منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

يرد على المطلق لا على المقيد ولكن انما ينبسط في مرحلة عروضه على الحصة المقدورة دون الأعم. فتدبر جيدا.

الثاني : التمسك بالدلالة الالتزامية. ببيان : ان الكلام إذا كان له دلالتان دلالة مطابقية ودلالة التزامية وسقطت الدلالة المطابقية عن الحجية كانت الدلالة الالتزامية حجة في مدلولها ، لأن الدلالة الالتزامية انما تتبع الدلالة المطابقية في الوجود والتحقق ، فلا يمكن حصولها بدون الدلالة المطابقية ، ولا تتبعها في الحجية فيمكن التفكيك بينهما في مقام الحجية.

وهذا المعنى فرضه البعض من الواضحات التي لا تحتاج إلى مزيد برهان ، ولأجل ذلك أطلق الشيخ رحمه‌الله في مبحث تعارض الخبرين ان نفي الثالث يكون بهما (١). من دون ان يستدل عليه فكأنه من الواضحات.

والوجه فيه هو : ان بناء العقلاء انعقد على حجية الظهور ، فكل ظاهر حجة ، فإذا كان الكلام له ظهوران وانتفت حجية أحدهما بقي الآخر مشمولا لدليل الحجية ، فسقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الالتزامية عنها ، لأن الكلام ظاهر في المدلول الالتزامي ، والظاهر حجة ببناء العرف والعقلاء.

وإذا تم ذلك نقول : ان الدليل الدال بالمطابقة على ثبوت الأمر وتعلقه بشيء يدل بالالتزام على ثبوت الملاك فيه ، لعدم ثبوت الأمر بدون ملاك ، فإذا علمنا بعدم تعلق الأمر فيه في مورد المزاحمة انتفت حجية الدلالة المطابقية للعلم بخلافها ، ولكن الدلالة الالتزامية تبقى على الحجية لتوفر ملاك الحجية فيها من دون رافع ، والمفروض انها لا تتبع الدلالة المطابقية في الحجية.

هذا محصل ما يقال في تقريب الوجه الثاني ، وقد تبين ان أساسه هو

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٤٤١ و ٤٥٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٨١

الالتزام بإمكان انفكاك الدلالة الالتزامية عن الدلالة المطابقية في الحجية وهذه المسألة وقعت محل الكلام ولم تتفق فيها كلمات الأعلام.

وممن لم يلتزم بإمكان التفكيك بين الدلالتين في الحجية ، والتزم بتبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الوجود والحجية ، السيد الخوئي ( حفظه الله ).

وأورد على الالتزام بالتفكيك بإيرادين : أحدهما نقضي ، والآخر حلي.

اما النقض : فبموارد لا يلتزم فيها بالمدلول الالتزامي مع سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية ، وقد ذكرها أربعة :

الأول : ما إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب للبول وعلمنا من الخارج بكذب البينة وعدم الملاقاة ، ولكن احتملنا تنجس الثوب من جهة أخرى لملاقاته للدم ، فانه لا يلتزم أحد بنجاسة الثوب في الفرض أخذا بالمدلول الالتزامي للبينة ـ وهو النجاسة ، لأن الإخبار عن الملاقاة للبول اخبار عن نجاسته لملازمتها للملاقاة ـ ، إذ الساقط عن الحجية ليس إلاّ الدلالة المطابقية ، وهي الدلالة على الملاقاة للبول ، والمفروض هو إمكان التفكيك بين الدلالتين في مقام الحجية.

الثاني : ما إذا كانت الدار ـ مثلا ـ في يد زيد وقامت بينة على أنها لعمرو وأخرى على أنها لبكر ، فتساقطت البينتان في المدلول المطابقي للمعارضة ، فانه لا يلتزم أحد بمدلولهما الالتزامي الّذي تشتركان فيه وهو عدم كون الدار لزيد بحيث يجري على هذه الدار حكم مجهول المالك.

الثالث : ما إذا شهد واحد على ان هذه الدار ـ التي في يد زيد ـ لعمرو وأخر على انها لبكر ، فانه لا تكفي شهادة الواحد في إثبات المدعى ، لكنهما يشكلان بينة على المدلول الالتزامي وهو عدم كون الدار لزيد ، ولكن لا يلتزم أحد بنزع الدار من زيد وإجراء حكم مجهول المالك.

٣٨٢

الرابع : إذا كانت دار في يد عمرو وقامت بينة على انها لزيد. وأقر زيد بأنها ليست له ، فان البينة تسقط في مدلولها المطابقي لمعارضته للإقرار وهو مقدم عليها ، ولا يلتزم أحد بمدلولها الالتزامي وهو عدم كون الدار لعمرو مع انه لا يعارض الإقرار.

واما الحل : فبتقريبين :

أحدهما : ان الدلالة الالتزامية ترتكز على أمرين : الأول : ثبوت الملزوم. والثاني : ثبوت الملازمة بينه وبين اللاّزم ، فمع انتفاء أحدهما تنتفي الدلالة الالتزامية ، وعليه فمع عدم ثبوت المدلول المطابقي الّذي هو عبارة أخرى عن عدم ثبوت الملزوم ، تنتفي الدلالة الالتزامية ، ولا يختلف الحال في ذلك بين مرحلة الحدوث والبقاء.

ثانيهما : ان ظهور الكلام في المدلول الالتزامي ليس بنحو الإطلاق ، وانما هو الحصة الخاصة الملازمة للمدلول المطابقي ، فالاخبار عن ملاقاة الثوب للبول اخبار عن نجاسته البولية لا مطلق النجاسة. وعليه فمع العلم بانتفاء المدلول المطابقي يعلم بانتفاء المدلول الالتزامي وهو الحصة الخاصة ، واما احتمال ثبوت غير الحصة الخاصة فهو مما لا دليل عليه ، لأنه خارج عن المدلول الالتزامي. فلا يكون حجة فيه بارتفاع الدلالة المطابقية لأنه ليس بمدلوله (١).

والتحقيق ان يقال : ان دلالة الكلام على المدلول الالتزامي تارة : تكون عقلية تنشأ من كون ثبوت الملازمة بمقدمات عقلية برهانية ، لا تصل إليها أذهان العامة والعرف. وأخرى : تكون عرفية بمعنى ان يكون للكلام ظهور عرفي في المدلول الالتزامي ، كما إذا كانت الملازمة عرفية واضحة لدى العرف.

والدلالة الالتزامية العرفية على صور : لأن المدلول الالتزامي ..

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٧٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٣

تارة : يكون حكما والمدلول المطابقي موضوع الحكم. فالملازمة بينهما جعلية تعبدية لا عقلية ولا شرعية.

وأخرى : يكون المدلول الالتزامي معلولا والمطابقي علة.

وثالثة : بالعكس ، فيكون المدلول الالتزامي علة والمطابقي معلولا.

ورابعة : يكون المدلولان متلازمين من دون ان يكون بينهما علية ومعلولية. كدلالة ما يدل على وجود زيد في الغرفة على عدم وجوده في صحن الدار.

ولا يخفى ان محل الكلام هو الدلالة الالتزامية العرفية لا العقلية ، لأن العقلية وان عبّر عنها بالدلالة إلاّ انها خارجة حقيقة عن باب دلالات الألفاظ الناشئة من الظهور. فليس للكلام ظهور في اللازم العقلي ، وانما يحصل العلم به من العلم بثبوت الملزوم حقيقة أو تعبدا. والكلام انما يقال أنه دال على اللازم العقلي باعتبار دلالته على ثبوت الملزوم فيثبت اللازم بحكم العقل للملازمة ، لا ان نفس الكلام دال عليه وظاهر فيه. بل لا ظهور للكلام الا في المدلول المطابقي.

ومن هنا يظهر وجه خروج هذه الدلالة عن موضوع النزاع ، لأن موضوع النزاع هو حجية الدلالة الالتزامية وظهور الكلام في المدلول الالتزامي ، بعد سقوط حجية ظهوره في المدلول المطابقي ، وقد تبين ان لا ظهور للكلام في اللازم العقلي فلا دلالة التزامية كي يبحث عن حجيتها وعدمها.

هذا مع ان الدلالة العقلية والحكم العقلي بثبوت اللازم انما يكون مع إحراز ثبوت الملزوم ـ كما عرفت ـ ، فمع العلم بانتفاء المدلول المطابقي أو التشكيك في ثبوته لا تكون هناك دلالة عقلية ولا يثبت الحكم العقلي بثبوت اللازم.

فيتضح بذلك كون موضوع الكلام هو خصوص الدلالة العرفية ، وهي بجميع اقسامها غير داخلة في موضوع الكلام ، فان الصورة الأولى والثانية

٣٨٤

خارجتان عنه.

اما الأولى : فلان الحكم لا جعل له مستقل بنفسه ، بل هو مرتبط بموضوعه ، فالمجعول هو الحكم على هذا الموضوع الخاصّ ، فمع العلم بانتفاء الموضوع يعلم بانتفاء الحكم ، كما انه مع الشك في ثبوت الموضوع وعدم إحرازه ولو تعبدا لا يمكن التعبد بالحكم لعدم إمكان جعل الحكم بدون موضوع ، فكما يشك في ثبوت الموضوع يشك في ثبوت الحكم ، فنفس ما يقتضي سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية وعدم ثبوت المدلول المطابقي يقتضي سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية لارتباط المدلول الالتزامي بالمدلول المطابقي في الثبوت.

واما الثانية : فلإمكان دعوى ان الإخبار عن العلة إخبار عن الحصة الخاصة من المعلول ، لتحصص المعلول من جهة العلة ، فالإحراق من النار غير الإحراق من غيرها ، فالمدلول الالتزامي هو الحصة الخاصة ، فمع العلم بعدم العلة يعلم بعدم المعلول الخاصّ ، فانتفاء المدلول المطابقي يلازم انتفاء المدلول الالتزامي.

واما الصورة الثالثة والرابعة : فهما موضوع البحث ، إذ الاخبار عن المعلول لا يكون إخبارا عن حصة خاصة من العلة ، بل عن العلة بقول مطلق لعدم تحصص العلة من جهة المعلول ، فان النار المحرقة وغيرها واحدة ، ولا يختلف الحال فيها بين صورتي الإحراق وغيرها ، فلا يعلم بانتفاء المدلول الالتزامي عند العلم بانتفاء المدلول المطابقي ، فيبحث في حجية الدلالة الالتزامية في مدلولها. وهكذا الإخبار بالملازم يكون اخبارا عن الملازم بقول مطلق ، لأنه لا يتحصص بوجود ملازمه ، كالإخبار عن الوجوب فانه إخبار بالملازمة عن عدم الإباحة.

ثم ان محل الكلام في هاتين الصورتين صورة عدم إحراز ثبوت المدلول المطابقي وجدانا أو تعبدا ، فمع إحراز عدم ثبوته واقعا وجدانا أو تعبدا فهي خارجة عن محل الكلام.

٣٨٥

والوجه في ذلك هو : ان ثبوت المدلول الالتزامي عند انتفاء المدلول المطابقي واقعا انما هو بإطلاق الدلالة الالتزامية ودلالتها على ثبوت اللازم مطلقا ، سواء وجد المدلول المطابقي أو لم يوجد ، والإطلاق هاهنا غير ثابت ، لأن الدلالة الالتزامية ليست مما يساق لها الكلام ، فليس المتكلم في مقام البيان من جهتها. مع انه لا يعقل ثبوت الدلالة بقول مطلق لتفرع الدلالة الالتزامية عن المطابقية. فلا يعقل ان يكون المدلول الالتزامي هو اللازم سواء وجد الملزوم أو لم يوجد. فالقدر المتيقن من الدلالة الالتزامية هو ثبوت المدلول الالتزامي عند وجود المطابقي.

إذا عرفت ذلك تعرف الإشكال فيما ذكره السيد الخوئي نقضا وحلا.

اما النقض : فبعض موارده مختص بصورة العلم ، كمثال إخبار البينة بملاقاة الثوب للبول ، وقد عرفت خروجه عن محل الكلام.

هذا مع ان المورد من موارد العلم بخطاء المستند في الإخبار ، لأن المستند في الاخبار عن المدلول الالتزامي هو العلم بالملاقاة للبول ، والمفروض العلم بعدمه ، والعلم بخطاء مستند الاخبار يوجب سقوطه عن الحجية ولو بالنسبة إلى الدلالة المطابقية. فلو أخبر عن الهلال وعلمنا ان منشأ خبره هو رؤيته لخيط في السماء تخيل انه هلال مع احتمال وجود الهلال لم يكن خبره حجة ، فسقوط الدلالة الالتزامية هاهنا لا لأجل تبعيتها للدلالة المطابقية بل لأجل العلم بكذب المستند.

والبعض الآخر كالمورد الثاني لا مانع من الالتزام به وليس فيه مخالفة لضرورة الفقه ، بل هناك من يلتزم بها من دون تردد (١).

هذا مع ان مثال الإخبار عن الملاقاة والنجاسة خارج عن محل الكلام

__________________

(١) كالمحقق العراقي قدس‌سره هكذا أفاد سيدنا الأستاذ ( دام ظله ). ( منه عفي عنه ).

٣٨٦

لوجهين آخرين :

الأول : ان الإخبار عن النجاسة ليس من سنخ الدلالة الالتزامية ، والشاهد عليه ثبوت النجاسة لو كان ما يتكفل إثبات الموضوع هو الأصل ، مع ان الأصل لا دلالة له التزامية كما قرر في محله. فتأمل.

الثاني : ان المورد من موارد ما كان المدلول المطابقي موضوعا والمدلول الالتزامي حكما ، وقد عرفت خروجه عن محل البحث ، لأن الاخبار عن الموضوع اخبار عن حصة خاصة من الحكم ، لأن النجاسة ـ مثلا ـ لم تجعل بقول مطلق بل جعلت للملاقي ، فالمخبر به التزاما نجاسة الملاقي ، فإذا علم بعدم الملاقاة للبول فقد علم بعدم نجاسة الملاقي ، فانتفى المدلول الالتزامي للعلم بخلافه.

واما الحل : فالوجه الثاني يخدش بوجهين :

أحدهما : ان يكون الإخبار عن الملزوم اخبارا عن حصة خاصة من اللازم ـ على تقدير تسليمه ـ ، قد عرفت اختصاصه ببعض الموارد دون بعض.

الثاني : انه ما المانع من دعوى حجية الدلالة الالتزامية في ذات الحصة الخاصة على تقدير التشكيك في ثبوت المدلول المطابقي لا ثبوت عدمه وإحراز انتفائه ، كي يقال باستلزامه ثبوت عدم المدلول الالتزامي؟.

والوجه الأول انما يتم في الدلالة العقلية ، لأن الحكم بثبوت اللازم لا يكون إلاّ بعد العلم بثبوت الملزوم ، وقد عرفت خروجها ، اما الدلالة العرفية فلا تتوقف على ثبوت الملزوم ، بل منشأ تحققها دلالة الكلام على ثبوت الملزوم ، وهي متحققة ، إذ الدلالة المطابقية انما تسقط عن الحجية لا عن الثبوت. ويشهد لما ذكرنا ان الدلالة الالتزامية تثبت للكلام مع العلم بانتفاء الملزوم وعدم إرادة المدلول المطابقي جدا ، كما في الاستعمالات الكنائية. فتدبر.

فالذي ينبغي ان يقال في نفي حجية الدلالة الالتزامية عند انتفاء حجية

٣٨٧

الدلالة المطابقية هو : ان الدلالة الالتزامية وان كانت من مصاديق الظهور ـ الّذي هو ملاك حجيتها ـ ، إلاّ ان حجية الظهور انما هي بعمل العقلاء وبنائهم على التمسك به وتقرير الشارع لهم ، فالطريق إلى إحراز حجية الظهور في المدلول الالتزامي شرعا بعد سقوط الدلالة المطابقية ، ليس إلاّ بناء العقلاء ، وهو لم يثبت على ذلك لعدم توفر شاهد عرفي لدينا ، والتشكيك يكفي في نفيه لأنه دليل لبي لا لفظي كي يتمسك بإطلاقه ، إذ لم يرد في لسان دليل : « ان الظاهر حجة » ، والدليل اللبي يقتصر فيه على القدر المتيقن. فعدم حجية الدلالة الالتزامية لعدم الدليل لا لما ذكر.

هذا ولكن الإنصاف ان بناء العقلاء قائم على الأخذ بالمدلول الالتزامي ولو لم يكن المدلول المطابقي حجة ، لعدم تعلق أثر عملي به أو نحوه كما يشهد لذلك ملاحظة سيرتهم في الإقرارات والدعاوي. فتدبر.

هذا ولكن لو سلم ان الدلالة الالتزامية حجة ، فهو لا ينفع في محل الكلام وإثبات الملاك بالدلالة الالتزامية لوجهين :

الأول : ان المورد من موارد العلم بانتفاء المدلول المطابقي ـ الّذي هو المستند للاخبار عن الملاك ـ للعلم بعدم الأمر عند المزاحمة.

الثاني : ان الدلالة هاهنا عقلية لا عرفية ، لأن ملازمة الأمر لثبوت الملاك في متعلقه ليس مما يستوضحه العرف ويدركه ، كيف؟ وقد أنكره قسم كبير ، فاكتفوا بوجود الملاك في نفس الحكم دون متعلقه ، بل أنكر البعض ضرورة نشوء الحكم عن مصلحة فيه أو في متعلقه كالأشاعرة.

وقد عرفت خروج كلتا الصورتين عن مبحث حجية الدلالة الالتزامية.

ونتيجة ما تقدم : انه لا دليل على ثبوت الملاك في متعلق الحكم عند ارتفاع الحكم.

وعلى هذا لم يثبت لدينا فعلا ما يصحح الضد العبادي ، لأن ما ذكره

٣٨٨

المحقق الثاني قد عرفت الإشكال فيه ، مع انه يتوقف على إحراز الملاك في الفرد المزاحم ، وقد عرفت انه لا طريق إليه ، ودعوى العلم بثبوته فيه وعدم الفرق بينه وبين سائر الافراد جزافية ، لاحتمال ان يكون ارتفاع الحكم لارتفاع المقتضي بالمزاحمة لا لوجود المانع فقط.

فيقع الكلام في الوجه الثالث المذكور لتصحيح العبادة وهو : الالتزام بتعلق الأمر بها بنحو الترتب. فالكلام فعلا في ..

الترتب

ومسألة الترتب ليست من مسائل الأصول العريفة في القدم ، بل لم يرد لها في كتب القدماء ذكر ولا أثر ، والمعروف ان أول من انتبه للترتب هو المرحوم صاحب كشف الغطاء ، ولكن جاء في أجود التقريرات نسبة الالتزام به إلى المحقق الكركي الّذي هو أسبق من كاشف الغطاء زمانا (١).

وعلى أي تقدير ، فمهمة الترتب هو تصحيح الأمر بالضدين المتزاحمين بنحو يكون كلا الأمرين في زمان واحد من دون ترتب محذور عليه. وقد اختلف الاعلام فيه نفيا وإثباتا وكثر النقض والإبرام فيه ، والّذي أسس أركانه هو السيد المجدد الشيرازي قدس‌سره. والّذي نقح البحث فيه ورتبه من المتأخرين هو المحقق النائيني قدس‌سره.

وقد قدم السيد الخوئي ( حفظه الله ) على أصل البحث في إثبات الترتب ونفيه بعض التنبيهات المتعلقة به.

ولكنه يتنافى مع أصول فن ترتيب المباحث ، فلا معنى للبحث عن ان الترتب هل يجري في هذا المورد أو لا؟ قبل البحث عن نفس الترتب ومعرفة

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٨٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٨٩

حقيقته ، فالأولى تأخيرها عن أصل المبحث وأساسه.

وكيف كان ، فدعوى الترتب بنحو الإجمال تمهيدا للدخول فيه هي : ان الضد المهم يكون متعلقا للأمر بشرط عصيان الأمر بالأهم أو ترك الأهم ، بحيث يجتمعان في زمان واحد.

وقد سلك للاستدلال لصحته مسلكان : أحدهما عرفي والآخر برهاني.

اما الوجه العرفي فتقريبه : ان ثبوت الترتب ووقوعه في الأوامر العرفية والشرعية مما لا إشكال فيه ، فنرى ان الأب يأمر ابنه بالذهاب إلى المدرسة ، ثم يقول له إذا لم تذهب إلى المدرسة فابق في البيت ، فالأمر بالبقاء في البيت مشروط بترك الذهاب إلى المدرسة مع عدم سقوط الأمر به.

ومن المعلوم انه لا يرى بذلك أي محذور واستحالة. هذا في العرفيات.

واما في الشرعيات ، فكما لو وجب على المكلف قصد الإقامة في البلد الّذي سافر إليه ، فانه يجب عليه الإفطار والقصر لو لم يقصد الإقامة ، فالأمر بالإفطار مشروط بعدم قصد الإقامة مع تعلق الأمر بها فعلا ، فالأمران يجتمعان في زمان واحد.

وإذا ثبت وقوع الترتب فهو خير دليل على الإمكان وعدم الاستحالة.

والتحقيق : ان هذا المثال العرفي ونحوه وان كان ظاهرا في وقوع الترتب ، إلاّ انه لو فرض قيام الدليل الجزمي على استحالة الترتب وامتناع وقوعه فلا بد من صرف هذه الموارد عن ظاهرها ، بدعوى ان الأمر بالبقاء في البيت في المثال المزبور يرجع في الحقيقة إلى النهي عن الكون خارج الدار والمدرسة ، أو أنه يرجع إلى الإرشاد إلى وجود المصلحة في البقاء فيكون امرا إرشاديا ، أو انه ثابت بعد سقوط الأمر بالذهاب إلى المدرسة لفوات وقته ، فالأمثلة العرفية لا تصلح دليلا في قبال برهان الاستحالة.

واما المثال الشرعي المذكور والّذي فرع عليه فروعا متعددة جعلها

٣٩٠

شاهدا على الترتب ، فهو أجنبي عما نحن فيه وبعيد عنه ، فان ما نحن فيه ما يكون بين متعلق الأمرين تضاد في أنفسهما بحيث لا يمكن اجتماعهما معا كإنقاذ غريقين وليس قصد الإقامة والإفطار من هذا القبيل ، فانه لا تضاد بينهما في أنفسهما إذ يمكن الجمع بينهما ، وانما لم يمكن الجمع بينهما خارجا لأجل النهي عن الصوم بدون قصد الإقامة ، فالتضاد بينهما عارضي ناشئ من نحو جعل حكميهما وعدم جعل حكم أحدهما في مورد الآخر ، فالمثال المزبور لا يرتبط بما نحن فيه فلا يصلح شاهدا على وقوع الترتب.

واما المسلك البرهاني : فقد عرفت ان المحقق النائيني هو أفضل من نقح الاستدلال عليه.

وقد الف استدلاله من مقدمات :

المقدمة الأولى : أوضح فيها أمرين :

الأمر الأول : ان منشأ التزاحم والتنافي بين الحكمين هو الّذي لا بد من ارتفاعه دون غيره لعدم الموجب لارتفاع غيره ، والسقوط بدون موجب محال.

وعليه فان كان منشأ التزاحم هو إطلاق كل من الخطابين فيرتفع بتقييد إطلاق المهم ، لارتفاع منشئه. واما إذا كان منشأ التزاحم هو نفس فعلية الخطابين فاللازم سقوط أصل الخطاب بالمهم لا إطلاقه.

ثم عقب هذا الأمر بالتعرض إلى ما جاء من الشيخ الملتزم باستحالة الترتب وسقوط أصل الخطاب بالمهم ـ ما جاء منه ـ من الالتزام في مورد تعارض الخبرين بناء على السببية بتقييد وجوب العمل بكل منهما بترك العمل بالآخر ، بدعوى ان المحذور ناشئ من إطلاق وجوب العمل بكل منهما فيرتفع برفع منشئه وهو يكون بالتقييد ، وهذا يرجع إلى كون خطاب كل منهما مترتبا على ترك العمل بالآخر.

واستشكل فيه بما نصه : « وليت شعري إذا كان الالتزام بالترتب من طرف

٣٩١

واحد ممتنعا كما فيما نحن فيه ، فهل ضمّ ترتب آخر والالتزام بترتبين يوجب ارتفاع المحذور؟ » (١).

أقول : لا يخفى ان ما ذكره أولا من الترديد في منشأ التزاحم وأثر كل من طرفي الترديد ، ليس دخيلا في تصحيح الترتب ، وانما هو بيان لموضوع النزاع ونقطة الخلاف ومنشئه ، فإيراده في مقدمات تصحيح الترتب الظاهر في دخله في معرفة إمكانه ليس بجيد.

واما إيراده على الشيخ قدس‌سره بما عرفت ، فيمكن دفعه بما أشار إليه في الكفاية من الإشكال في الترتب : بان التكليف بالمهم وان كان مشروطا بعصيان الأهم فلا يطارد الأمر بالأهم ، إلاّ ان الأمر بالأهم مطلق فهو يطارد الأمر بالمهم (٢).

ومن الواضح ان هذا الإشكال يرتفع بتقييد كل من الأمرين بعصيان الآخر.

وعليه ، فالتزام الشيخ باستحالة الترتب من جانب واحد لا يلازم الالتزام باستحالته من جانبين ، إذ يمكن ان يكون وجه استشكاله في صحة الترتب من جانب واحد ما ذكره صاحب الكفاية الّذي عرفت انه لا يتأتى في مورد كون الترتب من الجانبين. فتدبر.

الأمر الثاني : ان المحذور من تعلق الأمر بكلا الضدين الّذي يحاول تصحيحه بوجه من الوجوه بالترتب ، ليس إلاّ طلب الجمع بين الضدين ، وهو ليس بمقدور ، ولا يخفى ان هذا المعنى يرتفع بالترتب ، لأن التكليف بالمهم يكون في طول التكليف بالأهم لا في عرضه ، ويشهد له انه لو فرض إمكان الجمع بين

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٨٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٩٢

متعلقي الخطابين المترتب أحدهما على ترك متعلق الآخر لم يقعا على صفة المطلوبية ، فانه يكشف عن ان المطلوب ليس الجمع بين الضدين وإلاّ لوقع كل من الفعلين على صفة المطلوبية. مثال ذلك : إذا أوجب الكون في المسجد وأوجب قراءة القرآن عند ترك الكون في المسجد ، فانه إذا دخل المسجد وقرأ القرآن لا تقع القراءة على صفة المطلوبية ، فانه يكشف ان نفس الترتب يمنع من تحقق طلب الجمع بين الضدين المحال (١).

أقول : ان هذا الأمر كسابقه ليس من مقدمات تصحيح الترتب ، وانما هو وجه مستقل تام إجمالي لتصحيح الترتب ، لأنه يتكفل بيان ارتفاع محذور طلب الضدين بالترتب ، وهذا مصحح له بنفسه من دون احتياج إلى ضم مقدمات أخرى.

هذا مع ان كلامه في نفسه لا يخلو عن مناقشة ، فان ما ذكره من ان المحذور في تعلق الأمر بكل من الضدين هو كونه طلبا للجمع بين الضدين ، وهذا المحذور يرتفع بالترتب. ليس بوجيه ، بيان ذلك : انه سيأتي إن شاء الله تعالى في مبحث المطلق والمقيد البحث في أن الإطلاق هل هو عبارة عن الجمع بين القيود أو هو عبارة عن رفض القيد؟ ، فهل إطلاق : « العالم » في دليل : « أكرم العالم » معناه دخالة كل ما يتصور قيديته للطبيعة في الحكم ، فالعدالة دخيلة والفسق دخيل والبياض دخيل والسواد كذلك وهكذا ، أو معناه عدم دخالة أي قيد من القيود ، ولم يؤخذ في الموضوع سوى ذات الطبيعة؟. والّذي يقتضيه النّظر هو الثاني. وعليه فإطلاق الأمر بكل من الضدين يرجع إلى الأمر بالضد سواء وجد الضد الآخر أو لم يوجد ، فالمطلوب ليس إلا نفس الضد دون الجمع بينهما.

نعم ، لو كان الإطلاق معناه الجمع بين القيود ، كان مقتضى إطلاق الأمر

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٨٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٣

بكل من الضدين. إرادة كل من الضدين مع الآخر (١) ، إذ وجود الضد الآخر دخيل في الموضوع فالمطلوب هو الضد مع وجود ضده. ولكن عرفت ان التحقيق خلافه.

وبالجملة : ليس المطلوب ومتعلق الأمر الا ذات الضد ، وليس هناك امر آخر متعلق بكلا الضدين.

نعم طلب الجمع بين الضدين ينتزع من طلب كل منهما لا على ان يكون هناك طلب حقيقي بالجمع.

وقد يقال : ان غرض القائل ليس وجود طلب متعلق بالجمع بين الضدين ، وانما غرضه تحقق واقع طلب الجمع بين الضدين لا عنوانه ، وهو مستحيل ، وقد نبه المحقق النائيني قدس‌سره على إرادة ذلك في بعض كلماته.

ولكن يرد عليه ـ بعد توجيهه بان مقتضى الإطلاق ثبوت طلب كل من الضدين ولو في حال الاشتغال بالضد الآخر ، ففي هذه الحال يتحقق واقع طلب الجمع بين الضدين ـ : بان هذا المحذور لا يرتفع بالالتزام بالترتب ، وذلك لأنه في حال الاشتغال بفعل الضد المهم اما ان يلتزم بعدم الأمر بالأهم ، وهو خلف المفروض ، إذ المفروض اجتماع الأمرين في زمان واحد. واما ان يلتزم بثبوت الأمر بالأهم كما هو المفروض ، فيلزم تحقق واقع طلب الجمع بين الضدين. فتدبر جيدا.

واما ما ذكره شاهدا على كون الترتب مانعا من طلب الجمع بين الضدين ، وهو ما لو أتى بكلا المتعلقين لو فرض إمكان اجتماعهما ، فهو لا يصلح لما اراده. فانه انما يصلح لو فرض فعلية كلا الحكمين ومع هذا لا يكون متعلقهما واقعين

__________________

(١) ليس ذلك من طلب الجمع ، بل من طلب أحد الضدين عند وجود الآخر ، لا ان الطلب متوجه لهما معا ، فالفرق ليس إلا في ان وجود الآخر على هذا الاحتمال دخيل في الملاك دون احتمال رفض القيود. وإلا فالأمر في فرض وجود الآخر ثابت على كلا القولين. فالتفت. ( منه عفي عنه ).

٣٩٤

على صفة المطلوبية ، فانه يكشف عن عدم طلب الجمع بين الضدين ، وليس الأمر كذلك ، لأنه مع الإتيان بالأهم يرتفع الأمر بالمهم لفقدان شرطه وهو ترك الأهم.

فعدم وقوع المهم على صفة المطلوبية لأجل عدم الأمر. وهذا أجنبي عما نحن فيه. فلاحظ.

المقدمة الثانية : ان الواجب المشروط لا ينقلب مطلقا عند حصول شرطه ، بل يبقى كما كان قبل حصوله مشروطا به.

والوجه فيه : ان كل شرط يقيد به الحكم يرجع إلى الموضوع ويكون قيدا لموضوع الحكم فيلزم أخذه مفروض الوجود حين التكليف ، بمعنى ان التكليف يرد عليها بعد تحققها خارجا. فكل شرط موضوع كما ان كل موضوع شرط.

ومن المعلوم ان كل موضوع لا ينسلخ عن موضوعيته عند وجوده ، فلا يكون الحكم بدون موضوع. فدعوى انقلاب الواجب المشروط مطلقا عند حصول شرطه تساوق دعوى خروج الموضوع عن موضوعيته بعد وجوده خارجا.

ثم أخذ قدس‌سره في بيان منشأ التوهم المزبور ، وانه ناشئ عن الخلط بين ما هو موضوع الحكم وما هو داعي الجعل ، بتخيل رجوع الشرط إلى كونه داعيا للجعل ، فلا يتقيد به الجعل ولا المجعول بعد وجوده ، بل يكون الحكم مطلقا وان تخلف الداعي خارجا. فان الحكم يرد بإكرام زيد بداعي تشجيعه على الاشتغال والتحصيل ، فلا يتقيد الحكم بالداعي ، ولذا يثبت الحكم وان لم يحصل التشجيع على الاشتغال.

وذكر قدس‌سره ان هذا التخيل فاسد ، إذ رجوع الشرط إلى كونه داعيا للجعل يستلزم كون الإنشاءات المقيدة ببعض الشروط من قبيل الإخبار. بيان ذلك : ان الشرط إذا كان داعيا للجعل ، فمعناه ارتباط الجعل به فلا يتحقق الجعل الا بعد حصوله لأنه هو الّذي يدعو إليه.

وعليه ، فمرجع الإنشاء المقيد بالشرط إلى الاخبار عن تحقق الجعل لكل

٣٩٥

مكلف عند تحقق الشرط. وهذا باطل ضرورة.

وبالجملة : ان الشرط قيد الموضوع وليس من دواعي الجعل ، والتعبير عنه بالشرط تارة وبالسبب أخرى ليس إلاّ اصطلاح صرف يختلف البناء عليه باختلاف موارده. وإلاّ فهما حقيقة من قيود الموضوع. وعليه فلا ينقلب الواجب المشروط مطلقا عند حصول شرطه ، ويترتب على هذا بقاء اشتراط الأمر بالمهم عند حصول شرطه وهو عصيان الأمر بالأهم. فارتباط هذه المقدمة بتصحيح الترتب هو انه لو التزم بانقلاب الواجب المشروط مطلقا عند حصول شرطه لزم ان يكون الأمر بالمهم عند عصيان الأمر بالأهم مطلقا فيكون في عرضه فيعود التمانع. بخلاف ما لو التزم بأنه يبقى مقيدا ولا ينقلب عن اشتراطه فانه يكون في طوله فلا تمانع.

هذا خلاصة المقدمة الثانية بتوضيح منا (١).

وقد أورد عليها إيرادات متعددة رأينا إهمالها أولى ، لعدم ارتباطها بما هو المهم في المقام.

والّذي ينبغي ان نوقع البحث فيه حول هذه المقدمة هو : تفهم المقصود بما جعل موضوع الخلاف في هذه المقدمة ، وهو ان الواجب المشروط هل ينقلب مطلقا عند حصول شرطه أو لا؟ فان إدراك المقصود منه بنحو يكون له صورة معقولة يبدو لنا صعبا ، وذلك لأن الشرط المأخوذ قيدا للحكم اما ان يؤخذ قيدا حدوثا وبقاء. واما ان يؤخذ قيدا حدوثا فقط.

فان أخذ قيدا حدوثا وبقاء ، فمعناه ارتباط الحكم به في حدوثه وبقائه ، وهذا يتنافى مع إطلاق الحكم عند حصوله ، فانه خلف فرض تقيد الحكم به بقاء ، إلاّ ان شخصا لا يدعي صيرورته مطلقا بمجرد حصول شرطه سواء كان الشرط

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٨٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٩٦

من قيود الموضوع أو لا.

وان أخذ قيدا حدوثا فقط ، الّذي معناه ثبوت الحكم في مرحلة بقائه ولو لم يكن هذا الشرط موجودا ، فهذا يرجع إلى إطلاق الحكم في مرحلة بقائه وعدم تقييده ، وهو مما لا إشكال فيه ولا يختلف فيه اثنان سواء كان الشرط من قيود الموضوع أو لا.

فبقاء التقيد في الفرض الأول وعدم بقائه في الفرض الثاني من باب الضرورة بشرط المحمول ومما لا يختلف فيه أصلا. وليس لدينا فرض ثالث غيرهما. اذن فما معنى النزاع في ان الواجب المشروط هل ينقلب مطلقا عند حصول شرطه أو لا ينقلب؟ ، وما هو المقصود منه؟ بعد ان كان الأمر دائرا بين فرضين لا ثالث لهما ، والالتزام في أحدهما ببقاء التقييد وفي الآخر بارتفاعه بلا خلاف ولا شبهة ، فانه مقتضى دليل الاشتراط.

ودعوى : انه يمكن ان يكون المقصود هو النزاع في ان الحكم في الآن الّذي يفرض حصول الشرط فيه بوصف كونه شرطا ـ سواء أخذ شرطا حدوثا فقط أو حدوثا وبقاء ـ ، هل يبقى مقيدا بذلك الشرط أو يكون مطلقا بالنسبة إليه؟ ، فالنزاع بلحاظ زمان حصول الشرط مع فرض شرطيته لا بلحاظ زمان ما بعد حصوله كي يأتي التشقيق السابق.

غير مجدية في تصحيح النزاع ، إذ إطلاق الحكم بالنسبة إلى الشرط عند حصوله بلحاظ آن حصوله غير معقول ، فان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه فلا يتصور الخلو عن الشرط في زمان حصوله. فلا يتصور للإطلاق معنى معقول كي يكون موضوع النفي والإثبات.

هذا مع ان نفي الإطلاق والالتزام ببقاء التقييد في ذلك الآن يثبت سواء كان الشرط راجعا إلى الموضوع أو ليس براجع إليه بل له حقيقة أخرى غير الموضوع ، لأن الحكم مرتبط به على كل تقدير كما هو مقتضى دليل الشرطية ،

٣٩٧

فنفي ارتباطه به ينافي دليل الشرطية.

فلم يظهر الوجه في الاهتمام لإثبات كون الشرط من قيود الموضوع وراجعا إليه حقيقة.

هذا ان كان المقصود بالإطلاق المعنى المصطلح وهو ثبوت الحكم في حالتي وجود الشرط وعدمه.

وان أريد بالإطلاق معنى آخر وهو : شمول الحكم للشرط وسرايته إليه بان يكون داعيا إليه باعثا نحوه ، نظير داعوية وجوب الصلاة نحو الطهارة ، فيقصد بالتقييد عدم دعوة الحكم إلى الشرط وانه عند وجوده لا يكون الحكم مطلقا بمعنى داعيا إليه. فهذا المعنى وان كان معقولا في نفسه إلاّ أنه سيأتي منه قدس‌سره بيان عدم نظر الحكم إلى شروطه وانه لا يكون داعيا إليها ، فتقديم الكلام فيه بالعنوان المذكور في المقدمة ، وهو عنوان ان المشروط لا ينقلب مطلقا عند تحقق شرطه ، لا وجه له.

مضافا إلى ان عدم الانقلاب وبقائه على التقييد لا يختص بالالتزام برجوع الشرط إلى الموضوع ، بل يتأتى ولو كان للشرط حقيقة أخرى ، ولذلك التزم صاحب الكفاية وغيره بان مقدمة الوجوب لا يترشح عليها الوجوب من الواجب لأنها شرط الحكم لا الواجب (١) ، مع العلم بان صاحب الكفاية لا يلتزم برجوع الشروط إلى الموضوع.

والمتحصل : ان إهمال ذكر هذه المقدمة هو الّذي كان يتعين على المحقق النائيني رحمه‌الله. فالتفت.

المقدمة الثالثة : ان فعلية الحكم مساوقة لحصول الجزء الأخير من الموضوع ، بمعنى انه لا يكون هناك فصل زماني بين الحكم وموضوعه ، بل التقدم

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٩٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٩٨

والتأخر بينهما رتبي ، فان الفصل الزماني بين الحكم وموضوعه خلف فرض كون الموضوع موضوعا ، فلو فرض في بعض الواجبات ثبوت لزوم تخلل آن ما بين الموضوع والحكم يكشف ذلك عن دخل الآن المزبور في الموضوع ، بحيث يكون هو الجزء الأخير لموضوع الحكم. وعلى هذا الأساس بنى على بطلان الشرط المتأخر لاستلزامه تقدم الحكم على شرطه.

وكما انه لا فصل بين الحكم وموضوعه في الزمان ـ لأن نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول. ومن الواضح انه لا انفكاك بين العلة والمعلول زمانا ، بل الاختلاف بينهما في المرتبة ـ كذلك لا فصل بين الحكم وامتثاله زمانا ، بل التقدم والتأخر بينهما رتبي ، لأن نسبة الحكم إلى الامتثال نسبة العلة إلى المعلول.

واما دعوى لزوم الانفكاك بين الحكم والامتثال زمانا في المضيقات ، واعتبار مضي زمان ما للحكم على وقت الامتثال. بتقريب : ان وجود الإمساك ـ مثلا ـ إذا لم يكن متقدما على الإمساك أول الفجر آناً ما. فاما ان يكون المكلف مقارنا لحدوث الخطاب أول الفجر متلبسا بالإمساك ، أو متلبسا بالإفطار ، فان كان متلبسا بالإمساك لزم تعلق الطلب بالحاصل وهو محال. وان كان متلبسا بالإفطار امتنع تعلق الطلب بالإمساك في ذلك الحين لأنه غير مقدور ، فان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، والمفروض انه كان متلبسا بالإفطار في ذلك الحين فكيف ينقلب ويصير إمساكا؟.

فهي مندفعة :

أولا : بالنقض بالعلة والمعلول التكوينيين ، فانه يقال : انه عند وجود العلة اما ان يكون المعلول موجودا أو معدوما فان كان موجودا لزم ان تكون علة للحاصل ، وان كان معدوما استحال وجوده في زمان عدمه ـ سواء كان مع عدمه أو بتبدل العدم إلى الوجود ـ فتكون العلة علة للمستحيل. وكل من علة الحاصل

٣٩٩

والمستحيل محال. فعلية يلزم تقدم العلة على المعلول زمانا ولا يلتزم به أحد.

وثانيا : بالحل في الجميع ، بان وجود المعلول والامتثال في الآن الّذي تتحقق فيه العلة والخطاب إذا كان من غير ناحيتهما وبسبب آخر غيرهما تأتى ما ذكر ، اما إذا كان من ناحيتهما ومستندا إليهما فلا محذور فيه وان تقارنا في الزمان.

وثالثا : ان تقدم الخطاب على زمان الامتثال لا يترتب عليه الأثر المطلوب ، فيكون لغوا. بيان ذلك : ان المكلف ان كان عالما بأنه يتعلق به الخطاب حال الفجر كفى ذلك في امتثاله الخطاب حين الفجر ، وفرضه قبل الفجر لا أثر له لأن المحرّك هو الخطاب المقارن وان لم يكن عاملا بثبوت الخطاب في حقه قبل الفجر فلا يجدي ألف خطاب في محركيته.

ورابعا : ان الخطاب لو كان متقدما على الامتثال ولو آناً ما لزم تعلق الفعلي بما هو متأخر ، وهذا يرجع إلى الالتزام بالواجب المعلق وهو محال كما حقق في محله.

وخامسا : ان هذا الإشكال لو تم ، فهو يسري إلى الموسعات ولا يختص بالمضيقات ، مع انهم لا يلتزمون بلزوم الفصل الزماني بين الحكم وامتثاله في الموسعات ولذلك يلتزم بصحة العمل الموسع إذا فرض مقارنة أول جزء منه لآخر جزء من الموضوع في الوجود.

والمهم من تحرير هذه المقدمة هو بيان ان الأمر بالأهم وعصيانه الّذي هو بديل امتثاله والأمر بالمهم المشروط بعصيان الأهم متحدة زمانا من دون ان يكون بينهما سوى التقدم والتأخر الرتبي ، وهذا واضح مما تقدم ، وبه يندفع جملة من الإشكالات الموردة على الترتب ، وقد ذكر منها اثنين :

أحدهما : ان عصيان الأمر بالأهم متحد مع زمان امتثال خطاب المهم ، فلا بد من فرض تقدم خطاب المهم على زمان امتثاله ، وهو مستلزم للالتزام

٤٠٠