو فرد من افراد موضوعه ولو في ظرف معين ، فيثبت له واقعا بمقتضى دليله الخاصّ. ومن هذا القبيل الطهارة بالنسبة إلى الشرطية في الصلاة ، فان الدليل الّذي يثبت الطهارة ويكوّنها ويعتبرها في مرحلة الشك يقتضي ثبوت الشرطية للطهارة واقعا ، لأن موضوعها هو الطهارة وهي امر اعتباري ، واعتبار الشارع لها في مرحلة الشك تحقق فرد تكويني لها ، فتثبت له واقعا من دون مانع ، فيكون حال دليل الطهارة حال الدليل المتكفل اعتبار الطهارة إذا طهّر النجس في الكرّ في ثبوت الشرطية لها واقعا لأنه فرد للموضوع.

٥١

واما إذا كان لضده أثر مناقض للأثر المترتب عليه ، فبما ان الدليل لا يتكفل نفي الضد الآخر واقعا وتكوينا حتى تنتفي آثاره الواقعية واقعا بل يتكفل نفي الضد ظاهرا ، فلا يمتنع ان يكون ثابتا في الواقع وتثبت له آثاره بدليلها. فحينئذ يتعارض الدليلان الدليل المتكفل لاعتبار الموضوع الّذي يترتب عليه أثر خاص ، والدليل المتكفل لإثبات أثر ـ للموضوع الواقعي المفروض تحققه ـ مناقض لذلك الأثر ، إذا لا يمكن اجتماع هذين الحكمين المتناقضين معا على موضوع واحد. ومن هذا القبيل : الملكية لزيد الثابتة بالاستصحاب التي يترتب عليها جواز النقل والانتقال. فانه إذا كانت العين في الواقع وقفا كان أثرها مناقضا للأثر الثابت بالاستصحاب ، وذلك لعدم جواز بيع الوقف ولا يقبل النقل والانتقال : فاستصحاب ملكية زيد يقتضي جواز البيع والنقل والانتقال. والوقفية الواقعية ـ بمقتضى الدليل الواقعي ـ تقتضي عدم جواز ذلك. فيتعارض الدليلان لعدم إمكان اجتماع الحكمين.

ففي الحال هذه اما ان يلتزم بتخصيص الأدلة الواقعية وتقييدها بحال الشك وجريان الاستصحاب ، بان يقال : ان عدم جواز بيع الوقف الثابت بدليله الواقعي انما هو في غير حال الشك وقيام الأصل على عدم الوقفية ، وامّا مع ذلك فهو جائز واقعا ولا يحكم بعدم الجواز واقعا. أو لا يلتزم بذلك لوصمة التصويب فيه بتقيد الأحكام الواقعية على الموضوع بحال العلم به.

وانما يلتزم بان الجواز ظاهري والحكم بعدمه واقعي ، فيجمع بين الدليلين بذلك. فإذا زال الشك وعلم بالوقفية يرتفع الحكم الظاهري بجواز البيع لارتفاع موضوعه ، ويتأتى فيه حديث الاجزاء.

وهذا بخلاف الصورة الأولى ، فانه حيث لا مانع من ثبوت الحكم واقعا للموضوع باعتبار عدم ترتب الأثر المناقض على ضده لو كان ثابتا في الواقع ، مع وجود المقتضي لذلك ، وهو كونه فردا للموضوع تكوينا ، كان ثبوت الحكم له

٥٢

ثبوتا واقعيا لا يتصور فيه انكشاف خلاف ، بل يرتفع بارتفاع موضوعه لانكشاف الخلاف في موضوعه.

وإذا تبين هذا فنقول : ان أدلة الاشتراط تتكفل إثبات الشرطية للطهارة ودخل وجودها في العمل الصلاتي ـ مثلا ـ ، فالدليل المتكفل لجعل الطهارة وإيجادها في عالمها الواقعي لها ـ أعني العالم الاعتباري ـ يكون موجبا لترتب الشرطية عليها بالدليل الأول ، لأنه قد حقق أحد مصاديق الموضوع ، فيترتب عليه الحكم قهرا ، فيكون حاكما على أدلة الاشتراط بالمعنى الأول للحكومة التي عرفت انها ليست من أنواع الحكومة الاصطلاحية ، لعدم النّظر في الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم أصلا ، لأنه لا يتكفل سوى جعل فرد وإيجاده من دون ان ينظر إلى ترتب الحكم الثابت بذلك الدليل عليه مما تقدم.

وبالجملة : حال أصالة الطهارة بالنسبة إلى دليل الاشتراط حال ما يتكفل تكوين « عالم » حقيقة بالنسبة إلى دليل : « أكرم العلماء » ولما لم يكن للشرطية أثر مناقض مترتب على النجاسة الواقعية ، إذ لم تؤخذ النجاسة مانعا لامتناع ذلك كما عرفت الإشارة إليه ، كان ثبوت الشرطية للطهارة الظاهرية ـ بمعنى المجعولة في حال الشك بالطهارة والنجاسة الواقعيتين ـ ثبوتا واقعيا.

فالطهارة الظاهرية شرط واقعا. فيكون العمل الّذي جاء به مع الطهارة الظاهرية واجدا لما هو الشرط واقعا ، فإذا زال الشك وعلم بالنجاسة وزالت الطهارة الظاهرية لم يكن في العمل بالنسبة إلى الشرط انكشاف خلاف الواقع لوجدانه للشرط واقعا ، وانما يكون من باب تبدل الموضوع فتزول الشرطية قهرا ، لارتفاع موضوعها كما لو تنجس الطاهر.

وعليه ، فالمقصود من حكومة أصالة الحل والطهارة على أدلة الاشتراط هذا المعنى من الحكومة ـ أعني حكومة ما يتكفل إيجاد ما هو الموضوع واقعا وتكوينه ـ ، فيترتب عليه الأثر واقعا بأدلة الاشتراط.

٥٣

نعم أصالة الطهارة بالنسبة إلى غير الشرطية من الآثار التي ثبت ضدها للنجاسة كجواز الشرب ، إذ لا يجوز شرب النجس ، لا تتكفل ثبوتها الواقعي ، وذلك لأن الموضوع الّذي تكفلت بيان طهارته في حال الشك إذا كان نجسا واقعا تثبت له آثار النجاسة الواقعية في الواقع كعدم جواز الشرب ، ودليل الطهارة يتكفل جواز شربه ، فيتعارضان ، وقد عرفت ان مقتضى الجمع الصحيح هو الالتزام بان الحكم الثابت بالأصل حكم ظاهري والثابت للنجس الواقعي حكم واقعي ويتقرر فيهما ما قرّر في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

وهكذا الحال بالنسبة إلى آثار النجاسة الخاصة غير المناقضة لأثر الطهارة ، كتنجيس الملاقي ـ إذ ليس عدم تنجيس الملاقي من آثار الطهارة المجعولة ، بل المجعول هو تنجيس الملاقي للنجاسة ـ ، فان أصالة الطهارة تتكفل نفيها ظاهرا لاستلزامها نفي النجاسة ظاهرا كما عرفت.

وعليه ، فإذا زال الشك وانكشف الخلاف انكشف خلاف الحكم الظاهري الثابت ، وزال الحكم الظاهري من حين انكشاف الخلاف.

وخلاصة الكلام : ان أصالة الطهارة بضميمة دليل الاشتراط تتكفل إثبات الشرطية واقعا ، فيكون زوال الطهارة ظاهرا موجبا لارتفاع موضوع الشرطية وهو الطهارة ، ولا يتصور في الشرطية كشف خلاف الواقع ، لعدم المانع من ثبوت الشرطية واقعا مع وجود المقتضي وهو دليل الشرطية.

واما بالنسبة إلى غير الشرطية من الآثار المترتب ضدها على النجاسة فهي تتكفل ثبوته ظاهرا لأنه مقتضى الجمع بين الدليلين.

ومن هنا خصّ صاحب الكفاية بالاجزاء مورد حكومة أصالة الطهارة على أدلة الاشتراط وبالنسبة إلى الشرطية والشطرية. فالتفت جيدا.

وبوضوح ما ذكرنا يتضح عدم الوجه فيما أورد على صاحب الكفاية نقضا : بان أصالة الطهارة إذا كانت تتكفل التوسعة الواقعية في موضوع له.

٥٤

لزم ان لا يحكم بتنجس ما يلاقي النجس واقعا المحكوم بطهارته ظاهرا ، ويحكم بطهارته بعد انكشاف الخلاف لأنه لاقى الطاهر في حينه.

كما لزم ان يحكم بصحة الوضوء أو الغسل بالماء الثابتة طهارته بأصالة الطهارة أو استصحابها ، مع كونه نجسا واقعا ـ لو انكشف ذلك ـ ، لأن شرط صحة الوضوء والغسل طهارة الماء وقد تحققت.

وبأنه لو كان الاستصحاب كأصالة الطهارة يتكفل التوسعة في الموضوع واقعا.

لزم ان نحكم بصحة البيع المترتب على استصحاب ملكية زيد للمال مع انكشاف انه وقف واقعا أو انه ملك لعمرو ، لتحقق موضوع صحة البيع وجواز النقل والانتقال وهو ملكية زيد.

والحال انه لا يلتزم أحد بهذه اللوازم حتى صاحب الكفاية نفسه (١).

ووضوح عدم ورود هذه النقوض : ان نجاسة الملاقي من أحكام النجس ، إذ لم يؤخذ عدم النجاسة حكما للطهارة شرعا. وبما ان الطهارة تضاد النجاسة كان الحكم بطهارة الماء ظاهرا ملازما لنفي النجاسة ظاهرا الملازم لنفي نجاسة ملاقيه ظاهرا لا واقعا. وعليه إذا انكشف نجاسة الماء واقعا زال الحكم الظاهري ، وعلم بان الملاقي قد لاقى ما هو نجس فيترتب عليه حكم ملاقاة النجس وهو النجاسة.

وبالجملة : الحكم بطهارة الملاقي حكم ظاهري لا واقعي كالشرطية ، للفرق الواضح كما أشرنا إليه في أصل التقريب.

وهكذا الحال في عدم صحة الوضوء والغسل ، لأنه لم يثبت أخذ الطهارة في الوضوء والغسل شرطا كي تثبت للماء واقعا لعدم المانع ، بل يمكن ان يدعى

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٠٠ ـ الطبعة الأولى.

٥٥

أخذ النجاسة فيهما مانعا ، فالذي يتكفله دليل الطهارة حينئذ نفي المانعية ظاهرا بالملازمة العقلية ، فإذا انكشف الخلاف بالعلم بنجاسة الماء فقد انكشف كون الوضوء مع المانع الواقعي ، لعدم نفي المانعية واقعا بأصالة الطهارة.

وبالجملة : لا يعلم ان أصالة الطهارة بالنسبة إلى الوضوء والغسل تتكفل حكما واقعيا يقتضي صحتهما ، لاحتمال أخذ النجاسة مانعا فيهما وعدم أخذ الطهارة شرطا ، وقد عرفت ان اعتبار أخذ الضدين ظاهرا انما ينفي آثار الضد الآخر ـ ولو لم تكن مناقضة لآثاره ـ ظاهرا لا واقعا.

واما النقض باستصحاب الملكية لزيد ، فعدم وروده لأجل ان للملكية ضدا ، له أثر يناقض أثرها ، وذلك الأثر هو عدم جواز النقل والانتقال. فجواز النقل والانتقال الثابت باستصحاب ملكية زيد بمقتضى الجمع بين الدليلين جواز ظاهري يرتفع بانكشاف خلافه ، فتكون المعاملة واقعة على ما هو وقف أو ملك عمرو واقعا وحكمها عدم الصحة واقعا.

ولعل النقض المذكور قد جاء في ذهن صاحب الكفاية فخصّ حكومة الاستصحاب باستصحاب الطهارة لا مطلق الاستصحاب ، فقال : « واستصحابهما ... ».

والحاصل : ان موارد النقوض يختلف فيها الحال عن مورد الشرطية فلا يلزم بهما صاحب الكفاية.

وقد أورد المحقق النائيني على صاحب الكفاية مضافا إلى بعض النقوض بالحل وهو أربعة وجوه :

الأول : ان الحكومة بنظر صاحب الكفاية تتقوم بان يكون الدليل الحاكم مفسرا وشارحا للدليل المحكوم ، بتضمنه ألفاظ الشرح كلفظ : « أعني » وما شابهه ، ولأجل ذلك لم يلتزم بحكومة أدلة نفي الضرر والحرج على أدلة الأحكام الواقعية.

٥٦

وعليه ، فلا تتجه دعوى حكومة أصالة الطهارة وأصالة الحل والاستصحاب على أدلة الاشتراك لعدم كون لسانهما لسان الشرح والتفسير (١).

وفيه :

أولا : انه لم يثبت من صاحب الكفاية هذا الالتزام في باب الحكومة وان كان له شاهد في بعض عباراته في الكفاية ـ كما بينا ذلك في محله ـ ، لصراحة متابعته الشيخ في حاشيته على الرسائل في تفسير الحكومة في نفي ذلك (٢).

ومقتضى القاعدة وان كان نسبة ما تتضمنه الكفاية إليه دون التعليقة مع الاختلاف ، لتأخر الكفاية ، إلاّ انه حيث لم يكن لما ذكره في الكفاية ظهور جزمي فيما نسب إليه لم يمكن نسبة المعنى المذكور إليه.

وثانيا : ان المهم فيما نحن فيه هو بيان تقدم أصالة الطهارة على أدلة الاشتراط ، وتكفلها التوسعة الواقعية في مصاديق الشرط ، وقد عرفت وجهه ، اما كون جهة هذا التقديم هي الحكومة أو غيرها فهذا لا يهم فيما نحن بصدده ، فالإيراد المذكور إيراد لفظي صرف يرجع إلى بيان عدم صحة تسمية جهة التقديم بالحكومة ، وهو غير مهم في أصل الدعوى وتحقيق الاجزاء.

الثاني : ان أصالة الطهارة يستحيل ان تكون متكفلة للتوسعة الواقعية للشرط ، لأنها تتكفل جعل الطهارة في مرحلة الظاهر ومورد الشك بالواقع ، فكيف تكون بنفسها موجبة لثبوت حكم واقعي لها وهو الشرطية؟ (٣).

وفيه : انها انما تتكفل جعل الطهارة في مرحلة الظاهر ، وذلك لا ينافي ان يثبت للطهارة الظاهرية المجعولة حكم واقعي ، وقد عرفت ان أصالة الطهارة انما تتكفل التوسعة الواقعية في الشرط ، وهو لا ينافي كون المجعول بها حكما ظاهريا.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٩٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول ـ ٢٥٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٩٨ ـ الطبعة الأولى.

٥٧

وبتعبير آخر : ما ذكره قدس‌سره انما يتجه لو ادعى اتحاد ما تتكفل جعله أصالة الطهارة وما تستلزم توسعته واقعا ، إذ بعد فرض ان المجعول بها امر ظاهري قد لوحظ الجهل بالواقع فيه لا يمكن فرض تكفلها توسعة المجعول بها واقعا وإيجاد فرد واقعي ، فانه خلف فرض كون المجعول بها امرا ظاهريا.

واما مع اختلاف المجعول بها وما تستلزم توسعته فلا محذور فيه ، والأمر كذلك ، فان أصالة الطهارة لا تتكفل التوسعة الواقعية في نفس الطهارة ، بل تتكفل التوسعة في الشرط الواقعي وما هو موضوع الشرطية واقعا ، وهذا لا ينافى كون المجعول بها الطهارة الظاهرية ، إذ لا امتناع في كون الطهارة الظاهرية شرطا واقعا.

الثالث : ان الحكومة على نحوين : نحو يكون الدليل الحاكم في رتبة الدليل المحكوم ، بان لا يكون الشك في الدليل المحكوم مأخوذا في موضوع الدليل الحاكم ، نظير دليل : « لا شك لكثير الشك » بالنسبة إلى أدلة الشكوك في الصلاة ، فانهما في رتبة واحدة لاتحاد موضوعيهما رتبة ، وهذا النحو يعبر عنه بالحكومة الواقعية والدليل الحاكم فيه يكون معمما واقعا للدليل المحكوم أو مخصصا بلسان الحكومة. ونحو يكون الدليل الحاكم متأخرا في المرتبة عن الدليل المحكوم ، بان كان الشك في الدليل المحكوم مأخوذا في الدليل الحاكم ، فيتأخر موضوعه المستلزم للتأخر الرتبي ، يعبر عن هذا النحو بالحكومة الظاهرية ، لأن الدليل الحاكم فيه لا يتكفل التوسعة أو التضييق في الدليل المحكوم واقعا لفرض ثبوته في مرحلة الشك بالواقع ، بل يتكفل التوسعة أو التضييق في مرحلة الظاهر والإحراز ، فيترتب عليه آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف ، ومع انكشافه ينكشف عدم ثبوت الأثر الواقعي ، لعدم تحقق موضوعه ، فيكون مقتضى القاعدة عدم الاجزاء. والحكومة فيما نحن فيه من هذا القبيل ، لكون المفروض أخذ الشك في الواقع في موضوع أدلة الأصول ، فلا تكون الأصول في رتبة الدليل الواقعي ، بل

٥٨

يكون نظرها إلى ترتب الحكم على المجعول بها ظاهرا وفي ظرف الشك.

وعليه ، فمع انكشاف الخلاف يتضح عدم وجدان العمل لشرطه الواقعي ، فلا وجه للحكم بالاجزاء حينئذ (١).

وفيه : ان ما ذكره يتم لو كانت الحكومة بأحد النحوين الأخيرين الذين يتكفل الدليل الحاكم فيها ترتيب الحكم والنّظر فيه إلى ترتب الأثر ، فيتكفل بنفسه التوسعة فيما هو موضوع الحكم ، فانه يقال عليه : انه إذا فرض انه يتكفل جعل الموضوع في مرحلة الظاهر فلا محالة يتكفل جعل الحكم له ظاهرا أيضا فيتأتى فيه انكشاف الخلاف.

واما إذا كان المراد من الحكومة هو المعنى الأول لها الّذي قد عرفت ان الدليل الحاكم فيه لا يتكفل سوى إيجاد الموضوع بلا ان يكون ناظرا إلى ترتيب الحكم عليه ، بل الحكم يثبت له بدليله الخاصّ ، فلا يتكفل سوى التوسعة في مقدار صدق ما هو الموضوع وانطباقه ، لا التوسعة في الموضوع ، فلا يتأتى فيه ما ذكره لأن ثبوت الحكم للمجعول يكون ثبوتا واقعيا ، لا معنى لانكشاف الخلاف فيه.

وقد عرفت ان حكومة أصالة الطهارة على أدلة الاشتراط التي ادعاها صاحب الكفاية من النحو الأول ، لأن موضوع الشرطية أمر اعتباري ينوجد بالاعتبار والجعل وهو الطهارة ، وأصالة الطهارة تتكفل إيجاد فرد للموضوع في ظرف خاص بلا ان تتكفل هي جعل الحكم وترتيب الأثر ، بل تثبت الشرطية بدليلها للطهارة باعتبار انطباق الموضوع عليها وكونها فردا من افراده كالطهارة المجعولة للأشياء بحسب أصلها أو بعد التطهير بالكرّ ، فهي انما تتكفل التوسعة في دائرة انطباق الموضوع لا في دائرة نفس الموضوع. فتدبر.

الرابع : ان حكومة أصالة الطهارة إذا كانت بلحاظ انها تتكفل إيجاد

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٩٩ ـ الطبعة الأولى.

٥٩

الموضوع وجعل ما هو المماثل ، وبتعبير آخر : إذا كانت جهة حكومة أصالة الطهارة واستصحابها هو تكفلهما إيجاد حكم ظاهري ، لزم ان يلتزم بالحكومة في موارد الأمارات ، لأنها تتكفل جعل حكم ظاهري مماثل للمؤدى ، فالأمارة القائمة على طهارة الماء تتكفل بدليل اعتبارها جعل الطهارة واعتبارها ظاهرا ، فتثبت لها الشرطية واقعا لأنها فرد للموضوع الاعتباري ، فلا يتصور فيه كشف الخلاف أيضا ، فلا يتجه التفصيل بين الأصول والأمارات ، مع ان ملاك الحكومة والاجزاء في كليهما متحقق (١).

ولا يخفى ان هذا الإيراد ـ وان كان لا يخلو عن وجه في نفسه ـ لكنه من مثل المحقق النائيني قدس‌سره غير وجيه ، لأنه قدس‌سره لا يلتزم بكون المجعول في باب الأمارات حكما ظاهريا ، بل ما يلتزم به كون دليل الاعتبار متكفلا لجعل الطريقية وتتميم الكشف ـ كما سيجيء توضيحه في محله ـ ، فالنقض على صاحب الكفاية بالأمارات غير وجيه ، كما ان لا يصلح ان يكون إيرادا جدليا يذكر لإلزام صاحب الكفاية بالنقض ، لأن صاحب الكفاية يتفق مع المحقق النائيني في عدم كون المجعول حكما ظاهريا بدليل الأمارة ، وان كان يختلف معه في كون المجعول بدليل الأمارة المنجزية والمعذرية التي يدعي المحقق النائيني عدم معقولية جعلها.

فهذا الإيراد انما يورد على من يلتزم بان المجعول في باب الأمارة حكم ظاهري مماثل ، إذ يتجه النقض بالأمارة حينئذ وطلب الفارق بين الموردين.

وقد تصدى المحقق الأصفهاني للإجابة عنه وبيان الفرق الفارق بين الأصل والأمارة بما بيانه : ان لسان دليل الأصل يختلف عن لسان دليل الأمارة فان لسان الأصل مفاده جعل فرد ظاهري للطهارة في مقابل الفرد الواقعي ، مع

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٩٩ ـ الطبعة الأولى.

٦٠