منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

فكان غير مقدور فيسقط وجوبه ، فلا يكون تركه مخالفة.

الثانية : انّه إذا فرض كون ثبوت القدرة على المقدّمة منوطا بصورة الإتيان الواجب ، فتكون القدرة عليه منوطة بالإتيان به فيكون وجوبه مختصا بصورة الإتيان به ، وهو محال لأنّه من طلب الحاصل (١).

أقول : ورود الإيراد الأول يبتني على كون نظر صاحب الفصول في كلامه إلى الاستدلال على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها ، فانّه يورد عليه بان ما ذكر لا دلالة له على ذلك ، وهذا المعنى هو الّذي فهمه صاحب الكفاية وتابعة المحقق النائيني (٢) ، فحملا كلام الفصول على الاستدلال.

امّا لو كان نظره ـ كما فهمه المحقق الأصفهاني (٣) ـ إلى نفي محالية القول بالمقدّمة الموصلة في قبال من ادعى محاليته ووجود المحاذير فيه. فالإيراد بعيد عن محط نظر المدعي ، إذ كلام الفصول يتضمن إمكان اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة كالفرض الّذي ذكره ، والإيراد لا يتكفل منع صحة الفرض ، بل غاية ما يتكفل منع دلالة الفرض على الاختصاص ، وهو غير ملحوظ في الاستشهاد بالفرض إذ الملحوظ فيه دلالته على إمكان الاختصاص لا ثبوت الاختصاص.

نعم الإيراد الثاني موجه ، فانّه يتكفل منع الفرض.

ولكن أورد عليه المحقق النائيني ان جواز المقدّمة غير مشروط بالإيصال ، ليتوقف تحققه على تحقق الإيصال خارجا ، بل المتوقف عليه انّما هو تحقق ما هو جائر شرعا ، إذ المفروض ان الإيصال قيد للواجب لا للوجوب ، وبما انّ المقدّمة الخاصة وهي الموصلة مقدورة للمكلف ، للقدرة على إيجاد قيده وهو الإيصال ، والمفروض جوازها شرعا ، فهو يكفي في تحقق القدرة على الواجب ، لكفاية جواز

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٣٧ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٠٩ ـ الطبعة الأولى.

٣٠١

المقدّمة في الجملة فيها ، وعليه فلا يلزم ان لا يكون ترك الواجب مخالفة وعصيانا (١).

وما ذكره من ان الإيصال ليس قيدا للجواز بل هو قيد لتحقق الجائز ، نظير أجزاء الصلاة ، فانّ كلا منها واجب بالوجوب الضمني ولو لم يأت بالآخر ، إلاّ أن اتصاف المأتي به بالوجوب يتوقف على الإتيان بغيره.

وقد يوجه كلام صاحب الكفاية ويدفع كلام النائيني بوجهين :

الوجه الأول : ان الجواز والمنع لما كانا واردين على ذات واحدة ، وهي ذات المقدّمة ولكن أخذ في المنع عدم الإيصال كما أخذ في الجواز الإيصال ، كان ذلك ملازم قهرا لتقييد أصل الجواز بالإيصال ، وذلك لأنّه عند تحقق المقدّمة وقبل تحقق الإيصال لا تكون المقدّمة متصفة فعلا بالجواز ولا بالمنع ، فإذا تحقق الإيصال اتصفت بالجواز. ومن الواضح ان تحقق الإيصال لا يلازم تحقق خصوصية تكوينية منوعة للمقدّمة ، كما لا يكشف عن وجود خصوصية يكون الفعل بها متصفا بالجواز ، فيكون الإيصال كاشفا عن سبق ثبوت الجواز للفعل ، إذن لا تأثير له في الفعل إلاّ اتصافه بالجواز ، فالفعل الجائز بما أنّه جائز لا يكون إلاّ بالإيصال فللمكلف ان لا يأتي بالفعل الواجب ، فلا تتحقق المقدّمة الجائزة فيتحقق الجواز باختيار المكلف ، وليس هناك حصة جائزة منحازة عن الحصة الممنوعة.

الوجه الثاني : ان الجواز الثابت هنا ليس هو الجواز بمعنى الإباحة ، بل الجواز بالمعنى الأعم ـ أعني عدم المنع ـ ، وهو ليس بحكم مجعول كي يعلق على شرط أو يتعلق بحصة خاصة ، وانّما المجعول ليس إلاّ المنع ، وهو متعلق بالمقدّمة بقيد عدم الإيصال. وعليه فإذا تحقق الإيصال كان رافعا للمنع ومانعا

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٤٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٢

منه ، فعدم المنع انما يتحقق بالمانع عن المنع ، وهو الإيصال. وعليه فيكون الجواز ـ وهو عدم المنع ـ مشروطا بالإيصال ، إذ مع عدم الإيصال يثبت المنع لثبوت قيده. فلاحظ.

والحقّ ان إيراد. المحقق النائيني وارد ، وكلا الوجهين مخدوشان :

امّا الأول : فلأنّ الجواز متعلق بالحصة المقيّدة ، أعني المقدّمة بقيد الإيصال ، بحيث كان قيد الإيصال قيدا للمتعلق لا الحكم. وعليه فقبل تحقق الإيصال لم يثبت متعلق الحكم ، لعدم حصول جزئه الآخر وهو التقيد ، فليس الإيصال دخيلا في الاتصاف بالجواز ، بل دخيل في تحقق متعلق الجواز ومصداق ما هو الجائز ، فانّه محقق لخصوصية التقيد المأخوذة في المتعلق ، فالجواز ثابت من أول الأمر على الحصّة المقيّدة كما أفاد المحقق النائيني ، نظير اجزاء الصلاة كما عرفت.

وعليه ، فالواجب مقدور عليه للقدرة على مقدّمته فتركه يكون مخالفة ، كما أن وجوبه لا يكون معلقا على الإتيان به كي يكون من طلب الحاصل المحال.

وامّا الثاني : فلأنّ المنع إذا كان متعلقا بالمقدّمة المقيّدة بعدم الإيصال ، كان عدمه قهرا متعلقا بالمقدّمة بقيد الإيصال ، فيكون الإيصال دخيلا في تحقيق الخصوصية المأخوذة في متعلق عدم المنع ، وثبوت الجزء الآخر لغير الممنوع وهو التقيد بالإيصال. لا دخيلا في ثبوت عدم المنع كي يجيء ما تقدم.

وعليه ، فيكون الواجب مقدورا للقدرة على مقدّمته ، فلا يكون وجوبه معلقا على الإتيان به ، فيكون تركه مخالفة وعصيانا كما لا يكون من طلب الحاصل.

وخلاصة الكلام : ان الإيراد الثاني على صاحب الفصول غير صحيح.

وامّا الأول فهو انّما يمنع الاستدلال على ثبوت اختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة لا الاستدلال على إمكانه الّذي يمكن ان يكون نظر

٣٠٣

القائل إليه.

واما إيراد المحقق النائيني على صاحب الفصول فمحصله : ان جواز المنع عن بعض المقدمات لا يلازم اختصاص ملاك الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة ، لأن التوقف ان لم يكن هو ملاك الوجوب لزم عدم تعلق الوجوب بجميع المقدمات وإنكار وجوب المقدّمة وان كان هو الملاك ، فامّا ان يكون هو الملاك بقول مطلق من دون تقييده بشيء كان اللازم وجوب جميع المقدمات لاشتمالها على الملاك. وان كان الملاك هو الحصّة الخاصة من التوقف ، وهي ما يستحيل انفكاك الواجب عنه في الخارج ، لزم اختصاص الوجوب بالمقدمات التوليدية وهو ممّا لا يلتزم به (١).

ويمكن الجواب عنه بتصوير شق آخر للترديد وهو : كون الملاك هو التوقف على ما يلازم وجود ذي المقدّمة ، وليس لازمه تعلق الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، بل يمكن الالتزام بتعلق الوجوب بما يلازم المقدّمة الموصلة لا بعنوان المقدّمة الموصلة ، فلا يرد عليه أي محذور كما أشرنا إليه. امّا هذا العنوان الملازم فسيأتي تحقيقه.

ومن مجموع ما ذكرناه يتبين أن ما ذكره في الفصول يصلح وجها لبيان إمكان القول بالمقدّمة الموصلة.

والغريب من المحقق النائيني ما يظهر من كلامه من الاعتراف بصحة الفرض الّذي ذكره صاحب الفصول ، مع ان لازمه اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة الّذي ذهب إلى محاليته عقلا وثبوت المحاذير فيه.

امّا وجه اعترافه بصحة الفرض المزبور ، فلما جاء في تقريرات بحثه من قوله : « ان جواز المنع لا يدل ... » فانّه ظاهر في الاعتراف بجواز المنع الّذي

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٣٨ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٤

عرفت ان لازمه اختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة. وفي كون الإشكال عليه من ناحية أخرى وهي عموم الملاك ونحوه.

وبالجملة : فظاهر كلامه هنا يتنافى مع ما تقدّم منه من عدم معقولية المقدّمة الموصلة.

والّذي صار بأيدينا من مجموع ما تقدّم هو : إمكان القول بالمقدّمة الموصلة ، وإمكان القول بوجوب مطلق المقدّمة ، فأيّها يتعين الالتزام به؟. استدل صاحب الفصول على الأول بوجوه ثلاثة ذكرها صاحب الكفاية :

الأول : ان طريق ثبوت وجوب المقدّمة ليس إلاّ حكم العقل بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، والقدر المتيقن منه هو الملازمة بين وجوب شيء ووجوب خصوص مقدمته الموصلة.

الثاني : ان العقل والضرورة قاضيان بصحة تصريح الآمر بعدم إرادة المقدّمة غير الموصلة في الوقت الّذي يقضيان فيه بقبح تصريحه بعدم إرادة مطلق المقدّمة أو خصوص الموصلة.

الثالث : انّه لما كان الغرض من وجوب المقدّمة هو التوصل بها إلى الواجب ، فلا بدّ ان يكون حصوله مأخوذا في مطلوبيتها ، فان من يريد شيئا لأجل التوصل إلى آخر لا يريده إذا تجرد عنه بلا إشكال.

واستشكل في هذه الوجوه صاحب الكفاية ببيان : انّه بعد ان تقدّم منا بيان ثبوت حكم العقل بوجوب مطلق المقدّمة بلا تخصيص له بخصوص الموصلة ، فلا يبقى مجال لدعوى كون القدر المتيقن منه وجوب الخصوص الموصلة ، وبذلك يندفع الوجه الثاني ، فانّه ليس للآمر الحكيم التصريح بعد مطلوبية المقدّمة غير الموصلة لثبوت الملاك فيها كغيرها.

نعم ، له ان يصرح بعدم حصول المطلوب أصلا ـ مع حصولها فقط ـ لكون نظره الأصلي إلى المطلوب النفسيّ ، فحين عدم حصوله لا نظر له إلى

٣٠٥

حصول المقدّمة وان كانت مطلوبة تبعا وهذا لا يعني عدم وجوبها ، لأن التصريح المزبور ناشئ من تبعية الوجوب الغيري لا عدمه.

وامّا الوجه الثالث ، فاندفاعه بما ثبت من ان الغرض والملاك في الوجوب الغيري ليس هو التوصل ، بل التمكن من ذي المقدّمة وهو متوفر في جميع المقدمات (١).

فأساس مناقشة صاحب الكفاية وارتباط كلامه بكلام صاحب الفصول هو : انّه بعد انّ تمّ الاستدلال على كون الغرض هو التمكن وعدم إمكان اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة ، لا وجه لما ذكر من عدم الدليل على وجوب غير الموصلة أو صحة تصريح الآمر بعدم إرادة غير الموصلة ونحو ذلك ، فانّه لا ينهض في قبال الاستدلال المتقدّم.

ومناقشته وجيهة لشق استدلاله المتقدّم ، إلاّ إنا ناقشنا كلامه المتقدم ولم يثبت لدينا من كلامه سوى إمكان القول بوجوب المقدّمة الموصلة لا تعينه ، فلا بدّ لنا من الوقوف موقف المتأمل في أدلة الفصول لا الوقوف موقف المستظهر لها كما فهمه صاحب الكفاية.

والإنصاف ان الوجه الأول لا مناقشة فيه ، فانّه لا طريق لدينا إلى إحراز حكم العقل ، ومع عدم إحرازه من حيث المقدار وغيره لا نستطيع الجزم به ، وعدم الجزم في حكم العقل ملازم للجزم بعدم الحكم كما لا يخفى ، فالقدر المتيقن من حكم العقل ليس إلاّ وجوب خصوص المقدّمة الموصلة لا غير.

ومنشأ التردد المذكور وان كان هو التردد في كون الملاك هو التوصل إلى الواجب والتمكن منه ، فكان الأنسب تحقيق ما هو الملاك إلاّ إنّه حيث لا طريق لنا إلى ذلك وكان وجوب المقدّمة الموصلة محرزا على كل تقدير ، فالمحرز من حكم

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣٠٦

العقل هو دون غيره ، وان لم يعلم الملاك فيه تفصيلا ، إذ لا يعتبر حكم العقل معرفة ملاك ما يحكم به بنحو التفصيل ، بل يكفي العلم الإجمالي بثبوت ملاك الحكم في المورد.

وبالجملة : فالوجه الأول يكفي في الحكم بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة ، ومعه لا نحتاج إلى بعض الاستدلالات المذكورة ، فانّها لا تنهض على المدعى كما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من الاستدلال : بأنّ الغرض من المقدّمة لما كان تبعيا ، والغرض الأصلي انّما هو في ذي المقدّمة فمع حصول المقدّمة وعدم حصول ذي المقدّمة لا غرض من هذه المقدّمة (١). فانّه لا يخلو عن مصادرة ، فان المتجه هو البحث عن الغرض والملاك في وجوب المقدّمة وانّه هل هو التوصل إلى الواجب أو التمكن منه؟. امّا تبعية الغرض من المقدّمة ، فهو لا يعتبر في وجوبها مطلقا لو كان الغرض من وجوبها هو التمكن من ذيها. فكلامه قدس‌سره بعيد عن نقطة البحث.

ثمّ انّك قد عرفت تصوير القول بالمقدّمة الموصلة بالالتزام بتعلق الوجوب الغيري بالعلّة التامّة بلا ورود أي محذور فيه.

وبعد ان تبين نهوض الدليل على اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، يمكننا القول بكونه متعلقا بالعلّة التامّة ، فلا يكون لدينا إلاّ وجوب غيري واحد متعلق بالعلّة التامّة.

إلاّ أنّه يتنافى مع ما هو المتسالم عليه بين الاعلام ، والمفروغ منه لديهم ، من تعلق الوجوب بكل مقدّمة بنفسها ، بحيث تتعدد الوجوبات الغيرية بتعدد المقدّمات ، وانّما النزاع في اقتصار الوجوب على المقدّمات الموصلة أو عمومه لجميعها.

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٠٦ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٧

وقد حاول المحقق العراقي ـ كما جاء في تقريرات بحثه ـ نفي صحّة القول باختصاص الوجوب الغيري بالعلّة التامّة عن طريق البرهان والوجدان.

امّا البرهان فبيانه : انّ المقدمات يختلف نحو تأثيرها. فمنها : ما يكون تأثيره بنحو الاقتضاء والفاعلية ، وهو المعبر عنه بالمقتضي. ومنها : ما يكون تأثيره على نحو الشرطية ، وهو الشرط. ومنها : ما يكون تأثيره بنحو الإعداد ، وهو المعدّ. ومن الواضح ان اختلاف أنحاء المقدمات يستلزم اختلاف نحو تقييد الواجب النفسيّ بها ، فيتعدد التقيد بتعدد أنحاء التأثير ولا يرجع إلى نحو واحد ، وظاهر ان التقيد متعلق للأمر النفسيّ الضمني ، فيترشح منه أمر غيري مستقل متوجه إلى كل مقدّمة من المقدّمات ، فيتعدد الأمر الغيري بتعدد المقدّمات سنخا.

وامّا الوجدان فتقريبه : انّه لا إشكال في إمكان الإتيان بكل مقدّمة بقصد أمرها الاستقلالي كالوضوء في باب الصلاة وهذا لا يتلاءم مع كون الأمر المتعلق به ضمنيا ، إذ لو كان ذلك لما جاز قصد أمرها الاستقلالي ، بل يكون مصداقا للتشريع (١).

والإنصاف : انّ محاولة المحقق العراقي فاشلة ، للخدشة في برهانه من وجوه :

الأول : انّه أخص من المدعى ، فانّه إذا كان تعدد سنخ التأثير في المقدمات هو الموجب لتعدد التقيدات التي ينشأ منها الوجوب الغيري ، فمقتضى ذلك تعلق وجوب غيري واحد بالمقدمات المتحدة في نحو التأثير كالمعدات أو الشروط ، لأن التقيد بها واحد فيترشح منه وجوب غيري واحد. والمدعى غير ذلك ، فانّ المدعى تعلق الوجوب بكل مقدّمة مقدّمة.

الثاني : انّ الكلام لا يختص بالمقدّمة الشرعية التي أخذ التقيد بها جزء

__________________

(١) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٣٩٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٨

للواجب النفسيّ ، بل هو في مطلق المقدّمة ولو كانت عقلية ، ومن الواضح انّ التقيد بالمقدّمة العقلية لم يؤخذ في الواجب النفسيّ كي يترشح منه وجوب غيري على المقدّمة ، فالوجوب الغيري لا يرتبط بالتقيد وإلاّ لاختص بالمقدّمة الشرعية.

الثالث : انّ الوجوب الغيري ليس معلولا للأمر الضمني والإرادة الضمنية المتعلق بالتقيدات ، وانّما هو معلول للغرض التبعي الناشئ من الغرض الأصيل ، وهو اما التمكن من الواجب أو حصوله ، والّذي يفرض غرضا على القول بالمقدّمة الموصلة هو حصول الواجب والوصول إليه ، وهو غرض واحد تنشأ ضمن إرادته إرادة المقدّمات ، وإرادته لا تستلزم ان تتعلق بكل مقدّمة إرادة ، بل يمكن ان تنشأ عنه إرادة واحدة تتعلق بمجموع المقدّمات. وهذا الغرض وان كان تبعيا لكنّه ناشئ من الغرض الأصيل المتوفر في ذي المقدّمة ولا ارتباط له بالأوامر الضمنية المتعلقة بالتقيدات.

وامّا ما استشهد به من الوجدان بإمكان الإتيان بالوضوء للصلاة بداعي أمره المستقل ، فهو غريب بعد ان عرفت فيما تقدم من النقض والإبرام في صحة قصد الأمر الغيري في الوضوء ، وان الأمر المقصود امتثاله ما هو؟ فكيف يتضح ذلك سريعا بالوجدان؟!.

والخلاصة ان ما أفاده المحقق العراقي لا يخلو عن خدشة. فلا دافع لدعوى تعلق الوجوب بالعلّة التامّة ، غير انّه خلاف المتسالم والمفروغ عنه بين الاعلام ـ ان صحّ كون هذا دافعا ـ.

ثمّ أنّه لو لم يلتزم بتعلق الوجوب الغيري بالعلّة التامّة والتزم بأنّه متعلق بكلّ مقدّمة مستقلا ..

فهل يمكن تصوير اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة بنحو معقول سالم عن كل محذور؟ تصدى الاعلام لتصويره بوجه معقول.

٣٠٩

فذهب المحقق العراقي إلى تعلق الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة ، لكن لا بنحو أخذ الإيصال قيدا ، بل هو مأخوذ بنحو القضية الحينية نظير حمل النوع على الإنسان ، فانّه لا يصح إلاّ عند لحاظ الإنسان ، مع انّ الموضوع ليس هو الإنسان المقيّد باللحاظ ، لأنّه كذلك يكون جزئيا ذهنيا لا نوعا كليا ، وانّما الموضوع هو الإنسان في ظرف اللحاظ وحينه ، ونظير تقيد الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء بعضها ببعض ، فانّ الأمر الضمني المتعلق بكل جزء لا يكون متعلقا به مستقلا ، بل عند تعلق مثله بالجزء الآخر ، لكن لا بنحو يكون مقيّدا به فهو غير مقيّد ولا مطلق.

وعليه ، فالواجب الغيري هو المقدّمة في حين الإيصال أو الحصة التوأم كما يعبر بها كثيرا بنحو لا يؤخذ الإيصال قيدا ، فلا يرد عليه أي محذور (١).

أقول : قد تكرر من المحقق العراقي (٢) هذا المعنى في موارد متعددة وأصر عليه بنحو جديّ وجزمي ، ولكنّا لا نقرّ تطبيقه فيما نحن فيه.

بيان ذلك : انّ القضية الحينية انّما تكون معقولة في المورد الّذي لا يكون الإطلاق معقولا ، سواء كان التقييد معقولا أو غير معقول ، إذ لا لزوم للتقييد في حصر الحكم بالحصة الخاصة ، لأنّه بحكم طبعه لا يتعدى عنها ـ كما عرفت ـ والّذي يحضرنا بذلك موردان :

أحدهما : ما مثّل به من : « الإنسان نوع » ونحوه ممّا يعبر عنه بالمعقولات الثانوية التي يفرض كون موطن الحمل بها الذهن ولا واقع لها سواه ، وحينئذ فيمتنع ان يكون الموضوع مجردا عن اللحاظ ومطلقا من جهته ، إذ لا معنى للوجود الذهني سوى اللحاظ ، كما يمتنع هاهنا التقييد به ، لأنّ اللحاظ يوجب

__________________

(١) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ١ ـ ٣٤٠ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) قد مرّ ذلك في المعنى الحرفي في تفسير كلام صاحب الكفاية فراجع.

٣١٠

جزئية الملحوظ بما هو ملحوظ. وهو ينافي حمل مثل النوع عليه. وعليه فيقال : انّ الموضوع هو ذات الإنسان ونفس الماهية لا بقيد اللحاظ ، ولكن في حين اللحاظ وظرفه ، فليست الماهية المحمول عليها مطلقة ولا مقيدة.

ثانيهما : ما مثّل به من الأمر المتعلق باجزاء المركب ، وذلك لأن الإرادة المتعلقة بالمركب إرادة واحدة تضم جميع الأجزاء ـ ويشبهها قدس‌سره باللحاف ـ فكل جزء ليس متعلقا للإرادة بنفسه ومستقلا ، فالإرادة الضمنية المتعلقة بكل جزء لا تنفك عن الإرادة الضمنية المتعلقة بالجزء الآخر ، فهي ليست مطلقة من هذه الجهة ، وحينئذ يمكن أن يقال ان عدم انفكاك كل إرادة عن الأخرى لا يلازم تقييد متعلق كل منها بمتعلق الأخرى ، بل قد يقال أنّه لغو محض ، لحصول نتيجة التقييد وعدم انفكاك متعلق كل منها عن الآخر. فتحقق كل جزء مأخوذ في متعلق كلّ أمر ضمني بنحو القضية الحينية.

امّا في المورد الّذي يمكن تصور الإطلاق فيه من جهة القيد ، فتصور أخذ القيد بنحو القضية الحينية محل إشكال. وذلك كسائر قضايا الأحكام الاستقلالية بناء على كون الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية ، إذ يقال ان المولى إذ لاحظ متعلق الأمر ولاحظ القيد فامّا ان يقيده به أو لا يقيده به ، اما نفس جعل الحكم مع لحاظ القيد من دون تقييد ، فهذا لا يستلزم شيئا ، بل يكون من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان ، فلا أثر له في ثبوت نتيجة التقييد.

وما نحن فيه كذلك ، فانّ الأمر الّذي يتعلق بالمقدّمة يتعلق بها استقلالا لا ضمنا والدعوى انّه يتعلق بالحصّة التي تلازم الإيصال. فنقول نفس لحاظ المقدّمة في ظرف الإيصال لا يستلزم تخصيص الحكم بها ما لم ينص المولى على تقييد متعلق الأمر ، وإلاّ فالامر متعلق بذات المقدّمة ، ولحاظ ظرف الإيصال معها لحاظ أجنبي لا أثر له في أي شيء ما دام لا يغير من واقع الأمر وكيفية الإرادة ، كما هو الحال في الأوامر الضمنية.

٣١١

وبعبارة أخرى : ان الأمر إذا لم يكن بنحو يستلزم اختصاص متعلقه بحصة معينة ، فنفس لحاظ الحصة حال الأمر لا يستلزم ذلك ما لم يرجع إلى التقييد وإنشاء الحكم على المقيد ، بل يكون اللحاظ المزبور من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان لا ربط له بالأمر ، ومتعلقه بما هو متعلق الأمر.

بل عدم تصور القضية الحينية في قضايا الأحكام لا يختص بالبناء على كون جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية ، بل هو ثابت ولو كان جعلها بنحو القضية الخارجية ، إذ غاية ما يدعى في تصورها : انّ المولى إذا جعل الحكم على الموضوع الخارجي فهو غير مطلق بالإضافة إلى صفاته الفعلية كالقيام مثلا ، كما لا داعي إلى التقييد ، فانّ نتيجته حاصلة فيكون القيام مأخوذا بنحو القضية الحينية.

ومن الواضح : إنّ هذا إنّما يتم في الصفات اللازمة غير القابلة للتغير كاللون الخاصّ ، اما القابلة للتغيير كالأفعال ، نظير القيام ، فيأتي فيها الكلام السابق ، فان الإطلاق من جهتها غير ممتنع كما إذا زال القيام ، فيسأل عن موضوع أمر المولى وأنّه هل هو زيد مطلقا قائما كان أو قاعدا ، أو خصوص زيد القائم ، ولحاظ قيام زيد أو وجوده خارجا حال الحكم لا يستلزم تعلق الحكم به بنحو يختص بحال القيام ، إذ للآمر ان يصرح بالإطلاق ، فلا يختص الحكم بحال القيام إلاّ بالتقييد. وهذا بخلاف الموردين السابقين ، فانّ نحو الحكم فيهما يتنافى مع التصريح بالإطلاق ، فنتيجة التقييد حاصلة ، فلا وجه للتقييد ويمكن عدمه ولا منافاة لغرضه. فتدبر.

والمتحصل : ان تخصيص الوجوب بالمقدّمة الموصلة بنحو القضية الحينية لا نعرف له توجيها سديدا.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى تصوير المقدّمة الموصلة بلا أخذ الإيصال قيدا ، بدعوى : انّ الواجب هو المقدّمة بالفعل.

٣١٢

وتوضيح ذلك : انّ المقدمات بأنحائها لا تكون مقدمات فعلية ، إلاّ إذا ترتب الواجب عليها ، وبدون ذلك تكون مقدمات بالقوة ، فالمقتضي الموجود وحده من دون وجود سائر اجزاء العلّة فاعل بالقوة ، والموجود مع سائر اجزاء العلّة فاعل بالفعل ، والشرط الموجود فقط من دون اقتران بالمقتضي مصحح للفاعل بالقوّة. وامّا الموجود مع المقتضي فهو مصحّح بالفعل ، وهكذا الحال في غيرهما من أنحاء اجزاء العلّة ، فكلّ منها ان وجد من دون انضمام جميع اجزاء العلّة ينسب إليه أثره بالقوّة ، ومع انضمام الاجزاء الأخرى ينسب إليه الأثر بالفعل.

وحينئذ يقال : انّ متعلق الوجوب الغيري هو المقدمات الفعلية لا مطلق المقدمات ولو كانت بالقوّة ، وهذا المعنى ملازم للإيصال ، لأنّ الفعلية لا تتحقق إلاّ بتحقق الواجب ، من دون أن يؤخذ الإيصال قيدا (١).

وتابع السيّد الخوئي المحقق الأصفهاني في هذا التصوير (٢).

ولكنّه تصوير قابل للمناقشة من جهتين :

الأولى : انّ الفرق الّذي جعله بين المقدّمة الموصلة وغير الموصلة هو تأثير المقدّمة في أثرها المترقب على اختلاف أنحائها ، فلا بدّ ان نلاحظ انّ هذا التأثير هل يوجب فرقا واقعيا بين المقدمات ، بحيث تختلف واقعا ، فيقال الحكم متعلق بهذا الصنف دون الأعم ، أو أنّه لا يوجب الفرق الواقعي أصلا؟ فيشكل التقريب المزبور.

والحقّ انّه لا يوجب فرقا واقعيا ، فالمقتضي في حال تأثيره عين المقتضي في حال عدم تأثيره من دون أي اختلاف بينهما ذاتا أصلا وانّما الاختلاف في أمر

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٠٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٤٢٠ ـ الطبعة الأولى.

٣١٣

خارج ، وهو تحقق التأثير بهذا الفرد دون ذلك. ومن الواضح ان التأثير ليس إلاّ عين وجود الأثر كما يصرح بذلك قدس‌سره ، فانّه كثيرا ما ينص على ان الإيجاد والوجود امر واحد لا أمران ، فأخذ التأثير في متعلق الأمر الغيري أخذ لوجود الواجب فيه ، وهو ما قصد الفرار منه ، وأمّا المؤثرية فهي عنوان انتزاعي عن تحقق التأثير والأثر نظير عنوان الإيصال ، فأخذه لا يختلف عن أخذ قيد الإيصال.

الثانية : ـ وهي المهمّة في المقام ـ ان المهم من المقدّمات الّذي يدور الكلام حوله ، لا يرتبط ترتب أثره فعلا بوجود سائر اجزاء العلّة وهو المعدات.

بيان ذلك : انّ الواجب تارة يكون من المسببات التوليدية التي لا يتوسط بينه وبين مقدماته الإرادة ، نظير الإحراق المترتب على النار. وأخرى يكون من الأفعال الإرادية الاختيارية التي لا تتحقق إلاّ بالإرادة المباشرة. ولا يخفى ان البحث انّما هو في القسم الثاني من الواجبات ، للمفروغية عن وجوب السبب التوليدي ، بل ذهب البعض إلى كونه متعلق الأمر النفسيّ حقيقة.

ومن الواضح انّ المقدمات التي تسبق الإرادة في الأفعال الاختيارية كلّها من قبيل المعدّ ، إذ المقتضي لتحقق الفعل ليس سوى الإرادة ، والفعل لا يتخلّف عنها ، وما يؤثر في فاعلية الإرادة وتأثيرها بحيث يكون دخيلا في حصول الفعل بنحو المباشرة فهو لا يعدو أفق النّفس بمقتضى قانون السنخية ، إذ الإرادة من افعال النّفس ، فلا يؤثر فيها ما هو خارج عن أفق النّفس. امّا المقدّمات الخارجية ، فكلّها من قبيل المعدّ شأنها تقريب المعلول لعلّته من دون أي تأثير مباشر في نفس حصول المعلول.

وعليه ، فنقول : إذا كان أثر المعد هو المقربية لا غير ، فهي متحققة بتحققه مطلقا ، وجد المعلول أو لم يوجد ، فالقرب من المكان المطلوب الكون فيه يحصل بنقل الخطي سواء أراد المكلّف تحقيق الفعل أو لم يرد. فلا يختلف الحال في المعد

٣١٤

من جهة ترتب أثره بين تحقق ذي المقدّمة وعدمه ، والمهم من المقدمات التي يقع البحث عنها هي من هذا القبيل ، فالإتيان بالماء للوضوء بل ونفس الوضوء ونحوه معد للصلاة مع الطهارة.

اما نفس الإرادة ، فالمفروض أنّه لا يتخلف عنها الواجب المراد ، ولو فرض تخلفه عنها فليس البحث في وجوبها وعدمه بذي أهمية أصلا.

وبالجملة : المقدمات المرغوبة لا يختلف حالها من حيث ترتب الأثر بين تحقق ذي المقدّمة وعدمه ، فالقول بان الواجب خصوص ما ترتب عليه أثره لا يلزمه اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة.

ومن الغريب ما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من انّ المعد الّذي لا ينضم إليه سائر المقدمات مقرب بالقوة لا بالفعل.

وعلى هذا فما أفاده المحقق الأصفهاني في تصوير القول بالمقدّمة الموصلة لا يعرف له وجه سديد.

ونهاية الكلام : انّ أخذ عنوان المؤثرية أو الإيصال أو نحوهما في متعلق الوجوب الغيري ليس بمعقول ، لا لأجل ما تقدم ذكره من المحاذير ، فقد عرفت دفعه ، بل لأجل ان هذه العناوين لا تنتزع إلاّ عن ترتب الواجب وحصوله ، والمفروض انّ أخذها انّما هو لأجل كون الغرض حصول ذي المقدّمة ، فأخذ ما ينتزع عن حصوله فيما كان الغرض من وجوبه حصوله بديهي البطلان.

وامّا اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة لا بنحو أخذ قيد الإيصال ، بل بنحو يلازمه بالتقريبين اللذين عرفت أحدهما من المحقق العراقي والآخر من المحقق الأصفهاني ، فهو ممّا لا محصل له.

يبقى تصوير واحد ، وهو ما تقدّم الكلام فيه ، وهو ان يكون متعلق الحكم هو العلّة التامّة بمجموع أجزائها.

وهذا التصوير وان استحسناه فيما تقدم ، إلاّ انّه يمكن المناقشة فيه ممّا

٣١٥

عرفت من مناقشة كلام المحقق الأصفهاني.

وبيان ذلك : ان العلّة التامّة في الأفعال الاختيارية بمعنى ما يكون مؤثرا في حصول الواجب ، بحيث يكون حصول الواجب به ، ليس إلاّ الإرادة وتوابعها. امّا المقدمات الخارجية فوظيفتها ليس إلاّ الاعداد ومقربية الواجب للفاعل من دون ان يكون لها أي تأثير مباشر في حصول الواجب ، فانّها قد تحصل ولا يحصل الواجب أصلا.

وعليه ، فإذا فرض الالتزام بكون متعلق الوجوب هو العلّة التامّة لزم اختصاص الوجوب بالإرادة وشرائطها ، لأن المعدّ وان كان اصطلاحا من اجزاء العلّة التامّة ، ومقتضاه دخوله في ضمن الواجب الغيري ، إلاّ أنّه حيث كان الالتزام بوجوب العلّة التامّة انّما هو لأجل كون ملاك الوجوب الغيري حصول الواجب ، وقد عرفت انّ ما هو المحصل للواجب ليس إلاّ الإرادة وليس شأن المعد تحصيل الواجب وانّما شأنه مقربية الواجب ، فلا محالة يكون متعلق الوجوب ما به يحصل الغرض وهو الإرادة وشئونها.

ولا يخفى انّه لا يترتب أي أثر على وجوب الإرادة وعدمها ، وانّما الآثار العملية المفروضة انّما تفرض على تقدير وجوب المقدمات الخارجية ، وهي بهذا البيان خارجة عن دائرة متعلق الوجوب الغيري.

ومن هذا البيان تعرف السرّ في إصرار صاحب الكفاية على انّ ما يترتب على المقدّمة ليس إلاّ التمكن من الواجب دون حصول الواجب ، وان الغرض من وجوبها ـ على تقديره ـ لا بدّ وان يفرض التمكن لا الحصول لأنّه لا يترتب عليها.

فانّه قد اتضح انّ جميع المقدّمات لا تؤثر سوى المقربية والتمكن على الواجب لا غير.

٣١٦

وعليه ، فالمتعين الالتزام بوجوب مطلق المقدّمة.

وبهذا ينتهي تحقيق الحقّ في المقدّمة الموصلة.

يبقى شيء لا بأس بالإشارة إليه وهو : ما تعرض إليه المحقق النائيني قدس‌سره من بيان كلام صاحب الحاشية في المقدّمة الموصلة ، فانّه ذكر : انّه أنكر على صاحب الفصول الالتزام بأخذ قيد الإيصال في الوجوب الغيري ، وسلك طريقا آخر في تخصيص الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، وهو الالتزام بان الواجب هو المقدّمة من حيث الإيصال.

وقد أوضحه قدس‌سره بما ملخصه : ان الغرض من المقدّمة وملاك الوجوب الغيري لما كان التوصل إلى الواجب ، كان وجوب المقدّمة لأجل الإيصال ، وحينئذ فيختص الوجوب بصورة ترتب الواجب ووقوع المقدّمة في سلسلة العلّة التامّة ، لعدم توفر الملاك في غيرها ، ولكن لا بأن يؤخذ قيد الإيصال قيدا فيها لامتناعه كما عرفت. وان يكون الواجب هو المقدّمة في حال الإيصال. وبتعبير آخر : الواجب هو الحصّة التوأمة مع ذيها. فيكون القيد والتقييد خارجين. كما انّه لا يكون مطلقا من جهته ، لأنّ امتناع التقييد يستلزم امتناع الإطلاق ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب ، كما ذهب إليه الشيخ رحمه‌الله. فالتزم بتعين الإطلاق في المورد الّذي يمتنع فيه التقييد. وانّما يكون مهملا ثبوتا من هذه الناحية ، لامتناع كلا الأمرين ، كما يمتنع ان تؤخذ الحيثية المزبورة بنحو نتيجة التقييد ، لأنّ الوجوب الغيري تابع للوجوب النفسيّ في شئونه وخصوصياته ، فكما لا يكون الوجوب النفسيّ بالنسبة إلى متعلقه إلاّ مهملا ولا تعرض لخطابه إلى حالتي وجوده وعدمه إطلاقا ولا تقييدا ولا بنحو نتيجة التقييد ، فكذلك الوجوب الغيري بالنسبة إلى ذي المقدّمة لا بدّ ان يكون مهملا كما هو مقتضى التبعية.

٣١٧

وهذا ملخص ما جاء في تقريرات الكاظمي (١). وقريب منه ما في أجود التقريرات (٢).

والأمر الّذي لا بدّ من التنبيه عليه هو : انّ الظاهر من هذا البيان ـ مع غض النّظر عمّا في بعض جهاته من الإشكال ـ هو تصحيح كلام صاحب الحاشية الّذي نتيجته اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة. ولم يظهر منه الإشكال فيه. وهذا يتنافى مع التزامه بامتناع القول بالمقدّمة الموصلة ، وان الوجوب يتعلق بمطلق المقدّمة. فلاحظ.

ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة :

ثمّ انّه قد ذكر للنزاع المزبور ثمرة وهي : حرمة العبادة التي تكون ضدا لواجب أهم ، لأن تركها يكون مقدمة للواجب فيكون واجبا فيحرم الفعل. هذا بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمة. وامّا بناء على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فلا يكون الفعل حراما ، لأنّ الترك الواجب هو الترك الموصل لا مطلق الترك ، والفعل ليس نقيضا للترك الموصل لجواز ارتفاعهما معا والنقيضان لا يرتفعان.

وقد استشكل في هذه الثمرة بأنّ الفعل على كلا القولين لا يكون نقيضا للواجب لأنّ نقيض كل شيء رفعه فنقيض مطلق الترك هو عدمه ، وهو ينطبق على الفعل ، كما انّ نقيض الترك الموصل عدمه ، وهو ينطبق على الفعل وعلى الترك غير الموصل.

وعليه ، فكما يكون الفعل حراما على القول بوجوب مطلق الترك ، مع انّه

__________________

(١) الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول ١ ـ ٢٩٣ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٤٠ ـ الطبعة الأولى.

٣١٨

ليس بنقيض. وإنّما هو مصداق ما هو النقيض ، كذلك كونه حراما على القول بوجوب المقدّمة الموصلة ، لأنه مصداق النقيض أيضا. وانّما النقيض على هذا القول له فردان ، وعلى القول الأول له فرد واحد ، وهو فرق غير فارق ، فالعبادة محرمة على كلا القولين في الفرض المزبور.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية بقوله : « وأنت خبير بما بينهما من الفرق ، فان الفعل في الأول لا يكون إلاّ مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى ، ولا يكاد يسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه أحيانا ، نعم لا بدّ ان لا يكون محكوما فعلا بحكم آخر خلاف حكمه ، لا ان يكون محكوما بحكمه ، وهذا بخلاف الفعل في الثاني ، فانّه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه ، لا ملازم لمعانده ومنافيه ، فان لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما ، لكنه متحد معه عينا وخارجا ، فإذا كان الترك واجبا فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا. فتدبر جيدا » (١).

هذا محصل ما يذكر في إيضاح الثمرة ، ويقع الكلام في امرين :

الأول : في بيان مراد صاحب الكفاية من كلامه الّذي ساقه في تقريب الثمرة.

الثاني : في تحقيق الحال في صحة الثمرة وعدمها.

امّا كلام الكفاية ، فهو يختلف بتقريبه الثمرة عن التقريب الّذي أشرنا إليه بإجمال. كما أنّه يبدو غامضا لأول وهلة فقد قال قدس‌سره : « انّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة هي تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب ، بناء على كون ترك الضد ممّا يتوقف عليه فعل ضده ، فان تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا ، ليكون فعلها محرما ، فتكون فاسدة ، بل فيما

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٣١٩

يترتب عليه الضد الواجب ، ومع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب ، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا ، فلا يكون فعلها منهيا عنه فلا تكون فاسدة » (١).

والّذي يظهر منه بدوا هو : كون قيد الإيصال مأخوذا للوجوب ، فبدونه لا وجوب. وعليه فمع الفعل لا يتحقق شرط الوجوب فلا يجب الترك.

ولكن هذا المعنى لا يمكن عادة ان ينسب إلى مثل صاحب الكفاية الّذي صرح بأنّ القائل بالمقدّمة الموصلة لا يقول بأنّ الإيصال قيد الوجوب بل هو قيد الواجب وهو بعد لم يبعد عن هذا المطلب كي يدعى إمكان الغفلة في حقه عن هذا الشيء. كما انّه لا يبقى مجال للإيراد وجوابه على هذا المعنى ، فانّه أجنبي عنه بالمرة كما لا يخفى على من له أدنى التفات.

وقد حمل المحقق الأصفهاني قدس‌سره عبارته على أخذ قيد الترتب والإيصال في النقيض ، فنقيض الترك الموصل لا بدّ وأن يؤخذ فيه الإيصال. فالفعل لا يكون نقيضا للترك الموصل لأنّه غير موصل.

وأورد عليه : بأنه لا يعتبر في النقيض أخذ القيد المأخوذ في بديله ، لأنّ نقيض كل شيء رفعه ، فليس نقيض الجسم الأبيض غير الجسم الأبيض ، بحيث يكون الأبيض قيدا للغير لا للجسم (٢).

والتحقيق : انّه يمكن أنّ يكون مراد الكفاية معنى غير ما ذكر ، خال عن الإشكال ، وهو ان يقال : انّ الواجب إذا كان هو المقدّمة الموصلة والوجوب يتعلق بها ، فلا كلام انّ تأثير الوجوب في المقيد انما يكون عند تحقق قيده ، فبدونه لا يقع على صفة الوجوب ، فالصلاة بدون الطهارة لا تقع على صفة الوجوب وان كانت الطهارة قيدا للواجب.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٢١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢١٠ ـ الطبعة الأولى.

٣٢٠