منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

وعليه ، ففي ظرف عدم الإيصال وهو ظرف الفعل لا يكون الترك على تقدير وقوعه واقعا على صفة الوجوب ، لعدم حصول قيده الّذي به يكون واجبا ، وإذا كان الترك في هذه الحال غير واجب كان نقيضه وهو الفعل غير حرام.

وبالجملة : بلحاظ ظرف عدم الإيصال لا يكون نقيض الفعل لو تحقق مكانه وبدله واجبا فلا يحرم الفعل. وهذا المعنى لا إشكال فيه.

واما تحقيق الحال في صحة الثمرة ، فقد استشكل فيها المحقق الأصفهاني ـ بعد تقريبها بما عرفته ـ أولا : بان القول بالمقدمة الموصلة يرجع اما إلى الالتزام بوجوب العلة التامة ، أو بوجوب ذات المقدمة ولكن بقيد تأثيرها.

وعليه ، فالواجب على الأول ـ فيما نحن فيه ـ هو الترك مع الإرادة فانه العلة التامة. ومن الواضح ان نقيض المركب الاعتباري انما يكون عبارة عن نقيضي الجزءين ، لأنه لا واقع له الا الجزءين ، إذ الاعتبار نقيضه عدمه. وعليه فنقيض الواجب فيما نحن فيه هو الفعل مع عدم الإرادة ، فيكون مجموع الفعل مع عدم الإرادة محرما. ومن الواضح انه مع الفعل لا يمكن تحقق الإرادة ، فيتحقق المحرم فيكون الفعل محرما ضمنا. وبنحو هذا البيان قرب تحريم الفعل على الالتزام الثاني (١).

وفيه ـ مع قطع النّظر عما أفاده في بيان نقيض المركب الاعتباري ـ :

أولا : ان هذا انما يتوجه على التقريب الّذي ذكره للثمرة. اما التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية بالبيان الّذي عرفته فلا يتوجه عليه ما ذكره ، فانا نقول : ان الفعل في ظرف عدم الإيصال لا يكون نقيضا لما هو واجب وهو الترك فلا يكون محرما.

ودعوى : ان الفعل مع عدم الإرادة نقيض ما هو الواجب فيكون محرما

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٢١

كما جاء في الإشكال.

تندفع : بان الحرمة المتعلقة بأحد النقيضين من جهة وجوب الآخر ـ بتقريب أنها غير وجوب الآخر ـ انما تثبت في ظرف يكون النقيض فيه متصفا بالوجوب بحيث يؤثر فيه الحكم ، بحيث لو وقع النقيض بموقع الآخر لكان واجبا ، وقد عرفت ان الترك في ظرف عدم الإيصال لا يكون متصفا بالوجوب ، فلا يكون الفعل محرما لأن بديله في ظرفه غير واجب. فتدبر.

وثانيا : ان نقيض المركب إذا كان عبارة عن نقيضي الجزءين ذاتيهما. كان مقتضى ذلك تعلق الحرمة بذاتي النقيضين ، فأخذ وصف المجموع في متعلق الحرمة لم يعلم له وجه محصل.

وعلى تقدير تعلق الحرمة بذاتي الجزءين يأتي الكلام الّذي عرفته في تقريب عبارة الكفاية. فلاحظ.

وخلاصة الكلام : ان تقريب الثمرة بما جاء في الكفاية بالبيان الّذي ذكرناه لا نعرف فيه مناقشة.

إلاّ ان أصل الثمرة بجميع أنحاء تقريباتها تتوقف على مقدمة أشار إليها في الكفاية وهي : كون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الآخر حتى يتصف بالوجوب ، وإلاّ لم يكن واجبا فلا يكون فعل الضد محرما.

والحق كما سيأتي هو عدم مقدمية ترك أحد الضدين للضد الآخر ، لكونهما في رتبة واحدة ، والمقدمية تتوقف على اختلاف الرتبة فانتظر لذلك مزيد تحقيق والله تعالى هو الموفق.

واعلم أن المحقق النائيني ذكره ثمرة الاختلاف بين مسلك صاحب الفصول وأخيه صاحب الحاشية في المقدمة الموصلة ، وذلك في المقدمة المحرمة :

فانها تقع محرمة على مسلك صاحب الفصول إذا لم يترتب عليها الواجب من دون احتياج إلى الالتزام بالترتب ، إذ المقدمة على مسلكه تنقسم إلى قسمين :

٣٢٢

ما يكون موصلا وهو واجب ، وما لا يكون موصلا وهو محرم لعدم ما يرفع الحرمة لأنه ليس بواجب أصلا.

واما بناء على مسلك أخيه فلا تقع المقدمة على صفة الحرمة إلاّ بنحو الترتب ، لأن الواجب هو ذات المقدمة من دون تقييد له بقيد الإيصال ، بل عرفت أنه مهمل من ناحيته ، فليس هناك قسمان للمقدمة يتصف أحدهما بالوجوب دون الآخر. وعليه فلا تقع محرمة إلاّ بنحو الترتب وهو ان تعلق الحرمة على عصيان الوجوب ، فتكون الحرمة مشروطة بعصيان الوجوب ـ كما هو المقرر في باب الترتب من تعليق وجوب أحد الضدين على عصيان وجوب الضد الآخر الأهم لارتفاع المزاحمة ـ.

لكنه قدس‌سره استشكل في تقريب الترتب بهذا النحو ببيان : ان الترتب وان صححناه في بابه ، لكنه انما يصح بالنسبة إلى الحكمين الواردين على موضوعين ، فيكون الحكم المتعلق بهذا الموضوع ثابتا عند عصيان الحكم المتعلق بالموضوع الآخر ، كما في مثال مزاحمة وجوب أحد الضدين لوجوب الآخر ، كمزاحمة وجوب الإزالة لوجوب الصلاة ، فان موضوع الحكمين متعدد.

اما الحكمان المتعلقان بموضوع واحد فلا يصح الترتب فيهما.

وسرّه هو : ان عصيان أحد الحكمين يلازم الإتيان بمتعلق الآخر ، فلا معنى لثبوت الحكم الآخر لتحقق متعلقه ، فان عصيان الوجوب بالترك ، فلا معنى للحرمة حينئذ. كما ان عصيان الحرمة بالفعل ، فلا معنى حينئذ للوجوب. وسيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى. وما نحن فيه كذلك ، لأن الحرمة والوجوب يتعلقان بالمقدمة ، فلا معنى لفرض الترتب بينهما.

نعم يمكن فرض ترتب حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذي المقدمة ، فتكون حرمة العبور في الأرض المغصوبة مشروطة بعصيان وجوب إنقاذ الغريق ، وهو لا مانع منه ، لتعدد متعلق الحكمين فيصح فرض الترتب.

٣٢٣

هذا ملخص ما أفاده المحقق النائيني بتوضيح منا (١).

وقد أورد المحقق الخوئي على ما ذكره أخيرا من فرض الترتب بين وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة : بأنه يستلزم أولا طلب الحاصل. وثانيا عدم كون ترك الواجب مخالفة وعصيانا.

اما استلزامه لطلب الحاصل ، فلان وجوب الشيء يتوقف على القدرة عليه ، والقدرة عليه تتوقف على القدرة على مقدماته ، وهي تتوقف على جوازها شرعا ، فإذا فرض تعليق حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذي المقدمة فلازمه فرض جواز المقدمة في صورة عدم عصيان وجوب ذي المقدمة وهي فرض الإتيان به ، وقد عرفت ان الأمر به يتوقف على جواز مقدمته ، لاعتبار القدرة عليه في صحة الأمر ، فيكون الأمر به في فرض الإتيان به وهو طلب للحاصل.

واما عدم كون تركه مخالفة وعصيانا ، فلأنه إذا فرض كون المقدمة محرمة على تقدير عصيان الأمر بذي المقدمة ، فمع ترك ذي المقدمة تكون المقدمة محرمة فيكون ذيها غير مقدور ، فلا يكون مأمورا به ، فلا يتحقق العصيان بتركه ، لعدم الأمر به لأجل عدم القدرة عليه (٢).

والإنصاف : ان كلا من الوجهين غير وارد.

اما عدم ورود الوجه الأول ، فوضوحه يتوقف على ذكر أمرين :

الأول : ان موضوع الترتب ما إذا كان التنافي بين الحكمين في مقام امتثالهما ، لا ما إذا كان التنافي بينهما في أنفسهما. وذلك لأن تصحيح الترتب وفرضه إنما هو لأجل رفع المنافرة بين الحكمين في مقام الامتثال مع الالتزام بثبوتهما معا.

ولأجل ذلك لا يشمل ما إذا كانت المنافرة بين الحكمين ذاتية ، كالحرمة

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٤٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٤٢٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٢٤

والوجوب الواردين على موضوع واحد ، فانهما ضدان لا يجتمعان ، ولا يجدي الترتب في رفع المنافرة بينهما أصلا.

وهذا أمر مسلم لدى الملتزمين بالترتب ، وتحقيقه سيجيء في محله ان شاء الله تعالى.

الثاني : ان عدم القدرة على نحوين : عدم القدرة على الشيء في نفسه ، وعدم القدرة على الشيء من جهة المزاحم.

فالأولى : نظير عدم قدرة المشلول على الصعود إلى السطح.

والثانية : نظير عدم القدرة على إنقاذ أحد الغريقين ، فان القدرة على الإنقاذ في نفسه ثابتة ، لكن عدم القدرة عليه لأجل المزاحم ، لأن كلا من الحكمين بمقتضى دعوته إلى متعلقه وتحريكه نحوه يحاول صرف القدرة في متعلقه ، فيكون عدم القدرة على إنقاذ كل غريق لأجل مزاحمتها بحكم شرعي.

والقدرة المعتبرة في صحة التكليف هي القدرة عليه في نفسه لا من جهة عدم المزاحم ، فان أساس الالتزام بالترتب على ذلك. فعدم القدرة لأجل المزاحمة لا يمنع من الأمر.

وهذا أمر مسلم كسابقه ، وسيتضح في مبحث الترتب. فانتظر.

إذا عرفت ذلك نقول : ان الأمر بذي المقدمة في الفرض لا يتوقف على جواز مقدمته لأنه وان لم يكن مقدورا بدون جوازها إلاّ ان عدم القدرة عليه لأجل المزاحم وهو الحرمة ، وإلاّ فالقدرة عليه في نفسه حاصلة ، وقد عرفت ان عدم القدرة لأجل المزاحم لا يمنع من الأمر والبعث ، فما ذكر من ان الأمر بذي المقدمة يتوقف على جواز المقدمة المتوقف على الإتيان بذي المقدمة ، غريب جدا بعد ما عرفت من تسليم عدم مانعية عدم القدرة لأجل المزاحم للأمر.

وأشدّ منه غرابة هو الإيراد بالوجه الثاني : فان الحرمة ـ على الفرض ـ معلقة على العصيان ، فيستحيل ان يكون ذلك مستلزما لعدم تحقق العصيان ،

٣٢٥

فان وجود الحرمة إذا كان فرع العصيان كان ذلك لازما لوجود الأمر ، إذ العصيان فرع وجود الأمر ، فكيف تكون حرمة المقدمة موجبة لعدم تحقق العصيان وعدم الأمر بالواجب؟ ، فانه خلف ، بل يستلزم ان يلزم من وجود الحرمة عدمها ، لأن وجود الحرمة انما يكون مترتبا على العصيان ، فإذا كان وجودها لازمه عدم الأمر فلا عصيان ، كان لازم ذلك ارتفاعها لعدم شرطها وهو العصيان ، فيلزم من وجودها عدمها.

ولعل الوجه في ذكر هذا الإيراد : ما تقدم من صاحب الكفاية من ذكره ردا على تجويز المنع عن المقدمة غير الموصلة. ولكنه غفلة عن ان المنع مقيد هناك بعدم الإيصال وهو امر تكويني خارجي لا يرتبط بالأمر ، والمنع هنا مقيد بالعصيان وقد عرفت انه لا يستلزم ما ذكر فما ذكرناه من الإيراد لا يرد على صاحب الكفاية. فتدبر.

هذا تمام الكلام في المقدمة الموصلة (١). ننتقل بعده إلى الكلام في.

ثمرة المسألة

وقد ذكر لها ثمرات متعددة. كبرء النذر بفعل المقدمة بناء على الوجوب لو نذر فعل الواجب. وحصول الإصرار على الحرام بترك واجب مع مقدماته الكثيرة بناء على وجوبها ، وعدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة لو قيل بوجوبها بناء على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات.

وقد نوقش فيها : بأنها لا تصلح ثمرة للمسألة الأصولية ، لأنها بذلك لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي. بل في مقام تطبيق الكبرى الكلية

__________________

(١) ولم يتعرض سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) إلى البحث عن الأصلي والتبعي ، لأنه مما لا أثر له عملي أصلا ، ولم يعرف ربطه بجهة من جهات بحث المقدمة. فالتفت.

٣٢٦

على مصاديقها.

كما ذكر صاحب الكفاية عن الوحيد البهبهاني رحمه‌الله بيان الثمرة بنحو آخر وهو : صيرورة المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي في المقدمة المحرمة بناء على الوجوب. وناقش فيه صاحب الكفاية بوجوه ثلاثة استشكل في بعضها (١).

ونحن بعد ان بينا سابقا ثمرة المسألة لا نرى حاجة إلى تحقيق هذه الثمرات ومعرفة صحتها وعدمها. فقد ذكرنا سابقا ان الثمرة هي صيرورة المورد من موارد التعارض بناء على الوجوب لو كانت المقدمة محرمة ، بمعنى انه يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذي المقدمة ، لأن وجوب ذي المقدمة لما كان لازما ذاتا لوجوب المقدمة المنافي لحرمتها ، بحيث لا يمكن التفكيك بين وجوبيهما ، كان دليل الحرمة منافيا لدليل وجوب ذي المقدمة لعدم إمكان الالتزام بهما معا لتنافي مدلوليهما ، إذ منافاة الحرمة لوجوب المقدمة ملازمة لمنافاتها لوجوب ذي المقدمة بعد فرض عدم إمكان التفكيك بينهما ، فيكون دليل الحرمة معارضا لدليل الوجوب.

واما بناء على عدم الوجوب ، فيكون المورد من موارد التزاحم ، بمعنى انه يقع التزاحم بين وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة ، لعدم إمكان امتثال كلا الحكمين من دون منافاة بينهما في أنفسها. فلاحظ وتدبر.

فأثر المبحث ، هو : تنقيح صغرى من صغريات باب التزاحم أو باب التعارض الّذي يترتب على كل منهما آثار عملية فقهية مهمة ، وسيأتي عن قريب إن شاء الله تعالى تحديد باب التزاحم وباب التعارض وفصل كل منهما عن الآخر. فانتظر.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٢٧

يبقى الكلام في أمرين :

أحدهما : البحث في الأصل للمسألة الّذي يرجع إليه مع الشك.

ثانيهما : البحث عن الدليل على وجوب المقدمة.

تأسيس الأصل في المسألة

اما البحث عن الأصل في المسألة فتحقيقه : ان موضوع الأصل تارة : يلحظ المسألة الأصولية أعني الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.

وأخرى : يلحظ المسألة الفقهية أعني نفس وجوب المقدمة.

والأصل الّذي يمكن فرضه في المقام هو الاستصحاب.

وهو لا يجري في المسألة الأصولية ، وذلك لأن الملازمة بين الوجوبين ـ بأي معنى فسّرت من كونها أمرا واقعيا ، أو انتزاعيا ينتزع عن حصول أحد المتلازمين عند حصول الآخر ، أو كونها عبارة عن دوام حصول الجزاء عند حصول الشرط ـ ليست لها حالة سابقة لأنها أزلية ، فان كانت فهي أزلية الوجود وان لم تكن فهي أزلية العدم. وعليه فلا يقين في مرحلة الحدوث بأحد الطرفين كي يستصحب. ومن الواضح ان جريان الاستصحاب يتوقف على اليقين بالحدوث.

واما وجوب المقدمة ، فهو مسبوق بالعدم لعدم تحققه قبل وجوب ذي المقدمة ، فيستصحب عدمه بعد وجوب ذيها.

وقد استشكل في هذا الاستصحاب من وجوه :

الأول : ان وجوب المقدمة على تقدير ثبوته ليس مجعولا مستقلا ، بل هو من قبيل لوازم الماهية فلا تناله يد الجعل إثباتا ونفيا.

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بأنه وان كان من لوازم الماهية إلا أنه يكون مجعولا يتبع جعل وجوب ذي المقدمة. وهذا الجعل التبعي يكفي في صحة كونه

٣٢٨

امرا بيد الشارع ، إذ لا يعتبر كونه بيده مباشرة (١).

والكلام مع صاحب الكفاية في جوابه من جهتين :

الأولى : ما ذكره من تسليم كون وجوب المقدمة بالإضافة إلى وجوب ذيها من قبيل لوازم الماهية. فانه عجيب منه قدس‌سره ، فان لازم الماهية لا يكون له وجود مستقل منحاز عن وجود الماهية ، بل يكون امرا انتزاعيا ينتزع عن ذات الماهية في أي عالم وجدت من ذهن أو خارج. كالزوجية بالإضافة إلى الأربع.

ووجوب المقدمة ليس كذلك ، فان له وجودا منحازا عن وجوب ذي المقدمة ، غاية الأمر انه ينشأ منه. فان من يدعي وجوب المقدمة يدعي تعلق الإرادة الغيرية بالمقدمة ، فهناك إرادتان وشوقان : أحدهما يتعلق بالمقدمة. والآخر يتعلق بذيها.

الثانية : ما ذكره من كفاية الجعل بالعرض في صحة الاستصحاب.

والكلام في هذه الجهة موكول إلى محله في مبحث الاستصحاب ، في مقام تحقيق صحة جريان الاستصحاب في مثل الجزئية والشرطية من الأمور الانتزاعية التي لا وجود لها الا منشأ انتزاعها ، وان نفيها هل يرجع إلى نفى منشأ انتزاعها أو لا يرجع إلى ذلك؟. فانتظر.

الثاني : ان وجوب المقدمة لو ثبت ، فهو غير اختياري للشارع ، لأنه لازم قهري لوجوب ذي المقدمة ، وإذا لم يكن اختياريا لم يجر الأصل فيه ، لأنه غير قابل للوضع والرفع.

وفيه : انه وان لم يكن اختياريا عند حصول وجوب ذي المقدمة ، لكنه قبل حصوله اختياري لأنه مقدور عليه بالواسطة ، فهو كالمسبب التوليدي بعد حصول سببه ، فانه لا مانع من جريان الأصل فيه لأنه اختياري باختيارية سببه.

الثالث : ان وجوب المقدمة لا يترتب عليه أي أثر عملي ، وجريان الأصل

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٢٩

انما يكون بلحاظ الأثر العملي.

وفيه : ان ما أشير إليه من الثمرات العملية المتعددة للمسألة يكفي في صحة جريان الأصل ، وان لم تكف في إثبات أصولية المسألة ، وهي الجهة التي يتركز النقاش فيها بلحاظها.

الرابع : ما ذكره في الكفاية من ان جريان الأصل يستلزم احتمال التفكيك بين المتلازمين ، لأن احتمال الملازمة موجود ، فالحكم بعدم وجوب المقدمة فيه احتمال التفكيك بين المتلازمين ، واحتمال التفكيك بينهما محال كنفس التفكيك.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : بان الدعوى ان كانت هي الملازمة بين الحكمين الإنشائيين فلا ورود للإشكال ، لأن الأصل لا نظر له إلى الحكم الإنشائي ولا يرتبط بمقام الإنشاء. وان كانت هي الملازمة بين الحكمين في مراتبهما ـ يعني ولو كانا فعليين ـ كان الإشكال في محله ، وحينئذ لا يصح التمسك بالأصل وصح التمسك بالإشكال في إثبات بطلان الأصل ، كما جاء في بعض النسخ الأخرى للكتاب (١).

أقول : من الغريب ما ذكره صاحب الكفاية من الترديد ، فان دعوى كون الملازمة بين الحكمين الفعليين لا مجال للترديد فيها ، إذ الفرض ان الملازمة المدعاة هي الملازمة بين الإرادتين والشوقين الفعليين. وأين هذا من الملازمة بين الحكمين الإنشائيين.

وعلى كل ، فيمكن الجواب عن الإشكال المذكور : بان احتمال التفكيك لا يجدي في منع التمسك بالأصل بعد مساعدة الدليل عليه ، فان العقلاء لا يعتنون بمجرد الاحتمال.

كما أفاد هذا البيان الشيخ رحمه‌الله في دفع الإشكال على جواز التعبد

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٠

بالظن ، بأنه وان كان لا طريق إلى الجزم باستحالته إلاّ انه يحتمل ذلك ، واحتمال الاستحالة يكفي في الحكم بالمنع.

فقد دفعه : بان احتمال استحالة التعبد لا يضير ولا يعتنى به عقلائيا بعد مساعدة الدليل الإثباتي على التعبد. فلاحظ (١).

تحقيق أصل المبحث

واما تحقيق أصل المبحث وما هو مدار البحث بين الأعلام من وجوب المقدمة وعدمه. فقد وصلت النوبة إليه وقد اختلفت الأقوال في وجوب المقدمة وعدمه والتفصيل بين الواجب منها وغيره.

ولا يهمنا التعرض إلى التفصيلات سوى ما قد يقال من التفصيل بين السبب التوليدي فلا يجب ، وغيره من المقدمات فيجب. بتقرير : ان السبب التوليدي متعلق للأمر النفسيّ الثابت للمسبب ، لأن الأمر انما يكون لإحداث الداعي والإرادة للمأمور به ، والمسبب التوليدي لا يمكن فيه إعمال الإرادة مباشرة ، لأنه يخرج عن الاختيار بحصول سببه ، بل الإرادة تتعلق بسببه ، فالامر النفسيّ في الحقيقة يتعلق بالسبب. فإذا وجب القتل فقد وجب الرمي وهكذا.

وللمحقق النائيني رحمه‌الله كلام في المقام محصله : ان الأسباب والمسببات التوليدية على قسمين :

الأول : ما يكون لكل منهما وجود منحاز عن الآخر كالرمي والقتل ، والأكل والشبع ، فان وجود القتل والشبع غير وجود الرّمي والأكل.

الثاني : ما لا يكون للمسبب وجود غير وجود السبب ، فلا يكون الا وجود واحد يعبر عنه بعنوان السبب تارة والمسبب أخرى ، كالغسل والتطهير والإلقاء

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٢٤ ـ الطبعة الأولى.

٣٣١

والإحراق. فان كلا منهما متحد وجودا مع مسببه.

اما القسم الأول ، فالامر انما يتعلق بالمسبب ، لأنه هو المحصل للملاك ، ولا معنى لصرف الأمر عنه إلى سببه لأنه اختياري بالواسطة وهو يكفي في صحة التكليف ، فيقع الكلام في وجوب السبب بالوجوب الغيري وعدمه.

واما القسم الثاني ، فهو خارج عن محل النزاع ، لأن الأمر إذا تعلق بأحدهما فقد تعلق بالآخر قهرا ، لأنهما واقعا امر واحد متعدد العنوان. وعليه فلا معنى للنزاع في انه إذا وجب المسبب هل يجب السبب بالوجوب الغيري أو لا يجب؟ (١).

أقول : ما ذكره من فصل القسمين وإدخال أحدهما في محل النزاع دون الآخر مسلم كبرويا كما أفاد قدس‌سره ، انما الإشكال فيما ساقه للقسم الثاني من الأمثلة كالغسل والتطهير والإلقاء والإحراق ، لأن هذه الأمثلة من القسم الأول ، لأن التطهير له وجود غير وجود الغسل ، كيف والتطهير موجود اعتباري والغسل موجود حقيقي واقعي؟! ، كما ان وجود الإحراق غير وجود الإلقاء ، لأن الإحراق عبارة عن إيجاد الحرقة ، وإيجاد الحرقة ووجودها متحدان واقعا وحقيقة ومتغايران اعتبارا ، كما هو شأن كل إيجاد شيء ووجوده. ومن الواضح ان وجود الحرقة غير وجود الإلقاء خارجا وحقيقة.

وبالجملة : لو وجد خارجا وجود واحد ذو عنوانين ـ كما قد نعثر له على مثال في مبحث اجتماع الأمر والنهي ـ تمّ فيه ما ذكره من خروجه عن محل الكلام واختصاص محل الكلام في القسم الأول.

وعليه ، فالكلام في وجوب المقدمة وعدمه يشمل الأسباب التوليدية كما يشمل غيرها.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢١٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٣٢

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى وجوب المقدمة ، واستشهد على ذلك بالوجدان ، فانه يشهد على ان من أراد شيئا أراد مقدماته ، واستشهد على هذا المعنى بوجود الأوامر الغيرية في الشرع والعرف ، كما يقول المولى لعبده : « ادخل السوق واشتر اللحم » فان الأمر بدخول السوق على حد الأمر بشراء اللحم ، فيكون امرا مولويا. ومن الواضح انه لا خصوصية لهذه المقدمة ، بل باعتبار وجود الملاك فيها ، وليس إلا المقدمية والتوقف. فيكشف ذلك عن وجوب جميع المقدمات بالوجوب المولوي الغيري. ثم تعرض قدس‌سره إلى ذكر دليل الحسن البصري على وجوب المقدمة الّذي هو كالأصل لأدلة القوم ـ كما ذكر قدس‌سره ـ ، وناقشه بعد إصلاحه بتعيين المراد من بعض اصطلاحاته (١).

ولكن الحق عدم وجوب المقدمة ، إذ الوجدان لا يشهد بذلك ، كما ان ما استشهد به من الأوامر العرفية المتعلقة بالمقدمة لا يصلح للشهادة على ما يحكم به الوجدان ، إذ ليست هذه الأوامر أوامر مولوية ، بل هي إرشادية ، وذلك لأن الأمر المولوي انما يجعل لجعل الداعي في نفس المكلف إلى العمل وتحريكه نحوه ، والأمر الغيري لا صلاحية له لذلك كما تقدم بيان ذلك. فان العبد ان كان بصدد امتثال امر ذي المقدمة جاء بالمقدمة كان هناك أمر بها أو لم يكن ، وان لم يكن بصدد امتثاله لم يكن الأمر الغيري داعيا للإتيان بها بما هو أمر غيري ، فلا صلاحية للأمر الغيري للدعوة والتحريك ، فلا بد ان تكون هذه الأوامر المفروض تعلقها بالمقدمة أوامر إرشادية تتكفل الإرشاد إلى مقدمية الشيء وتوقف الواجب عليه.

وخلاصة الكلام : انه لم يثبت لدينا وجوب المقدمة لعدم الدليل عليه. ولو ثبت فهو يشمل مطلق المقدمات الموصلة وغيرها والسبب التوليدي وغيره.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٣

تذنيب : لا يخفى انه لو التزم بوجوب مقدمة الواجب ، فلازمه الالتزام باستحباب مقدمة المستحب بعين الوجه القائم على وجوب مقدمة الواجب.

واما مقدمة الحرام ، فقد ادعي ان المحرم منها ـ على القول بالملازمة بين حكم الشيء وحكم مقدمته ـ هو ما لا يتوسط بينهما وبين ذيها اختيار وإرادة ، وهي الأسباب التوليدية في المحرمات التوليدية ، كالرمي بالنسبة إلى القتل المحرم ، والإرادة في المحرمات الإرادية ـ بناء على صحة تعلق التكليف بها ـ.

اما غير هذا النحو من المقدمات كالمعدات ونحوها فلا يكون محرما.

وقد قرب صاحب الكفاية خروجها عن دائرة التحريم : بان التحريم عبارة عن طلب الترك ، فيكون الترك واجبا ، فتكون مقدماته واجبة أيضا ، فكل مقدمة يكون تركها مما يتوقف عليه ترك الحرام تكون واجبة الترك ، ومن الواضح ان ترك الحرام لا يتوقف على ترك سائر المقدمات ، إذ الاختيار لا يسلب بفعلها ، فيتحقق الترك مع فعلها ، وهو دليل عدم التوقف ، فما يتوقف عليه ترك الحرام ليس إلاّ الإرادة في الأفعال الاختيارية والسبب التوليدي في الأفعال التوليدية (١).

ولكن هذا التقريب لا يجدي من يذهب إلى ان النهي ليس طلب الترك ، بل هو الزجر عن الفعل ، فلازمه الزجر عن مقدماته ، لأن متعلق النهي نفس الفعل.

وغاية ما يقرب به نفي حرمة سائر المقدمات ـ بناء على هذا المعنى ـ ان يقال : ان وجوب المقدمة أو حرمتها بما انه مترشح عن وجوب ذيها أو حرمته ، فثبوت الوجوب لها أو الحرمة فرع دخالتها في ثبوت ملاك الوجوب والحرمة بنحو دخالة ذيها فيهما. وبما ان حرمة الشيء تنشأ عن وجود المفسدة في فعله أو

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٤

المصلحة الملزمة في تركه ، بحيث لو لا تركه لوجدت المفسدة أو فاتت المصلحة ، فمقدمة الحرام انما تحرم إذا كان لها هذا الأثر وهو منحصر بالمقدمة التوليدية. اما غيرها ففعله لا يلازم وجود الحرام ، كي يقال انه لو لا تركه لوجدت المفسدة أو فاتت المصلحة. وبنظير هذا البيان يثبت وجوب مقدمة الواجب ، إذ وجوب الواجب لأجل اشتماله على مصلحة ملزمة أو لأجل ان في تركه مفسدة ملزمة بحيث لو لا فعله لفاتت المصلحة أو وجدت المفسدة لأن تركها يلازم ترك الواجب. فلاحظ وتدبر فانه لا يخلو عن دقة.

ثم ان الكلام الجاري في مقدمة الحرام يجري بعينه في مقدمة المكروه حرفا بحرف. فاعرف.

هذا تمام الكلام في مبحث المقدمة ، وقد انتهى البحث فيه في يوم السبت المصادف الخامس من ذي القعدة سنة ١٣٨٥ ه‍. نسأل الله تعالى التوفيق والهداية إلى سواء السبيل إنه حسبنا ونعم الوكيل.

٣٣٥
٣٣٦

الضّد

٣٣٧
٣٣٨

مبحث الضد

موضوع البحث هو : أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا يقتضي؟ وهو من المباحث الأصولية والعقلية ، ولا نطيل في بيان ذلك لوضوحه من ملاحظة نحو البحث ونتيجته.

نعم لا بأس بالتنبيه على ما يراد من الاقتضاء ، وما يراد من الضد ، كما فعل صاحب الكفاية لتحديد محل البحث ومدار الكلام. فنقول :

المراد بالاقتضاء ـ كما ذكره صاحب الكفاية (١) وتابعة عليه غيره ـ : أعم من ان يكون بنحو العينية ـ كما ادعي في بعض الفروض ـ أو الجزئية ـ كما ادعي أيضا ذلك بلحاظ تركب الأمر ـ ، والالتزام أعم من كونه لزوما بينا بالمعنى الأخص وغيره وبتعبير آخر نقول : المراد بالاقتضاء هو اللابدّية من أي طريق كانت.

واما الضد ، فالمراد منه : مطلق المنافي والمعاند ، سواء كان امرا وجوديا ـ وهو المعبر عنه بالضد الخاصّ ـ أو كان امرا عدميا ـ وهو المعبر عنه بالضد

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٣٩

العام ، ويعبر عنه أيضا بالترك ـ وليس المراد منه هو الضد بالمعنى الفلسفي المختص بالأمر الوجوديّ المعاند لغيره تمام المعاندة ، فلا يشمل الضد العام. وهناك معنى آخر للضد العام ، وهو الأمر الوجوديّ الجامع للأضداد الوجودية. وهذا لا كلام لنا فيه ، بل هو خارج عن موضوع الكلام.

وعلى هذا ، فينبغي إيقاع الكلام في مسألتين :

الأولى : اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضد الخاصّ.

والثانية : اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام وهو الترك.

المسألة الأولى : في ان الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده الخاصّ أو لا؟.

وقد ادعي اقتضائه النهي عن ضده الخاصّ لوجوه :

أهمها وعمدتها ـ ما ذكره صاحب الكفاية ـ : من دعوى مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر.

بيان ذلك : ان عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر ، ومما يتوقف عليه الضد الآخر ، فإذا وجب أحدهما وجبت مقدماته ومنها عدم ضده ، فإذا وجب ترك ضده فقد حرم ضده قهرا.

اما تقريب مقدمية ترك أحد الضدين للآخر : فبان التمانع والتنافر بين الضدين مما لا شبهة فيه ، وإذا كان كل من الضدين مانعا عن حصول الآخر كان عدم كل منهما من أجزاء علة الآخر ، لأن عدم المانع من اجزاء العلة ، وقد فرض مانعية الضد فعدمه من اجزاء علة ضده ، وإذا كان من اجزاء العلة كان من المقدمات.

فهاتان المقدمتان هما أساس دعوى مقدمية عدم الضد للضد الآخر.

وعلى هذا فينبغي ان يكون البحث في مقدمية ترك أحد الضدين للضد الآخر. وقد ذكر فيها وجوه :

٣٤٠