منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

الأول : مقدمية عدم كل منهما للآخر مطلقا.

والثاني : عدم المقدمية مطلقا.

والثالث : التفصيل بين الضد الموجود والضد المعدوم ، فعدم الأول مقدمة دون عدم الثاني.

والرابع : مقدمية العدم للوجود دون مقدمية الوجود للعدم.

والخامس : مقدمية الوجود للعدم دون العكس.

والّذي ذهب إليه المتأخرون تبعا لسلطان العلماء هو عدم المقدمية بقول مطلق.

وقد ناقش صاحب الكفاية قدس‌سره القول بالمقدمية بوجوه ثلاثة :

الأول : انه يستلزم الدور ، وذلك لأن عدم أحد الضدين إذا كان مقدمة للآخر من باب انه عدم المانع فيكون من اجزاء علته ، كان وجود أحد الضدين مقدمة لعدم الآخر أيضا ، لتوقف عدم الشيء على مانعة كما يتوقف نفس الشيء على عدم مانعة ، فيكون عدم أحدهما متوقفا على وجود الآخر ، كما ان وجود الآخر يتوقف على عدم ضده ، فيلزم الدور الباطل.

الثاني : النقض بالمتناقضين ، وبيانه : انه لا إشكال في ان بين المتناقضين منافرة ومعاندة شديدة وأكيدة ، مع انه من المسلم كون أحدهما في رتبة عدم الآخر ، وليس عدم أحدهما مقدمة للآخر ، كيف؟ وهو يستلزم ان يكون الشيء مقدمة لنفسه ، لأن عدم أحدهما نفس الآخر.

وعليه ، فمجرد وجود المعاندة لا تستلزم مقدمية أحد المتمانعين للآخر ، وإلاّ لكان انطباق ذلك على المتناقضين أنسب لما بينهما من شدة المعاندة والممانعة.

الثالث : ـ وهو ما ذكره في الكفاية أولا ، وعبارة الكفاية لا تخلو عن تشويش ، وقد حملها المحقق الأصفهاني على إرادة ما بيانه : ـ انه لا إشكال في كون كل من الضدين مع الآخر في رتبة واحدة ، فليس أحدهما متقدما على الآخر ، ومن

٣٤١

المسلمات أيضا ان وجود كل ضد وعدمه في رتبة واحدة ، فانهما يتواردان على محل واحد ، فعدم الشيء في رتبة وجوده بلا إشكال. وعليه فيكون عدم كل ضد في رتبة الضد الآخر قهرا ، لأنه في رتبة نفس الضد ، والمفروض بالمقدمة الأولى ان نفس الضد في رتبة ضده الآخر (١).

وهذا الوجه لا يصلح ان يكون بيانا لعبارة الكفاية ، فانها بعيدة جدا ، بل أجنبية عن هذا المعنى وتأبى الحمل عليه بأي وجه من الوجوه ، وهو يظهر بأدنى ملاحظة. وعليه فكان الأولى ان يذكر وجها مستقلا في دفع دعوى المقدمية ، ينظر في صحته وسقمه ، لا ان يذكر ويسند لصاحب الكفاية ثم يستشكل فيه.

والّذي يبدو لنا ان مراد صاحب الكفاية من عبارته هو : انه ليس بين الضدين الا التمانع والمعاندة في مقام التحقق ، فكل منهما يمنع الآخر عن التحقق ، فالتمانع في مرتبة وجوديهما لا في مرتبة عليتهما.

وعليه ، فهما متحدان رتبة من دون ان يكون أحدهما سابقا على الآخر ، وإذا كان كذلك فالشيء الّذي يرفع هذا التمانع ، بمعنى يرفع المانع عن وجود أحد الضدين من جهة الضد الآخر ، لا بد ان يكون في رتبة الضد ، لأنه يرفع المانع في مرحلة وجوده ورتبته لا في مرحلة علته ورتبتها. وعدم الضد له هذا الشأن ، فانه انما يرفع المانع في هذا المقام فهو في رتبة الضد الآخر وليس سابقا عليه. فنظر صاحب الكفاية إلى ان العدم لا يؤثر إلاّ في رفع ما أثر فيه الوجود ، والمفروض ان ما يؤثر فيه الوجود هو المانعية في رتبة نفس الشيء لا في رتبة علته واجزائها.

وهذا المعنى يمكن تطبيقه على عبارة الكفاية ، وان كانت العبارة لا تخلو من تشويش ، فيمكن ان يكون مقصوده : « وحيث لا منافاة أصلا بين أحد

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢١٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٢

العينين وما هو نقيض الآخر وبديله ، بل بينهما كمال الملاءمة ... » هو ان العدم لما كان يرفع التمانع الثابت بالضد وكان بينه وبين الضد كمال الملاءمة ، فبه يرتفع تلك الممانعة ، فكان في رتبة الضد قهرا.

وبالجملة : فما يريده صاحب الكفاية هو ما ذكرناه ، وسيتضح ذلك جدا من كلامه في ضمن البحث ، فتدبر.

وقد أورد على الدور : بان توقف كل من الضدين على عدم الضد الآخر فعلي ، وتوقف عدم الضد على الضد الآخر تقديري ، فيرتفع الدور.

بيان ذلك : ان عدم الشيء لا يستند إلى وجود المانع عن الشيء الا في صورة وجود المقتضي والشرط ، وإلاّ فلو لم يكن المقتضي موجودا استند العدم إليه ، فيعلل عدم تحقق الحرقة ـ عند عدم وجود النار ـ بعدم وجود النار لا بوجود الرطوبة ، كما يعلل أيضا بعدم الملاقاة عند وجود النار ، والرطوبة بدون الملاقاة ، نعم يعلل بوجود الرطوبة لو تحققت ملاقاة النار للجسم.

واما وجود الشيء فهو يستند إلى جميع اجزاء علته فعلا.

وعليه ، فوجود الضد يستند فعلا إلى عدم الضد الآخر لأنه من اجزاء علته. واما عدم الضد فهو لا يستند إلى وجود الضد الآخر الا في صورة وجود مقتضية وشرطه فاستناده إليه تقديري ، بمعنى أنه معلق على وجود المقتضي والشرط ، وهو لا يتحقق دائما. وذلك لأن وجود الضدين اما ان يلحظا بالإضافة إلى إرادة شخص واحد أو بالإضافة إلى شخصين.

فعلى الأول : لا يمكن تحقق المقتضي ، وذلك لأنه مع إرادة المانع عن الضد وهو الضد الآخر ـ كما هو الفرض ـ لا يمكن ان تكون هناك إرادة أخرى متعلقة بالضد ، فمع إرادة السواد لا يمكن إرادة البياض. وعليه ففي فرض وجود أحد الضدين لا بد ان يفرض انتفاء مقتضي الضد الآخر ـ وهو الإرادة ـ ، فيستند عدم الضد الآخر إلى عدم المقتضي لا إلى وجود الضد المانع.

٣٤٣

وعلى الثاني : فالمقتضي لكلا الضدين وان أمكن فرض وجوده ، لعدم امتناع تعلق إرادة أحد الشخصين بإيجاد أحد الضدين وتعلق إرادة الشخص الآخر بإيجاد الضد الآخر ، إلاّ ان وجود أحدهما يستند إلى أقوائية قدرة أحد الشخصين على الآخر بحيث يتغلب عليه. فيكون عدم الضد الآخر لأجل عدم حصول شرطه ، وهو القدرة لا لأجل وجود المانع وهو الضد. فلا يستند عدم الضد إلى وجود الضد الآخر إلاّ بنحو التعليق والتقدير.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية : بأنه وان رفع إشكال الدور ونفي التوقف الفعلي من الطرفين ، إلاّ ان محذور الدور موجود بحاله وهو لزوم الخلف ، لأن الاعتراف بصلاحية استناد العدم إلى وجود الضد ـ عند فرض وجود المقتضي والشرط ـ اعتراف بكون وجود الضد في رتبة سابقة على عدم الضد الآخر ـ لأنه في رتبة المانع ـ فيمتنع ان يستند وجود الضد إلى عدم الآخر ، لأنه يستلزم تقدم ما هو المتأخر وهو خلف.

وربما يقال : بان استناد عدم أحد الضدين إلى وجود الآخر معلق على وجود المقتضي والشرط ، فالاستناد إليه مأخوذ بنحو القضية الشرطية. ومن الواضح ان صدق القضية الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها ، كما يشهد له قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا )(١) ، وقد عرفت امتناع تحقق المقتضي أو الشرط لأحد الضدين مع الضد الآخر. ومعه لا يكون وجود أحد الضدين صالحا للمانعية في حال من الأحوال لامتناع صدق المقدم. فينتفي محذور الخلف أيضا.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : بان هذا القول يساوق نفي مانعية كل من الضدين للآخر ، ومعه لا يكون عدم أحدهما مقدمة للآخر ، لأن أساس ذلك

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الآية : ٢٢.

٣٤٤

هو مانعية كل منهما للآخر.

ومن هنا يثار سؤال أو إشكال : بان نفي التمانع بين الضدين ينافى الوجدان والبديهة ، فان التمانع بينهما كالنار على المنار والشمس في رابعة النهار ـ كما قال في الكفاية ـ كما ان عدم المانع من المقدمات بلا إشكال ، فما قيل ممّا ينافى ذلك شبهة في مقابل البديهة ، وهي لا تكون مورد القبول.

وأجاب عنه في الكفاية : ان التمانع بين الضدين وان سلم بلا تردد ، لكنه بمعنى يختلف عن المعنى الّذي يكون عدمه من المقدمات ، فدعوى المقدمية ناشئة من الخلط بين المعنيين.

بيان ذلك : ان التمانع بين الأمرين تارة : يكون في مرتبة الوجود ، بمعنى انه لا يمكن اجتماعهما في الوجود. وأخرى : يكون في مقام التأثير بمعنى ان يكون أحد الأمرين مانعا عن تأثير مقتضي الآخر فيه ، فالمانع الّذي يكون عدمه من المقدمات هو المانع بالمعنى الثاني نظير الرطوبة المانعة من تأثير النار في الحرقة. ومانعية الضد الآخر من قبيل الأول. فان التمانع بينهما ليس إلاّ بمعنى التمانع في الوجود وعدم إمكان وجود أحدهما مع وجود الآخر من دون أن يؤثر أحدهما في مقتضي الضد الآخر ويمنع من تأثيره ، فلا يكون عدمه من المقدمات.

وهذا المعنى هو الّذي كان ينظر إليه صاحب الكفاية في الوجه الثالث من وجوه اشكاله على المقدمية (١). وسيتضح جيدا في مطاوي البحث.

هذا خلاصة ما أفاده في الكفاية بتوضيح (٢).

ولكن المحقق الأصفهاني قدس‌سره لم يرتض إنكار المقدمية ، وحاول تصحيحها بلا ورود أي إشكال.

__________________

(١) أعني : بالترتيب الّذي ذكرناه ، اما بالترتيب الكفاية فهو الوجه الأول. ( منه عفي عنه ).

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٠ ـ ١٣٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٤٥

وقد أوضح قبل الدخول في أصل المبحث المقصود بالتقدم الرتبي بالطبع ، ببيان : ان ملاك التقدم والتأخر بالطبع هو ان لا يكون لأحد الشيئين وجود الا وللآخر وجود ولا عكس ، بمعنى انه يمكن فرض وجود الآخر بدون وجود ذلك الشيء كالواحد والكثير فانه لا يمكن ان يفرض للكثير وجود الا ويكون للواحد وجود ، مع انه يمكن ان يوجد الواحد بدون وجود الكثير ، فالمتقدم هو الواحد والمتأخر هو الكثير.

ثم ذكر ان منشأ هذا التقدم أحد أمور أربعة :

الأول : ان يكون الشيء المتقدم من علل قوام الآخر كالجزء والكل ، فان الكل يتقوم باجزائه ، ولذا لا يمكن ان يفرض له وجود الا ويكون لأجزائه وجود ، مع انه يمكن ان يفرض لجزئه وجود بلا ان يكون له وجود.

الثاني : ان يكون المتقدم مؤثرا في المتأخر كالمقتضي والمقتضى.

الثالث : ان يكون المتقدم مصححا لفاعلية الفاعل وهو المعبر عنه بالشرط.

الرابع : ان يكون المتقدم متمما لقابلية القابل ، وهو المعبر عنه بعدم المانع أو الشرط العدمي ، كعدم الرطوبة المتمم لقابلية المحل للاحتراق.

وبعد هذا البيان أفاد : ان عدم الضد متقدم بالطبع على الضد الآخر ، لأنه لا يمكن ان يفرض للضد وجود الا ويكون الضد الآخر غير موجود ، بخلاف العكس فانه يمكن ان يكون أحد الضدين غير موجود وليس للآخر وجود ، لإمكان عدم كلا الضدين ، فمثلا لا يمكن فرض السواد الا ويثبت عدم البياض ، ولكن يمكن ان يفرض عدم البياض من دون ثبوت السواد.

ومنشأ التقدم الطبعي لعدم الضد على الضد الآخر هو : كون عدم الضد متمما لقابلية المحل لعروض الضد الآخر عليه ، إذ بدونه لا يكون المحل قابلا ، فلا يكون المحل قابلا للبياض إلا في صورة عدم السواد.

٣٤٦

اما دعوى : توقف عدم أحد الضدين على الضد الآخر ، التي هي أساس الدور الّذي ذكره صاحب الكفاية.

فقد دفعها قدس‌سره : بان العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل ، فليس هو شيئا قابلا للتأثر وعليه فلا يحتاج إلى ما يكون مصححا لفاعلية الفاعل أو متمما لقابلية القابل بالنسبة إليه ، فينتفي توقف عدم أحد الضدين على وجود الآخر.

هذا مجمل ما يتعلق بالمقام ونخبة كلامه الّذي أسس عليه مقدمية عدم الضد للضد الآخر بلا ورود إشكال الدور (١).

والكلام معه ينبغي ان يكون في جهتين :

الجهة الأولى : فيما ذكره ملاكا للتقدم بالطبع مع حصر منشئه بالأمور الأربعة المزبورة. فانه مما لا نعرف له وجها صحيحا ، إذ يرد عليه : انه اما ان يكون المقصود من ملاك التقدم بالطبع هو عدم تحقق نفس وجود المتأخر الا والمتقدم موجود دون العكس ، أو عدم إمكان وجود المتأخر الا وللمتقدم وجود ولا عكس.

فعلى الأول : لا يصح هذا ملاكا للتقدم بالطبع ، لتخلفه في بعض الموارد ، كما لو كان هناك ماءان أحدهما كثير والآخر قليل وجعل أحدهما في عرض الآخر وجنبه ، ولم يكن هناك إلا ماكينتان للحرارة إحداهما ضعيفة النار لا تؤثر إلا في حرارة القليل والأخرى قوية تؤثر في حرارة كليهما ، ووضع الماء بنحو ينحصر إيجاد حرارتهما من غير طريق هاتين الماكنتين ، فانه حينئذ لا توجد حرارة الماء الكثير الا وحرارة القليل موجودة دون العكس إذ قد توجد حرارة القليل بالماكنة الضعيفة النار ولا توجد بها حرارة الكثيرة.

ومن الواضح جدا انه لا تقدم وتأخر بين حرارة القليل والكثير.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢١٩ ـ ٢٢٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٧

وبالجملة : يتخلف المورد فيما لو كانت هناك علتان إحداهما تؤثر في شيئين والأخرى تؤثر في شيء واحد ، وفرض انحصار العلتين صدفة. فانه لا يوجد أحد الشيئين المعين إلا والآخر موجود دون العكس. وبدون ان يكون في البين تقدم وتأخر رتبي.

وعلى الثاني : فكذلك لتخلفه أيضا في بعض الموارد ، كما لو فرض ان علة شيء منحصرة تكوينا في أمر واحد ، وهذه العلة كما تؤثر في ذلك الشيء تؤثر في شيء آخر ، وكان لذلك الشيء الآخر علة أخرى تؤثر فيه وحده. فحينئذ لا يمكن وجود ذلك الشيء الا وللآخر وجود ، لأنه لا يوجد إلاّ بالعلة المشتركة وهي تؤثر في كلا الشيئين ، ولكن يمكن أن يوجد الآخر بدون أن يوجد ذلك الشيء كما وجد بعلته الخاصة لا بالعلة المشتركة.

فضابط النقض : ان يكون هناك معلولان لعلة واحدة وكان لأحدهما علة تؤثر فيه خاصة وليس للآخر مثل ذلك.

ومن الواضح : انه لا يكون بين هذين الشيئين تقدم وتأخر.

وعلى هذا فما ذكر ضابطا للتقدم بالطبع غير وجيه.

الجهة الثانية : فيما ذكره من نفي الدور بان العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل ، إذ فيه :

أولا : انه يتنافى مع ما عليه الوجدان والعرف من تعليل عدم الشيء بوجود المانع ، بحيث يكون المانع موردا للمناقشة ونحو ذلك ، فيقال لمن لم يحرق الجسم : « لم لم يحترق ». فيجيب : ان عدم الإحراق لوجود الرطوبة. ومن الواضح ان لم سؤال عن العلة.

وثانيا : انه يتنافى مع تصريح أهل الفن بان عدم العلة علة العدم ، فيسند العدم إلى عدم العلة في كلماتهم.

وعليه ، نقول : إذا كان علة العدم عدم العلة. فعدم السواد إذا كان علة

٣٤٨

لوجود البياض فعدمه علة عدم البياض. ومن الواضح ان عدمه ليس إلاّ السواد ـ لأن نفي النفي إثبات ـ فيكون السواد علة عدم البياض ، والمفروض ان عدم البياض علة للسواد بملاك المقدمية فيلزم الدور ، ويكون وجود أحد الضدين علة لعدم الآخر في الوقت الّذي يكون عدم الآخر علة لوجود ذلك الضد.

وقد يدفع هذا التقريب للدور بما ذكره قدس‌سره دفعا لتقريب آخر للدور ذكره هو. وهو وجهان :

الأول : ان العدم لا علة له لأنه غير قابل للتأثر فلا يحتاج إلى فاعل وقابل.

الثاني : انه لو سلم ان العدم له علة ، فعلة عدم الضد عدم عدم الضد الآخر ، وهو ليس نفس الضد ، إذ عدم العدم مفهوم سلبي لا يصلح للانطباق على الأمر الوجوديّ ، وإلاّ لزم انقلاب ما حيثية ذاته طرد العدم إلى ما ليس كذلك (١).

والتحقيق ان كلا الوجهين لا ينهضان على رفع الدور.

اما الأول : فلما عرفت من انه يتنافى مع ما عليه الوجدان وتصريحات أهل الفن من تعليل العدم بوجود المانع. بل هو قدس‌سره اعترف بذلك ، لكنه ادعى ان هذا علة تقريبية لا علة واقعية حقيقية ، لأن العدم لا يقبل التأثر. فاستناد العدم إلى عدم العلة استناد حقيقي لا تشوبه شائبة المسامحة والتجوز ، لكنه لا بنحو استناد المعلول إلى العلة ، فليكن كذلك فانه يكفينا صحة كون منشأ العدم عدم العلة ولو لم يكن بنحو العلية ، لأنه يكفي في تحقق التقدم الرتبي لعدم العلة على عدم المعلول. فيلزم الدور.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٢٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٤٩

واما الثاني : فلان ما ذكره وان كان له صورة برهان وتحقيق ، لكنه يتنافى مع البداهة ، وذلك لأن عدم العدم اما ان يكون صرف مفهوم لا واقع له أصلا أو يكون له واقع. فان كان صرف مفهوم لا واقع له أصلا ، فهو لا يصلح للتأثير في عدم المعلوم ، إذ المفهوم ليس له قابلية التأثير والسببية ، بل ذلك من شأن الوجودات. وان كان له واقع ، فلا بد من فرضه هو الوجود ، وإلاّ للزم ان يفرض واقع ثالث غير واقع المتناقضين وهما الوجود والعدم ، وهذا مما يحيله الوجدان والبرهان ، إذ ليس هناك واقع ثالث ليس هو بواقع لأحد المتناقضين.

وهذا مضافا إلى ان مقدمية عدم المانع ليست من جهة ان له نحو تأثير في المعلول أو في قابلية المحل لعروض المعلول ، بل انما هو لأجل ارتفاع ما يكون سببا في عدم قابلية المحل ومنشئا لمنع تأثير المقتضي في مقتضاه ، فليس لعدم الرطوبة خصوصية الا كونه ارتفاعا لما يكون موجبا لحجز النار عن التأثير والوقوف في قبال تأثيرها في الاحتراق لسلبه قابلية المحل له.

فعلى هذا يكون فرض عدم الضد من المقدمات مساوقا لفرض نفس الضد مانعا عن التأثير وسببا في عدم تأثير المقتضي ، لأن مرجع مقدمية عدم الشيء ليس إلاّ إلى مانعية نفس ذلك الشيء.

وعليه ، فلا نحتاج في إثبات الدور إلى ان نقول ان عدم العدم هو نفس الوجود ، فيكون هو المانع ، بل نفس فرض مقدمية عدم الضد مساوق لفرض مانعية نفس الضد ، فيلزم الدّور. وهذا هو الّذي ينظر إليه صاحب الكفاية في كلامه في تقريب إشكال الدور.

وخلاصة الكلام : ان ما أفاده المحقق الأصفهاني في المقام لا يمكن الالتزام به ، فيتعين القول بإنكار المقدمية. كما اعترف قدس‌سره أخيرا بعدمها وقرب إنكارها.

وهذا كله بالنسبة إلى إشكال الدور.

٣٥٠

واما إشكال النقض بالمتناقضين ، فقد خدش فيه المحقق الأصفهاني وتابعة السيد الخوئي : بان ارتفاع الوجود لما كان عين العدم البديل له لم يعقل ان يكون عدم الوجود مقدمة للعدم ، لأنه يلزم ان يكون الشيء مقدمة لنفسه ، فعدم المقدمية لعدم المتناقضين للآخر من جهة المحذور المزبور ، فلا يقاس عليه الضدان لأنه قياس مع الفارق (١).

ومن العجيب جدا ان تصدر من المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي هذه المناقشة ، فقد عرفت تقريب كلام الكفاية بما لا يبقى مجال لورود هذا الإشكال ، كيف؟ وهذه المناقشة مأخوذة متممة لإشكال صاحب الكفاية.

وليس نظر صاحب الكفاية الا إلى بيان ان مجرد المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تستلزم مقدمية عدم أحدهما للآخر ، وإلاّ لجرى ذلك في المتناقضين مع انه محال ، فيكشف ذلك ان مجرد المعاندة غير مستلزمة للمقدمية. فمحالية مقدمية عدم النقيض لنقيضه قد أخذت في إيراد صاحب الكفاية فلا يحسن ان تكون ردا عليه.

واما الإشكال الأول فقد عرفت تقريبه.

وملخص ما يريد ان يقوله صاحب الكفاية : ان التمانع بين الضدين لما كان بمعنى عدم جواز اجتماعهما وامتناع وجودهما معا في محل واحد وآن واحد ، ففي مرتبة وجود الضد يمتنع ان يوجد الضد الآخر ، فالعقل لا يحكم بأزيد من لزوم ثبوت عدم الضد في مرتبة وجود الآخر ، من دون ان يقتضي ذلك تقدّم العدم على الوجود. وليست مانعية الضد بمعنى مزاحمتها لتأثير المقتضي للضد الآخر كي يلزم عدمها في مرحلة المؤثر ورتبته وهي سابقة على الأثر.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٢٤ ـ الطبعة الأولى.

الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٢٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٥١

وبالجملة : لما كان التمانع بين الضدين بمعنى امتناع اجتماعهما ، فالعقل لا يرى سوى لزوم ثبوت عدم أحدهما عند وجود الآخر كي لا يلزم المحال ، وهذا لا يستدعي تقدم عدم أحدهما على الآخر.

وخلاصة الكلام : ان الوجوه التي ذكرها صاحب الكفاية في المقدمية خالية عن الإشكال ، فيتعين بها نفي المقدمية.

ثم ان المحقق النائيني نفي المقدمية بوجه استلّه من الإشكال الّذي ذكره الكفاية على الدور. ومحصل ما أفاده قدس‌سره : ان مانعية المانع في رتبة متأخرة عن وجود المقتضي بشرطه ، فما لم يوجد المقتضي لا تتحقق المانعية ، لأن معنى المانعية هي المانعية عن تأثير المقتضي ، فيلزم ان يكون المقتضي موجودا. وبما ان المقتضي بشرطه لا يمكن ان يتحقق لكلا الضدين ـ كما مرّ تقريبه ـ لم يكن الضد مانعا عن ضده أصلا. وعلى هذا البيان بنى انه لو كان أحد الضدين مأخوذا شرطا في المأمور به امتنع أخذ الآخر مانعا. وبذلك حلّ مشكلة اللباس المشكوك التي تضاربت النصوص في نحو اعتباره. فمنها ما ظاهره كون لبس ما يؤكل لحمه شرطا. ومنها ما ظاهره كون لبس ما لا يؤكل لحمه مانعا. وبيانه في محله من الفقه (١).

وقد أورد على هذا الوجه ، ولا نرى ملزما لذكر الإيراد ودفعه بعد تقريب نفي المقدمية بما عرفت. فلاحظ.

ثم انه قد أشرنا إلى وجود القول بالتفصيل بين عدم الضد المعدوم وعدم الضد الموجود ، فالثاني مقدمة دون الأول. وهو المنسوب إلى المحقق الخوانساري قدس‌سره.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٥٥ ـ الطبعة الأولى.

الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ١ ـ ٣٠٧ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

٣٥٢

وتقريبه : ـ كما قرره المحقق النائيني قدس‌سره ـ : ان وجود أحد الضدين يمنع من قابلية المحل لعروض الضد الآخر ، فيكون عدمه وارتفاعه دخيلا في تحقق قابلية المحل ، بخلاف ما إذا لم يكن أحد الضدين موجودا ، فان المحل قابل لعروض كلا الضدين من دون توقف على عدم أحدهما الآخر.

وناقشه المحقق النائيني : بان هذا إنما يتم لو التزم بان بقاء الأكوان لا يحتاج إلى مؤثر ، فالضد الموجود لا مؤثر فيه في مرحلة بقائه ، وهو مانع من تحقق الضد الآخر لسلبه قابلية المحل.

اما لو التزم كما هو الحق باحتياج البقاء إلى مؤثر كالحدوث لاشتراكهما في ملاك الاحتياج إلى المؤثر وهو الإمكان ، فان الشيء الممكن ممكن في بقائه كما هو ممكن في حدوثه. لم يتم ما ذكره فان المحل بقاء وفي الآن الآخر قابل لعروض كلا الضدين ، وبما انه يمتنع تحقق مقتضي كلا الضدين لأن اجتماعهما لما كان محالا كان تحقق مقتضيهما محالا أيضا ، لأن اقتضاء المحال محال. وعليه ففي فرض وجود أحد الضدين ، يكون عدم الآخر مستندا إلى عدم مقتضية لا إلى وجود المانع فلا تصل النوبة إلى مانعية الضد الموجود أصلا كي يكون عدمه مقدمة ، إذ عدم ضده يستند مع وجوده إلى عدم مقتضية (١).

وخدش في هذا الكلام السيد الخوئي ( حفظه الله ) بان تحقق مقتضي كلا الضدين في نفسه لا محالية فيه ، فيجوز ان يتحقق لكل من الضدين مقتضية في نفسه ولكن الممتنع تأثير كلا المقتضيين.

وحديث « اقتضاء المحال محال » لا يتأتى فيما نحن فيه ، وانما يتأتى فيما إذا تعلق المقتضي الواحد بالمتنافيين.

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ١ ـ ٣١٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٥٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٣

ولكنه لم يسلم للمحقق الخوانساري التفصيل المزبور ، فقد ناقشه : بأنه لا يخلو الحال اما ان لا يكون مقتضي الضد المعدوم موجودا ، أو يكون مقتضي كلا الضدين موجودا ، فعلى الأول يستند عدم الضد إلى عدم مقتضية لا إلى المانع وعلى الثاني يستند عدم الضد إلى مزاحمة مقتضي الضد الموجود لمقتضيه وغلبته عليه لأقوائيته ، فيرجع العدم إلى ضعف مقتضية وقصوره عن التأثير لوجود المزاحم الأقوى ، فلا يستند عدم الضد في كلتا الحالتين إلى نفس وجود ضده ، بل اما ان يستند إلى عدم مقتضية أو إلى مزاحمة مقتضي الضد الآخر الموجود لمقتضيه ، فلا يكون الضد الموجود مانعا في حال من الأحوال كي يكون عدمه مقدمة (١).

أقول : الّذي يقتضيه الإنصاف هو تسليم القول بالتفصيل.

واما ما ذكره السيد الخوئي من استناد عدم الضد ـ عند وجود كلا المقتضيين ـ إلى مزاحمة مقتضي الضد الموجود لمقتضي الضد المعدوم وغلبته عليه ، هو أمر يتنافى مع ما عليه البديهة والوجدان من ان المزاحم والمانع هو نفس الضد الموجود ، فلا يتوقف أحد من الحكم باستناد عدم وجود الماء في الإناء الّذي فيه الثلج بعد إجرائه فيه ، إلى نفس وجود الثلج وانه لو لا الثلج لدخل الماء في الإناء. فالمانع بنظر كل أحد هو نفس الضد فيقال انه لولاه لتحقق الضد الآخر.

والسرّ فيه هو : ان وجود الضد يسلب قابلية المحل لعروض الضد الآخر عليه ، فيمنع من تأثير المقتضي في مقتضاه ، فبارتفاعه تتحقق قابلية المحل لعروض الضد الآخر عليه ، وهذا هو المقصود بعدم المانع ، نظير عدم الرطوبة الرافع لتأثير الرطوبة في عدم مؤثرية النار في الإحراق.

إلاّ ان هذا التفصيل لا ينفع في ما نحن فيه من متعلقات الأحكام

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٣٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٤

الشرعية.

بيان ذلك : ان الضدين :

تارة : يكونان من الأعيان التي لها وجود قار بحيث لا ترتفع بعد وجودها بعدم الإرادة فقط.

وأخرى : يكون من الأفعال التي يكون لها وجود تدريجي فتنعدم بمجرد عدم الإرادة ، لأن المقتضي المباشر لها هو إرادة الفاعل المختار.

اما النحو الأول ، وهو ما كان من الموجودات القارة فيتصور فيه الحدوث والبقاء ، فيدعى ان الضد بقاء مانع عن ضده الآخر كما قربناه. ولا يكون عدم الإرادة رافعا له ، لأن المقتضي المباشر له بقاء ليس هو الإرادة ، فالسواد إذا وجد يبقى ولو لم تستمر إرادة بقائه.

واما النحو الثاني ، وهو ما كان الأفعال التي هي موجودات تدريجية لا قرار لها ، بل ما يتحقق منها يتصرم وينعدم بانعدام اجزاء الزمان الّذي تحقق فيها ، فبقاؤه منوط بالإرادة ، فان المختار إذا أراد فعل وإذا لم تتحقق منه الإرادة لا يتحقق منه الفعل قهرا. وعليه نقول : ان الفعل الموجود بالنسبة إلى ضده المأمور به لا يكون من قبيل الضد الموجود ، بل من قبيل الضد المعدوم ، لأن الجزء الّذي تحقق منه قد انعدم وما سيتحقق منه معدوم فعلا ولا يتحقق إلاّ بإرادة فعله. فمثلا إذا شرع المكلف في الصلاة ثم تنجس المسجد ، فليس هنا شيء قار له وجود يكون مضادا للتطهير وإزالة النجاسة ، وانما الّذي يمنع من الإزالة ولا يجتمع معها هو الجزء الّذي سيتحقق وهو معدوم فعلا ، فيكون من الضد المعدوم لا الموجود ، اما ما تحقق فقد انعدم وتصرم.

وبالجملة : لما كانت متعلقات الأحكام من الأفعال التدريجية الحصول بلا ان يكون لها وجود قار لم ينفع التفصيل المزبور ، لأنها دائما تكون من الضد المعدوم بالبيان الّذي عرفته ، وقد عرفت عدم المقدمية في الضد المعدوم. فلا يكون

٣٥٥

التفصيل سوى تفصيل علمي خال عن الثمرة العملية.

وخلاصة البحث : ان تقريب اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده بدعوى المقدمية لا محصل له.

وهناك تقريب آخر للاقتضاء ذكره صاحب الكفاية وهو : يتقوم بدعوى الملازمة بين وجود أحد الضدين وعدم الآخر فيستلزم النهي عنه ببيانين :

البيان الأول : ان المتلازمين لا يصح اختلافهما في الحكم ، فلا يجوز ان يكون أحدهما واجبا والآخر محرما ، لعدم إمكان امتثال الحكمين بعد فرض تلازم متعلقيهما وجودا. وعليه فلما كان وجود الضد ملازما لعدم ضده كان طلبه ملازما لطلب ترك ضده لعدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

والإشكال في هذا البيان واضح كما جاء في الكفاية : فان عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم لا يستلزم توافقها فيه ، بمعنى ان يكون كل منهما محكوما بما يحكم به الآخر. بل هناك شق ثالث وهو خلو أحد المتلازمين من الحكم ، وهو يحقق عدم اختلاف المتلازمين في الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فليكن ما نحن فيه كذلك ، فيكون أحد الضدين واجبا من دون ان يكون ترك ضده محكوما بحكم من وجوب أو غيره.

البيان الثاني : ـ وقد أشار إليه صاحب الكفاية ـ ما تقدم من عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم بضميمة ما هو المسلم من عدم خلو الواقعة من الحكم ، فيلزم ان يكون ترك الضد محكوما بحكم غير مخالف لحكم ضده وليس هو إلاّ الوجوب (١).

ولا يرد الإشكال السابق على هذا البيان كما لا يخفى.

ولكن يرد عليه : ان عدم خلو الواقعة عن الحكم انما يسلم بالنسبة إلى

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٥٦

الأشياء بلحاظ عناوينها الأولية ، بملاك ان المكلف لا بد ان تعين وظيفته العملية ولا يبقى متحيرا في مقام العمل ، اما إذا طرأ على الشيء ما يوجب ارتفاع هذا الملاك ، فلا يلزم ان يكون له حكم مجعول شرعا ، كما فيما نحن فيه ، فانه بعد وجوب أحد المتلازمين لا يبقى المكلف متحيرا بالنسبة إلى الآخر لتحققه قهرا بتحقق الواجب ونظيره مقدمة الواجب.

وبالجملة : إذا طرأ على الشيء عنوان ثانوي يوجب ارتفاع تحير المكلف بلحاظ وظيفته العملية بالنسبة إليه ، لا دليل على امتناع خلو الواقعة المذكورة عن حكم شرعي. إذ الملاك المزبور مرتفع كما هو الفرض ، وليس غيره ملاك للزوم وجود الحكم في الواقعة.

المسألة الثانية : في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام ، أعني الترك.

وقد يتوهم اقتضاؤه بالدلالة التضمنيّة ، لأن حقيقة الوجوب مركبة من طلب الشيء والمنع من تركه ، فالمنع عن الترك جزء الوجوب فيقتضيه الأمر بنحو التضمن كما لا يخفى.

ويندفع هذا التوهم بما ذكره صاحب الكفاية من : ان حقيقة الوجوب ليست مركبة من جزءين ، وانما هي عبارة عن مرتبة أكيدة من الإرادة الملازمة للمنع من الترك ، فالتعبير عن الوجوب بأنه المنع من الترك تعبير عنه بلازمه ، لأجل تحديد تلك المرتبة الأكيدة من الإرادة ، وليس هو لأجل كونه جزء حقيقة الوجوب. ومن هذا البيان توصل صاحب الكفاية إلى نفي دعوى العينية ، فانه بعد ان كان المنع من الترك من لوازم الأمر امتنع ان يكون عينه ، لأن الملازمة بين الشيئين تقتضي المغايرة الاثنينية وهو يتنافى مع دعوى العينية. إلاّ ان يراد من العينية هو وجود طلب واحد منسوب حقيقة إلى الوجود ، فيكون بعثا إليه وينسب مجازا وبالعرض إلى الترك فيكون زجرا عنه.

٣٥٧

وبالجملة : الّذي يظهر من كلام صاحب الكفاية هو دعوى الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن الترك (١).

وللمحقق النائيني في المقام كلام محصّله : انه إذا فسرنا النهي بطلب الترك ، فمعنى النهي عن الترك هو طلب تركه ، وطلب ترك الترك عين طلب الفعل واقعا وان تغاير عنه مفهوما ، لأن ترك الترك لا واقع له غير الفعل وإلاّ لزم ان يكون هناك واقع وراء المتناقضين وهو محال ، ولأجل ذلك اشتهر ان نفي النفي إثبات.

فعليه ، يكون الأمر بالشيء عين النهي عن الترك.

إلاّ ان هذا لا يرتبط بما نحن فيه ، فانه انما يرتبط بما إذا كان هناك إنشاءان أحدهما يتضمن طلب الفعل والآخر يتضمن النهي عن الترك ، فنقول :

ان أحدهما يرجع إلى الآخر وكل منهما عين الآخر حقيقة. اما إذا كان هناك إنشاء واحد يتضمن طلب الفعل فلا يتأتى فيه ما ذكر ، إذ قد يغفل الآمر عن ترك تركه كي يطلبه ، فيقال انه عين طلب الفعل ، وما نحن فيه من هذا القبيل. هذا ملخص كلامه (٢).

وفيه : ما لا يخفى ، فانه ان أريد من الأمر والنهي نفس الإنشاء اللفظي بان كانا اسمين للفظ الّذي ينشأ به المفهوم ، كان من الواضح تغاير الأمر بالفعل والنهي عن الترك ، فانه قوله : « صلّ » ـ مثلا ـ يغاير قوله : « لا تترك الصلاة » بالبداهة ، سواء ذلك في صورة وجود الأمر والنهي خارجا وصورة وجود أحدهما. وان أريد من الأمر والنهي واقع الإنشاء ، أعني به الطلب النفسيّ ، كان طلب الشيء عين النهي عن ضده العام بعد ان كان المنهي عبارة عن طلب الترك ، سواء تعدد الإنشاء فكان إنشاء للنهي وإنشاء للأمر أم اتحد الإنشاء فكان للأمر

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٣٣ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٥١ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٨

فقط ، لأن حقيقة الأمر لا تختلف عن حقيقة النهي ، فاللفظ الكاشف عن أحدهما يكشف عن كليهما ، بل هو يكشف عن حقيقة واحدة هي امر بلحاظ الفعل ونهي بلحاظ الترك.

ومن العجيب جدا ما أورده السيد الخوئي من : ان النهي إذا كان عبارة عن طلب الترك وكان الأمر بالشيء عين النهي عن تركه ، لا معنى لأن يقال ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الترك ، فانه عينه ، فلا محصل له ، فانه بمثابة ان يقال ان الأمر بالشيء يقتضي الأمر بالشيء (١).

ووجه الغرابة : ان كلامه ان كان يرجع إلى بيان ان المراد بالاقتضاء ما يساوق العلية لا ما هو أعم منها ومن العينية والتضمن ، فلا يصح التعبير بالاقتضاء في مورد العينية ، فيكون إشكالا على أخذ الاقتضاء بمعنى أعم ، فليس محله هاهنا ، وقد سبق منه تقرير ما فرضه النائيني من عموم المراد بالاقتضاء ، بل صرح به في تقريرات بحثه للفياض (٢).

وان كان يرجع إلى عدم صحة التعبير بالاقتضاء في مورد العينية مع غض النّظر عما سبق. فهو لا يتوجه على المحقق النائيني بعد ما فرض هو وغيره من الاعلام عموم المراد بالاقتضاء ، وانه بمعنى يصح إطلاقه في مورد العينية. فالمراد بان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن تركه مع انه عينه هو ان أحدهما يرجع إلى الآخر ، لا بمعنى علية الأمر للنهي الّذي يتنافى مع فرض العينية.

وبالجملة : لم يظهر محصل لهذا الإيراد.

وتحقيق المقال في هذه المسألة :

ان الأمر والنهي ان كانا اسمين للفظ الّذي يتحقق به إنشاء الطلب ،

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٥١ ـ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٣ ـ ٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٥٩

فالامر اسم لصيغة : « افعل » والنهي اسم لصيغة : « لا تفعل » ـ ان كانا كذلك ـ فلا يكون الأمر بشيء مقتضيا للنهي عن تركه بنحو من أنحاء الاقتضاء لا بنحو العينية ولا التضمن ولا الملازمة. فان كلا منهما وجود مستقل حقيقي فلا يكون عين الآخر ، كما انه لا يلزم عن تحقق الأمر بشيء بهذا المعنى تحقق النهي عن تركه كذلك لا باللزوم البين بالمعنى الأخص ولا البيّن بالمعنى الأعم.

وان كانا اسمين لواقع الإنشاء ، فان قلنا ان النهي عبارة عن طلب الترك فيكون النهي عن الترك عبارة عن طلب تركه ، كان الأمر بالشيء عين النهي عن تركه ، لأن طلب ترك الترك يرجع في واقعه إلى طلب الفعل. وان قلنا ان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل ومبغوضية المنهي عنه ، لم يكن الأمر بالشيء عين النهي عن تركه ، لأن محبوبية العمل وإرادته تغاير مبغوضية الترك وكراهته ، فان كلا منهما وجود مستقل وصفة من صفات النّفس تغاير في واقعها الأخرى.

كما انه لم يكن الأمر ملازما للنهي عن الترك ، لأن المحبوبية تنشأ من وجود المصلحة ، والمبغوضية تنشأ من وجود المفسدة ، فتعلق المحبوبية بالفعل لوجود مصلحة فيه لا تلازم تعلق المبغوضية في الترك ، إذ لا يلزم ان يكون في الترك مفسدة إذا كان في الفعل مصلحة ، بل غاية ما يكون في الترك هو عدم المصلحة وهو لا يكون منشئا للمبغوضية.

ثمرة المسألة

ذكر صاحب الكفاية : ان ثمرة البحث تظهر فيما كان ضد المأمور به عباديا كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة ، فانه بناء على اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده بضميمة ان النهي عن العبادة يستلزم فسادها تقع العبادة فاسدة للنهي عنها ، وبناء على عدم اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده تقع صحيحة لعدم النهي عنها.

٣٦٠