منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

وأنكر البهائي قدس‌سره هذه الثمرة ، والّذي ذكره صاحب الكفاية عنه في تقريب الإنكار هو : ان العبادية والتقرب يتوقف على تعلق الأمر بالعمل. ومن الواضح ان الضد العبادي لا امر به لارتفاع الأمر به بمزاحمته مع الواجب الأهم ، فلا يقع صحيحا سواء قلنا بأنه منهي عنه أو لم نقل بذلك. فلا يترتب على الالتزام بتعلق النهي بالضد الأثر المذكور ـ أعني فساد العبادة ـ.

وأورد عليه صاحب الكفاية : بان الأمر وان ارتفع بالمزاحمة إلاّ ان ملاك الأمر ثابت وموجود وهو المحبوبية الذاتيّة ، إذ لا مقتضي لارتفاعه. والمزاحمة انما تقتضي ارتفاع الأمر لا غير. وعليه فالتقرب بالملاك يكفي في تحقق العبادية ولا يتوقف على وجود الأمر ، وهو انما يصح لو لم يكن منهيا عنه ، لأن النهي يستلزم الفساد ، فتظهر الثمرة (١).

لكن المحقق النائيني قرب دعوى البهائي بنحو لا يكون لما أورده صاحب الكفاية مجال.

ومحصل ما أفاده : انه اما ان يشترط في صحة العبادة تعلق الأمر بها فعلا.

أو لا يشترط ذلك ويلتزم بكفاية الملاك في صحة العبادة.

فعلى الأول : يقع الضد العبادي فاسدا ، سواء قلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده أو بعدم اقتضائه ، لأن الأمر بالضد مرتفع لأجل مزاحمته للأمر بالأهم ، لأنه يستحيل طلب الضدين.

وعلى الثاني : يقع صحيحا على القولين اما بناء على عدم الاقتضاء فواضح.

واما بناء على الاقتضاء ، فان العبادة وان كانت منهيا عنها إلاّ ان النهي المتعلق بها نهي غيري ناشئ عن مقدمية تركها للمأمور به أو ملازمته له ، وليس

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦١

هو ناشئا عن مفسدة في نفس متعلقه كي يكون مزاحما لما فيه من المصلحة وموجبا لاضمحلالها. فيرتفع موجب التقرب ، فالمصلحة في الضد العبادي تصحح التقرب ولا رافع لها ولا مزاحم (١).

ولا يخفى ان هذا التقريب أوجه علميا مما ذكره صاحب الكفاية ، كما انه لا يرد عليه إيراد صاحب الكفاية من كفاية التقرب بالملاك ، فان التقريب يشير إلى هذه الجهة ويعطيها حكمها فتدبر.

وتحقيق الحال فيه ؛ ان المقصود بالملاك تارة يكون هو المحبوبية الذاتيّة. وأخرى يكون هو المصلحة المترتبة على المتعلق. والظاهر ان مقصود المحقق النائيني بالملاك المصحح للعبادية هو المصلحة ، ويدل عليه وجهان :

الأول : تصريحه بعدم نشوء النهي عن مفسدة في المتعلق كي تزاحم ملاك الأمر وتوجب اضمحلاله ، فانه ظاهر في كون نظره بالملاك إلى المصلحة.

الثاني : انه لو كان المنظور بالملاك هو المحبوبية لما صح التقرب بالعمل بناء على النهي عنه ولو كان نهيا غيريا ، لأن النهي يستلزم مبغوضية العمل ولو لمفسدة في غيره ، ومع كونه مبغوضا كيف يصح التقرب به لامتناع كونه محبوبا حينئذ؟ فكلامه لا يتم إلاّ بفرض كون مراده من الملاك هو المصلحة ، الّذي لا يرتفع بالمبغوضية الغيرية.

إلاّ انه يرد عليه :

أولا : ان قصد المصلحة لا يمكن تحققه هنا.

وذلك : لأن العمل إذا فرض كونه عباديا كانت المصلحة مما يترتب على العمل بقيد كونه عباديا. اما ذات العمل فلا تترتب عليه المصلحة.

وعليه ، فلا يصلح ترتب المصلحة لأن يكون داعيا إلى الإتيان بالعمل ،

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٦٢ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٢

لعدم ترتبه عليه ، والداعي ما كان بوجوده العلمي سابقا وبوجوده العيني لاحقا.

وبالجملة : لا يمكن ان يؤتى بالعمل بداعي المصلحة ، إذ لا مصلحة فيه ، بل المصلحة تترتب على العمل العبادي فقصد المصلحة في طول تحقق العبادية لا محقق لها ، فهو نظير الإتيان بالعمل بداعي ترتب الثواب أو الفرار من العقاب ، فانه في طول العبادة لا محقق لها ، كما تقدم بيان ذلك في مبحث التعبدي والتوصلي.

وثانيا : لو فرض إمكان تحقق قصد المصلحة ، فهو لا يكون مقربا ، لما تقدم من انه يعتبر في المقربية ارتباط العمل بالمولى بنحو ارتباط ، والإتيان بالعمل لأجل ترتب المصلحة عليه لا يرتبط بالمولى فلا يكون العمل مقربا لعدم ربطه بالمولى.

وعلى هذا لا يستقيم ما أفاده المحقق النائيني من إنكار الثمرة ، إذ الملاك المصحح ليس إلاّ المحبوبية ، وهو لا يتحقق مع تعلق النهي بالعمل.

ولكن الّذي يسهل الخطب ما عرفت من الالتزام بعدم اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده ، اما لأجل إنكار دعوى المقدمية التي هي عمدة أساس القول بالاقتضاء. واما من جهة إنكار وجوب المقدمة.

هذا مع ان النهي على تقدير الالتزام به بمعنى طلب ترك الضد ، أعني وجوب تركه اما لأجل المقدمية أو لأجل التلازم ، ووجوب الترك لا يتنافى مع محبوبية الفعل في نفسه ، إذ ليس النهي الّذي ينافيها الا الزجر عن الفعل وليس هو طلب الترك ، فالنهي الثابت هاهنا على تقديره لا يتنافى مع مقربية الفعل لإمكان ان يكون كل من الترك والفعل محبوبا في نفسه ، إلاّ ان محبوبية أحدهما تغلب الأخرى فتكون منشئا للأمر ، وهو لا يلازم مبغوضية غير المأمور به ، ولذلك قلنا ان الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام. فلاحظ.

٣٦٣

ثم انه بناء على عدم الاقتضاء لا شبهة في ارتفاع الأمر بالضد عند تعلق الأمر بضده الآخر ، لعدم إمكان الجمع بين الضدين فالامر بكليهما محال ، فإذا تعلق الأمر بالضد الأهم ارتفع الأمر بضده ولو لم يكن منهيا عنه.

وعليه ، فيقع البحث في مصحح الضد العبادي مع ارتفاع الأمر به ، وهو أحد وجوه يقع البحث في كل منها وهي :

أولا : الالتزام بتعلق الأمر به بنحو الترتب.

وثانيا : الالتزام بمصححية قصد الملاك. والمهم في البحث عن هذا الوجه هو البحث عن طريقة إحراز الملاك بعد ارتفاع الأمر.

وثالثا : الالتزام بصحة قصد الأمر بالضد المزاحم ، ولو لم يكن مأمورا به كما ذهب إليه المحقق الكركي ( وهو المحقق الثاني ) في خصوص تزاحم العبادة الموسعة مع واجب مضيق كتزاحم صلاة الظهر مع إزالة النجاسة.

ولنبدأ بالوجه الأخير ، فنقول : حكي عن المحقق الثاني صحة الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر في الواجب الموسع المزاحم لواجب مضيق.

وقد اختلف في تقريب كلامه صاحب الكفاية مع المحقق النائيني.

فالذي ذكره صاحب الكفاية في تقريب كلامه هو : ان هذا الفرد المزاحم بالواجب الأهم وان كان خارجا بالمزاحمة عن دائرة الأمر وليس مصداقا للمأمور به ، وانما هو مصداق للطبيعة بما هي لا بما هي مأمور به ، إلاّ انه حيث يكون كسائر الافراد في الوفاء بالغرض الباعث للأمر ، وعدم افتراقه معها في ذلك ، لم ير العقل المحكم في باب الامتثال ، فرقا بينه وبين غيره من الافراد في تحقق الامتثال به ، فإذا جاء به العبد قاصدا امتثال الأمر يتحقق الامتثال به ويسقط الأمر بالامتثال ويعد العبد ممتثلا ومطيعا بنظر العقل.

هذا ما جاء في الكفاية في مقام تقريب الوجه المذكور ، وقد قرره صاحب

٣٦٤

الكفاية (١).

والّذي ذكره المحقق النائيني هو : ان الفرد المزاحم لا يكون مأمورا به ، لأنه لا يكون مقدورا.

إلاّ انه لما كان الأمر متعلقا بصرف وجود الطبيعة لا بخصوصية الافراد ، ولذلك كان التخيير بين الافراد عقليا لا شرعيا. وبما ان القدرة على بعض افراد الطبيعة تحقق القدرة على نفس الطبيعة.

وعليه ، فالامر فيما نحن فيه متعلق بصرف وجود الطبيعة للقدرة على بعض افرادها وهي غير المزاحمة للواجب.

ومن الواضح ان انطباق الطبيعة على الفرد المزاحم قهري ، فإذا جاء به العبد تحقق به الامتثال ، لأن ملاك الامتثال انطباق المأمور به على المأتي به ، فكما يتحقق الامتثال بغير المزاحم من الافراد للانطباق ، كذلك يتحقق بالفرد المزاحم للانطباق. فالفرد المزاحم وان لم يكن مأمورا به بنفسه لكنه مصداق المأمور به.

هذا محصل ما جاء في تقريرات المحقق النائيني قدس‌سره (٢).

وجهة الفرق بين التقريبين : ان الفرد المزاحم في تقريب صاحب الكفاية قد فرض كونه خارجا عن دائرة المأمور به ، وانه ليس فردا للطبيعة بما هي مأمور به.

واما في تقريب المحقق النائيني فقد فرض كونه مصداقا للطبيعة بما هي مأمور بها.

وعلى أي حال فنحن نوقع الكلام في كلا التقريبين.

اما تقريب الكفاية فقد أورد عليه ـ كما أشار إليه في الكفاية ـ بان الأمر

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ١ ـ ٣١٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٦٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٥

لا يدعو إلاّ إلى ما تعلق به ، فيستحيل أن يؤتى بالفرد المزاحم بداعي الأمر ، مع انه خارج عن دائرة المأمور به ، إذ الأمر لا يدعو إليه والحال هذه (١).

وتحقيق الكلام ان يقال : ان المقصود من داعي الأمر ليس ما هو ظاهره وهو داعي نفس الأمر لأن الداعي ما يكون بوجوده الخارجي متأخرا عن العمل وهو المعبر عنه بالعلة الغائية. ومن الواضح ان الأمر لا يترتب في الخارج على العمل بل هو سابق عليه. فالمقصود من داعي الأمر هو داعي موافقة الأمر ، لا بمعنى موافقة نفس الأمر فانه تعبير مسامحي ، بل موافقة المأمور به ، أو المقصود داعي الجري على طبق الأمر وامتثاله.

ومن الواضح انه بهذا المعنى الأخير يمكن الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر ، لأن الأمر لما كان ناشئا عن ثبوت غرض ملزم في متعلقه وكان الأمر لأجل تحصيل هذا الغرض ، وبما ان الفرد المزاحم محصل للغرض الباعث نحو الأمر ، صح أن يؤتى به بداعي الجري على طبق الأمر. وبتعبير آخر يؤتى بالفرد المزاحم بداعي تحصيل الغرض الداعي إلى الأمر لغرض إسقاط ذلك الأمر ، بحيث لو لم يكن الأمر ثابتا لما جيء بالعمل.

وبهذا التقريب يصح ان يقال : انه يمكن الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر.

إلاّ انه ـ كما عرفت ـ يبتني على ان يكون الفرد المزاحم محصلا للغرض ، وطريق معرفة ذلك سيأتي تحقيقه في الكلام على الوجه الثاني ، الّذي نبحث فيه عن طريق إحراز الملاك بعد ارتفاع الأمر.

واما تقريب المحقق النائيني فقد أورد عليه قدس‌سره : بأنه انما يتم بناء على كون أخذ القدرة شرطا للتكليف من باب حكم العقل بقبح تكليف

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٦٦

العاجز.

وذلك لأن الطبيعة لما كانت مقدورة بالقدرة على بعض افرادها ، صح تعلق التكليف بها من دون تقييد ، لأن الجامع بما هو جامع مقدور فيصح تعلق الحكم به.

واما بناء على كون اشتراط القدرة من جهة اقتضاء نفس التكليف لذلك وهو الحق ، فان التكليف انما هو

لأجل إعمال إرادة المكلف في الفعل ، وتحريك العبد نحو الإتيان بالعمل بإرادته ، فطبيعة التكليف تقتضي تعلقه رأسا بما هو مقدور ، إذ لا قابلية لغير المقدور لتعلق التكليف في نفسه.

بناء على هذا البناء لا يتم ما ذكره المحقق الكركي ، لأن متعلق التكليف ليس هو الطبيعة بما هي هي ، بل الطبيعة المقدورة. ومن الواضح ان الفرد المزاحم ليس فردا لطبيعة المقدورة فلا يكون فردا للطبيعة بما هي مأمور به بل بما هي هي ، وهو لا ينفع في صحة الإتيان بها بداعي الأمر. هذا محصل ما أورده المحقق النائيني (١).

وهو لا يخلو عن ضعف بكلا شقيه ..

أعني : ما ذكره من عدم تقيد المتعلق بالقدرة بناء على كون اشتراط التكليف بالقدرة بحكم العقل من باب قبح تكليف العاجز.

وما ذكره من كون الحق تقيد المتعلق بالقدرة لأجل كون اشتراط القدرة مما يقتضيه نفس التكليف وطبيعته.

اما ما اختاره من كون اشتراط القدرة من جهة اقتضاء طبيعة التكليف ذلك ، سواء حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو لم يحكم. فالحق فيه : انه لا وجه لاشتراط القدرة سوى حكم العقل بقبح تكليف العاجز وكون التكليف انما هو

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٦٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٦٧

لجعل الداعي لا ينافي ذلك.

بيان ذلك : ان ارتباط التكليف بإرادة المكلف يتصور على أنحاء ثلاثة : لأنه ..

اما ان يكون ارتباطا تكوينيا ، نظير ارتباط تحريك الآلة في تشغيل الماكنة المنتجة لبعض المصنوعات كالأسباب التوليدية لمسبباتها ، فيكون حدوث التكليف محركا للإرادة وموجدا لها فينتج العمل المطلوب.

واما ان يكون ارتباطا جعليا يتوقف على الاعتبار والبناء.

ثم ان هذا يتصور على نحوين :

الأول : ان يكون التكليف عبارة عن اعتبار الداعوية الفعلية وجعل ما يكون داعيا بالفعل نحو العمل.

الثاني : ان يكون عبارة عن اعتبار ما يمكن ان يكون داعيا وجعل ما له اقتضاء الداعوية ولو لم يكن داعيا بالفعل.

وما ذكره المحقق النائيني انما يتم بناء على الوجهين الأولين ، فانه لا يكون قابلا في نفسه لتعلقه بغير المقدور ، إذ المفروض انه مرتبط تكوينا بالإرادة ، فلا يتصور تعلقه بغير المقدور ، أو انه يدعو فعلا نحو الفعل ، والدعوة الفعلية لا تتصور لغير المقدور.

واما بناء على الوجه الثالث ، فالتكليف قابل في نفسه للتعلق بغير المقدور ، لأن حقيقته جعل ما يقتضي الداعوية ، ولا يمتنع وجود المقتضي مع عدم حصول شرطه أو مع وجود مانعة. وبعبارة أخرى : لا يمتنع وجود المقتضي مع عدم فعلية تأثيره ، فيمكن ان يتعلق التكليف في نفسه بغير المقدور ـ فيكون نظير وجود النار بدون الإحراق ـ ، إلا انه حيث كان جعل مقتضى الداعوية لغوا بالنسبة إلى غير المقدور لعدم ترتب الأثر عليه ، كان ذلك قبيحا. فمرجع اشتراط القدرة على هذا الوجه إلى قبح تكليف العاجز لأجل كونه لغوا لا إلى عدم

٣٦٨

إمكانه.

ومن الواضح ان حقيقة التكليف ليست إلاّ جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وهي أجنبية عن الوجهين الأولين.

وعليه ، فاشتراط القدرة لا يكون إلاّ من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز لأنه لغو محض ، وكون التكليف انما هو لجعل الداعي لا ينافي ذلك بعد ان عرفت ان المقصود جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وقد عرفت انه قابل في نفسه لأن يتعلق بغير المقدور ، ولكن المانع منه ليس إلاّ كونه عملا لغوا لا يصدر من الحكيم.

واما ما التزم به ـ بناء على كون اشتراط القدرة من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز ـ من تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، لأن الجامع مقدور بالقدرة على بعض افراده.

فالحق انه لا يمكن الالتزام به ، وذلك لأن تعلق الأمر بالجامع بحيث يسري إلى جميع افراده المقدور منها وغير المقدور انما يتم بالإطلاق ، فينطبق المأمور به على غير المقدور لأنه أخذ بنحو يشمله. وتعلقه بالجامع المطلق بحيث يسري إلى جميع افراده غير معقول ، لأنه قد مرّ بيان ان استحالة التقييد تارة تلازم استحالة الإطلاق وأخرى تلازم ضرورة الإطلاق ، لأن امتناع التقييد تارة يكون لأجل استحالة الحكم على المقيد ، فيستحيل الإطلاق أيضا ، لأن معنى الإطلاق يرجع إلى الحكم على جميع افراد المطلق ومنها المقيد ، والمفروض استحالة ثبوت الحكم له. وأخرى يكون لأجل استحالة نفس التقييد وقصر الحكم على بعض الافراد ، فيجب الإطلاق لامتناع ثبوت الحكم لخصوص بعض الافراد.

وما نحن فيه من قبيل الأول ، فان استحالة ثبوت الحكم لغير المقدور ليس لأجل امتناع قصر الحكم على بعض الافراد ، بل لأجل امتناع ثبوت

٣٦٩

الحكم له بخصوصه ، وإذا استحال ثبوت الحكم لغير المقدور فهو ممتنع مطلقا ، سواء كان بعنوانه الخاصّ أو بعنوان مطلق. فالإطلاق ممتنع كالتقييد.

وبالجملة : الجامع وان كان مقدورا ، إلاّ ان هذا لا أثر له بعد ان كان الملاك الموجب لامتناع ثبوت التكليف بغير المقدور بعنوانه الخاصّ ـ وهو قبح تكليف العاجز ـ موجودا في ثبوت الحكم لمطلق الافراد ، بحيث تندرج الافراد غير المقدورة فيه.

وعلى هذا ، فالفرد غير المقدور وان كان فردا للطبيعة بما هي هي ، إلاّ انه ليس فردا لها بما هي مأمور به.

والمتحصل ان التقريب الّذي ذكره المحقق النائيني لا يسلم عن الإشكال ، بخلاف التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية ، لكنه كما عرفت يتوقف على إحراز وجود الملاك في الفرد المزاحم.

ثم ان المحقق الأصفهاني أورد على المحقق النائيني ـ وأوضح الإيراد مفصلا السيد الخوئي (١) ـ.

وخلاصة الإيراد : ان الواجب الموسع ، له نحوان من الافراد ، طولية وعرضية.

والالتزام بكون اشتراط القدرة من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، انما ينفع في تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره فيما لو كان التزاحم بين بعض الافراد العرضية للموسع ونفس الواجب المضيق ، إذ يقال حينئذ : ان الجامع مقدور للقدرة على بعض افراده ، وهي الافراد العرضية الأخرى ، فيصح تعلق الوجوب بالجامع.

اما لو كان التزاحم بين الفرد الطولي والواجب المضيق ، بحيث كانت

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٥٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٠

جميع الافراد العرضية في آن من الآنات مزاحمة لواجب مضيق ، نظير مزاحمة الإزالة للصلاة ، فلا ينفع ما ذكره إلاّ بالالتزام بالواجب المعلق ، وذلك لأن الجامع في آن المزاحمة غير مقدور لعدم القدرة على أي فرد من افراده ، لكون المفروض مزاحمة كل منها للواجب الأهم. فإذا كان الجامع غير مقدور امتنع تعلق التكليف بالجامع فعلا. نعم بناء على الواجب المعلق يلتزم بأنه فعلا متعلق بالجامع في الآن الّذي يلي آن المزاحمة ، لأنه مقدور في ذلك الآن ، لكنه قدس‌سره لا يلتزم بالواجب المعلق ويرى انه مستحيل كما تقدم. هذا إيضاح ما أفاده المحقق الأصفهاني (١) وهو وجه لطيف. لكنه لا يخلو عن مناقشة سيأتي التعرض لها في غير هذا المقام فانتظر.

وقد ذهب السيد الخوئي ( حفظه الله ) إلى : ان القدرة ليست شرطا للتكليف وانما هي شرط لحكم العقل بلزوم الإطاعة.

وقد قرب هذه الدعوى : بان الإنشاء لما لم يكن عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، إذ اللفظ ليس وجودا تكوينيا للمعنى ، كما انه لا يصلح ان يكون وجودا اعتباريا له ، لأن الاعتبار فعل نفساني يقوم بالنفس ، ولا يحتاج فيه إلى اللفظ ، وانما كان عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ وإظهاره ، لم يكن التكليف عبارة عن إنشاء البعث والتحريك نحو العمل ، وانما كان عبارة عن جعل الفعل في عهدة المكلف ، وهذا يستتبع حكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة.

وإذا كانت حقيقة التكليف ذلك لم يمتنع تعلقها بغير المقدور ، إذ هو كسائر الأحكام الوضعيّة التي لا شك في صحة تعلقها بغير المقدور. فيصح جعل الفعل في عهدة المكلف غير القادر.

نعم هي شرط في حكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة ومأخوذة في

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٤٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٧١

موضوعه ، فحكمه بوجوب الإطاعة لا يتعلق بغير القادر.

وعلى هذا ، فلا يمتنع تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، لأن حقيقة التكليف لا تتنافى مع عدم القدرة ، بل تعلق التكليف بالجامع ضروري ، لأن التقييد إذا كان ممتنعا كان الإطلاق ضروريا ، لأن التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب ـ لا تقابل العدم والملكة ـ ، فإذا امتنع أحدهما وجب الآخر.

وتوهم : ان تعلق التكليف بالجامع بحيث يسري إلى غير المقدور يستلزم اللغوية ، لأن المفروض ان حكم العقل بلزوم الإطاعة قد أخذ في موضوعه القدرة ، فلا فرق في لغوية التكليف بين تعلقه بغير المقدور منفردا أو في ضمن الجامع.

يندفع : بأنه يكفي في رفع لغوية تعلق التكليف بالجامع صحة الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر لو بنى على عصيان الأمر بالأهم ولولاه لما صح ، وهذا المقدار من الأثر رافع للغوية ومصحح للعمل (١).

ويتخلص مما أفاده أمور :

الأول : كون التكليف عبارة عن جعل الفعل في عهدة المكلف والانتهاء إلى هذا الرّأي بواسطة نفي كون الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ.

الثاني : ان القدرة ليست شرطا للتكليف ، وانما هي شرط لمنجزيته أو بعبارة أخرى : شرط لحكم العقل بلزوم الإطاعة.

الثالث : ان امتناع التقييد يستلزم ضرورة الإطلاق.

الرابع : ارتفاع اللغوية بقصد الأمر بالفرد المزاحم.

ولنا في جميع هذه الأمور كلام ومؤاخذات :

اما الأمر الأول : فالكلام الّذي لنا فيه ليس في بيان حقيقة التكليف وانها

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٦٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٢

ما هي فلهذا مجال آخر ، وانما الكلام في طريقة استدلاله على ذلك وانتهائه إليه ، فان صدوره منه غريب جدا.

بيان ذلك : ان هناك أمرين وقع كل منهما محل النزاع.

أحدهما : حقيقة التكليف ، وانها هل هي جعل الفعل في عهدة المكلف ، أو انها إنشاء التحريك والبعث وجعل الداعي.

ثانيهما : حقيقة الإنشاء ، وانها هل هي إيجاد المعنى باللفظ أو إبراز الاعتبار النفسانيّ.

ومن الواضح ان النزاع في الثاني يجري على كلا القولين في الأول ، فيقع الكلام بناء على كون التكليف عبارة عن جعل الفعل في العهدة في ان الإنشاء هل هو إيجاد المعنى باللفظ أو إبراز الاعتبار النفسانيّ. وهكذا يقع نفس الكلام بناء على كون التكليف عبارة عن جعل الداعي.

كما ان النزاع في الأول يجري على كلا القولين في الثاني فيقع النزاع في حقيقة التكليف وانها ما هي ، بناء على كون الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، كما يقع بناء على كون الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ ، إذ يقال ان المبرز هل هو جعل الفعل في عهدة المكلف أو جعل البعث والداعي؟.

وبالجملة : كل من الأمرين يقع فيه البحث مستقلا عن الآخر ، ويجري فيه النزاع بناء على كلا القولين في الآخر ، فلا يكون اختيار أحد القولين في أحدهما مستلزما لاختيار أحدهما المعين في الآخر ، إذ انه يتلاءم مع كليهما في الآخر.

وعليه ، فالالتزام بان الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ لا ينتهي منه رأسا إلى كون التكليف جعل الفعل في عهدة المكلف.

وكلام السيد الخوئي ظاهر في ذلك بل صريح ، فلا وجه له.

واما الأمر الثاني : فليس الوجه فيه الا ما ذكره من ان حقيقة التكليف انما هي جعل الفعل في عهدة المكلف ، فتعلقه بغير المقدور لا مانع عنه ، ولا

٣٧٣

يشترط بلحاظ حقيقته ان يتعلق بالحصة المقدورة.

وهذا لا ينفع فيما اراده ، وذلك لأنه ..

ان أراد ان حقيقة التكليف لا تختلف عن سائر الأحكام الوضعيّة أصلا ، فجعل الفعل في العهدة الناشئ من التكليف نظير صيرورة الفعل في العهدة الناشئ من الإجارة ، فكما يصح تعلق الحكم الوضعي بغير المقدور يصح تعلق التكليف به.

ففيه : ان لازم ذلك صحة تعلق التكليف بغير المقدور رأسا وبنفسه فقط ، إذ من الواضح إمكان تعلق الحكم الوضعي بغير المقدور كالنائم ونحوه. وهذا مما لا يقول به أحد ولا يلتزم به القائل ، إذ لا يلتزم القائل ولا غيره بصحة تكليف العاجز عن القيام بالصلاة قائما. مع ان الكل يلتزمون بصحة الحكم باشتغال ذمة من لا يجد عند عروض بعض أسباب اشتغالها.

وان أراد انها تختلف عن سائر الأحكام الوضعيّة ، فليس اختلافها الا من ناحية الغرض من جعل التكليف ، فان الغرض منه إيجاد الداعي نحو الفعل.

فحقيقته : جعل الفعل في العهدة بغرض إيجاد الداعي نحو العمل. بخلاف سائر الأحكام الوضعيّة ، فليس الغرض منها ذلك. وإذا كان الغرض من التكليف ذلك امتنع شموله لغير المقدور ، لحكم العقل بقبح تكليف العاجز للغويته ، فالقدرة شرط لنفس التكليف ، ولو التزم بان حقيقته جعل الفعل في العهدة. وليست شرطا لحكم العقل بلزوم الامتثال.

واما حديث رفع اللغوية بتحقق الامتثال وسقوط الأمر لو جيء بالعمل من دون إرادة ، لأنه أحد افراد المأمور به.

فيدفعه : ان لغوية العمل انما هي بلحاظ عدم ترتب الأثر المرغوب عليه ، لا بلحاظ عدم ترتب مطلق الأثر. وبما انك عرفت ان الأثر المرغوب من التكليف انما هو إيجاد الداعي نحو العمل ، كان التكليف بغير المقدور ممتنعا ، لأنه

٣٧٤

لغو لعدم ترتب الأثر المرغوب عليه.

ثم ان الّذي يظهر منه ( حفظه الله ) ـ بناء على ان حقيقة التكليف جعل الداعي وإنشاء البعث هو ـ تسليم ما ذكره المحقق النائيني من ان اشتراط القدرة في التكليف إذا كان من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز صح تعلق التكليف بالجامع.

وهذا وان لم يصرح به ، لكنه يستفاد من طي كلماته.

وأنت قد عرفت الإشكال في ذلك ، وبيان امتناع سراية الحكم للحصة غير المقدورة ، وان الملاك في منع تعلق التكليف بالحصة غير المقدورة رأسا موجود في سراية التكليف إلى الحصة غير المقدورة. فالتفت.

واما الأمر الثالث : ففيه :

أولا : ما عرفت من ان امتناع التقييد إذا كان لأجل امتناع ثبوت الحكم للمقيد ـ كما هو الحال فيما نحن فيه ـ كان الإطلاق ممتنعا لاستلزامه ثبوت الحكم للمقيد وقد فرض امتناعه. نعم إذا كان امتناع التقييد لأجل امتناع قصر الحكم على بعض الافراد كان الإطلاق ضروريا ، ولكنّ الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك ، بل هو من القسم الأول.

وثانيا : ان امتناع التقييد انما يستلزم ضرورة الإطلاق إذا كان الممتنع تقييد الحكم بأي حصة كانت ، اما إذا امتنع تقييد الحكم بخصوص هذه الحصة لم يجب الإطلاق ، إذ هناك شق ثالث غير ممتنع ، وهو تقييد الحكم بخصوص الحصة الأخرى المعاكسة للحصة الممتنعة.

وما نحن فيه كذلك : فان الممتنع ثبوت الحكم للحصة غير المقدورة ، اما خصوص الحصة المقدورة فلا يمتنع ثبوت الحكم لها. فامتناع تقييد الحكم بالحصة غير المقدورة لا يلازم ثبوت الإطلاق ، إذ يمكن ثبوت الحكم لخصوص الحصة المقدورة وهو مما لا محذور فيه.

٣٧٥

وثالثا : ـ وهو العمدة ـ ان تعلق التكليف بالجامع بحيث يشمل المقدور وغير المقدور يتنافى مع فرض التزاحم ، لأن التزاحم يكون لأجل تنافي الحكمين بحيث لا يمكن اجتماعهما ، فيرتفع أحدهما ويبقى الآخر وهو الأهم.

وعليه ، ففرض ثبوت التزاحم بين فرد الواجب الموسع والواجب المضيق وتقديم الواجب المضيق لازمه ارتفاع الأمر بالفرد المزاحم وعدم شموله له وإلاّ لعاد التزاحم.

وبالجملة : فرض التزاحم ينافي الالتزام بتعلق الأمر بالجامع.

وهذا الإيراد لم نعرف الوجه في غفلة الاعلام عنه ، فانه لا يرد على خصوص السيد الخوئي ، بل يرد على المحقق النائيني ، لأنه قرر تعلق الأمر بالجامع على تقدير دون آخر. بل يرد على أصل تقريب المحقق النائيني لكلام الكركي ، فانه تقريب غير علمي.

والّذي تحصل : ان القدرة شرط للتكليف بحكم العقل من باب قبح تكليف العاجز على جميع المسالك.

ونتيجة البحث : ان التقريب الّذي ذكره المحقق النائيني لكلام المحقق الكركي لا يخلو عن خدشة وإشكال ، فلا يمكن الالتزام به.

واما التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية ، فقد عرفت وجاهته ، لكنه يبتني على إحراز الملاك في الفرد المزاحم ، فهو لا ينهض وجها مستقلا لتصحيح العبادة ما لم ينضم إليه الوجه الآخر الّذي يبين فيه طريقة إحراز الملاك ومع إحرازه لا حاجة إلى ذلك الوجه إلاّ بناء على توقف العبادة على قصد الأمر وعدم كفاية غيره.

ثم ان كلام المحقق الكركي لو تم ، فهو انما ينفع في مورد تزاحم الواجب الموسع والواجب المضيق ، دون مورد تزاحم الواجبين المضيقين كما لا يخفى.

هذا مع انه لا تزاحم بين الواجب الموسع والواجب المضيق لما سيأتي في

٣٧٦

مبحث التزاحم من بيان ذلك ، فقد ذكر المحقق النائيني وجها لتقديم الواجب المضيق على الواجب الموسع عند تزاحمهما ، وهذا الوجه ينتهي إلى بيان عدم ثبوت التزاحم بينهما بالمرّة وسيجيء تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى.

وعليه ، فالوجه الّذي ذكره المحقق الكركي لا ينفع في تصحيح العبادة فيما نحن فيه أصلا ، لأن موضوعه خارج عن باب التزاحم.

ويقع الكلام بعد ذلك في الوجه الثاني والبحث فيه عن طريق إحراز الملاك وقد ذكر لذلك وجهان :

الأول : ما التزم به المحقق النائيني قدس‌سره ، وهو التمسك بإطلاق المادة. بتقريب : ان متعلق الأمر إذا كان مطلقا كشف ذلك عن ثبوت الملاك في مطلق الافراد لاعتبار وجود الملاك في متعلق الأمر.

وقد استشكل رحمه‌الله في ذلك من وجوه عديدة :

الأول : انه بناء على ما ذهب إليه من ان اشتراط القدرة في متعلق التكليف ، انما هو لأجل اقتضاء نفس الخطاب ذلك ، فنفس ورود الأمر يكون موجبا لتقييد متعلق الأمر بالقدرة فلا يكون مطلقا لوجود الدليل على التقييد.

الثاني : انه لو أنكر استلزام الأمر تقييد متعلقه بالقدرة ، فلا أقل من كونه صالحا للقرينية على التقييد ، ومع وجود ما يصلح للقرينية لا يصلح التمسك بإطلاق الكلام بل يكون الكلام مجملا من تلك الناحية.

الثالث : ان استكشاف عدم التقييد والإطلاق من عدم ورود القيد ، انما هو لأجل استلزام التقييد مع عدم بيانه نقض الغرض ، لإمكان ان يأتي العبد بغير واجد القيد من الافراد اعتمادا على الإطلاق فيستلزم نقض الغرض من الأمر ، إذ لا يتوصل بذلك إلى ما هو الغرض من الأمر.

وهذا المعنى غير تام فيما نحن فيه ، فان عدم التقييد بالقدرة لفظا مع تقيده واقعا بها لا يستلزم نقض الغرض ، إذ لا يمكن الإتيان بغير المقدور كما هو

٣٧٧

الفرض ، فعدم الدليل على التقييد بالقدرة لا يستكشف منه الإطلاق.

الرابع : ان التمسك بالإطلاق في إثبات واجدية المتعلق للملاك يتوقف على كون الآمر في مقام بيان ما هو واجد للملاك ـ فان التمسك بالإطلاق يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان ـ. ومن الواضح ان الآمر ليس إلاّ في مقام بيان ما يرد عليه الأمر ، وما هو مطلوب من المكلف ، دون ما هو واجد للملاك ، فانه غير منظور في الكلام كما لا يخفى على كل أحد.

وقد أجاب قدس‌سره عن الوجه الأول : بان التقييد بالقدرة إذا كان في مرتبة سابقة على تعلق الأمر ، بحيث ورد الأمر على المقيد ، كان ذلك كاشفا عن دخل القدرة في الملاك. واما إذا كان المتعلق في المرتبة السابقة مطلقا غير مقيد ، وانما تقيد بعروض الطلب عليه ، فالتقييد نشأ من نفس عروض الطلب ، بحيث ورد الطلب على المطلق وانما تقيد في مرحلة عروضه ، لم تكن القدرة دخيلة في الملاك ، لأن إطلاق المتعلق في المرحلة السابقة هو الكاشف عن وجود الملاك في مطلق الافراد ، والأمر لا يقتضي تقييد متعلقه في المرحلة السابقة عليه. فهو مطلق غير مقيد.

ومن هنا يظهر الجواب عن الوجه الثاني : فان الأمر كما لا يقتضي تقييد المتعلق لا يصلح لتقييده.

وأجاب عن الوجه الثالث : بان استكشاف الإطلاق من عدم ذكر القيد ليس من جهة استلزام التقييد بدون ذكر القيد نقض الغرض ، بل من جهة لزوم الخلف ، فان المتكلم إذا كان في مقام البيان فلا بد ان يبين التقييد لو كان مراده واقعا ، وإلاّ لزم خلف فرض كونه في مقام البيان ، وهو يتنافى مع كون المتكلم حكيما.

وفي هذا لا يختلف الحال بين ما نحن فيه وغيره. وهذا المعنى هو المقصود من التعبير بتبعية مقام الإثبات لمقام الثبوت. فتدبر.

٣٧٨

وأجاب عن الوجه الرابع بما نصه : « قلت : التمسك بالإطلاق تارة : يكون لأجل الكشف عما هو مراد المتكلم من الكلام ، ومن المعلوم انه يتوقف على إحراز كونه في مقام البيان ، وإلاّ لما كان الإطلاق كاشفا عن تعلق إرادته بالمطلق. وأخرى : يكون لأجل كشف المعلول عن علته بطريق الإن ، وهذا لا يتوقف على كون المولى ملتفتا إلى ذلك فضلا عن كونه في مقام بيانه. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانا إذا فرضنا ان ما يرد عليه طلب المتكلم في ظاهر كلامه هو مطلق الفعل دون المقدور منه ، والمفروض ان ما يرد عليه الطلب لا بد ان يكون ذا ملاك ومصلحة على مذهب العدلية ، فيكشف ذلك عن ان الواجد للملاك هو مطلق الفعل ، دون المقدور منه ، وهذا الكشف قهري لا يدور مدار كون المولى في مقام بيانه وعدمه ... » (١).

أقول : ما ذكره أولا في ابتداء كلامه من ان التمسك بالإطلاق تارة يكون لأجل الكشف عن مراد المتكلم من كلامه. وأخرى يكون من باب كشف المعلول عن علته. والأول هو الّذي يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان دون الثاني ، فانه يصح التمسك به وان كان المتكلم غافلا ، فان الّذي يقول : « وجدت الحرارة » يدل كلامه على وجود النار ، سواء كان ملتفتا أو غافلا من باب الانتقال من المعلول إلى العلة.

ما ذكره من ذلك وجيه كبرويا ، لكن تطبيقه على ما نحن فيه لم يؤد في الكلام كما ينبغي ، بل كان بيانه بنحو مجمل لا يفي بالمطلوب.

إذ يرد عليه : ان المقصود ..

ان كان هو التمسك بإطلاق الكلام في إثبات ان المتعلق في المرحلة السابقة على الأمر هو مطلق الفعل ، وينتقل من ذلك إلى وجود الملاك في مطلق

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٦٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٧٩

الفعل للملازمة ، فيكون ذلك من باب كشف المعلول عن العلة ، لا ما توهم في الإشكال من التمسك بالإطلاق في إثبات وجود الملاك في المطلق رأسا. ان كان المقصود ذلك كما هو ظاهر تقريرات الكاظمي ، فيرد عليه : ان إثبات إطلاق المتعلق في المرحلة السابقة على الأمر يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان ، وهو ليس كذلك ، إذ ما أثر بيان المتعلق في المرتبة السابقة مع قطع النّظر عن الملاك ، كي يكون المتكلم في مقام بيانه ، فهو أبعد من كون المتكلم في مقام بيان ما هو واجد للملاك.

وان كان المقصود هو التمسك بإطلاق الكلام في مرحلة الاستعمال ، وانه لم يرد عليه قيد في ظاهر التعبير. ففيه : ان إطلاق الكلام في مرحلة الاستعمال لا يلازم وجود الملاك في المطلق ما لم يحرز ان المراد الواقعي هو المطلق ، ولا طريق إلى إحرازه الا مقدمات الحكمة. فيعود الإشكال.

وغاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الكلام ، بحيث يكون له صورة علمية ويخرج عن بداهة البطلان هو : ان واقع الأمر ليس إلاّ بالخطاب المتكفل لإنشائه ، وليس له واقع يكون الكلام حكاية عنه ، وانما واقعه وواقع متعلقه ليس إلاّ نفس الإنشاء والكلام. وحيث ان المتعلق في الكلام خال عن القيد فهو مطلق ، فيكشف ذلك عن توفر الملاك فيه من دون تقييد ، فليس هو من باب التمسك بالإطلاق ، بل نفس عدم التقييد لفظا يكشف عن ذلك ، لأن المتعلق مطلق لفظا والمفروض ان واقعه هو اللفظ والإنشاء.

وهذا الوجه وان لم يخل عن مناقشات ، لكن لا مجال لذكرها. والعمدة في المناقشة هو : ان الدليل الدال على تبعية الأحكام للمصالح من إجماع أو عدم اللغوية والحكمة لا يقتضي سوى توفر الملاك في ما انبسط عليه الأمر وبعث نحوه ، وان كان قد تعلق في ظاهر الخطاب بالمطلق ، ولا ملازمة بين وجود الملاك وأخذ الشيء في متعلق الأمر خطابا ، والمفروض فيما نحن فيه ان الأمر وان كان

٣٨٠