منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

والقاعدة الأولية. فأثر البحث في مقتضى دليل الأمر الاضطراري انما يظهر لو كان مقتضى الأصل هو عدم الإجزاء كما لا يخفى.

والكلام في الأصل تارة : في الأصل اللفظي. وأخرى : في الأصل العملي. والّذي نحققه فعلا هو الأصل اللفظي ، فنقول : ان مقتضى إطلاق دليل الأمر الواقعي الأولي لزوم الفعل مطلقا وفي جميع آنات الوقت سواء جاء بالمأمور به الاضطراري أو لا ، خرج عنه زمان الاضطرار باعتبار عدم القدرة عليه فيتقيد الحكم عقلا لاشتراط القدرة على متعلقه في تحققه ، فإذا ارتفع الاضطرار وعدم القدرة في أثناء الوقت كان إطلاق دليله محكما لعدم المانع ، وشموله لما إذا جاء بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو لم يجئ.

وبالجملة : مقتضى الإطلاق لزوم إعادة الفعل وعدم الإجزاء. هذا بالنسبة إلى لزوم الإعادة.

اما بالنسبة إلى لزوم القضاء ، فان قلنا بان القضاء تابع للأداء ، وأن دليل الأداء هو الّذي يتكفل إيجاب القضاء ، كان الأمر فيه كالإعادة ، فان إطلاق دليل الأمر الواقعي يتكفل لزوم الفعل سواء جيء بالمأمور به الاضطراري أو لم يجئ ، وهو يقتضي لزوم الفعل مطلقا إلى آخر العمر ، فيجب القضاء بمقتضى إطلاق الدليل. وان قلنا بأنه بأمر جديد لم يكن هناك إطلاق يتكفل وجوبه كما لا يخفى ، لارتفاع الأمر الأولي بخروج الوقت والشك في شمول دليل القضاء للمورد ، فالمرجع هو الأصل العملي.

والأمر الغريب ان صاحب الكفاية بعد ان يتكلم في تحقيق المطلب ثبوتا بنحو مفصل ثم يتعرض لمقام الإثبات ، وان إطلاق دليل الأمر الاضطراري يقتضي الإجزاء ، يذكر أمرا يقتضي عدم وجود ثمرة للبحث ، وهو : انه مع عدم إطلاق دليل الأمر الاضطراري ، فمقتضى الأصل العملي ـ الّذي هو المرجع

٢١

حينئذ ـ هو عدم وجوب الإعادة. لأنه شك في التكليف (١).

ولا يخفى ان هذا يقتضي الإجزاء سواء من جهة الدليل المتكفل للأمر الاضطراري أو من جهة الأصل ، فلا ثمرة في البحث عن دلالة الدليل ومقتضاه كما لا يخفى.

إلا ان يكون مراده قدس‌سره من قوله : « فالمتبع هو الإطلاق » إطلاق دليل الأمر الواقعي أو الاضطراري لا خصوص إطلاق دليل الأمر الاضطراري. وقد عرفت ان مقتضى إطلاق دليل الأمر الواقعي هو عدم الاجزاء فتظهر الثمرة العملية في البحث.

ولكن هذا خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من يلاحظه.

وبعد هاتين المقدمتين يقع الكلام في أصل المبحث ، وهو إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى بيان أنحاء ما يمكن ان يقع عليه المأمور به الاضطراري ثبوتا وأنها أربعة : لأنه اما ان يكون وافيا بملاك الأمر الواقعي بتمامه ، أو لا يكون وافيا بتمامه. والثاني اما ان يكون المقدار الباقي من المصلحة والملاك مما لا يمكن تداركه ، أو يكون مما يمكن تداركه ، والثاني اما ان يكون ذلك المقدار مصلحة ملزمة ، أو لا يكون كذلك. فالصور أربعة :

الأولى : ان يكون وافيا بتمام ملاك الأمر الواقعي.

الثانية : ان يكون وافيا ببعض الملاك ويكون المقدار الباقي مما لا يمكن تداركه.

الثالثة : ان يكون وافيا ببعض الملاك وأمكن تدارك الباقي وكان ملزما.

الرابعة : ان لا يكون المقدار الباقي الممكن تداركه ملزما ، بل بنحو

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٢

يوجب الاستحباب.

والكلام في كل صورة يقع من جهات ثلاثة :

الأولى : في اقتضائه الاجزاء.

الثانية : في جواز البدار بمعنى الإتيان به في أول الوقت.

الثالث : في جواز تعجيز النّفس وإيجاد الاضطرار اختياريا.

اما الصورة الأولى : فهي تقتضي الاجزاء بلا كلام ، لحصول تمام ملاك الأمر الواقعي بالمأمور به الاضطراري ، فلا مجال لوجود الأمر الواقعي حينئذ.

واما جواز البدار ، فهو يتوقف على إحراز وفاء المأمور به الاضطراري بملاك الأمر الواقعي بمجرد الاضطرار ، إذ لا إشكال في جوازه لعدم فوات مصلحة الواقع به.

واما إذا كان وفاء المأمور به الاضطراري بالملاك مقيّدا باليأس عن ارتفاع الاضطرار أو بالانتظار إلى آخر الوقت ، فلا يجوز البدار بدون اليأس لعدم وفاء المأتي به بملاك الأمر الواقعي ولا يتحقق الإجزاء.

واما الاضطرار اختيارا فقد يدعى جوازه ، إذ لا قبح فيه بعد عدم فوات مصلحة الواقع به.

ولكنه يتوقف على إحراز ان وفاء المأمور به الاضطراري بالملاك بمطلق الاضطرار سواء حصل اختيارا ، أو قهرا وبدون اختيار.

ومع عدم إحراز ذلك ، وإحراز أو احتمال كون وفائه بالملاك يختص بصورة ما إذا كان حصول الاضطرار قهريا وبدون اختيار فلا يجوز التعجيز وإيجاد الاضطرار اختيارا ، إذ فيه تفويت لمصلحة الواقع الملزمة أو احتمال تفويتها مع حكم العقل بتحصيلها الموجب للعلم باشتغال الذّمّة بتحصيلها ، فلا يكفى الإتيان بالمأمور به الاضطراري لعدم إحراز فراغ الذّمّة.

واما الصورة الثانية : فلا إشكال في تحقق الإجزاء فيها ، لعدم وجود الأمر

٢٣

الواقعي بعد ان كانت المصلحة الفائتة غير ممكنة التدارك ، إذ لا ينشأ عنها أمر بالفعل لعدم إمكان تحصيلها.

واما البدار ، فلا بدّ من ملاحظة ان المصلحة الفائتة التي لا يمكن تداركها هل هي بنحو ملزم بعد ملاحظة ما في البدار من إدراك مصلحة أول الوقت ووقوع الكسر والانكسار؟ أو لا ، فان كانت بنحو ملزم أشكل جوازه ، لأن فيه تفويتا لمصلحة لازمة الحصول. وان لم تكن بنحو ملزم جاز البدار بلا إشكال ولم يتعرض صاحب الكفاية إلى التفصيل المزبور.

واما تعجيز النّفس والاضطرار اختيارا ـ بعد فرض وفاء الفعل بمقدار من المصلحة في هذا الحال أيضا بلحاظ أن مطلق الاضطرار كاف في تحصيل الفعل لبعض الملاك ـ فهو مشكل الجواز لو كانت المصلحة الفائتة بنحو ملزم دون ما لم تكن كذلك كما هو واضح.

واما الصورة الثالثة : فالحق عدم الإجزاء ، لوجود المصلحة الملزمة التي يمكن تداركها فتكون منشئا للأمر.

واما البدار ، فلا مانع منه ، إذ ليس فيه تفويت لمصلحة الواقع بعد فرض لزوم الإتيان بالفعل بعد ارتفاع العذر كما انه يجوز له تأخير العمل إلى ما بعد العذر فيأتي بعمل واحد لا غير. فيكون المكلف مخيرا بين الإتيان بالعمل الاضطراري هذا الاضطرار والاختياري بعد ارتفاع الاضطرار وبين الإتيان بالعمل الاختياري فقط عند ارتفاع الاضطراري.

واما الاضطرار اختيارا ، فهو مما لا مانع منه بعد عدم استلزامه للتفويت لعدم الإجزاء ، لكنه ليس عملا عقلائيا ـ عادة ـ لفرض عدم الاجزاء ولزوم الإتيان بالعمل الاختياري لا محالة.

واما الصورة الرابعة : فالحق فيها الإجزاء لعدم كون المصلحة الفائتة بنحو تكون منشئا للأمر الإلزامي. نعم تكون منشأ للأمر الاستحبابي ، كما انه لا

٢٤

إشكال في جواز البدار والاضطرار اختيارا لأن ما يفوت من المصلحة بسببهما غير لازم التحصيل ، فلا مانع من تفويته عقلا. هذا توضيح ما ذكره صاحب الكفاية في مرحلة الثبوت ـ وان كان قدس‌سره لم يتعرض للاضطرار اختيارا ـ ثم ذكر قدس‌سره مرحلة الإثبات وأفاد ان مقتضى إطلاق دليل الأمر بالتيمم هو الإجزاء (١).

وقد لا يتضح بدوا الارتباط بين ما ذكره في مقام الثبوت من التفصيل وبين ما انتهى إليه بحسب الدليل الإثباتي ، بحيث يرى ان ما ذكره في مقام الثبوت تطويل بلا طائل ، بعد ان كان إطلاق الدليل يقتضي الإجزاء ، فلا بد من بيان جهة الارتباط بنحو يخرج كلامه الثبوتي عن اللغوية والتطويل. ثم بيان تقريب دلالة الإطلاق على الاجزاء.

وقبل ذلك لا بد من التنبيه على شيء وهو ان البحث عن الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة موضوعه ما إذا كان موضوع الأمر الاضطراري حصول الاضطرار في بعض الوقت لا جميعه بحيث يكون ارتفاع العذر في الأثناء غير مناف لوجود الأمر الاضطراري في حين العذر ، لأنه لو كان موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار في تمام الوقت ـ كما عليه المحقق النائيني والأغلب ـ ، فلا مجال للبحث عن الإجزاء من حيث الإعادة ، لأن ارتفاع العذر في أثناء الوقت يكشف عن عدم وجود امر اضطراري واقعا وبالمرة كي يتكلم في اجزاء إتيان المأمور به بامره ، بل البحث عن الاجزاء على هذا البناء ينحصر في البحث عنه من حيث إسقاط القضاء لا غير ، وموضوع البحث فعلا هو الاجزاء من حيث الإعادة أو القضاء ، فالمفروض على هذا كون الاضطرار في بعض الوقت موضوعا واقعا للحكم الاضطراري لا الاضطرار في تمامه فلا تغفل.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٨٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥

وبعد هذا نقول : انه حيث أفاد في مرحلة الثبوت ان جميع الصور الثبوتية تقتضي الإجزاء ما عدا الصورة الثالثة وبين ان مقتضاها ثبوت الأمر التخييري بالفعل الاضطراري حال الاضطرار والاختياري بعد ارتفاعه أو خصوص الفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار ، لما كان الحال كذلك كان مقتضى الإطلاق هو نفي كون الأمر الاضطراري على الصورة الثالثة ، فمقتضاه الإجزاء حينئذ ، إذ ما عدا هذه الصورة من الصور يقتضي الإجزاء. فجهة الارتباط بين مرحلة الثبوت ومرحلة الإثبات واضحة ، فان المقصود بدلالة الدليل على الإجزاء هو نفيه الصورة الثالثة.

واما وجه اقتضاء إطلاق الدليل نفي هذه الصورة الملازم لدلالته على الاجزاء ، فهو ان الصورة الثالثة ـ كما عرفت ـ تقتضي التخيير في الواجب بين الفعل الاضطراري عند الاضطرار والاختياري بعده وبين خصوص الفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر ، فيكون الواجب الاضطراري في هذه الصورة مشتملا على خصوصيتين خصوصية التقييد بالفعل الآخر الاختياري التي هي مفاد « الواو ». وخصوصية التخيير بينه وبين الفعل الاختياري التي هي مفاد « أو ».

ولا يخفى ان كلتا هاتين الخصوصيّتين منافيتان لمفاد الإطلاق ، لأن كلا منهما جهة زائدة على أصل الوجوب في الواجب. فيكون مقتضى الإطلاق المنعقد لدليل الأمر الاضطراري نفي كلتا الخصوصيّتين وان الواجب هو خصوص الفعل الاضطراري لا هو وغيره ولا هو أو غيره الملازم لنفي الصورة الثالثة المستلزم للإجزاء ، فمقتضى الإطلاق في النتيجة هو الإجزاء.

وهذا البيان واضح في مثل قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً )(١) مما اشتمل على الأمر.

__________________

(١) سورة النساء الآية : ٤٣. سورة المائدة الآية : ٦.

٢٦

واما في مثل : « التراب أحد الطهورين » (١) مما لا يشتمل على الأمر فلا يتأتى فيه هذا التقريب ، إذ لا يتكفل بيان الوجوب ولا الواجب كي يتمسك بإطلاقه في نفي تقييده والتخيير بينه وبين غيره.

وقد يقرب التمسك بإطلاقه في الدلالة على الإجزاء بان ظاهر الدليل تنزيل البدل الاضطراري ـ كالتراب ـ منزلة المبدل منه ـ كالماء ـ ، فيتمسك بإطلاق التنزيل في إثبات كونه بمنزلته في الوفاء بتمام الغرض ، فيكون مجزيا كما عرفت.

ولكنه لا يخلو من نظر ، فان دليل التنزيل ليس ناظرا إلى جميع جهات المنزل عليه في مقام التنزيل ، فليس المتكلم في مقام البيان من جهة الوفاء بالغرض وعدم وفائه ، بل النّظر إلى التنزيل في مقام التكليف والأمر وتعيين الواجب فهو أجنبي عن مقام الوفاء بالغرض.

ولكن يمكن تقريبه بنحو آخر وهو ان يقال : ان الدليل يتكفل تنزيل التيمم منزلة الوضوء في تعلق التكليف به وبيان ان الصلاة مع التيمم كالصلاة مع الوضوء في كونها متعلقة للوجوب.

وبما ان وجوب الصلاة مع الوضوء في ظرف الاختيار وجوب تعييني غير تخييري ، فيكون مقتضى دليل التنزيل هو تنزيل الصلاة مع التيمم منزلة الصلاة مع الوضوء في هذه الجهة وهي كون وجوبها تعيينيا لإطلاق دليل التنزيل من جهة الوجوب وتعلق الأمر في التنزيل من هذه الخصوصية الراجعة إلى الوجوب.

وبالجملة : دليل البدل الاضطراري سواء كان بلسان الأمر أو التنزيل يقتضي نفي التخيير بينه وبين غيره كما هو الحال في الصورة الثالثة. وعليه

__________________

(١) عن أبي جعفر عليه‌السلام : « فان التيمم أحد الطهورين ».

وسائل الشيعة ٢ ـ ٩٩١ باب : ٢١ من أبواب التيمم حديث : ١.

٢٧

فيكون مقتضى إطلاق الدليل الاجزاء.

فمرجع كلام صاحب الكفاية إلى ان التخيير ملازم لعدم الاجزاء فإذا نفي بالإطلاق كان مقتضاه الإجزاء كما لا يخفى.

وقد يورد على التمسك بالإطلاق في نفي التخيير والتقييد بما بيانه : ان التمسك بإطلاق الدليل في نفي القيد المشكوك انما يتم في مورد تمامية موضوعه وثبوته ، فالتمسك بإطلاق كل دليل انما يصح في ظرف ثبوت موضوعه لتفرع ثبوت أصل الحكم على ثبوت الموضوع ، فمع عدم ثبوت موضوعه يعلم بعدم ثبوت الحكم.

وعليه ، فموضوع الأمر الاضطراري هو العذر والاضطرار ، فلا يصح التمسك بإطلاق في نفي التخيير والتقييد في غير ظرف ثبوت موضوعه وهو ظرف ارتفاع الاضطرار ، بل التمسك بإطلاقه انما يصح بالنسبة إلى القيود المشكوكة في ظرف الموضوع.

ولكنه يندفع : بتصور الإطلاق والتقييد في ظرف غير موضوعه ، مثلا : إذا ورد حكم بوجوب التصدق على المسافر ، فانه يمكن تقييد هذا الحكم ثبوتا بما إذا لم يتصدق في حال الحضر ، فمع الشك في ذلك يمكن التمسك بإطلاق : « يجب التصدق على المسافر » ـ مثلا ـ في إثبات وجوب التصدق عليه مطلقا. سواء كان قد تصدق في الحضر ، أو لم يتصدق في حال الحضر وعدم السفر. وذلك لأن عدم الوجوب على المسافر لو كان قد تصدق في الحضر يرجع في الحقيقة واللب إلى تقييد الوجوب عليه بصورة عدم التصدق في حال الحضر.

ومن هذا القبيل ما نحن فيه فان نفي وجوب المأمور به الاضطراري عند الإتيان بالفعل الاختياري في حال الاختيار يرجع إلى تقييد دليل الأمر الاضطراري لبا بصورة عدم الإتيان بالفعل الاختياري في ظرف الاختيار ، فينفي مع الشك بإطلاق الدليل.

٢٨

وبالجملة : فالإيراد بمنع التمسك بالإطلاق من حيث توقفه على فرض ثبوت موضوعه وعدم صحته في ظرف عدم موضوع الحكم غير تام.

فالأولى في مقام الإيراد ان يقال :

أولا : انه يختص بالإجزاء من حيث إسقاط الإعادة فقط ولا يقتضي الاجزاء من حيث القضاء ، كما هو بخصوصه موضوع البحث عند من يرى موضوعية الاضطرار تمام الوقت للحكم الاضطراري. فلا يشمل ما إذا تحقق الاضطرار تمام الوقت.

والوجه فيه هو انه مع استمرار العذر إلى آخر الوقت لا تكون خصوصية التعيينية ملازمة للقول بالإجزاء كي يكون مقتضى الإطلاق الإجزاء ـ بلحاظ انه ينفي التخيير ـ ، بل القائل بعدم الاجزاء يرى تعين الفعل الاضطراري في الوقت وعدم جواز تركه والإتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت. فتعين الفعل الاضطراري في الوقت وعدم الترخيص في تركه والإتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت امر يشترك فيه القائل بالاجزاء وعدمه ، فليس نفي التخيير ملازما للاجزاء.

ودعوى : ان الصورة الثبوتية الثالثة تقتضي اشتمال الواجب الاضطراري على خصوصيتين إحداهما تقيده بالفعل الاختياري بعد العذر. والأخرى التخيير بينه وبين الفعل الاختياري بعد العذر. والأمر الثابت ـ مع استمرار العذر إلى آخر الوقت ـ هو انتفاء خصوصية التخيير التي هي بمفاد « أو » سواء على القول بالاجزاء أو القول بعدمه.

واما تقيده بالفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر الّذي هو الخصوصية بمفاد « الواو » فهذا لازم القول بعدم الاجزاء فقط ، إذ القائل بالاجزاء لا يرى لزوم الإتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت بعد ارتفاع العذر. وقد تقدم ان الإطلاق ينفي كلتا الخصوصيّتين فهو ينفي خصوصية التقيد بالفعل الاختياري

٢٩

بعد العذر خارج الوقت الملازم لنفي القول بعدم الاجزاء والقول بالاجزاء.

وان لم يكن انتفاء خصوصية التخيير ملازمة لعدم الاجزاء في الفرض كما عرفت.

مندفعة : بان لزوم الإتيان بالفعل الاختياري بعد العذر خارج الوقت أو في أثنائه ، لا يرجع إلى تقييد الحكم الاضطراري ولا متعلقه ، بل هو حكم آخر استقلالي ناشئ عن المصلحة الفائتة اللزومية ، فلا يصح التمسك بإطلاق الدليل لنفيه ، لأن التمسك بإطلاق الدليل انما يصح في مورد يرجع القيد المشكوك إلى الواجب أو الوجوب ، وهذا القيد كما عرفت لا يرجع إلى الوجوب ولا الواجب. إذ كل منهما امر مستقل بذاته واف بمقدار من المصلحة اللزومية ، وليس وجوب أحدهما ولا الواجب فيه معلقا على امتثال الآخر. فهذا نظير التمسك بإطلاق دليل وجوب الصلاة الخاصة في نفي الأمر بالفرد الخاصّ من الصوم.

وبالجملة : ما قرره من التمسك بالإطلاق في نفي وجوب الفعل الاختياري مع الاضطراري لا نسلمه لعدم تماميته ، وانما الصحيح تمسكه بالإطلاق في نفي التخيير بينه وبين الفعل الاختياري ، وقد عرفت عدم إجدائه في مورد استمرار الاضطرار إلى آخر الوقت لعدم اختصاص القول بالاجزاء في نفي التخيير ، إذ يتعين الفعل في الوقت على كلا القولين.

وثانيا : ان ما ذكره لا يجدي في إثبات الإجزاء بالنسبة إلى الإعادة ، وذلك لأن القول بالتخيير بين الفعل الاضطراري حال الاضطرار والفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار في الوقت ليس لازما للقول بعدم الإجزاء فحسب ، بل القائل بالاجزاء يلتزم بالتخيير أيضا ، إذ من الظاهر انه لا يقول أحد بلزوم الفعل الاضطراري معينا ولو مع ارتفاع العذر في أثناء الوقت وإمكان الفعل الاختياري.

٣٠

بل الفعل الاضطراري يجوز تركه والإتيان بالفعل الاختياري بعد العذر عند الكل فالتخيير لازم أعم للقول بالاجزاء والقول بعدمه.

وعليه ، فالتمسك بالإطلاق في نفي التخيير لإثبات الاجزاء لا وجه له بعد ان كان التخيير مما يلتزم به القائل بالاجزاء.

واما خصوصية تقيد الفعل الاضطراري الواجب بالإتيان بالفعل الاختياري بعد العذر وهي الخصوصية الثانية في الصورة الثالثة الثبوتية ، فقد عرفت عدم صلاحية الإطلاق لنفيها ، لعدم رجوع الخصوصية إلى الواجب ولا إلى الوجوب ، وعرفت ان ما هو المسلم في نفسه هو التمسك بالإطلاق في نفى خصوصية التخيير.

وهذا غير ثابت فيما نحن فيه لاشتراك القولين في الالتزام بالتخيير.

وخلاصة القول : ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية بعد توجيهه ، بما عرفت امر لا يجدي في إثبات إجزاء الأوامر الاضطرارية لا عن الإعادة لأن التخيير لازم أعم للقولين. ولا عن القضاء ـ في موضوعه وهو استمرار العذر إلى نهاية الوقت ـ ، لأن التعيين لازم أعم للقولين. فلاحظ.

الوجه الثاني : مما قيل في إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي وعدمه : ان هذه المسألة من صغريات مسألة التمسك بإطلاق العام بعد انتهاء زمان التخصيص التي تحرر في باب الاستصحاب من الأصول وموضوعها ما إذا ورد عام ثم ورد تخصيصه بفرد في ظرف معين وشك في استمرار حكم المخصص بعد ذلك الظرف المعين أو ثبوت حكم العام. فيقع الكلام في إمكان استصحاب حكم الخاصّ أو التمسك بإطلاق دليل العام في إثبات حكم العام للفرد؟ فان الحال فيما نحن فيه كذلك. وذلك لورود دليل مطلق يتكفل بيان وجوب الفعل بالطهارة المائية على جميع الافراد ، ثم خرج منه الفرد المضطر غير المتمكن في حال اضطراره وعذره ، فإذا زال اضطراره يشك في ثبوت حكم العام له وشمول

٣١

دليل العام له.

فما يقال هناك من إمكان التمسك بإطلاق دليل العام وعدمه يقال هنا لأنه من صغريات تلك المسألة.

نعم ، احتمال استصحاب حكم المخصص منتف هنا للعلم بعدم وجوب الفعل الاضطراري بعد ارتفاع الاضطرار.

وبالجملة : هذه المسألة من صغريات تلك المسألة فلا حاجة لإتعاب النّفس في الإجزاء وعدمه.

والتحقيق : ان هذا الوجه باطل وان مسألة الإجزاء لا ترتبط بتلك المسألة وليست من صغرياتها ، إذ يرد على هذا الوجه أمور :

الأول : انه لو سلم يتناول حل مشكلة الإجزاء وعدمه من حيث الإعادة فقط ، ولا يشمل الإجزاء من حيث القضاء الّذي هو بخصوصه موضوع بحث الكثيرين بلحاظ اختيارهم كون الموضوع للأمر الاضطراري هو الاضطرار في تمام الوقت ، فلا يتصور الاجزاء إلا بلحاظ القضاء كما أشرنا إليه.

وذلك لأن التخصيص بالفرد المعذور انما كان لإطلاق دليل الفعل في الوقت.

اما دليل القضاء فلم يخصص لأنه مستقل وليس البحث في شموله لمن أتى بالمأمور به الاضطراري من صغريات البحث في التمسك بدليل العام بعد زمان التخصيص.

وبالجملة : حيث وقع البحث من الكثيرين في الاجزاء من حيث القضاء فقط لم يتجه بناء المسألة على مسألة التمسك بإطلاق العام بعد انتهاء زمان التخصيص ، لعدم شموله للإجزاء من حيث القضاء ، فلا بد من ان يكون نظر الباحثين جهة عامة لفروع المسألة.

الثاني : انه عليه لا بد ان يختص النزاع في مسألة الاجزاء بما إذا كان

٣٢

الاضطرار في أثناء الوقت لا من أوله. وذلك لما تقرر في تلك المسألة من ان خروج الفرد بالتخصيص إذا كان من أول أزمنة الحكم كان التمسك بإطلاق العام بعد انتهاء زمان التخصيص مما لا إشكال فيه ولا خلاف ولذا يلتزم بجواز التمسك بإطلاق ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(١) في نفي الشك بعد انتهاء زمان خيار المجلس لأن دليله اقتضى التخصيص من أول أزمنة الحكم. نعم إذا كان التخصيص بعد شمول حكم العام للفرد المخصص بعض الوقت كان التمسك بإطلاق العام بعد زمان التخصيص محل كلام.

وعليه ، فإذا كان الاضطرار من أول زمان الحكم ، وفي أول الوقت بحيث خرج الفرد عن الحكم من أول زمان الأمر بان كان فاقدا للماء من حين الزوال كان التمسك بإطلاق دليل العام بعد ارتفاع العذر من المسلمات فلا كلام فيه فيختص الكلام بما إذا كان الاضطرار في الأثناء ، مع ان الحال في الإجزاء وعدمه لا يفرق فيه ـ في كلمات القوم ـ بين كون الاضطرار من الأول أو في الأثناء.

الثالث : ـ وهو عمدة الإشكال على الوجه المزبور ـ ان شمول إطلاق دليل العام بعد ارتفاع العذر ـ فيما نحن فيه ـ امر مسلم لا ينكره أحد وشاهدنا على ذلك ، انه لو لم يأت بالفعل الاضطراري يجب عليه الفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر بمقتضى الإطلاق ، فلو كان مجرد التخصيص بالفرد المضطر في بعض الوقت مانعا عن شمول الإطلاق له فيما بعد الاضطرار لم يفترق فيه صورة الإتيان بالفعل الاضطراري وعدمه ، ومقتضاه عدم وجوب الفعل الاختياري لو عصى الأمر الاضطراري ، مع انه لا قائل به. فهذا مما يكشف عن ان شمول الإطلاق لما بعد ارتفاع العذر امر مسلم لا كلام فيه وانما الكلام في جهة أخرى وهي ان دليل الأمر الاضطراري هل يقتضي الصدّ من شمول

__________________

(١) ـ سورة المائدة الآية : ١.

٣٣

الإطلاق لو أتى بالمأمور به الاضطراري.

فالبحث ليس في أن التخصيص هل يقتضي نفي شمول الإطلاق لما بعد زمان التخصيص أو لا يقتضي؟ ، فان شموله في نفسه ثابت ولا يمنع عنه التخصيص ، وإلاّ لم يجب الفعل الاختياري ولو لم يأت بالفعل الاضطراري عصيانا ، لعدم الدليل عليه. وانما البحث في ان الإتيان بالمأمور به الاضطراري بمقتضى دليله هل يمنع من شمول الإطلاق أو لا يمنع؟.

فالكلام في مانعية الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الإطلاق ـ بمقتضى دليل الأمر الاضطراري ـ لا في مانعية نفس تخصيص الأمر الواقعي لشمول الإطلاق.

فلا تبتني هذه المسألة على تلك وليست من صغرياتها ، لأن جهة البحث في تلك المسألة مفروغ عنها هنا ولا كلام فيها ، للجزم بأحد طرفيها والبحث في جهة أخرى. فلاحظ.

الوجه الثالث : ما قرره المحقق النائيني ـ كما في أجود التقريرات (١) ـ في بيان الاجزاء من حيث الإعادة ومحصله : انه اما ان يكون موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار تمام الوقت ، فإذا انتفى الاضطرار في الأثناء كشف عن عدم ثبوت الأمر الاضطراري بالمرة ، فإذا كان إحراز الاضطرار تمام الوقت ـ المتوقف عليه الإتيان بالعمل في أول الوقت ـ بالاستصحاب الاستقبالي ، ابتني الكلام في الإجزاء هنا على إجزاء الأمر الظاهري ، إذ يتحقق بالاستصحاب أمر ظاهري ثم يظهر كون الواقع خلافه. وان كان موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار بعض الوقت ، كان الإتيان بالمأمور به الاضطراري مجزيا لو ارتفع العذر في الأثناء للإجماع على عدم وجوب صلاتين في وقت واحد. والمفروض انه

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٩٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٤

جاء بصلاة واجبة ، فلا تجب الأخرى جزما.

وهذا الوجه واضح المنع فانه يختص بباب الصلاة ، إذ موضوع الإجماع هو عدم تعدد الواجب الصلاتي في وقت واحد ، فهو غاية ما يثبت الاجزاء في باب الصلاة ، ولا يخفى ان الأوامر الاضطرارية لا تختص بباب الصلاة بل تتعدى إلى غيرها من الواجبات ولم يثبت قيام الإجماع على عدم تعدد الواجب مطلقا في الوقت الواحد.

وبالجملة : هذا الوجه أخص من المدعى.

والعجيب من السيد الخوئي « دام ظله » انه بعد أن قرر الإشكال على المحقق النائيني في تعليقته على التقريرات وذكر انه لا دليل على الاجزاء في غير باب الصلاة قال : « فان كان لدليل الأمر بالفعل الاضطراري إطلاق يقتضي جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ولو كان الاضطرار مرتفعا بعده فهو المرجع ، وإلاّ فأصالة البراءة تقتضي عدم وجوب الإعادة ، فمقتضى القاعدة هو الإجزاء في موارد الأمر الاضطراري مطلقا » (١).

ووجه الغرابة فيه هو : رجوعه إلى أصالة البراءة لنفي وجوب الإعادة ، مع ان شمول إطلاق دليل الواجب الاختياري في نفسه لما بعد ارتفاع العذر امر مسلم مفروغ عنه. والكلام فيما يمنع عنه ، والشاهد على شموله ما عرفت من انه لو لم يأت بالفعل الاضطراري في حال الاضطرار لا يستشكل أحد في وجوب الفعل الاختياري عليه بعد ارتفاع الاضطرار بدليل الواجب ، فالتمسك بأصالة البراءة في قبال إطلاق الدليل لا يعرف وجهه.

مضافا إلى ان ما ذكره من الرجوع إلى إطلاق دليل الأمر الاضطراري إذا اقتضى جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ولو ارتفع الاضطرار في الأثناء ،

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٩٦ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

٣٥

وكونه هو المحكم المرجع ، وان كان تاما في نفسه ، إلا ان الّذي ينبغي ذكره بيان تقريب اقتضاء إطلاق دليل الأمر الاضطراري للإجزاء وجهة دلالته عليه ، فانه هو الّذي ينبغي ان يحرر ، لا بيان الرجوع إلى الإطلاق لو اقتضى الإجزاء ، فلاحظ.

وقد قرب الإجزاء في بحثه ـ كما في مصابيح الأصول (١) ـ بنحو آخر يختلف عما جاء في التعليقة. وبيانه : ان الأمر الاضطراري ملازم للاجزاء وذلك لأن الصور الثبوتية للأمر الاضطراري كما جاء في الكفاية أربعة ، ثلاثة منها تلازم الاجزاء وواحدة وهي الصورة الثالثة ـ حسب ترتيب الكفاية ـ تقتضي عدم الإجزاء كما عرفت بيانه.

والأمر الاضطراري في هذه الصورة ـ أعني الثالثة ـ غير معقول ، وذلك لرجوع الأمر فيه إلى التخيير بين الأقل والأكثر ، فان الفعل الاختياري مأمور به ، اما وحده أو مع الفعل الاضطراري وهو ـ أي التخيير بين الأقل والأكثر ـ محال كما يحقق في محله إن شاء الله تعالى. وإذا ثبت انه في الصورة الثالثة ليس هناك امر اضطراري وانه إذا وجد فهو لا ينفك عن ان يكون بأحد الأنحاء الثلاثة الأخرى ، وقد عرفت انه ملازم للإجزاء فيها جميعها فيمكن على هذا دعوى ملازمة الأمر الاضطراري للإجزاء بلا احتياج إلى تقريب إطلاق أو قيام ضرورة وإجماع.

وفيه : ان التخيير بين الأقل والأكثر بعنوانه غير معقول كما ذكر ، لكن سيأتي إن شاء الله تعالى إرجاع ما ظاهره التخيير بين الأقل والأكثر إلى التخيير بين المتباينين بدعوى ان طرف التخيير هو الأقل بحده وبشرط لا وهو مباين للأقل بشرط شيء الّذي يتحقق بالأكثر.

__________________

(١) بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول ١ ـ ٢٦٣ ـ الطبعة الأولى.

٣٦

وبالجملة : قد تقرر في محله تصوير التخيير بين الأقل والأكثر بنحو معقول وهو إرجاعه إلى التخيير بين المتباينين ، فيرتفع المحذور الّذي يذكر في التخيير بين الأقل والأكثر كما يجاب في محله عن الإيراد بعدم الأثر في التخيير. فانتظر.

وخلاصة الإيراد عليه : ان التخيير بين الأقل والأكثر بإرجاعه إلى التخيير بين المتباينين كما سيجيء لا محذور فيه ، فيمكن إرجاع ما نحن فيه إلى ذلك النحو من التخيير. فالتفت.

الوجه الرابع لتقريب الإجزاء ـ وهو يختص بالأوامر الضمنية كما سيتضح ـ : ان دليل الفعل الاضطراري ..

تارة : يكون متكفلا لبيان محققية الفعل لما هو الشرط أو الجزء في المأمور به الواقعي. غاية الأمر أنه يقيد بصورة الاضطرار والعذر. مثلا إذا أخذ في المأمور به الواقعي شرط خاص كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ثم بيّن بدليل آخر أن الفعل الكذائي محقق لهذا الشرط وسبب له ، كالدليل الدال على سببية الوضوء للطهارة ، فمقتضى إطلاق هذا الدليل سببية الوضوء للطهارة في مطلق حالات وآنات المكلف.

فإذا جاء دليل يبيّن فيه بان التيمم كالوضوء في محققيته للطهارة ووجودها به كقوله عليه‌السلام : « التراب أحد الطهورين » ولكنه في ظرف خاص وهو ظرف الاضطرار ، لم يكن منافيا لدليل سببية الوضوء ، بل كان الإتيان به في ظرفه إتيانا للفعل واجدا لشرطه الواقعي ، نظير ما لو دل دليل على سببية غسل الجمعة للطهارة في يوم معين وهو يوم الجمعة ، فانه لا تنافي بين دليل الغسل والوضوء.

فإذا كان دليل الفعل الاضطراري يتكفل بيان محققية الفعل للشرط الواقعي للمأمور به كدليل : « التراب أحد الطهورين » بالنسبة إلى دليل شرطية

٣٧

الطهارة وهو : « لا صلاة إلاّ بطهور » (١) ، غاية الأمر انه يقيد بصورة العذر وحاله ، فإذا جاء بالتيمم في حال العذر فقد تحقق منه الشرط للمأمور به الواقعي وهو الطهارة ، فيكون قد جاء بالصلاة المأمور بها واقعا ، وهي الصلاة مع الطهارة ، فلا كلام في الإجزاء لأنه في الحقيقة يكون من الإتيان بالمأمور به الواقعي ولا إشكال في إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره.

وبالجملة : ليس لدينا في هذا الفرض مأمور به بالأمر الاضطراري ، بل ليس إلا الأمر الواقعي. غاية الأمر دليل الاضطرار يتكفل التوسعة فيما هو المحقق للشرط فيضيف إلى الوضوء ـ مثلا ـ التيمم في سببيته للطهارة. ومن هنا يقال انه لو توضأ في مواضع جواز التيمم للعذر صح الوضوء لإطلاق دليله الشامل لصورة العذر ، وعدم منافاة دليل التيمم له ، إذ هو يتكفل سببية التيمم ولا ينفي سببية الوضوء.

وعليه ، فالمأتي به مع التيمم يكون هو المأمور به الواقعي لأنه صلاة مع الطهارة ، فلا إشكال في إجزائه ، فيخرج الفرض نتيجة عن محل الكلام في الإجزاء وعدمه ، إذ لا تعدد للأمر في المقام.

وأخرى : يكون دليل الاضطرار متكفلا للأمر بالفعل الاضطراري مع العذر ـ لا بيان اشتراك الفعل الاضطراري مع الفعل الاختياري في الأثر المعتبر في المأمور به ـ كالأمر بالجلوس في الصلاة مع العجز عن القيام ، وكالأمر بالتيمم مع العذر لو قيل بان الشرط هو الوضوء لا الطهارة الحاصلة بأحدهما ونحو ذلك. فلا إشكال في إجزاء الفعل الاضطراري عن الأمر الواقعي أيضا.

بيان ذلك : ان دليل الشرطية لا يتكفل تكليفا وإلزاما بالفعل ـ حتى يختص بصورة التمكن ـ ، بل انما يتكفل بيان دخالة هذا الفعل في حصول

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ٢٥٦ ، باب : ١ من أبواب الوضوء ، حديث : ١ و ٦.

٣٨

المركب وتوقفه على وجود الشرط ، بمعنى انه مع عدم الإتيان به لا يتحقق المركب المأمور به ، فحقيقة الأمر بالشرط الإرشاد إلى اعتبار هذا الفعل في تحقق المأمور به ، ومعه لا يختص الاشتراط بصورة التمكن ، بل مقتضى إطلاق الدليل هو كونه شرطا في حال التمكن وعدمه ، إذ عدم التمكن من الشرط لا ينافى شرطيته ودخالته في تحقق المركب ، نظير الشروط في الأمور التكوينية ، فان دخالتها في تحقق المركب وتوقف وجوده عليها لا يختص بحال دون حال. فان توقف « الإسكنجبين » على السكّر لا يرتفع في حال عدم التمكن من السكّر أو توقفه على الطبخ الخاصّ للأجزاء المعينة.

وبالجملة : مقتضى دليل الشرطية هو كونه شرطا مطلقا تمكن أو لم يتمكن ، إذا جاء دليل يتكفل بيان شرطية شيء في حال عدم التمكن ..

فتارة : يكون لسانه لسان جعل شرط مستقل غير الشروط المعتبرة ، بمعنى انه لا يتعرض بمفاده إلى الشروط الأخرى ، بل يتكفل جعل شرط آخر في هذا الحال ، فهو خارج عما نحن فيه. إذ الشرط الاختياري بعد على اعتباره في حال العذر. وانما أضيف إليه شرط آخر ، فلا يكون من باب الأمر الاضطراري ، بل لا بد من الإتيان بكلا الشرطين مع التمكن عقلا ـ ولا ملازمة بين التمكن وانتفاء الشرط الاضطراري ، إذ يمكن ان يكون موضوعه الاضطرار الشرعي كالحرج لا العقلي.

وأخرى : لا يكون مفاده ذلك ، بل يكون ناظرا إلى الشرط المعتبر غير المتمكن منه فعلا ، فيتكفل بيان ان الشرط في هذا الحال هو هذا الفعل ، كالجلوس ، فينفي شرطية القيام. فيكون دليل شرطية الجلوس حاكما على دليل شرطية القيام وموجبا لتقييد شرطيته في حال التمكن ، ومتكفلا لجعل شرطية الجلوس في حال العذر ، مع بقاء الأمر الأول بالمركب على حاله وانما تبدل الشرط.

٣٩

وعليه ، فيكون الشرط الواقعي للمأمور به بالأمر الصلاتي الواقعي هو الجلوس ـ مثلا ـ في حال العذر ، فيكون الإتيان بالصلاة من جلوس إتيانا بالمأمور به الواقعي ، وهو ملازم للإجزاء ، لإجزاء إتيان المأمور به بالنسبة إلى أمره.

بتعبير آخر نقول : ان دليل شرطية الجلوس لا يتعرض إلى الأمر بأصل الصلاة مع القيام ، بل يتعرض إلى دليل شرطية القيام المتكفل لإطلاق شرطيته ، فيتكفل بمقتضى الحكومة تقييد دليله بحال التمكن ، ويكون الشرط للصلاة في حال الاضطرار هو الجلوس ، فالساقط في حال الاضطرار هو شرطية القيام لا الأمر بالصلاة ، بل هو باق كما كان. لكن قيّد المأمور به بشرط آخر وهو الجلوس ، فالإتيان بالصلاة من جلوس إتيان بالمأمور به الواقعي ، وهو يقتضي الإجزاء وسقوط الأمر بالصلاة ، للإتيان بما هو المأمور به بشرطه.

وخلاصة القول : ان إجزاء الفعل الاضطراري عن الأمر الواقعي واستلزامه لسقوط في مورد تكفل دليل الاضطرار بيان سببية ومحققية الفعل لما هو الشرط في المأمور به ، ومورد تكفله بيان شرطية الفعل في حال عدم التمكن ونفي شرطية غيره في هذه الحال أمر واضح جدا لا يحتاج إلى تكلف بيان ومزيد برهان ، كما جاء في التقريبات الأخرى للاجزاء. ولعله لأجل وضوحه وكونه على طبق القاعدة كان الإجزاء في فتاوى الأعلام أمرا مفروغا عنه ولا يتردد فيه أحد ، بل ان الفقيه الهمداني رحمه‌الله التزم بطرح رواية موثقة مفادها لزوم القضاء في مورد الإتيان بالفعل الاضطراري ، لجهات منها مخالفتها للقاعدة العقلية المسلمة وهي الإجزاء ، ومنافاتها لها.

ولكن الّذي ينبغي التنبيه عليه ـ كما أشرنا إليه ـ هو ان هذا التقريب الّذي ذكرناه يتكفل بيان الإجزاء في الأوامر الضمنية الاضطرارية كالأوامر المتعلقة بالشروط والأجزاء.

٤٠