منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

« فصل »

لا بد من إيقاع الكلام في جهتين :

الأولى : ان الوجوب الغيري هل يتعلق بمطلق المقدمة ، أو يختص بالمقدمة التي يقصد بها التوصل إلى ذيها؟.

الثانية : ان الوجوب الغيري هل يتعلق بخصوص المقدمة التي يترتب عليها الواجب ، فيكون عدم ترتبه كاشفا عن عدم وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، وهي المعبر عنها بالمقدمة الموصلة. أو يتعلق بمطلق المقدمة ، ولو لم يترتب عليها الواجب؟. فالكلام في مقامين :

المقام الأول : في اعتبار قصد التوصل.

وقد نسب إلى الشيخ القول به ، وان المقدمة لا تكون واجبة ما لم يقصد بها التوصل إلى ذيها ، بمعنى ان الوجوب يتعلق بالمقدمة التي يقصد بها التوصل (١). كما وجه كلام صاحب المعالم (٢) الظاهر في اعتبار التوصل قيدا للوجوب لا الواجب بما ذهب إليه الشيخ تصحيحا لكلامه.

__________________

(١) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٧٢ ـ الطبعة الأولى.

(٢) العاملي جمال الدين. معالم الدين في الأصول ـ ٧٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٨١

إذ يورد عليه : انه بعد البناء على وجوب المقدمة وترشح الوجوب الغيري من الوجوب النفسيّ ، لا إشكال في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها إطلاقا واشتراطا ، لعدم انفكاك الوجوبين ، وهو أمر وجداني يحسه كل أحد. وعليه فإذا قيد وجوب المقدمة بإرادة ذيها ، فاما ان يقيد وجوب ذيها بإرادته أو لا يقيد ، بل يكون مطلقا من هذه الجهة ، فإذا قيد وجوب ذي المقدمة بإرادته ـ التزاما بعدم التفكيك ـ كان ممنوعا لاستحالة حصول الوجوب مع تعلق الإرادة بالعمل الّذي يراد البعث نحوه ، فانه تحصيل الحاصل. وإذا لم يقيد لزم انفكاك وجوب ذي المقدمة عن وجوب المقدمة وهو باطل كما عرفت.

لأجل ذلك صحح كلام صاحب المعالم أخذه قيدا للواجب ، فيكون وجوب المقدمة فعليا كوجوب ذيها بدون قصد التوصل.

وعلى أي حال : فيقع الكلام في اعتبار قصد التوصل قيدا للواجب بالوجوب الغيري وعدم اعتباره.

ولا بد قبل ذلك من معرفة ثمرة البحث ، إذ قد يدعى عدم الثمرة فيه ، إذ لا إشكال في انه لو أتى بالعمل المقدمي لا بداعي التوصل بل بداع آخر غيره يترتب الأثر عليه ولا يلزم إعادته ثانيا بقصد التوصل ـ حتى على القول باعتباره ـ ، فلو أمر بشراء اللحم ، فذهب إلى السوق بداعي رؤية زيد لا بداعي شراء اللحم ، فانه يصح منه بعد ذلك شراء اللحم ولا يلزمه الخروج من السوق ثم العود إليه بداعي التوصل. أذن فما فائدة اعتباره والبحث فيه؟. وقد تعرض في التقريرات (١) إلى بيان ثمرتين :

إحداهما : وهي تظهر في خصوص المقدمات العبادية ، بناء على انحصار طريق العبادية بقصد الأمر الغيري. وذلك ببيان : انه بناء على اعتبار قصد

__________________

(١) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٧٢ ـ ٧٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٢

التوصل ولزوم الإتيان بالمقدمة عبادة بقصد امتثال الأمر الغيري ، لو لم يقصد التوصل بالمقدمة لم تقع على وجه العبادية ، إذ يمتنع قصد امتثال الأمر الغيري مع عدم قصد التوصل لكونه قيدا للمتعلق ، فقصد التوصل دخيل في تحقق العبادية لأن امتثال الأمر يتوقف على الإتيان بمتعلقه وهو لا يكون إلاّ بقصد التوصل.

وقد فرع على ذلك عدم صحة الصلاة إلى جهة واحدة فقط ـ في فرض لزوم الصلاة إلى الجهات الأربع ـ ، إذ لم يقصد بها التوصل إلى الواجب وهو الصلاة إلى الجهات الأربع.

وأنت خبير بان هذه الثمرة لا تترتب على المسلك الّذي اخترناه ، وهو كون عبادية المقدمات بتعلق الأمر النفسيّ بها وقصد امتثاله ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية ، لأن الأمر النفسيّ لم يؤخذ في متعلقه قصد التوصل ، فيمكن قصد امتثال الأمر وتحقق العبادية بنفس العمل من دون قصد التوصل.

واما ما ذكره من التفريع فعجيب لوجهين :

الأول : ان الكلام فيما نحن فيه في مقدمة الوجود ، والصلاة إلى كل جهة مقدمة للعلم ، وهي ليست واجبة من باب الوجوب الغيري المقدمي ، بل من جهة حكم العقل من باب دفع الضرر المحتمل كما أشرنا إليه في أوائل المبحث ، فالمثال أجنبي عما نحن فيه بالمرّة.

الثاني : انه لو سلمنا كونها من باب مقدمة الوجود ، فعباديتها لا تنحصر في قصد امتثال أمرها الغيري كي يتوقف على قصد التوصل ، لأنها عبادة في نفسها. وما يدعى من لزوم قصد الأمر الغيري انما هو في ما لم تكن المقدمة بنفسها عبادية لا في مطلق المقدمات العبادية ، فانه من الواضح انه لا يعتبر في عبادية صلاة الظهر قصد التوصل بها إلى صلاة العصر ، فانها تصح ولو بني على عدم الإتيان بصلاة العصر مع انها مقدمة لصلاة العصر.

٢٨٣

وبالجملة : لا ينحصر طريق العبادية في مطلق المقدمات بقصد الأمر الغيري ، بل ينحصر في المقدمات غير العبادية في أنفسها. فلاحظ.

الثانية : ـ وهي التي تعرض إليها في الكفاية (١) ، ولعله لم يتعرض للأولى لأجل ما ذكرناه ـ انه إذا كانت المقدمة مع قطع النّظر عن الوجوب الغيري محرمة في نفسها ، كالعبور في الأرض المغصوبة مقدمة لإنقاذ الغريق ، فانه بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة يكون العبور في الأرض غير حرام ولو لم يقصد به التوصل إلى الواجب ، لأنه واجب مطلقا فترتفع الحرمة بوجوبه. واما بناء على القول بوجوب المقدمة التي يقصد بها التوصل ، فيكون العبور مع عدم قصد التوصل حراما ، لأنه ليس بواجب فلا حكم يزاحم الحرمة.

إذا اتضح ذلك ، فقد استدل على اعتبار قصد التوصل في معروض الوجوب الغيري بوجهين :

الوجه الأول : ما ذكره في التقريرات وذكره المحقق الأصفهاني ببعض تغيير : ان الوجوب الغيري متعلق بعنوان المقدمة دون ذوات الأعمال ، فليس هو متعلق بالمشي بذاته ، بل بما انه مقدمة ، فعنوان المقدمة مأخوذ في معروض الوجوب الغيري ، لما حقق من ان الجهات التعليلية تكون تقييدية في الأحكام العقلية ، فمرجع حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب إلى حكمه بحسن التأديب ، وضرب اليتيم من مصاديقه فيكون محكوما بالحسن قهرا. وهكذا مرجع حكمه باستحالة أخذ الأمر في متعلقه للزوم الدور ، إلى حكمه باستحالة الدور وتطبيقه على المورد.

ثم انه قد تقرر أيضا ان متعلق الأمر هو الحصة الاختيارية ، إذ غير الاختيارية غير قابلة للبعث والدعوة. ومن الواضح ان الاختيار يتقوم بتحقق القصد إلى العمل إذ بدونه لا يكون اختياريا بل قهريا.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٨٤

وعليه ، فلا يتحقق الواجب الغيري إلا بالقصد إلى المقدمة وقصد المقدمية لا يفترق عن قصد التوصل حقيقة. فهذا الوجه يبتني على مقدمتين.

إحداهما : تعلق الوجوب الغيري بعنوان المقدمة.

والأخرى : توقف تحقق الواجب بما انه واجب على قصده ، فلا يتحقق الواجب الغيري إلا بقصد المقدمية ، وهو في الحقيقة قصد التوصل بها إلى ذيها.

الوجه الثاني : وهو وجه عرفي ، وهو انه لا ريب في إنّا نجد أن من يأتي بالمقدمة بدون قصد التوصل بها إلى ذيها ، بل بداع آخر ، لا يعدّ في العرف ممتثلا للوجوب الغيري وآتيا بمتعلقه ، مما يكشف عن كون معروضه هو المقدمة التي يقصد بها قصد التوصل (١).

بهذين الوجهين استدل في التقريرات على مدعاه ، ولكن قد عرفت ما في الوجه الأول بكلتا مقدمتيه ، فقد عرفت عدم تمامية الأولى وعدم إجراء الثانية ، إذ هي لا تستلزم القصد بمعنى الداعي فلا نعيد.

ثم ان المحقق النائيني قدس‌سره حكم بتشوش عبارة التقريرات ، وعدم ظهور المراد منها بوضوح وجلاء ، لذلك تصدى لبيان محتملات الكلام ، والبحث فيها ، فأفاد : انه ..

اما ان يكون المقصود هو اعتبار قصد التوصل في تحقق العبادية والامتثال بالمقدمة فهو حق ، وقد تقدم البحث فيه.

واما ان يكون المقصود هو اعتبار قصد التوصل في معروض الوجوب فهو ممنوع ، لعدم دخل قصد التوصل في مقدمية المقدمة فيستحيل تقيد الواجب به. ثم ذكر في تقريب اعتباره الوجه الأول بنحو الاختصار ، وأورد على المقدمة الأولى منه : بان جهة المقدمية جهة تعليلية لا تقييدية.

واما ان يكون نظره إلى اعتبار قصد التوصل في مقام المزاحمة ، بمعنى انه

__________________

(١) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٧٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٥

إذا كانت المقدمة في نفسها محرمة فلا تصير واجبة بالوجوب الغيري إلا بقصد التوصل. ببيان : ان المقدمة إذا كانت محرمة وتوقف عليها واجب فعلي ـ كتوقف إنقاذ الغريق على اجتياز أرض الغير بدون إذنه ـ ، فلا ترتفع حرمة المقدمة ما لم يؤت بها بقصد التوصل ، وكون المكلف في مقام امتثال الواجب ، وإلاّ كانت الحرمة على حالها باقية ، ولا مقتضي لرفع اليد عنها. فيرد عليه : ان المزاحمة انما هي بين وجوب ذي المقدمة الموقوف على المقدمة المحرمة وبين حرمتها ولو لم نقل بوجوب المقدمة أصلا ، فالتزاحم إنما هو بين واقع الإنقاذ والتصرف في الأرض المغصوبة مثلا ، وقصد التوصل أجنبي عن ذلك رأسا. نعم يترتب على ذلك خطاب تحريمي على نحو الترتب كما في تمام الخطابات المتزاحمة ، ويظهر ذلك عن قريب إن شاء الله تعالى. هذا محصل ما أفاده قدس‌سره (١).

ويقع البحث معه في ما ذكره من الاحتمال الثالث ، أعني اعتبار قصد التوصل في مقام المزاحمة وما أورده عليه. اما الاحتمالان الآخران فقد عرفت تحقيق البحث في الأول. واما الثاني فهو محل الكلام وستعرف ما هو الأقرب إلى الوجدان.

والكلام معه فيما أفاده في تقريب الاحتمال الثالث ودفعه من جهات :

الأولى : ما يظهر منه من تسليم كون المقام من باب المزاحمة. فقد تقدم في أول مبحث المقدمة انه مع الالتزام بوجوب المقدمة يكون المورد من موارد التعارض ، لتوارد الحكمين على موضوع واحد. نعم لو لم نقل بوجوب المقدمة تحقق التزاحم بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها.

الثانية : انه لو سلم كون المقام من موارد التزاحم ، فحكمه هو ارتفاع الحكم المهم وبقاء الحكم الأهم من دون دخل لقصد امتثال الأهم وعدمه ، فان

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٣٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٦

التزاحم بين ذات الحكمين ، فوجود أحدهما يرفع الآخر قصد امتثاله أو لم يقصد ، فتخصيص ارتفاع الحرمة بخصوص صورة قصد التوصل ما لا يعرف له وجه. وعليه فلا وجه لإقراره هذه الجهة والإيراد عليه من جهة أخرى.

الثالثة : فيما أورد على كلام التقريرات من ان باب التزاحم أجنبي عن وجوب المقدمة وقصد التوصل.

إذ فيه : ان كون باب التزاحم أجنبيا عن وجوب المقدمة وقصد التوصل ، لا ينافي دعوى اختصاص المزاحمة هنا بصورة قصد التوصل ، إذ يمكن ان يتصادق البابان الأجنبيان في مورد واحد ويرتبط أحدهما بالآخر في ذلك المورد وان انفصلا في أنفسهما وملاكاتهما ، فأجنبية أحدهما عن الآخر لا تمنع من انطباقهما على المورد الواحد. فتدبر.

الرابعة : فيما أشار إليه من وجود خطاب تحريمي على الترتب ، فانه غير وجيه ، فان الترتب بين المقدمة وذيها غير معقول ، فانه انما يرفع غائلة التزاحم لا غائلة التضاد. وتحقيق ذلك وتوضيحه يوكل إلى محلّه. وعليه فلا مكان للمناقشة فيه بالتطويل كما جاء في تعليقة التقريرات للسيد الخوئي ( حفظه الله ) (١).

ونعود بعد هذا إلى ما استدل به في التقريرات على مدعاه ، وقد عرفت الإشكال في الوجه الأول البرهاني.

واما الوجه الوجداني ، فهو بالمقدار الّذي ذكرناه لا يفي بالمطلوب ، ويمكن إيضاحه : بان نفس الوجه الّذي يقام دليلا على أصل وجوب المقدمة يقتضي تعلق الوجوب بخصوص المقدمة التي يقصد بها التوصل. وذلك فان ما يذكر دليلا على أصل الملازمة هو بناء العرف على وجوب المقدمة ، ويكشف عنه وجود بعض الأوامر العرفية بالمقدمة كما يقول المولى لعبده : « ادخل السوق

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٣٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٧

واشتر اللحم » ، ونحن نرى ان العرف يرى ان من يؤمر بالمقدمة هو من كان في مقام امتثال الأمر بذيها ، واما من ليس في مقام امتثال الأمر النفسيّ فلا يؤمر بالمقدمة بنظر العرف ، ويعدّ أمره بها لغوا محضا ، إذ الغرض منه تحصيل الواجب ، وهو غير متحقق كما هو الفرض ، ولا يرد النقض بصحة تكليف من يعلم بعصيانه ، إذ يمكن ان يكون تكليفه لإلقاء الحجة عليه فيترتب عليه عقابه ومؤاخذته ، وهذا غير متحقق بالنسبة إلى الأمر الغيري إذ لا عقاب على مخالفته ، فالأثر المصحح له ليس إلاّ تحصيل الواجب والمفروض انتفاؤه.

وعلى هذا فدعوى اعتبار قصد التوصل في الواجب الغيري قريبة.

واما ما أفاده صاحب الكفاية من منع اعتباره وعدم معقوليته بتقريب : ان ملاك الوجوب الغيري والغرض منه هو توقف الواجب على المقدمة ومقدميتها له. ومن الواضح ان هذا يتوفر في سائر المقدمات بلا دخل لقصد التوصل فيه أصلا ، فقصد التوصل غير دخيل فيما هو ملاك الوجوب الغيري ، ومما يكشف عن حصول الغرض من مطلق المقدمة ولو لم يقصد بها التوصل هو سقوط الوجوب الغيري مع الإتيان بالمقدمة من دون قصد التوصل بها إلى ذيها ، فلا يجب عليه الإتيان بها مرّة أخرى بقصد التوصل ، ولو لم يكن الغرض حاصلا بمجرد المقدمة من دون دخل قصد التوصل فيه لم يسقط الأمر الغيري لعدم حصول غرضه.

وبالجملة : فالمقتضي للوجوب الغيري وهو المقدمية موجود في مطلق المقدمات ، والمانع من تعلق الوجوب مفقود ، إذ المانع الّذي يتصور ليس إلاّ تعلق الحرمة بالعمل فيمنع من البعث إليه وهو غير مفروض هاهنا. ومن هنا يظهر عدم صحة النقض بسقوط الوجوب الغيري لو أتى بالفرد المحرم من المقدمة ـ فيما كان لها فردان ـ ، مع عدم تعلق الوجوب به ، فسقوط الوجوب لا يقتضي كونه مأمورا به. ووجه عدم الصحة هو : ان عدم تعلق الوجوب بالفرد المحرم لمانعية

٢٨٨

الحرمة من وجوبه ، فالمقتضي وان كان موجودا إلا أن تأثيره يتوقف على عدم المانع وهو غير متحقق لوجود المانع. فتتلخص دعوى الكفاية : بان المقتضي للوجوب الغيري موجود والمانع مفقود فيتحقق المقتضى ـ بالفتح ـ وهو الوجوب (١).

ففيه :

أولا : النقض عليه بما لو التزم بان عنوان المقدمية مأخوذ في متعلق الوجوب الغيري الملازم ـ كما عرفت ـ لأخذ قصد التوصل في الواجب الغيري ـ بنظره ، إذ استشكاله انما كان في المقدمة الأولى لا الثانية ـ ، فانه مما لا إشكال فيه سقوط الوجوب لو أتى بالمقدمة من دون قصد التوصل ، وعدم لزوم الإتيان بها ثانيا ، مع انه يلتزم بكون الواجب هو المقدمة بقصد التوصل.

وثانيا : الحلّ ، بان المعلول لا يتحقق بمجرد وجود المقتضي وثبوت عدم المانع ، فان للعلة اجزاء أخرى كالشرط والمعدّ ، فلعل قصد التوصل يكون شرطا لتأثير المقتضي ، ولم يثبت بنحو جزمي عدم شرطيته وعدم دخل غير المقدمية في الواجب ، ومجرد احتمال الشرطية تكفي في دفع البرهان على عدم أخذ قصد التوصل في الواجب الغيري ، فان مراد صاحب الكفاية الاستدلال على عدم أخذه لا بيان عدم الدليل على أخذه. فالاحتمال يكفي في إبطاله ، وهو احتمال عقلائي ان لم يجزم به خصوصا بعد ما عرفت من تقريب الوجه العرفي فتدبر ولاحظ.

المقام الثاني : في اعتبار ترتب الواجب على المقدمة.

وقد اختاره في الفصول واستدل عليه بوجوه (٢). وخالفه في ذلك صاحب

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الحائري الطهراني الشيخ محمد حسين. الفصول الغررية ـ ٨٦ ـ الطبعة الأولى.

٢٨٩

الكفاية ، فذهب إلى تعلق الوجوب الغيري بعموم المقدمة ترتب عليها الواجب ـ المعبر عنها بالمقدمة الموصلة ـ أو لم يترتب. واستدل على مختاره بوجوه أربعة :

الأول : ان الملاك والغرض من الوجوب الغيري متوفر في مطلق المقدمات من دون اختصاص له بصنف دون آخر ، وذلك لأن الغرض هو حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، وليس هو ترتب ذي المقدمة. وذلك لأن الغرض هو ما يترتب على الشيء من اثره. ومن الواضح ان الّذي يترتب على المقدمة من أثر هو حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، اما ترتب الواجب ـ ذي المقدمة ـ فليس من الأمور التي يحصل بالمقدمة ، بل لا يحصل بمجموع المقدمات في غير المسببات التوليدية ، لتوقف حصول الواجب في الأفعال الاختيارية على إرادة المكلف له فلا يحصل بدون إرادته وان حصل جميع مقدماته. وعليه فلا يمكن ان يفرض ترتب الواجب غرضا من الوجوب الغيري كي يخصص الوجوب بخصوص ما يترتب عليه الغرض وهو المقدمة الموصلة. بل الغرض هو ما ذكر من كونه حصول ما بدونه لا يمكن ان يحصل ذو المقدمة. وبديهي ان هذا يترتب على مطلق المقدمات من دون اختصاص له بقسم خاص منها. وبما انه لا يعتبر في الواجب الا ما له دخل في غرضه كان الواجب الغيري هو مطلق المقدمة لاشتراك الجميع في الدخل في الغرض.

الثاني : انه بعد ان عرفت ان ترتب الواجب يختص بالمقدمة التوليدية ، لأنها التي يحصل بها المسبب من دون توسط إرادة الفاعل ، كحصول الإحراق بالإلقاء بالنار ، فلو فرض انه هو الغرض من الوجوب الغيري واختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة لزم إنكار وجوب المقدمة في مطلق الواجبات غير الواجبات التوليدية ، فيلتزم بوجوب العلة التامة فيها ، لعدم تخلف المعلول عنها ، اما غيرها فقد عرفت ان الواجب لا يحصل بمجموع المقدمات لتوسط الإرادة بعد ان كان الفعل اختياريا.

٢٩٠

وقد يورد عليه : ان كل فعل لا بد وان يكون له علة تامة لا يتخلف عنها ، ضرورة ان الممكن لا يوجد بدون علة. وعليه فكما يلتزم في الواجبات التوليدية بوجوب علتها التامة ، كذلك يلتزم بوجوب العلة التامة في سائر الواجبات ، لعدم تخلف الواجب عنها فتكون مما يترتب عليها الغرض.

وفيه : ان وجود العلة التامة لكل واجب مسلّم لكن من اجزاء العلة التامة في الأفعال الاختيارية إرادة الفاعل الفعل. ومن الواضح ان الإرادة ليست من الأمور الإرادية الاختيارية ـ وإلا لزم التسلسل ـ ، فيمتنع ان يكون متعلقا للتكليف. وعليه فيمتنع تعلق التكليف بالعلة التامة لأن من اجزائها ما لا يقبل تعلق التكليف به ، وهذا بخلاف الأفعال التوليدية فان جميع اجزاء العلة التامة من الأفعال الاختيارية ، لعدم توسط الإرادة ، فيصح تعلق الوجوب الغيري بالعلة التامة في موردها.

الثالث : انه من الواضح ان الوجوب الغيري يسقط بمجرد الإتيان بالمقدمة بلا انتظار لترتب الواجب عليها ، فانه يكشف عن عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة ، وإلاّ لما سقط الطلب بمجرد الإتيان بالمقدمة ، لعدم العلم بتحقق الواجب بمجرده.

الرابع : ـ وقد تخيل انه من الوجه الثالث لكن التحقيق انه وجه مستقل كما سيأتي بيانه ـ ان سقوط الأمر يكون بأحد أمور أربعة : الموافقة والمخالفة وارتفاع موضوع التكليف ـ كغرق الميت الرافع لموضوع التكليف بالتغسيل ، أو التكفين ـ وحصول الغرض من دون تعلق الأمر به لمانع ، كما يسقط الأمر التوصلي بفعل الغير للواجب أو بالفرد المحرم. ومن الواضح ان سقوط الأمر بالإتيان بالمقدمة ليس بالمخالفة ، كما انه ليس بارتفاع موضوع التكليف للإتيان بمتعلقه وليس من جهة حصول الغرض به من دون تعلق الأمر به ، لأنه لا مانع من تعلق الأمر به ، إذ المانع الّذي يتصور هو كونه حراما فعليا ، وليس ما نحن

٢٩١

فيه كذلك ، فإذا كانت المقدمة واجدة الملاك تعلق بها الأمر كما يتعلق بغيرها لعدم الفرق بينهما. فيتعين ان يكون السقوط من جهة الموافقة وهو المطلوب.

هذا توضيح ما جاء في الكفاية (١).

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في الوجه الأول وذكر : انه لا يمكن ان يكون الغرض غير ما هو مسلك صاحب الفصول. ببيان : ان الغرض المفروض لا يخلو ..

اما ان يكون هو الملازمة بين عدم المقدمة وعدم إمكان ذيها ، التي عبر عنها صاحب الكفاية بما لولاه لما أمكن ذي المقدمة ، وقد عبّر عنها المحقق الأصفهاني بالمعنى السلبي التعليقي تارة وبالاستلزام العدمي أخرى (٢).

واما ان يكون إمكان ذي المقدمة ذاتا ووقوعيا.

واما ان يكون التمكن من ذي المقدمة والقدرة عليه.

اما الأول : فهو ليس بأثر لوجود المقدمة ، بل هو لازم أثرها ، فان أثر المقدمة انما يكون امرا وجوديا لا عدميا.

واما الثاني : فإمكان ذي المقدمة مطلقا ، وكذلك التمكن عليه ، متحقق بإمكان المقدمة والتمكن عليها لا بوجودها ، فهما من آثار إمكان المقدمة والتمكن عليها لا من آثار وجودها.

ثم أخذ في تقريب مسلك صاحب الفصول (٣).

والّذي يهمنا البحث عنه فعلا هو القسم السلبي من كلامه ـ أعني ما نفي به مسلك صاحب الكفاية ـ لا القسم الإيجابي ـ أعني الّذي أثبت به مسلك صاحب الفصول ـ. فنقول : انه يمكن ان يفرض كون الغرض هو التمكن من

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) لاحظ حاشيته على شرحه المقام ، قد أوضح الإشكال فيها جيدا. ( منه عفي عنه ).

(٣) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٠٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٢

ذي المقدمة ، ولكن لا بالمعنى الاصطلاحي الفلسفي للتمكن ، كي يرد عليه ما عرفت ، بل بمعنى عرفي وبيان ذلك : ان التمكن على الشيء ذي المقدمات يتصور عرفا على نحوين :

أحدهما : التمكن بالواسطة ، وذلك قبل الإتيان بمقدماته التي يتمكن على الإتيان بها ، فانه يقال عرفا انه يتمكن على ذي المقدمة ولكن بواسطة ، لأنه لا يستطيع إعمال إرادته في ذي المقدمة بلا واسطة.

ثانيهما : التمكن عليه بدون واسطة ، بحيث يستطيع إعمال إرادته فيه بلا واسطة ، كما لو جاء بالمقدمة فانه يتمكن من إعمال إرادته في ذيها بلا واسطة المقدمة.

وعليه ، فيمكن ان يدعى كون الغرض من المقدمة هو حصول التمكن على الواجب بالمعنى الثاني وهو التمكن بلا واسطة ، وهو يتوقف على وجود المقدمة لا على التمكن منها كما عرفت.

وبالجملة : إمكان كون الغرض هو التمكن من ذي المقدمة بالمعنى الّذي ذكرناه ثابت لكن لا يتعين ذلك الا بنفي إمكان كون الغرض هو ترتب ذي المقدمة أو ما يلازمه ، وإلاّ احتاج ترجيح أحدهما على الآخر إلى دليل إثباتي. فالتفت.

واما الوجه الثاني : فقد عرفت الاستشكال فيه : بان كل واجب ممكن ، فلا يوجد الا بوجود علته التامة ، فالعلة التامة في كل واجب توليدي أو غيره مما يترتب عليها الواجب ، فتكون واجبة ، ولا يختص الوجوب الغيري بالأسباب التوليدية. كما عرفت ما أجاب صاحب الكفاية من ان الإرادة من اجزاء العلة التامة في الواجبات الاختيارية الإرادية ، وهي غير قابلة لتعلق التكليف بها ، لأنها ليست بالاختيار لاستلزام ذلك التسلسل.

وهذا الجواب مخدوش لوجهين :

٢٩٣

الأول : ان المتقرر في محله ـ كما سيجيء في مبحث التجري ـ ان الإرادة لا يمتنع ان تكون بالاختيار ، وانما الّذي يمتنع هو تقوم الإرادة بالإرادة والاختيار ، فانه مما يستلزم التسلسل. وبعبارة أخرى : انه لا يجب ان تكون الإرادة بالإرادة للزوم التسلسل ، لا انه لا يمكن ان تنشأ الإرادة عن إرادة غيرها ، فانه لا محذور فيه ، بل وقوعه يشهد له الوجدان ، كما يتضح بملاحظة بعض الأمثلة العرفية. وعليه فلا يمتنع تعلق التكليف بالإرادة لأنها يمكن ان تكون اختيارية قابلة للبعث.

الثاني : انه لو تنزلنا وسلمنا امتناع اختيارية الإرادة مطلقا وامتناع تعلق البعث بها لأجل ذلك ، فهو لا يرتبط بما نحن فيه من فرض تعلق الوجوب الغيري بها ، لأن الوجوب الغيري الّذي يفرض ثبوته وتعلقه بالمقدمة ليس حكما مجعولا متكفلا للبعث على حد سائر الوجوبات ، وانما عبارة عن شوق نفساني يتعلق بالمقدمة بتبع تعلق الشوق بذيها ، فحقيقة الوجوب الغيري ليست إلاّ شوقا مترشحا عن الشوق النفسيّ المتعلق بذي المقدمة. ومن الواضح ان متعلق الشوق لا يعتبر فيه ان يكون اختياريا ، فكثيرا ما يتعلق الشوق بأمر غير اختياري ، ولا وجه لاعتبار كونه اختياريا كما لا يخفى.

فعليه ، لا مانع من تعلق الوجوب الغيري بالإرادة ، اما لأجل كونها اختيارية ، أو لأجل عدم اعتبار الاختيار في متعلق الوجوب الغيري.

واما الوجه الثالث : ـ ويتبعه الوجه الرابع ، لأنهما بملاك واحد ، ولذا تخيل وحدتهما وكونهما وجها واحدا لا وجهين ـ فيمكن دفعه : بان سقوط الأمر الغيري بالمقدمة عند الإتيان بها لا يكشف عن تعلق الأمر الغيري بذاتها ، فانه يمكن ان يكون من قبيل سقوط الأمر بالجزء عند الإتيان به ، مع انه لا يقطع بفراغ الذّمّة الا عند الإتيان بجميع اجزاء المركب الارتباطي ، فمع عدم الإتيان بها تبقى الذّمّة مشغولة. فالإتيان بالجزء مسقط لأمره ـ إذ لا يجب الإتيان به فعلا

٢٩٤

ثانيا ـ ، لكن سقوطه مراعى بالإتيان بباقي الاجزاء وبدونه لا يستقر السقوط. وعليه فما نحن فيه يمكن ان يكون من هذا القبيل ، فان الأمر الغيري وان كان يسقط بمجرد الإتيان بالمقدمة ، لكنه سقوط مراعى بالإيصال وترتب الواجب ، وبدونه يلزم الإتيان بها ثانيا.

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكرنا : ان ما ذكره صاحب الكفاية من الإشكالات على القول بوجوب المقدمة الموصلة والمحاذير فيه غير تام في نفسه ، سوى الإشكال الأول الّذي يبتني على أخذ الغرض هو التمكن لا فعلية الترتب. ولا يخفى انه ليس بمحذور ثبوتي في القول بالمقدمة الموصلة فالقول بالمقدمة الموصلة ممكن في نفسه ، وانما الالتزام به أو بعدمه ينظر فيه ما تقتضيه الوجوه الإثباتية.

لكن المحقق النائيني قدس‌سره ذهب إلى استحالة الالتزام بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ، لأنه يستلزم محاذير ثلاثة. وبيان ذلك ـ كما جاء في أجود التقريرات ـ : ان الإيصال المعتبر ليس من الصفات الخارجية التي تتنوع باعتبارها المقدمة وتنقسم إلى قسمين ، نظير الكفر والإيمان في الإنسان ، وانما هو من الصفات الانتزاعية المنتزعة عن الإتيان بذي المقدمة ، فإذا أخذ هذا القيد الانتزاعي المتوقف تحققه على الإتيان بذي المقدمة في الواجب المقدمي لزم :

أولا : ان يكون الواجب النفسيّ مقدمة للمقدمة لتوقف تحقق الإيصال على تحققه ، وهو باطل لاستلزامه الدور ، لأن الواجب النفسيّ يتوقف على تحقق المقدمة ، فإذا كان مقدمة لها كان تحققها منوطا بتحققه فيلزم الدور.

وثانيا : ان يكون الواجب النفسيّ واجبا بوجوب ناشئ من المقدمة ، لأنه يكون مقدمة لما هو واجب كما تقرر في الوجه الأول ، وهو باطل أيضا لمحذور الدور ، فان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذيها ، فهو معلول لوجوبه ، فإذا كان وجوب ذيها معلولا لوجوبها لزم الدور.

٢٩٥

وثالثا : ان تكون ذات المقدمة مقدمة للمقدمة وهو يستلزم الخلف أو التسلسل.

اما لزوم كونه مقدمة للمقدمة الواجبة : فلان المقدمة الواجبة على الفرض هي الذات بقيد الإيصال ، فكل من الذات والتقيد بالإيصال جزء المقدمة ، وجزء الشيء مقدمة له لتوقفه عليه ، فذات المقدمة مقدمة للمقدمة الموصلة.

واما لزوم الخلف أو التسلسل : فلأنه إذا كانت ذات المقدمة مقدمة للمقدمة وللواجب الغيري ، ترشح عليها الوجوب قهرا. وحينئذ نقول : ان الوجوب الآخر اما ان يتعلق بذات المقدمة من دون اعتبار الإيصال ، فهو خلف المدعى من اعتبار قيد الإيصال في الواجب الغيري وكرّ على ما فرّ منه ، واما ان يتعلق بالمقدمة الموصلة ، فهو يستلزم ان تكون ذات المقدمة مقدمة للمقدمة الموصلة إلى المقدمة الموصلة ، فيترشح عليها الوجوب الغيري ، وحينئذ اما ان يتعلق بها بذاتها فقط وهو خلف. أو بقيد الإيصال فيلزم ان تكون ذاتها مقدمة وهكذا يستمر هذا الكلام في الذات إلى غير نهاية.

والإنصاف ان هذه المحاذير الثلاثة غير تامة :

اما الأول : فلان قيد الإيصال لم يؤخذ مقوما للمقدمية ، وانما أخذ مقوما للواجب الغيري ، اما المقدمة فهي ذات العمل ، وعليه فلا دور ، لأن ما يتوقف على الواجب النفسيّ هو الواجب الغيري بما هو كذلك لا المقدمة ، وما يتوقف عليه الواجب النفسيّ هو ذات العمل بلا حيثية وجوبه الغيري.

واما الثاني : فلان الوجوب المترشح من قبل الواجب الغيري على الواجب النفسيّ غير الوجوب الّذي يترشح منه الوجوب الغيري ، فان ما يترشح منه الوجوب الغيري هو الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة. وأما ما يترشح من الواجب الغيري فهو وجوب غيري ، وهو غير الوجوب النفسيّ فلا دور. غاية الأمر أنه يلزم أن يترشح من قبل الوجوب النفسيّ وجوب غيري

٢٩٦

يتعلق بما تعلق به ، وهو لا محذور فيه.

واما الثالث : فلان ذات المقدمة وان كانت مقدمة للمقدمة بقيد الإيصال ، باعتبار أنها جزؤها ، ولكنها مقدمة داخلية ، وقد تقدم أنها غير قابلة لتعلق الوجوب الغيري بها حتى بنحو التأكد ، فلا يتأتى فيها الكلام السابق لعدم موضوعه.

هذا مضافا إلى أنّه يمكن أن يدّعى : كون الواجب الغيري بنحو يلازم الإيصال وترتب الواجب ، لا بأن يؤخذ الإيصال قيدا في الواجب ، ومعه ترتفع جميع هذه المحاذير ، لكونها مبتنية على أخذ قصد الإيصال بعنوانه في الواجب الغيري. فلاحظ.

والمتحصل : هو عدم تمامية ما أفاده المحقق النائيني من المحاذير.

وتحقيق الكلام : ان البحث يقع في مقامين :

الأول : في بيان معقولية القول بالمقدمة الموصلة وإمكانه.

الثاني : ـ بعد الفراغ عن معقوليته ـ في بيان الدليل عليه إثباتا ، فإن مجرد المعقولية لا يكفي في الالتزام به بعد فرض معقولية القول الآخر. ومجرد دعوى اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة لا يغني ولا يسمن من جوع.

اما المقام الأول ، فتحقيقه : انّه لا بدّ من ذكر بعض احتمالات القول بالمقدمة الموصلة. وبيان ما يدور حولها من كلام. فنقول : انه قد استقرب كون الواجب الغيري متعلقا بخصوص العلّة التامّة التي يترتب عليها الواجب قهرا ، فلا بدّ من النّظر إلى ما ذكر من المحاذير المتقدمة ، وبيان التفصّي عنها ان أمكن. وهي سبعة ، أربعة ذكرها صاحب الكفاية (١) ، وثلاثة ذكرها المحقق النائيني (٢).

فاما ما ذكره صاحب الكفاية.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ٢٣٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٩٧

فالأوّل منها : لا يرتبط بالمرّة مع القول المزبور ، وذلك لأن حاصله هو : ان الغرض من الوجوب لو كان هو الترتب ، فهو ممّا لا يتحقق بمجموع المقدمات فضلا عن كلّ واحد منها.

ومن الواضح ان موضوع هذا الإيراد هو دعوى تعلق الوجوب بكلّ مقدمة ، فتنفى بان كلّ مقدّمة ممّا لا يترتب عليها الغرض ، وهذا أجنبي عن القول المزبور ، فان دعواه تعلق الوجوب بالعلّة التامّة لا بكلّ مقدّمة ، فالإيراد أجنبي موضوعا عن هذا القول.

وامّا الثاني : فحاصله دعوى اختصاص الوجوب الغيري بالأسباب التوليدية ـ لو قيل بالمقدّمة الموصلة ـ ، ولا يتعلق بالعلّة التامّة في غير المسببات التوليدية ، لأنّ أحد اجزائها هو الإرادة ، وهي غير قابلة لتعلق التكليف بها.

وهذا يرتبط بالقول المزبور ، لأنّه قول بتعلق الوجوب بالعلّة التامّة ، وصاحب الكفاية بوجهه الثاني ينفيه ، ويدّعي اختصاصه بالسبب التوليدي ، ولكنك عرفت الخدشة فيه :

أوّلا : بان الإرادة قابلة لتعلق التكليف بها ، لإمكان كونها إرادية ، والممتنع برهانا هو لزوم كونها إرادية.

وثانيا : بان الوجوب الغيري قابل لتعلقه بالإرادة وان كانت غير اختيارية ، لأنّه ليس عبارة عن بعث وانّما هو عبارة عن شوق نفسي. ومن الواضح إمكان تعلق الشوق النفسيّ بالأمر غير الاختياري.

ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم اختيارية الإرادة مطلقا ، وعدم صحة تعلق الوجوب الغيري بها. فهذا لا يمنع من القول بالمقدّمة الموصلة بهذا المعنى ، وذلك بان يلتزم بان متعلق الوجوب هو سائر المقدمات غير الإرادة ، نظير ما يقال في قصد القربة. فان وجود المانع من تعلق التكليف بقصد القربة لا يمنع من تعلق التكليف بغيرها ممّا هو دخيل في الغرض. فالوجوب الغيري متعلق بغير الإرادة

٢٩٨

من المقدمات ، وعدم تعلقه بالإرادة لمانع عدم القدرة وان كانت دخيلة في الغرض.

وهذا وان لم يكن قولا بتعلق الوجوب بالعلّة التامّة لكنه حكما مثله فتدبر.

وامّا الثالث والرابع : فحاصلهما هو سقوط الوجوب الغيري عند الإتيان بالمقدّمة الكاشف عن تعلقه بها من دون اعتبار الإيصال. ولا يخفى أنّه ينافى الالتزام بوجوب خصوص العلّة التامّة.

لكنك عرفت الإشكال فيه.

وبيانه : أنّه كما أنّه إذا أتى بجزء المأمور به الارتباطي يسقط الأمر الضمني المتعلق بالجزء ، ولكنّه مراعى بالإتيان بسائر الاجزاء ، لأنّ سقوطه من دون مراعاة ينافي الارتباطية والأمر الضمني ، والسّر فيه ان الأمر الضمني له جانبان ، جانب الداعوية وجانب الامتثال وسقوطه بالموافقة ، فعند الإتيان بالجزء تنتفي داعوية الأمر الضمني ، ولكنه لا يسقط بمجرد ذلك ، بل امتثاله يتوقف على الإتيان بباقي الاجزاء المرتبطة به ، كذلك ما نحن فيه ، فانّه إذا فرض وجوب العلّة التامّة كانت كلّ مقدّمة واجبة بالوجوب الضمني لأنّها جزء الواجب ، فعند الإتيان بها ترتفع داعوية الأمر الضمني ، ولكنّه لا يسقط إلاّ بالإتيان بسائر اجزاء العلّة التامّة الملازم لترتب الواجب.

وامّا ما ذكره المحقق النائيني ، فقد عرفت الإشكال في كلّ واحد بنفسه. فلا ترد على هذا القول ، كما عرفت أنّها جميعها تبتني على أخذ قيد الإيصال بعنوانه في الواجب الغيري ، وهذا القول لا يتكفل ذلك ، فان واقعه تعلق الوجوب بذات العلّة التامّة ، من دون أخذ قيد الإيصال ، نعم هي ملازمة للإيصال لكنّه لا يترتب على ذلك آثاره ومحاذيره. فلاحظ.

وإذا ظهر انّ القول بالمقدّمة الموصلة بهذا المعنى معقول في نفسه ، فيقع الكلام في ..

٢٩٩

المقام الثاني ـ أعني مرحلة الإثبات ـ :

وقد نسب صاحب الفصول الاستدلال على دعواه ، وهي اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، بأنه الإشكال في صحة منع المولى عن جميع مقدّمات الواجب غير التي يترتب عليها الواجب ، فيصرح بتحريم المقدّمة غير الموصلة ، فانّه يكشف عن عدم تعلق الوجوب بها ، وإلاّ لامتنع عنها ، فانّه من باب اجتماع المتضادين (١).

وأورد عليه صاحب الكفاية بوجهين :

الأول : وهو يتكفل منع دلالته على المدعى. وذلك ببيان : انّ الملازمة المدعاة لا تكون علّة تامة لتعلق الوجوب الغيري بالمقدّمة ، وانّما هي مؤثرة بنحو الاقتضاء ، وفعلية تأثيرها تتوقف على عدم وجود المانع ، فإذا كان هناك مانع من تعلق الوجوب الغيري كتعلق الحرمة بالمقدّمة ، فلا يثبت الوجوب لها ، فمانعية المنع لا تكشف عن اختصاص الوجوب الغيري بالموصلة ، إذ تعلق الوجوب بغيرها يمكن أن يكون لأجل وجود المانع لا لعدم المقتضي.

الثاني : وهو يتكفل نفي الاستدلال وبيان عدم إمكان المنع عن المقدّمة غير الموصلة لزوم المحذور من جهتين :

الأولى : انّه يلزم أن لا تتحقق مخالفة للواجب في تركه ، وذلك لأنّ وجوب الواجب معلق على القدرة عليه ، والقدرة عليه بالقدرة على مقدماته. ومن الواضح أنّه كما تعتبر القدرة على المقدمات عقلا تعتبر القدرة عليها شرعا ، بأنّ لا تكون ممنوعا عنها ومحرمة شرعا ، وإلاّ كانت غير مقدورة ، فإذا فرض المنع عن المقدّمة غير الموصلة واختصاص الجواز بالموصلة ، كان تحقق القدرة على المقدّمة شرعا منوطا بإتيان الواجب ، فمع عدم الإتيان به كانت المقدّمة محرمة لأنّها غير موصلة ،

__________________

(١) الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية ـ ٨٧ ـ الطبعة الأولى.

٣٠٠