منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

ولتحقيق الحال في الطريق الثاني ـ إذ مرّ الكلام في الطريق الأول ـ لا بد ان نقول : انه مما لا إشكال فيه ان هناك فرقا بنظر العرف والعقلاء بين الإتيان بالمقدمة بقصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ ، والإتيان بها لا بهذا القصد ، بل بقصد دنيوي في حصول المثوبة والقرب في الأول دون الثاني. فانه إذا وجب الوصول إلى الكوفة ، وكان المشي مقدمة لتحققه ، فان إتيانه بالمشي بداعي الوصول إلى الكوفة الواجب يختلف أثره في مقام الإطاعة والقرب عما لو مشى لا بقصد الوصول ، بل بقصد الترويح عن النّفس أو ترويض الجسد.

فان مثل هذا لا يقبل الخلاف ، إلا ان تحقق القرب والثواب عند الإتيان بالمقدمة بداعي التوصل بها إلى الواجب النفسيّ يمكن أن يرجع سرّه إلى أحد وجوه ثلاثة :

الأول : أنه شروع في إطاعة الأمر النفسيّ المتعلق بذي المقدمة ، بلحاظ توقفه على المقدمة ، فالإتيان بالمقدمة شروع في إطاعة الأمر النفسيّ ، فيستحق الثواب على المقدمة من باب أنه إطاعة للأمر النفسيّ لا على ذات الإتيان بالمقدمة.

الثاني : ان الثواب على نفس العمل ، إلا أنه من جهة كشفه عن تحقق صفة حسنة لدى العبد ، وهي صفة الانقياد ، وقد تقدم ان حسن الانقياد حسن فاعلي لا فعلي ، فمدح المنقاد لا يكون على فعله بل على الصفة الحسنة التي يكشف عنها الفعل ، إذ قد يكون الفعل في نفسه مبغوضا ، كما لو قتل ابن سيده بتخيل انه عدوّه. وبالجملة : التقرب الحاصل في صورة الانقياد انما يتحقق بصفة الانقياد لا بالفعل المنقاد به.

الثالث : ان الثواب على ذات العمل لمقربيته بنفسه.

ولا يخفى ان العبادية المعتبرة في ما نحن فيه هي الإتيان بالفعل بنحو مقرب. وبتعبير أوضح : هو التقرب بالفعل بحيث يكون نفس الفعل سببا للقرب

٢٦١

لكونه محبوبا للمولى.

وعليه ، فقصد التوصل بالمقدمة إنما يجدي لو ثبت ان حكم العقلاء بترتب الثواب عليه ـ الّذي لا كلام فيه ـ يرجع سرّه إلى الوجه الثالث.

واما إذا كان مرجعه إلى أحد الوجهين الأولين ، فلا ينفع في العبادية المعتبرة ، إذ لا تقرب بنفس العمل على الوجهين الأولين كما لا يخفى.

ومن الواضح ان الجزم بكون مرجعه هو الوجه الثالث في غاية الإشكال ـ ان لم نقل في غاية البعد ـ ، إذ الاحتمال الأول لا دافع له ، ولو فرض تنزلا اندفاعه ، فلا نجد في أنفسنا دافعا للاحتمال الثاني ، فانه قريب إن لم نقل أنه متعين.

ويؤيد نفي كون قصد التوصل موجبا للعبادية : ان أغلب المقدمات في كثير من الموارد يؤتى بها بقصد التوصل ، إذ لا يكون غرض للعبد فيها غير الوصول بها إلى الواجب النفسيّ ، فلازم الوجه المذكور كون جميع هذه المقدمات تعبدية ، وهذا مما لا يلتزم به أحد.

كما يؤيده : انه لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل وجاء بذيها بداع غير قربي كالرياء ، لزم ان تكون المقدمة بما أنها مقدمة عبادية دون ذيها ، وهو مستبعد جدا.

ثم أنه قد يورد على قصد التوصل بالطهارات الثلاث وتحقق العبادية به بلزوم الدّور بتقريب : ان التوصل انما يكون بما هو مقدمة ، والمفروض ان المقدمة ما هو عبادة لا ذات العمل ، فإذا كانت العبادية ناشئة عن قصد التوصل يلزم الدور ، لأن قصد التوصل يتوقف على ان يكون العمل عبادة بنفسه ، والعبادية تتوقف على قصد التوصل ، وهو الدور.

والجواب عن هذا الإيراد : ان المراد من التوصل المقصود بالعمل ليس هو التوصل الفعلي المباشر ، بمعنى ترتب ذات الواجب على المقدمة مباشرة وفعلا. بل المراد به التوصل إلى الواجب من جهة هذه المقدمة فقط ، باعتبار انها

٢٦٢

تقع في طريق الوصول إليه فيؤتى بها بقصد التوصل من جهتها ولو لم يتحقق التوصل الفعلي ، لإمكان توقف الواجب على مقدمات أخرى. فمثلا لو وجب الكون في الكوفة ، فكل خطوة في المشي مقدمة يمكن قصد التوصل بها إلى الواجب ، ومن الواضح انه لا يتحقق التوصل الفعلي إلا بآخر خطوة ، فان ما قبلها من الخطوات من قبيل المعدّ.

وبالجملة : المراد هو إيجاد القدرة على الواجب من جهة هذه المقدمة ورفع المانع من قبلها ، بحيث لو انضمت سائر المقدمات تحقق الواجب فعلا ، فالمراد من التوصل التوصل التقديري.

إذا اتضح هذا فنقول : ان المقدمة وان كان العمل العبادي إلا ان ذات العمل أيضا مقدمة باعتبار انه جزء المقدمة. وعليه فيمكن ان يقصد التوصل بذات العمل بلحاظ إيجاد القدرة على الواجب من جهته فقط ، لا القدرة الفعلية ـ كي يقال بتوقفها على العبادية فيمتنع حينئذ قصد التوصل ـ وتحقق العبادية بذلك فيوجد الجزء الآخر من المقدمة ، فقصد التوصل لا يتوقف على العبادية فتحقق العبادية به لا يستلزم الدور.

فالعمدة في الإيراد على الوجه المزبور ما ذكرناه.

والّذي ينتج من مجموع ما تقدم : ان جميع الوجوه المتقدمة غير خالية عن الإشكال سوى الوجه الّذي ذكره صاحب الكفاية الّذي يرجع إلى استحباب الطهارات ذاتا وفي أنفسها. ومن الواضح انه يستطيع بنفس هذا الوجه إثبات استحباب الطهارات الثلاث النفسيّ من دون حاجة إلى البحث عن الدليل الخاصّ على ذلك ، وذلك لأن إذا قام الإجماع على لزوم الإتيان بها على نحو عبادي ـ كما هو المفروض ـ ولم يكن وجه مصحح لعباديتها سوى الالتزام بالأمر النفسيّ كشف ذلك عن تعلق الأمر النفسيّ بها ، فانه ملازم لتعلق الأمر الوجوبيّ بالواجب المقيد بها ، لعدم التمكن منه بدون تعلق الأمر النفسيّ بها ، كي يستطاع

٢٦٣

الإتيان بها بنحو عبادي فيحصل التعبد المعتبر في الواجب.

وأنت خبير في ان هذا إنما يجدي في إثبات تعلق الأمر النفسيّ بها بعد دخول وقت الواجب للملازمة بين وجوب الواجب وبين استحبابها بالتقريب الّذي عرفته ، اما تعلق الأمر النفسيّ بها قبل دخول الوقت وتعلق الأمر بالواجب النفسيّ فلا يتكفل هذا الوجه إثباته ، فانه غاية ما يتكفل توقف عباديتها على الأمر النفسيّ ، وهذا انما يثبت الأمر النفسيّ في صورة تعلق الأمر الغيري بها ، لتوقف ذي المقدمة على الإتيان بها المتوقف على استحبابها فيكشف عن تعلق الأمر النفسيّ بها ، دون ما لم يتعلق الأمر الغيري بها ، لأنه لا يقتضي لزوم الاستحباب ، بل غاية ما يقتضي انه عند وجوبها والأمر بها لا بد وان يؤتى بها بنحو عبادي المتوقف على الاستحباب.

ولأجل ذلك وقع البحث من الأعلام في إثبات استحباب الطهارات النفسيّ في كل آن من الدليل الخارجي غير هذا الوجه.

والثمرة : انه لو ثبت استحبابها النفسيّ كان الإتيان بها قبل الوقت بداعي القربة ممكنا ، بخلاف الوجه الأول ، فانه انما يتكفل إثبات استحبابها النفسيّ بعد الوقت بالملازمة المذكورة.

وهذا البحث وان كان بحثا فقهيا لا يرتبط بالأصول ، إلا أنه يحسن التعرض إليه لمزيد الفائدة فيه وعدم تنقيحه كما ينبغي.

ولا بد قبل التعرض إلى هذا المطلب من التعرض إلى بحث آخر لم ينقح كما ينبغي ..

وهو معرفة كون الشك في اعتبار شيء في الطهارات الثلاث من جزء أو شرط مجرى للبراءة أو الاشتغال ، ويتفرع على ذلك تحقيق كون الطهارة امرا مسببا عن هذه الأفعال أو أنها عنوان لها.

وتحقيق ذلك : انه قد التزم بان الشك المذكور يكون مجرى للاشتغال لا البراءة

٢٦٤

وذلك : لأن الأمر تعلق بالطهارة وهي امر بسيط ، وهذه الأفعال محققات ومحصلات للطهارة ، فيكون الشك في اعتبار جزء فيها شكا في المحصل ، والمقرر انه مجرى للاشتغال ، لأنه شك في تحقق الامتثال لا في التكليف.

وقد استشكل في هذا الوجه : بان الطهارة ليست امرا مغايرا لهذه الأفعال ، فانها عنوان لهذه الأفعال ، فوجودها عين وجود الأفعال. وعليه فيكون الشك في الحقيقة شكا في التكليف الزائد ، لأن الأمر متعلق بهذه الأفعال بعنوان كونها طهارة.

وهذا الوجه مما يشعر به كلام الفقيه الهمداني وحققه المحقق الأصفهاني وتابعة على ذلك السيد الخوئي (١).

ولتوضيحه نقول : ان الأمور الاعتبارية التي تتحقق بأمر من الأمور ..

تارة : تكون نسبتها إلى ما يحققها نسبة المسبّب إلى المسبّب ، فيكون لها وجود منحاز عن وجود سببها في عالم الاعتبار ، وتكون مغايرة له نظير الملكية بالنسبة إلى العقد ، فان الملكية غير العقد.

وأخرى : تكون نسبتها إلى المحقق نسبة العنوان إلى المعنون ، بحيث ينطبق الأمر الاعتباري على نفس محققه فلا تكون بينهما مغايرة وانفصال ، نظير التعظيم الحاصل بالقيام ، فان التعظيم من الأمور الاعتبارية التي تختلف باختلاف الأنظار. ومن الواضح انه ينطبق على نفس القيام ، فيقال للقيام انه تعظيم فليس التعظيم غير القيام وجودا.

إذا عرفت ذلك نقول : ان من يذهب إلى إجراء الاشتغال في الطهارات الثلاث ينظر إلى ان نسبة الأفعال إلى الطهارة نسبة السبب إلى المسبب ، نظير العقد والملكية الحاصلة به ، ومن يذهب إلى إجراء البراءة ينظر إلى ان نسبة

__________________

(١) الغروي الميرزا علي. التنقيح في شرح العروة الوثقى ٣ ـ ٥١٥ ـ ٥١٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٥

الأفعال إلى الطهارة نسبة المعنون إلى عنوانه نظير القيام والتعظيم الحاصل به ، فلا بد ..

أولا : من معرفة ما هو الحق من كون نسبة الطهارة إلى الأفعال نسبة المسبب إلى السبب أو نسبة العنوان إلى المعنون ، وان الاحتمال الثاني هل يمكن تعلقه أو لا؟.

وثانيا : معرفة انه إذا التزم بكون النسبة بينهما نسبة العنوان إلى المعنون ، فهل يجدي ذلك في إجراء أصالة البراءة عند الشك كما ادعي أو لا يجدي؟ ، بل لا يختلف الحال في لزوم إجراء قاعدة الاشتغال على كلا التقديرين؟.

والّذي نراه هو عدم معقولية التقدير الثاني ـ أعني كون النسبة بينهما نسبة العنوان إلى المعنون ـ ، وعلى تقدير معقوليته فهو لا ينفع في إجراء أصالة البراءة.

اما عدم معقوليته : فلان كون النسبة نسبة العنوان إلى المعنون ترجع إلى اعتبار العنوان الاعتباري للفعل الخارجي عند تحققه ، يعني ان الفعل عند وجوده يعتبر كونه كذا كالقيام ، فانه عند وجوده يعتبر انه تعظيم ، فالتعظيم عنوان اعتباري للقيام الموجود. وبعبارة أخرى : العنوان يجعل ويعتبر بإزاء المعنون ، فلا بد ان يفرض المعنون موجودا كي يعنون بالعنوان اعتبارا. ومن الواضح انه ليس للوضوء وأخويه وجود استمراري كي يعتبر كونه طهارة مستمرا ، بل وجوده وقتي منقطع ، مع ان الطهارة أمر استمراري. فعليه نقول : ان اعتبار الطهارة في مرحلة البقاء اما ان يكون مع اعتبار وجود الأفعال ، فيعتبر كونها طهارة بعد ذلك. أو بدون ذلك ، بل لا يكون سوى اعتبار الطهارة.

والثاني غير معقول ، إذ لازمه اعتبار العنوان بدون معنونه ، إذ المفروض انه لا وجود للافعال بقاء لا حقيقة ولا اعتبارا ، فتكون الطهارة عنوانا لأمر معدوم وهو غير معقول ، إذ لا وجود للعنوان بدون المعنون لتقومه به.

٢٦٦

والأول يستلزم ان يكون هناك اعتباران : أحدهما : اعتبار الأفعال وكون الإنسان غاسلا ماسحا. والآخر : اعتبار كون هذه الأفعال الاعتبارية طهارة.

من الواضح انه لو استطاع أحد ان يتفوه بهذا ، فهو لغو محض ، لأنه يتمكن من اعتبار الطهارة بنفسها من دون ملزم للاعتبار الثاني ، لكن لا على وجه تكون النسبة نسبة العنوان إلى المعنون ، بل نسبة المسبب إلى السبب ، فاعتبار وجود الوضوء بقاء لا أثر فيه كما هو واضح.

وبالجملة : الالتزام بكون نسبة الطهارة إلى الأفعال نسبة العنوان إلى المعنون مما لا يساعد عليه التأمل.

واما عدم تأثير الالتزام به في إجراء البراءة : فلان الأمر لم يتعلق بنفس الأفعال ، بل بالعنوان البسيط الاعتباري المنطبق عليها ، والأفعال تكون محققة لذلك العنوان البسيط المعلوم ، فالشك فيها شك في محصل المأمور به ، إذ يشك في تحقق الطهارة بدون الجزء المشكوك ، ولا يكون الشك شكا في التكليف كما تخيل. وعليه فقاعدة الاشتغال هي المحكمة فيما نحن فيه.

والمتحصل : انه لا بد من إجراء قاعدة الاشتغال سواء التزم بان النسبة بين الطهارة والأفعال نسبة السبب والمسبب أو نسبة العنوان والمعنون.

ثم ان هاهنا مذهب ثالث ، وهو ان الأمر لم يتعلق بالطهارة حتى يقع الكلام المتقدم ، بل هو متعلق بنفس الأفعال من الغسل والمسح. وعليه فمع الشك في اعتبار جزء أو شرط زائد يكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فانه شك في تكليف زائد على المتيقن ، والمقرر ان ذلك مجرى أصل البراءة.

ولا يخفى ان هذا أيضا لا ينفع في إجراء البراءة لأنه لو سلم فما يثبت به هو تعلق الأمر النفسيّ الندبي بالافعال لا الأمر النفسيّ الوجوبيّ ، فانه لا يحتمل ذلك إلا في الغسل وهو احتمال ضعيف لا يلتزم به.

والّذي بنينا عليه في بحث البراءة هو عدم جريان البراءة في الأوامر

٢٦٧

الاستحبابية ، فلا فائدة في إثبات تعلق الأمر بنفس الأفعال من هذه الجهة.

نعم هناك طريق آخر لإجراء البراءة ـ على هذا الالتزام ـ وهو إجراؤها في تقيد الواجب النفسيّ بها. بيان ذلك : انه إذ فرض أخذ نفس هذه الأفعال شرطا وكان تقيد الواجب بها معتبرا والتزم بجريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر ، سواء كان المشكوك جزءا أو شرطا أمكن جريان البراءة عند اعتبار شيء في الوضوء زائد على الأجزاء والشرائط المعلومة ، وذلك فانه إذا التزم بجريان البراءة عند الشك في أصل الشرطية ، فلا بد من إجرائها مع الشك في اعتبار خصوصية في الشرط المعلوم ، لأن التقيد بما هو معلوم الجزئية والشرطية للشرط معلوم الوجوب ، والتقيد بالأكثر الزائد غير معلوم ، فتجري فيه أصالة البراءة لرجوع الشك في الحقيقة إلى الشك في الشرطية الزائدة وهو مجرى البراءة. ففيما نحن فيه حيث يعلم بوجوب التقيد بافعال الوضوء المعلومة الدخل فيه ، ولا يعلم بوجوب التقيد بالزائد المشكوك دخله كان ذلك مجرى البراءة.

ولا يخفى ان هذا الوجه انما ينفع في إجراء البراءة لو فرض ان الشرط نفس الأفعال لا الطهارة التي تتعنون بها الأفعال أو تكون مسببة عنها. واما إذا كان الشرط الّذي يعتبر التقيد به هو الطهارة ، فلا مجال لإجراء البراءة مع الشك في دخل شيء في الوضوء أو أحد أخويه ، لأن الشرط أمر بسيط ، وهو معلوم الشرطية ، والشك لا يرجع إلى دخالة شيء في نفس الشرط كي يكون الشك في الحقيقة شكا في اعتبار التقيد به ، بل يرجع إلى دخالة شيء فيما هو محقق ومحصل لهذا الشرط المعلوم ، ومعه لا تجري البراءة ، لأن الشك لا يكون شكا في تكليف زائد على ما هو المعلوم. فلاحظ.

وحيث انحصر طريق جريان البراءة عند الشك في دخالة شيء في هذه الأفعال الخاصة في الالتزام بكونها بذاتها شرطا للواجب النفسيّ ، وليس الشرط هو الطهارة ، فلا بد من معرفة الحق في هذا الأمر ..

٢٦٨

وهو : وان كان ظاهر بعض الأدلة حيث ورد فيها الأمر بنفس الوضوء لأجل الصلاة كالآية الشريفة وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... ) الآية (١) ، وكبعض الأخبار الواردة عن أهل البيت عليهم‌السلام (٢) ، إلاّ أنه يتعين رفع اليد عن ظاهرها والالتزام بكون الشرط هو الطهارة لمجموع وجوه :

الأول : ورود التعبير عن الحدث بنقض الوضوء ، ومن الواضح ان النقض لا يتلاءم الا مع الاستمرار ، والوضوء بذاته غير قابل للاستمرار ، فانه افعال خاصة تتحقق وتتصرم لا استمرار فيه ، فلا يناسبه اسناد النقض إليه حقيقة ، فلا بد ان يكون اسناد النقض إليه مسامحيا بلحاظ انتقاض أثره الاستمراري بالحدث وهو الطهارة ، فانها قابلة للنقض لاستمراريتها.

ودعوى : انه لا ينحصر أثر الوضوء المستمر القابل للنقض بالطهارة ، بل له أثر آخر هو جواز الدخول في الصلاة واستباحة الصلاة به ، وهو حكم اعتباري مستمر يمكن ان يكون النقض بلحاظه ، فلا دلالة للتعبير بالنقض على كون الشرط هو الطهارة.

تندفع : بأنها خلاف الظاهر ، فان الظاهر ان التعبير بالنقض لبيان عدم تحقق الشرط الّذي يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة ، فالملحوظ في النقض مقام تحقق الشرط ليترتب عليه عدم جواز الدخول في العمل المشروط به لا نفس الحكم المترتب على تحقق الشرط ويشهد له ما جاء في بعض النصوص من بيان عدم جواز الدخول في الصلاة مرتبا على انتقاض الوضوء. فلاحظ.

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٦.

(٢) وسائل الشيعة ١ ـ ٢٥٦. باب : ١ من أبواب الوضوء ، حديث : ٤ و ٧.

وسائل الشيعة ١ ـ ٢٥٦. باب : ٢ من أبواب الوضوء ، حديث ١ و ٢ و ٤.

وسائل الشيعة ١ ـ ٢٥٦. باب : ٣ من أبواب الوضوء ، حديث ٢ و ٣.

٢٦٩

الثاني : التعبير عن الوضوء بالطهور الظاهر في كون جهة شرطيته هو ترتب الطهارة عليه. فتأمل.

الثالث : ما ورد من تعليل الأمر بالوضوء للصلاة بأنه مما يترتب عليه الطهارة.

الرابع : ما ورد من ان ثلث الصلاة الطهور ، فانه ظاهر في ان الشرط هو الوضوء ، ولكن لا بذاته ، بل بما انه مطهر ، فجهة ترتب الطهارة عليه ملحوظة في شرطيته.

الخامس : تسالم الفقهاء في تعبيراتهم عن شرط الصلاة بالطهارة ، فانه مؤيد لما استظهرناه من شرطية الطهارة.

وبالجملة : من مجموع هذه الوجوه ـ وان كان بعضها يقبل المناقشة ـ يحصل الجزم بان مفاد الأدلة شرطية الطهارة لا شرطية الوضوء بذاته.

وعلى هذا يمتنع إجراء أصالة البراءة في مورد الشك في اعتبار شيء في الوضوء.

وبعد هذا يقع الكلام في أصل المبحث وهو : معرفة تعلق الأمر النفسيّ الندبي بالوضوء وعدمه. فقد عرفت ان التفصي عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث ينحصر في الالتزام بثبوت الأمر النفسيّ بها ، ولذا أورد على صاحب الكفاية بعدم تمامية ما ذكره بالنسبة إلى التيمم ، لعدم استحبابه النفسيّ. وقد عرفت الجواب عن هذا الإيراد المأخوذ من كلام الشيخ رحمه‌الله بان استحباب التيمم يستكشف من تعلق الأمر بالصلاة بضميمة الإجماع على توقف حصول الشرط على العبادية المتوقفة على تعلق الأمر النفسيّ بالعمل.

إلاّ ان المحقق العراقي حاول الإجابة على الإيراد المزبور ببيان : وجود الدليل الإثباتي على استحباب التيمم وهو قوله عليه‌السلام : « التراب

٢٧٠

أحد الطهورين » (١) ، بضميمة ما دل على استحباب الطهر في نفسه ، فانه يقتضي استحباب التيمم (٢). وتابعة على ذلك السيد الخوئي (٣).

والإنصاف عدم تمامية ما ذكراه من الجواب لوجهين :

الأول : بان الأمر الّذي يبحث عن ثبوته وتعلقه بالتيمم وغيره غير الأمر بالطهارة ، وذلك لأن الأمر المبحوث عنه أمر تعبدي ، بمعنى ان الغرض منه لا يتحقق إلا بإتيان متعلقه بقصد القربة وبنحو العبادية ، فتصحح عبادية هذه الأفعال به. وأمر الطهارة أمر توصلي لا تعبدي ، فان الغرض منه يتحقق بمجرد تحقق متعلقه ولو لم يأت به بقصد القربة ، فان الطهارة إذا تحققت يمتثل الأمر المتعلق به ولو لم يقصد بها القربة. نعم نفس تحقق الطهارة لا يكون إلا بقصد القربة بالافعال المحققة لها ، وهذا أجنبي عن كون الأمر المتعلق بها عباديا ، فان الأمر العبادي ما توقف امتثاله على الإتيان بمتعلقه بقصد القربة لا ما توقف تحقق متعلقه على قصد القربة.

وعليه ، فإثبات تعلق الأمر الثابت لعموم الطهارة بالتيمم لأنه أحد افرادها ، لا ينفع فيما نحن بصدده وإثباته من تعلق الأمر التعبدي بالتيمم لا الأمر التوصلي ، وقد نبه على هذا المعنى ـ أعني توصلية الأمر المتعلق بالطهارة ـ الشيخ رحمه‌الله في طهارته ولذلك يستغرب وقوع مثل هذا الأمر من هذين العلمين ، وبالأخص المحقق العراقي لمزاولته كتاب الطهارة.

الثاني : ان مفاد قوله : « التراب أحد الطهورين » كون التيمم محققا للطهارة ، فاستحباب الطهارة لا يجدي في إثبات استحباب ذات الأفعال ، بل

__________________

(١) عن أبي جعفر عليه‌السلام : « فان التيمم أحد الطهورين ».

وسائل الشيعة ٢ ـ ٩٩١ باب : ٢١ من أبواب التيمم حديث : ١.

(٢) الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار ١ ـ ٣٨٠ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٢٩٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٧١

غاية ما يقتضي تعلق الأمر الغيري بها كاقتضاء الأمر بالصلاة. والّذي نحن بصدده إثبات استحباب ذات الأفعال النفسيّ كي يصحح اعتبار العبادية فيها.

وبالجملة : الطهارة كسائر الغايات المترتبة على العمل لا يقتضي الأمر بها سوى ترشح الأمر الغيري على العمل ، وهو لا يجدي في العبادية ، والكلام في ثبوت الأمر النفسيّ بذات العمل الّذي يتوقف على قصد امتثاله تحقق الطهارة.

والمتحصل : ان ما ذكر لا ينهض دليلا على استحباب التيمم النفسيّ. ولا دليل عليه غير هذا.

واما الوضوء ، فقد ادعي استحبابه النفسيّ باستظهار ذلك من الأدلة ، وعمدتها ما ورد من ان : « الوضوء على الوضوء نور على نور » (١).

وجهة الاستدلال به واضحة ، فان التعبير عن الوضوء بأنه نور يكشف عن كونه محبوبا في ذاته.

ولكن يشكل الاستدلال بها لوجهين :

الأول : ان النص لم يرد في مقام تشريع الوضوء وبيان تعلق الأمر به ، وانما هو وارد لدفع توهم أنه في فرض مشروعية الوضوء يمنع تعدد الوضوء وتجديده. ومن الواضح ان توهم امتناع الوضوء التجديدي انما يتلاءم مع كون المشروع هو الطهارة ، والوضوء مقدمة إليه لا ذات الوضوء ، وذلك لأنه لو كان ذات الوضوء مأمورا به فلا مجال لتوهم امتناع التجديد ، لأنه فرد آخر من المأمور به غير الفرد الأول ، اما لو كان المأمور به هو الطهارة فللتوهم مجال ، لاحتمال ان تكون الطهارة كالنظافة الخارجية لا تقبل التجديد ، إذ النظيف لا يقبل النظافة ثانيا. فدفع بالنص المذكور ببيان : ان الطهارة ليست كالنظافة ، بل كالنور القابل للشدة ، فيمكن ان يتأكد بنور آخر ، فالتعبير بان الوضوء نور يلحظ فيه الطهارة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ ـ ٢٦٥ باب : ٨ من أبواب الوضوء ، حديث : ٨.

٢٧٢

وما هو نتيجة الوضوء ، فلا دلالة له على مشروعية الوضوء في نفسه.

الثاني : لو سلم ظهور النص في استحباب الوضوء في ذاته ، إلا انه ترفع اليد عن هذا الظهور بما ورد من الأمر بالطهارة بذاتها ، وما ورد من الأمر بالوضوء لأجل الطهارة ، فانه مع ثبوت مثل ذلك لا يبقى ظهور ما ظاهره الأمر بذات الوضوء على حاله.

ويتأكد هذا بملاحظة الأمثلة العرفية ، فلو أمر المولى عبده بشرب دواء ثم أمره بشربه لأجل رفع الحمى ثم أمره برفع الحمى ، فان الأمر بشرب الدواء وان كان ظاهرا في الأمر بنفسه ، إلا أنه بملاحظة الأمرين الآخرين لا يبقى ظهوره على حاله.

فالمتحصل : انه لا دليل على استحباب الوضوء في نفسه ، والثابت في الأدلة استحباب الطهارة. وعليه ، فنقول : ان اكتفي في تحقق الطهارة الإتيان بالوضوء بقصد الكون على الطهارة بداعي القربة فهو وإلاّ كان الدليل الدال على استحباب الطهارة في كل وقت دالا على استحباب الوضوء أيضا كذلك ، إذ لا تتحقق الطهارة إلاّ بقصد القربة بذات الأفعال ، وهو كما عرفت يتوقف على استحبابها النفسيّ ، فاستحباب الطهارة يلازم استحباب الوضوء بذاته. هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

ويقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : وهي :

التنبيه الثاني : الّذي ذكره صاحب الكفاية ـ في اعتبار قصد التوصل بها إلى ذيها في صحتها. فقد ادعي توقف صحتها وعباديتها على قصد التوصل بها إلى ذيها. ووجّه ذلك بأمور :

الأول : ان عبادية المقدمة لا تتحقق إلاّ بالإتيان بها بقصد التوصل إلى ذيها. وعليه فاعتبار قصد التوصل في الطهارات باعتبار توقف عباديتها على هذا

٢٧٣

التوصل بها إلى ذيها ، ولا طريق تتحقق به العبادية غيره.

الثاني : ان الأفعال ذات عنوان قصدي راجح في ذاته ولا طريق إلى قصده إلا بقصد امتثال الأمر الغيري ، باعتبار انه يدعو إلى ما تعلق به ، فيكون العنوان مقصودا إجمالا ، وقد تقدم ان قصد امتثال الأمر الغيري لا يتصور إلاّ بقصد التوصل إلى الواجب وقصد امتثاله ، إذ بدونه لا داعوية للأمر الغيري.

الثالث : ان الأمر الغيري متعلق بالمقدمة بما هي مقدمة ، وبما ان متعلق التكليف هو الحصة الاختيارية دون غيرها ، فامتثال الأمر الغيري يتوقف على قصد المقدمة بما هي مقدمة ، لتحقق اختيارية المتعلق. ومن الواضح ان قصد المقدمية لا يكون إلاّ بقصد التوصل إلى ذي المقدمة وامتثال أمره.

وقد استشكل المحقق صاحب الكفاية في تصحيح قصد التوصل بهذا الوجه ، بناء على كون المصحح لاعتبار قصد القربة هو الأمر الغيري ، ووجه اشكاله : إنكار المقدمة الأولى ، وهي تعلق الأمر بالمقدمة بما انها مقدمة بدعوى : ان المقدمية جهة تعليلية ، والأمر متعلق بذات المقدمة ، لأنها هي التي يتوقف عليها الواجب لا عنوان المقدمة ، نعم العلة في تعلق الأمر بذات العمل كونه مقدمة للعمل الواجب النفسيّ.

وقد تقدم هذا المطلب من صاحب الكفاية (١).

وأورد عليه المحقق الأصفهاني : بان الجهات التعليلية تكون في الأحكام العقلية جهات تقييدية لموضوع أو متعلق الحكم ، فالحكم عقلا بوجوب شيء لأنه كذا يرجع إلى الحكم بوجوب عنوان العلّة. نعم يتصور التفكيك بين الجهة التعليلية والموضوع الّذي يرد عليه الحكم في الأحكام العرفية أو الشرعية ، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل (٢).

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٠٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٧٤

ولم يبين قدس‌سره الوجه في هذه الدعوى ، بل أوكله إلى ما تقرر في محله.

ولكن يرد عليه :

أولا : بان ما أفاده من رجوع الجهات التعليلية إلى التقييدية في الأحكام العقلية ليس من المسلمات في محله ، فقد ادعي خلافه ، ووجود الجهة التعليلية في الأحكام العقلية.

وثانيا : لو سلمت أصل الكبرى فانطباقها على ما نحن فيه محل منع وذلك :

أولا : لأنها تختص بالاحكام العقلية المرتبطة بباب الحسن والقبح ـ كما يقال ان مرجع حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب إلى حكمه بحسن التأديب ، بل في الحقيقة يرجع الحكم بحسن التأديب إلى الحكم بحسن الإحسان وتشخيص كون التأديب إحسانا ـ ، أو بباب الاستحالة والإمكان ـ كما يقال ان مرجع حكم العقل باستحالة أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ، للزوم الدور إلى حكمه باستحالة الدور ـ ولم يثبت عمومها إلى مطلق الإدراكات والأحكام العقلية.

وثانيا : لو سلم عمومها لمطلق الأحكام العقلية ، فوجوب المقدمة من باب الملازمة ليس من الأحكام العقلية التي يفرضها العقل بطريق البرهان ، بل هي من الأمور الوجدانية التي يحسها بالوجدان والارتكاز كل أحد. وبعبارة أخرى : إرادة المقدمة عند إرادة ذيها من الأمور التكوينية التي يدركها الوجدان كما يدرك البصر المبصرات ، وليست من الأحكام العقلية النظرية أو العملية كما لا يخفى على المتأمل.

وعليه ، فلا طريق لنا إلى معرفة كون عنوان المقدمية مأخوذا بنحو الجهة التقييدية أو الجهة التعليلية إلا الوجدان ، وهو يحكم بالثاني ، لأنه يرى ان

٢٧٥

الوجوب يطرأ على ذات العمل المقدمي لا على المقدمة بما هي كذلك ، فان الآمر الّذي يأمر بالمقدمة يرى انه يأمر بذات العمل كالدخول إلى السوق من دون ان يأخذ عنوان المقدمية في متعلق الأمر. فلاحظ.

كما يرد على كل من المحققين : انه لو سلمنا أصل الكبرى وانطباقها على ما نحن فيه ، فلا يلزم مع ذلك قصد التوصل بالمقدمة ـ كما هو ظاهر كلاميهما كما لا يخفى ـ. بيان ذلك : ان القصد يطلق ويراد به ..

تارة : ما يساوق الداعي والمحرك ، كما يقول من يأكل : « قصدي من الأكل الشبع » فان القصد هاهنا بمعنى الداعي.

وأخرى : يراد به إرادة العمل واختياره ووقوعه عن التفات في مقابل وقوعه عن غفلة ، كسائر الأفعال الاختيارية.

وافتراق المعنيين خارجا واضح ، فمثلا لو رمى شخص سهما وعلم بأنه يصيب شخصا فيقتله ، وكان رميه بداعي تجربة السهم. فانه من الواضح ان قتل الشخص واصابته يكون مقصودا للرامي ومرادا له ، لكنه ليس الداعي إلى الرمي ، بل داعيه هو تجربة السهم.

ولا يخفى ان المطلوب فيما نحن فيه هو القصد بمعنى الداعي ، يعني كون الداعي إلى الإتيان بالمقدمة هو التوصل إلى ذيها.

والوجه المذكور لا يفي بلزوم ذلك ، إذ غاية ما يتكفل ـ بعد الاعتراف بان المأمور به المقدمة بما هي مقدمة ـ هو الإتيان بها بما هي كذلك عن اختيار ، لأنها هي الحصة المأمور بها.

ومن الواضح ان هذا المعنى يتحقق بمجرد الالتفات إلى المقدمية والتوصل بالعمل إلى الواجب ، ولو كان الإتيان بالعمل لداع آخر غير التوصل ، فيصدق قصد التوصل بمعنى إرادته وإرادة الإتيان بما هو مقدمة ، وان لم يكن الإتيان بداع التوصل.

٢٧٦

وعلى أي حال ، فهذه الوجوه غير مجدية في إثبات لزوم قصد التوصل بعد ان عرفت ان طريق العبادية ينحصر بالإلزام بتعلق الأمر النفسيّ بها ، ومعه لا يلزم قصد التوصل ، بل يكفي الإتيان بها بما انها محبوبة في أنفسها.

الجهة الثانية : في انه بعد الفراغ عن تعلق الأمر الاستحبابي النفسيّ بالطهارات ، فالإتيان بها بداعي الاستحباب قبل دخول وقت الصلاة الواجبة مما لا إشكال فيه ، وانما الإشكال في الإتيان بها كذلك بعد دخول وقت الصلاة وتعلق الأمر الغيري بها.

وقد ذكر المحقق النائيني : ان ذلك لا محذور فيه ويقع العمل صحيحا ، بتقريب : ان الأمر النفسيّ الاستحبابي وان اندك في الأمر النفسيّ الضمني المتعلق بها ـ بناء على ما ذهب إليه من ان الشرائط كالأجزاء تكون متعلقة للأمر الضمني النفسيّ ـ ، إلاّ ان المنعدم هو حدّ المرتبة الاستحبابية دون واقع الطلب والاستحباب ، فواقعه على ما هو عليه وان لم يبق بحدّه نظير اتصال خيطين أحدهما بالآخر ، فان واقع كل منهما موجود على حاله وانما المنعدم حدّ وجود كل منهما. وعليه فيمكن الإتيان بالعمل بقصد المحبوبية بواقعها لا بحدّها.

ثم أفاد : ان الاندكاك انما يتحقق بين الاستحباب والوجوب الضمني ، اما الوجوب الغيري فهو على حاله لا يتغير.

وأوضح ذلك ببيان : ان الوضوء ونحوه له بعد دخول وقت الواجب المشروط به جهات ثلاث :

الأولى : تعلق الطلب الاستحبابي النفسيّ به.

الثانية : تعلق الطلب الوجوبيّ النفسيّ الضمني به.

الثالثة : تعلق الطلب الغيري الوجوبيّ به.

ولا يخفى ان الاستحباب يندك في الوجوب الضمني ، فينشأ منهما حكم واحد ، واما الطلب الغيري فهو يبقى بحدّه لا يتبدل ، وذلك لأن الاندكاك

٢٧٧

والتداخل انما يكون فيما لو كان كل من الحكمين واردا على موضوع واحد ، فيندك أحدهما بالآخر أو الضعيف بالقوي ، لأن في بقائهما بحديهما اجتماعا للمثلين أو الضدين في شيء واحد. اما لو اختلف موضوع كل من الحكمين فلا يتداخلان ، لعدم المحذور في بقائهما بحديهما.

وعليه ، فحيث ان متعلق الطلب الاستحبابي والطلب الضمني النفسيّ ذات الوضوء ، كانا واردين على موضوع واحد ، فيندك الاستحباب في الوجوب قهرا. اما الطلب الغيري ، فحيث ان موضوعه ليس ذات الوضوء ، بل موضوعه العمل المأتي به بقصد الأمر الاستحبابي أو الضمني ، كان في طول الأمر الأول ويتعدد موضوعهما فلا يتداخلان نظير الأمر المقدمي بصلاة الظهر المترشح من الأمر بصلاة العصر ، فانه في طول الأمر النفسيّ المتعلق بصلاة الظهر ، فلا يتبدل أحدهما بالآخر.

هذا ملخص ما أفاده (١) وينبغي التنبيه على موارد الكلام والبحث في ما أفاده من دون تحقيق الحال فيه ، بل نوكله إلى مجال آخر ، وهي جهات ثلاث :

الأولى : التعبير باندكاك الاستحباب في الوجوب الضمني ، فانه قد يكون مثار الإشكال على مبنى المحقق النائيني ، من انه لا فرق بين الوجوب والاستحباب من جهة واقع الطلب ، وكون الطلب الوجوبيّ والاستحبابي بحدّ واحد والاختلاف من ناحية أخرى ، وذلك لأن الاندكاك ظاهر في أضعفية المندك في المندك فيه ، وأقوائية الثاني من الأول ، بحيث يتغلب عليه فلا بد من معرفة صحة هذا المعنى من بطلانه.

الثانية : ما أفاده من كون الشرط موردا لأوامر ثلاثة أحدها الأمر الضمني المنحل من الأمر النفسيّ بالمشروط ، فقد أشرنا إلى الخدشة فيه ، وسيأتي

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٧٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٧٨

تحقيق الحال وبيان بطلان هذا المسلك في محل آخر إن شاء الله تعالى. فانتظر.

الثالثة : ما أفاده من كون الوجوب الغيري في طول الأمر الاستحبابي ، وعدم اندكاكه فيه. فانه مما يحتاج إلى تحقيق ، والّذي نراه حقا هو التفصيل بين ما إذا كان متعلق الأمر الغيري العمل المقيد بكونه بداعي الأمر بحيث تكون ذات المقيد متعلقا للأمر الغيري ، وما إذا لم يكن متعلقه كذلك ، بل ما يتعلق به الأمر الغيري هو نفس تقيد العمل بداعوية الأمر الأول ، من دون أن يؤخذ ذات العمل في موضوعه ـ نظير ما تقرب به الكراهة في العبادات من ان متعلق الأمر هو العمل ، ومتعلق الكراهة إيقاعه في المكان الخاصّ أو بالنحو المعين ، فمتعلق كل منهما غير متعلق الآخر ـ ، فيلتزم بحصول الاندكاك في الحالة الأولى دون الثانية وإثبات هذه الدعوى لها مجال آخر. فانها لا ترتبط بما نحن فيه ارتباطا كليا. فلاحظ.

الجهة الثالثة : إذا جاء المكلف بإحدى الطهارات الثلاث بقصد التوصل إلى بعض الغايات كالصلاة ، ثم لم يأت بالغاية ، فهل عدم تحقق الغاية خارجا يمنع من صحتها وعباديتها أو لا؟ قد يوجه عدم الصحة بعدم ترتيب الغاية بوجوه :

الأول : انه مع الالتزام بالمقدمة الموصلة ، بمعنى ان الواجب الغيري هو المقدمة الموصلة لا مطلق المقدمة ، يكشف عدم حصول الغاية عن عدم كون المأتي به مأمورا به واقعا ـ بل تخيلا ـ. وعليه فلا يكون مقربا لعدم الأمر به ، فقصده لا يكون موجبا لمقربية العمل.

الثاني : ان يلتزم بان العبادية لا تتحقق الا بإضافة العمل إلى المولى من الناحية التي هو مضاف بها إليه حقيقة وواقعا. وعليه فمع القول بالمقدمة الموصلة والالتزام باستحباب الطهارات ، لو قصد التوصل ولم يترتب الواجب لم يقع عبادة ، لأن الإضافة المقصودة غير ثابتة واقعا والإضافة الواقعية وهي إضافة

٢٧٩

الاستحباب لم تقصد ، فلا يقع العمل عبادة لعدم قصد إضافته إلى المولى بالإضافة الواقعية. وهكذا لو لم نقل بالمقدمة الموصلة ، ولكن جاء بها قبل الوقت بتخيل دخوله وتعلق الأمر الغيري بها.

الثالث : انه بناء على كون الشرائط متعلقة للأمر الضمني ، وان عباديتها تتحقق بقصد امتثاله ، فإذا جاء بالعمل بداعي الأمر الضمني ، ولم يأت بالمشروط لم يكن العمل امتثالا لأمره الضمني ، لأن الأوامر الضمنية ارتباطية في مقام الامتثال ، فلا يتحقق امتثال أحدها بدون امتثال الآخر ، فيكشف عدم الإتيان بسائر الاجزاء والشرائط عن عدم كون الوضوء متعلقا للأمر الضمني.

هذا ، ولكن عرفت ان عبادية الطهارات لا تتحقق إلا بقصد الأمر الاستحبابي المتعلق بها. ومن الواضح انه مع قصده تكون صحيحة مطلقا جيء بالغاية أو لا ، لعدم تأتي أحد هذه الوجوه فيه. فلا مجال لهذا الكلام بناء على انحصار طريق العبادية بقصد الأمر النفسيّ ، فلاحظ وتدبّر والله ولي التوفيق.

٢٨٠