منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

أحد الوجهين.

واما ما يظهر من المحقق الأصفهاني من نفي ترتب العقاب عند ترك المقدمة ، ولو التزم بان موضوع الثواب والعقاب هو الانقياد وعدمه ، فهو لا يخلو عن مسامحة.

الجهة الثالثة : في توجيه ما ورد في بعض النصوص من ترتب الثواب على بعض المقدمات ، كما روي أن في كل خطوة في زيارة الحسين عليه‌السلام كذا من الثواب (١) ، فانه بظاهره يتنافى مع نفي الثواب على المقدمة الّذي قرّر في الجهة الأولى (٢).

وقد ذكر لذلك وجوه :

منها : انه من باب التفضّل لا الاستحقاق.

ومنها : ان الثواب يكون على ذي المقدمة لكنه بزيادة المقدمات أو بمشقتها يزيد الثواب عليه من باب ان أفضل الأعمال أحمزها ، فليس الثواب على نفس المقدمة ، بل على ذي المقدمة ، فانه يثاب عليه بثواب عظيم على قدر مقدماته المذكورة في النص. وبتعبير آخر : ان للواجب ـ ذي المقدمة ـ حصصا يكون مقتضى الروايات المزبورة زيادة الثواب على هذه الحصة المعينة وعدمه في غيرها.

وتوهم : ان الوعد بالثواب على المقدمات يكشف عن استحباب هذه المقدمات في أنفسها كما يستظهر ذلك من روايات : « من بلغ » (٣) ، ويبنى على التسامح في أدلة السنن.

يندفع : بأنه ـ لو تم في نفسه ـ إنما يلتزم به لو لم يكن هناك وجه آخر

__________________

(١) كامل الزيارات ـ ١٣٣ فيما ورد في زيارة أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٣) المحاسن ـ ٢٥ والكافي ٢ ـ ٨٧.

٢٤١

يوجه به الوعد بالثواب بحيث يحافظ على كونها واجبات غيرية ويجمع بين كلتا الجهتين ، اما مع إمكان حمل النصوص على ما لا ينافي المقدمية فلا تصل النوبة إلى الحمل على الاستحباب النفسيّ فلاحظ.

هذا تمام الكلام في جهات هذا الأمر الثلاثة.

يبقى الكلام في أمر تعرض إليه الأعلام جميعا ، وهو البحث في عبادية الطهارات الثلاث وترتب الثواب عليها ، فان فيها إشكالا ، وقد قرّره الشيخ قدس‌سره في كتاب الطهارة بلزوم الدور (١). وتقريبه يتوقف على مقدمتين :

الأولى : ان رفع الحدث المانع من الصلاة ، ـ وان شئت فقل : الطهارة ـ انما يتحقق بالوضوء إذا وقع الوضوء على وجه العبادية المتوقف على تعلق الأمر به كي يقصد الإتيان به بداعي ذلك الأمر فيكون عبادة. إذ من الواضح انه إذا جاء بافعال الوضوء من دون ان تتعنون بعنوان العبادية وبلا ان تكون على وجه العبادة لم يتحقق بها رفع الحدث ولا استباحة الصلاة.

الثانية : انه لا أمر بالوضوء لأجل الصلاة إلا الأمر الغيري الثابت له بملاك المقدمية.

وإذا تمت هاتان المقدمتان يأتي الإشكال ، وذلك لأن الأمر الغيري انما يتعلق بالوضوء بما أنه مقدمة ـ باعتبار أنه رافع للحدث المانع ، ورفع المانع من المقدمات ـ ، ومقدميته متوقفة على الإتيان به على وجه العبادة ـ إذ عرفت ان رفع الحدث المانع يتوقف على إتيانه بنحو العبادة ـ ، والإتيان به على وجه العبادة يتوقف على الأمر به ، فعليه يكون الأمر الغيري متوقف على مقدميته ومقدميته متوقفة على الأمر الغيري به فيلزم الدور. وعبّر عن هذا الإشكال بعبارة أخرى ومحصلها : ان إيجاب الوضوء الغيري يتوقف على كون الوضوء مقدمة في نفسه ،

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. الطهارة ـ ٨٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٤٢

وهذا يتنافى مع فرض كون مقدمية الوضوء تتوقف على الإتيان به بداعي امتثال الأمر ، إذ لا أمر هنا غير الأمر الغيري.

ومن هنا لا بد من رفع اليد عن إحدى المقدمتين ، فيلتزم :

اما بوجود أمر آخر متعلق بالوضوء غير الأمر الغيري ، يكون قصده مصححا لعباديته ومحصلا لمقدميته فيتعلق به بما هو كذلك الأمر الغيري ، فلا دور ، إذ الأمر الغيري وان توقف على عبادية الوضوء ، لكن عبادية الوضوء غير متقومة به ، بل بالأمر الآخر المفروض.

واما بتحقق رفع الحدث من دون التعبد بالوضوء ووقوعه بنحو العبادية ، بل يكون من لوازم الفعل كرفع الخبث ، فيرد الأمر الغيري على الوضوء لأنه مقدمة في نفسه.

ولكن الالتزام الأول خلاف فرض عدم وجود أمر غير الأمر الغيري.

والثاني مناف للإجماع المنعقد على توقف رفع الحدث بالوضوء على الإتيان به بنحو العبادة.

فالإشكال وارد ، إلاّ انه تصدي لدفعه بوجهين :

الوجه الأول : ان الوضوء في نفسه معنون بعنوان واقعي راجح في ذاته ، بذلك العنوان يكون الوضوء رافعا للحدث ، إلا أن العنوان من العناوين القصدية التي لا تتحقق إلا بالقصد إليها ـ نظير عنوان التعظيم ـ.

وعليه ، فالوضوء مع قطع النّظر عن الأمر الغيري مقدمة لتحقق رفع الحدث به بدونه بقصد ذلك العنوان الراجح في ذاته الموجب لوقوعه بنحو العبادة. فيتعلق به الأمر الغيري من دون إشكال ، لأن عبادية الوضوء لا تتوقف على الأمر الغيري ـ كي يلزم الدور ـ ، بل هو عبادة مع قطع النّظر عن الأمر الغيري. نعم هناك شيء ، وهو انه لما كان العنوان القصدي الّذي يتعنون به الوضوء مجهولا لدينا فلا طريق إلى قصده إلا بقصد امتثال الأمر الغيري

٢٤٣

بالعمل ، إذ الأمر الغيري متعلق بالوضوء بلحاظ العنوان المتعنون به ، فيكون العنوان بذلك مقصودا إجمالا ، ويكون قصد امتثال الأمر الغيري طريقا إلى قصد العنوان القصدي.

وبالجملة : التقرب والعبادية الحاصلة بالوضوء ناشئة من رجحانه الذاتي بلحاظ العنوان المنطبق عليه ، وليست ناشئة من قصد الأمر الغيري.

ومن هنا يظهر ان استحقاق الثواب ليس من جهة قصد الأمر ، كي يقال بان الأمر الغيري مما لا يستحق على موافقته المثوبة ، بل من جهة رجحانه الذاتي ولكونه في نفسه عبادة.

هذا توضيح ما أفاده الشيخ من الإشكال ، والوجه الأول من الجواب.

ومنه تعرف ما في الكفاية من المسامحات وذلك بأمور ثلاثة :

الأول : ذكره هذا الوجه جوابا عما قرّره من الإشكال في الطهارات الثلاث ، ببيان انه قد أجيب به عنه ، وما قرّره من الإشكال يختلف عما ـ قرّره الشيخ من إشكال الدور ـ كما ستعرفه إن شاء الله تعالى ـ ، فالجواب المذكور لم يذكر جوابا عن إشكال صاحب الكفاية ، بل ذكر جوابا عن إشكال الدور الّذي ذكره الشيخ.

الثاني : ذكر الجواب بنحو ناقص ، فانه لم يذكر فيه كون العنوان الّذي يتعنون به الوضوء من العناوين الراجحة في ذاتها الّذي صرح به الشيخ ، بل غاية ما جاء في الكفاية انه من العناوين القصدية ، فتقصد إجمالا بقصد امتثال الأمر الغيري. وهذا التصرف تصرف مخل بالمقصود كما سيتضح.

الثالث : الإيراد عليه بأنه لا يفي بردّ إشكال ترتب المثوبة على الوضوء. ووضوح هذه المسامحة مما لا يخفى على من لاحظ جواب الشيخ ، فانه كيف لا يفي برد الإشكال المزبور؟ مع فرض أنه راجح في ذاته ، فتكون المثوبة على رجحانه ذاتا لا على امتثال الأمر الغيري ، وقد أشار الشيخ رحمه‌الله إلى هذا

٢٤٤

الإشكال واندفاعه ، فلم يعلم وجه ذكره ، ولعله لأجل عدم فرض العنوان راجحا في ذاته في تقرير الجواب الّذي ذكره.

وخلاصة القول : ان ما جاء في الكفاية من المسامحات الغريبة التي كون صدورها من مثل صاحب الكفاية مورد العجب ، وغاية ما لدينا من الاعتذار عنه أنه لم يكن يحضره حين تحرير هذا المطلب كتاب طهارة الشيخ ليطلع على خصوصيات ما جاء فيها إشكالا وجوابا ، بل كان مطلب كتاب الطهارة في ذهنه فكان ذلك منشئا لفوات بعض خصوصياته عليه.

وبعد ذلك نعود إلى أصل المبحث ، فنذكر ما ذكر من الإشكالات على عبادية الطهارات الثلاث وما قيل في الجواب عنها.

والّذي يحضرنا من الإشكالات خمسة :

الأول : ما جاء في الكفاية من ان موافقة الأمر الغيري قد فرض انها لا تستلزم القرب ، والمفروض حصول التقرب بالإتيان بالطهارات الثلاث لأجل الصلاة.

الثاني : ما جاء في الكفاية ـ أيضا ـ من أن موافقة الأمر الغيري لا تستوجب ثوابا كما فرض ، مع ترتب الثواب على الإتيان بالطهارات الثلاث لأجل الصلاة بلا إشكال.

الثالث : ما جاء في الكفاية ـ أيضا ـ من ان الأمر الغيري أمر توصلي يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه ، مع أنه في الطهارات الثلاث ليس كذلك ، إذ لا بد من الإتيان بها بنحو العبادة وقصد امتثال الأمر الغيري (١).

الرابع : ما ذكره الشيخ من إشكال الدور ، وان الأمر الغيري يتوقف على عبادية الوضوء وأخويه ، فإذا كانت عبادية الوضوء تتوقف على الأمر الغيري

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٤٥

لزم الدور. وقد مرّ توضيحه.

الخامس : ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من ان الأمر الغيري يتعلق بما هو عبادة ، والعبادية تحتاج إلى الأمر ، فاما ان تكون عبادية الوضوء ناشئة من تعلق الأمر الغيري به ، أو من تعلق أمر نفسي آخر به استحبابي.

فعلى الأول يلزم الدور.

والثاني ممتنع من وجوه :

الأول : انه لو تم ، فهو إنما يتم بالنسبة إلى الوضوء والغسل مما قام الدليل على استحبابهما في أنفسهما ، واما التيمّم فلا دليل على استحبابه في نفسه.

الثاني : ان الأمر النفسيّ الاستحبابي ينعدم بعروض الوجوب ، لامتناع اجتماع المثلين.

الثالث : انه لو كانت العبادية ناشئة من تعلق الأمر النفسيّ بها لما صح الإتيان بها بقصد أمرها الغيري من دون التفات إلى أمرها النفسيّ الاستحبابي ، مع انه لا إشكال في صحتها لو أتي بها بداعي الأمر الغيري المترشح عن الأمر بذي المقدمة بلا التفات إلى الأمر النفسيّ المتعلق بها ، ويشهد لما ذكر عدم صحة الإتيان بصلاة الظهر بداعي الأمر الغيري المتعلق بها المترشح من الأمر النفسيّ المتعلق بصلاة العصر ، من دون قصد الأمر النفسيّ المتعلق بها بذاتها.

وهكذا الإتيان بالصوم الّذي هو مقدمة للاعتكاف بداعي أمره الغيري المترشح عن الأمر بالاعتكاف بلا قصد الأمر النفسيّ المتعلق به بخصوصه. وهذا يكشف عن أن الطهارات الثلاث ليست كالصوم للاعتكاف وصلاة الظهر من كونها متعلقة للأمر النفسيّ مع كونها مقدمة ، وإلاّ لجرى فيها ما جرى فيها من لزوم قصد الأمر النفسيّ في صحة العمل (١).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٧٤ ـ الطبعة الأولى.

٢٤٦

هذا مجموع ما ذكر من الإشكالات ، واما ما ذكر من وجوه الجواب فهو :

الوجه الأول : ما أفاده صاحب الكفاية رحمه‌الله من ان هذه الطهارات الثلاث مستحبة في أنفسها. وهي بما هي عبادة مقدمة للصلاة ، فالأمر الغيري متعلق بما هو عبادة في نفسه (١).

وبهذا الوجه تندفع الوجوه الأربعة الأولى للإشكال.

اما الأول : فلان التقرب لم يحصل من جهة موافقة الأمر الغيري ، كي يقال ان موافقته لا تستلزم القرب ، بل من جهة ان الفعل في نفسه عبادة ومأمور به نفسيا ، فالتقرب يحصل بلحاظ موافقته للأمر الاستحبابي.

واما الثاني : فلان استحقاق الثواب ليس لأجل موافقة الأمر الغيري ، بل من جهة موافقة الأمر الاستحبابي ، ولكون الفعل راجح في ذاته.

واما الثالث : فلان الأمر الغيري هاهنا لا يختلف عنه في سائر المقدمات في كونه توصليا ، إلا ان متعلقه هاهنا ما هو عبادة في نفسه ، فلا يتحقق الإتيان بمتعلقه إلا بالإتيان به بنحو العبادية ، إذ قد عرفت ان المقدمة ما هو عبادة ، فالعبادية ليست من جهة كون الأمر الغيري عباديا كي يتجه سؤال الفرق بينه هنا وبين غيره في سائر المقدمات ، بل من جهة ان الواجب النفسيّ يتوقف على ما هو عبادة ، فمتعلق الأمر الغيري ما هو عبادة في نفسه.

واما الرابع : فلان العبادية إذا كانت ناشئة من جهة الأمر النفسيّ المتعلق بها يرتفع الدور ، إذ الأمر الغيري وان توقف على العبادية لقوام المقدمية بها ، إلا ان العبادية لا تتوقف على الأمر الغيري فلا دور.

واما ما ذكره المحقق النائيني رحمه‌الله من وجوه الإشكال على هذا الوجه فهي مندفعة :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٤٧

اما الوجه الأول : فلأنه وان لم يقم دليل خارجي على استحباب التيمم في نفسه ، إلاّ ان الإجماع القائم على لزوم التعبد به مع عدم تعلق غير الأمر الغيري به ، إذا كان بنحو يصح الاعتماد عليه ودليلا على ما قام عليه كان بنفسه كاشفا عن استحبابه في نفسه ، إذ ذلك يلازم لزوم الإتيان به عبادة ، لأن لا طريق إلى ذلك غير هذا الوجه. وإذا لم يكن بنحو يصح الاستناد إليه لم يكن وجه للالتزام بلزوم الإتيان بالتيمم بنحو العبادية ، إذ لا وجه له غير الإجماع والمفروض انه غير صالح للنهوض على إثبات ما قام عليه.

واما الوجه الثاني : فلان الاستحباب وان كان يندك بالوجوب الغيري ، إلاّ ان المرتفع هو الأمر والإرادة بحدّها ، لاستلزام بقائه اجتماع المثلين ، اما واقع الإرادة الاستحبابية وذاتها فهي لا ترتفع بالوجوب الغيري ، بل تتداخل الإرادتان وتنشأ منهما إرادة واحدة مؤكدة كتداخل النورين ، وذلك يكفي في إمكان الإتيان به بنحو العبادة وفي تحقق التقرب كما سيتّضح.

واما الوجه الثالث : فلوجود الفرق بين الطهارات ومثل الصلاة الظهر والصوم للاعتكاف بحيث يصح قصد الأمر الغيري في الطهارات ولا يصح في مثل صلاة الظهر ، فلنا دعويان :

إحداهما : صحة قصد الأمر الغيري في الطهارات وتحقق التقرب بذلك.

وثانيتهما : عدم صحة قصد الأمر الغيري في مثل صلاة الظهر مما يكون واجبا نفسيا.

وتقريب الأولى : ان الطهارات وان كانت مستحبة في ذاتها ، إلاّ أنها إذا كانت مقدمة لا تكون موردا إلا للأمر الغيري ، سواء قلنا بان الأمر الغيري عبارة عن الإرادة الشديدة التبعية أو أنه عبارة عن حكم مجعول ، كما يقال في مثل : « أدخل السوق واشتر اللحم ».

٢٤٨

اما إذا قلنا بأنه عبارة عن نفس الإرادة ، فتعلقها بالطهارات بحدّها مع تعلق الأمر الغيري الاستحبابية بها يستلزم اجتماع المثلين وهو محال ، بل الواقع هو اندكاك الإرادة الاستحبابية بالإرادة الوجوبية وخروج كل منهما عن حدّه الخاصّ ، وتنشأ منهما إرادة واحدة مؤكدة ، نظير اندكاك النور الضعيف بالنور القوي وانصهار أحدهما بالآخر ، فينشأ منهما نور واحد أقوى ، ولكن لا يكون لكل منهما وجود منحاز عن الآخر أصلا ، بل ليس هناك إلا وجود واحد للنور وهو النور الأقوى. فالحال في الإرادة كذلك فانه تنشأ من الإرادتين المندكتين إرادة واحدة مؤكدة يعبّر عنها بالوجوب الغيري ، إذ هو يغلب الاستحباب ، والمفروض ان الإرادة إلزامية. كما انه لا تكون إرادة نفسية كما لا يخفى ، فلا محيص عن ان تكون هذه الإرادة المؤكدة إرادة غيرية ، إلا انها ليست كسائر الإرادات الغيرية لأنها مشوبة بجهة راجحة نفسية ، ولأجل ذلك صح قصد الأمر الغيري دون الاستحبابي ، لعدم بقاء الأمر الاستحبابي ، بل لا يتصور سوى قصد الأمر الغيري ، إذ لا أمر غيره. ويحصل بقصده التقرب ، إذ هو يشتمل على جهة رجحان في ذاته ، فهو ليس على حد سائر الأوامر الغيرية كي يقال ان حصول التقرب به ينافي فرض عدم مقربية الأمر الغيري ، بل هو أمر غيري ، لكنه يختلف عن سائر الأوامر الغيرية ، لعدم تمحضه في الغيرية ، بل هو مشوب بجهة راجحة ذاتية ، فان الجهة الاستحبابية مؤثرة في تحقق التقرب وان لم يكن لها وجود بحدّها. نظير النور الضعيف فانه مؤثر في ذاته ، لكنه لا تميز له ولا انحياز.

وبالجملة : لا منافاة بين الالتزام بحصول التقرب بقصد الأمر الغيري هاهنا ، وبين ما تقدم من عدم مقربية الأمر الغيري ، إذ الأمر الغيري هاهنا يختلف عن سائر الأوامر الغيرية لاشتماله على جهة رجحان في ذاته.

واما إذا كان الأمر الغيري حكما مجعولا ، فالأمر فيه بالنسبة إلى

٢٤٩

الاندكاك كذلك ، إذ بعد فرض حصول الاندكاك في منشأ الجعل وعدم وجود إرادتين ، بل ليس هناك إلا إرادة واحدة لا يعقل فرض تحقق حكمين مجعولين لخلوّهما عن منشأ الجعل ، فليس لدينا أيضا سوى حكم واحد مجعول هو الحكم الغيري المشوب بجهة رجحان نفسية.

وتقريب الدعوى الثانية : ان صلاة الظهر ونحوها مما كان واجبا في نفسه لم يثبت تعلق الأمر الغيري بها ، إذ هناك من يرى عدم صحة تعلقه لوجود المانع وهو الأمر النفسيّ ، فيرتفع موضوع الإيراد على هذا ولو سلم تعلق الأمر الغيري بها ، فهو مندك بالأمر النفسيّ. ومن الواضح ان المغلّب هو جانب الإرادة النفسيّة ، والأمر النفسيّ لأقوائيته ، فيمتنع قصد الأمر الغيري حينئذ لعدم وجوده ، فلا بد من قصد الأمر النفسيّ المتعلق بها.

واما الصوم للاعتكاف ، فموضوع البحث منه ما إذا كان الاعتكاف واجبا ولم يكن الصوم واجبا ، فيكون حاله حال الطهارات المشتملة على جهة استحباب نفسي ووجوب غيري.

ولا يخفى ان الالتزام بصحة قصد الأمر الغيري فيه وصحته بذلك لا محذور فيه ، ولم يثبت قيام الإجماع بنحو يكون حجة على خلافه ، إذ لا تصريح للكل بذلك ، فدعوى الإجماع ترجع إلى نسبة الحكم إليهم اجتهادا.

وبذلك تعرف اندفاع ما أفاده المحقق النائيني بحذافيره.

وقد تصدى صاحب الكفاية للجواب عن إشكال الاكتفاء بقصد الأمر الغيري وصحة الفعل بالإتيان به بهذا القصد ، بما توضيحه : ان الأمر الغيري حيث انه متعلق بالفعل العبادي ، فهو انما يدعو إليه ، لأن الأمر يدعو إلى ما تعلق به ، فيقصد التقرب بالفعل بتوسط قصد الأمر الغيري ، فمعنى الإتيان بالعمل بداعي أمره الغيري هو الإتيان به بالنحو العبادي ، لأنه هو الّذي يدعو

٢٥٠

إليه الأمر الغيري (١).

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في هذا الجواب : بان الأمر النفسيّ الاستحبابي أو الجهة الراجحة النفسيّة ، اما ان يكون ملتفتا إليها عند العمل ، أو مغفولا عنها بالمرّة ، فان كانت ملتفتا إليها كانت هي الداعية إلى العمل ، لا الأمر الغيري ، إذ لا حاجة حينئذ إلى توسيط دعوة الأمر الغيري. وان كانت مغفولا عنها لم يتحقق القصد إليها ولو إجمالا ، فلا تتحقق العبادية ، لكون المفروض قوامها بقصد الأمر النفسيّ (٢).

وهذا الإشكال بظاهره سديد ، إلا أنه قد يخدش فيه عند التأمل.

فالأولى ان يقال : ـ إشكالا على صاحب الكفاية ـ : ان المقصود ..

اما ان يكون قصد الأمر الغيري بنحو داعي الداعي ، بلحاظ أنه يدعو إلى الإتيان بالفعل بداعي الاستحباب النفسيّ لأنه متعلقه ، فيكون الأمر الغيري داعيا إلى داعوية الأمر النفسيّ ، فيؤتى بالفعل بداعي الأمر النفسيّ ، والمجموع بداعي الأمر الغيري. فإذا كان المقصود هذا المعنى ، فهذا مما لا يستشكل فيه أحد ، لفرض قصد الأمر النفسيّ ، وكون الأمر الغيري بنحو داعي الداعي أمر لا محذور فيه ، بل له نظائر وأشباه في كثير من الفروع.

وبالجملة : هذا النحو خارج عن المفروض ، إذ المفروض كون المقصود خصوص الأمر الغيري.

واما ان يكون مقصوده قصد الأمر الغيري فقط بمعنى انه يؤتى بالعمل كالوضوء بداعي الأمر الغيري لا غير ، فهذا يتوقف على تعلق الأمر الغيري بذات الوضوء. وهو يتصور على نحوين :

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٠١ ـ الطبعة الأولى.

٢٥١

أحدهما : ان يتعلق به أمر غيري استقلالي ، باعتبار ان المقدمة إذا كانت هي العمل بقصد القربة ، فكل من العمل وقصد القربة جزء المقدمة ، وجزء المقدمة يكون مقدمة أيضا ، فيكون العمل بنفسه مقدمة ويتعلق به الأمر الغيري بذاته.

ثانيهما : ان يتعلق به أمر غيري ضمني ، باعتبار تعلق أمر استقلالي واحد بالمركب من الوضوء وقصد القربة ، وهو ينحل إلى أمرين ضمنيين غيريين يتعلق أحدهما بذات الوضوء.

وعلى أي حال فالوضوء متعلق لأمر غيري يقصد امتثاله عند الإتيان به.

وهذا المعنى لو تمّ ، فهو لا يستلزم تحقق العبادية بالقصد الإجمالي ، بلحاظ أن الأمر الغيري يدعو إلى ما تعلق به ، فان المفروض انه إنما تعلق بذات الوضوء ، فهو أنما يدعو إلى ذات الوضوء لا إلى الوضوء بقصد القربة ، فمن أين تتحقق عبادية الوضوء؟

فالمتعين في جواب إشكال الاكتفاء بقصد الأمر الغيري ما ذكرناه.

ونتيجة ما تقدم هو : ان الوجه الّذي ذكره صاحب الكفاية في رفع إشكال عبادية الطهارات وجه خال عن المحذور ، فهو ممكن ثبوتا.

إلا انه انما يتعين الالتزام به إثباتا لو لم يتم وجه آخر من الوجوه المذكورة في دفع الإشكال ، إذ ينحصر حلّ العويصة به ، ويكون هو طريق الجمع بين الإجماع على عبادية الطهارات وما يرد على العبادية من إيراد.

واما لو فرض تمامية بعض الوجوه الآتية ، فلا يتعين الالتزام بهذا الوجه ، إذ لا معين له في مقام الإثبات دون غيره.

ثم انه لا بد من التعرض ـ بعد إنهاء هذا المبحث ـ إلى بيان صحة قصد الأمر الاستحبابي في مورد تعلق الأمر الغيري بالوضوء ونحوه ، كما لو دخل الوقت أو عدمها ، فان الظاهر من تعبير صاحب الكفاية بـ : « الاكتفاء بقصد

٢٥٢

امرها الغيري » هو عدم تعين قصده وجواز قصده الاستحباب كما لا يخفى ، مع انه قد يدعي عدم صحة قصد غير الأمر الغيري في مورده.

وهذا بحث تعرض إليه الأعلام قدس‌سرهم ، وان كان بحثا فقهيا وليس من مباحث الأصول. فانتظر.

الوجه الثاني : ما ذكره الشيخ رحمه‌الله وقد تقدم بيانه وبعض الكلام حول عبارة الكفاية بالنسبة إليه ، ومحصله : الالتزام بان الوضوء معنون بعنوان قصدي راجح في ذاته ، يكون قصد الأمر الغيري طريقا إلى قصد ذلك العنوان إجمالا ، لأن الأمر الغيري يدعو إلى ما تعلق به.

ومن الواضح انه تندفع به جميع الإشكالات ، فان المقربية والثواب انما يكونان بلحاظ كون العمل بنفسه راجحا لتعنونه بالعنوان الراجح ، لا من جهة اقتضاء امتثال الأمر الغيري لذلك ، كما ان الأمر الغيري ليس تعبديا ، بل هو توصلي ، وقصده انما هو لأجل طريقيته إلى قصد العنوان الراجح.

كما ان محذور الدور يرتفع به ـ كما تقدم بيانه ـ إذ العبادية لم تنشأ من الأمر الغيري فتوقف الأمر الغيري على عباديته لا تستلزم الدّور.

واما الإشكالات المذكورة في كلام المحقق النائيني ، فقد عرفت اندفاعها ، إذ هذا الوجه كالوجه الّذي ذكره صاحب الكفاية في النتيجة لكنه يؤاخذ :

أولا : بأنه لا ملزم للالتزام بان الوضوء متعنون بعنوان قصدي راجح في ذاته ، إذ ينحل الإشكال بالالتزام برجحان الوضوء بنفسه واستحبابه بذاته ـ كما ذكره صاحب الكفاية ـ بلا حاجة إلى فرض عنوان مجهول قصدي ، فان ذلك تبعيد للمسافة.

وثانيا : بما جاء في الكفاية من الإيراد على توجيه قصد الأمر الغيري ، بأنه لأجل تحقق قصد العنوان إجمالا للجهل به.

وتوضيحه : ان قصد العنوان المجهول بتوسط الأمر الغيري لا ينحصر

٢٥٣

بأخذ الأمر الغيري داعيا إلى العمل ، بل يتحقق مع أخذه بنحو التوصيف ، وكون الداعي شيئا آخر ، فيقصد المكلف الإتيان بالوضوء المأمور به لا الوضوء بداعي الأمر. فان الوصف إشارة أيضا إلى ذلك العنوان (١).

وبمثل هذا الإيراد أورد الشيخ رحمه‌الله نفسه على من التزم بلزوم قصد الوجه في العبادات بتقريب : ان الأمر انما تعلق بهذه الأفعال بلحاظ انطباق عناوين واقعية راجحة عليها ، ولا يمكن قصد تلك العناوين تفضيلا للجهل بها ، فلا طريق إلاّ الإتيان بالفعل بداعي الوجوب ، لأنه متعلق بالفعل المعنون بذلك العنوان ، فيكون العنوان مقصودا إجمالا ، فقد أورد الشيخ على هذا التقريب ، انه لا يستلزم تعين قصد الوجه ، بحيث يكون الوجوب داعيا ، إذ قصد العنوان الواقعي الراجح يتحقق بالإتيان بالفعل المتصف بالوجوب ، بحيث يؤخذ الوجوب بنحو التوصيف لا الداعي. فتدبر.

الوجه الثالث : ما نسب صاحب الكفاية إلى الشيخ أيضا ، وهو : ان الغرض من ذي المقدمة كما لا يتحقق إلا بالإتيان به بنحو عبادي ، فكذلك بتوقف تحقق الغرض من الغاية ـ ذي المقدمة ـ على تحقق المقدمة ، والإتيان بها بنحو عبادي. فعبادية الطهارات لأجل توقف حصول الغرض من غاياتها عليها (٢).

ومن الواضح : ان هذا لا يصلح حلا لأي إشكال من الإشكالات السابقة كيف؟ وهو بيان لموضوع الإشكال ، فان نتيجته ليست إلا إثبات ان الطهارات لا بد من الإتيان بها بنحو عبادي ، وهذه الجهة قد أخذت مفروغا عنها ، والمفروض ان الإشكالات مترتبة على الاعتراف بهذه الجهة ، فكيف تصلح

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١١ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥٤

حلا للإشكالات ودفعا لها؟ فان موضوع البحث هو معرفة منشأ عبادية الطهارات الثلاث والسّر فيه ، بحيث تندفع به الإيرادات ، لا معرفة ان الطهارات عبادية أو غير عبادية.

ومن العجيب نسبته هذا الوجه إلى الشيخ رحمه‌الله مع ان الوجه المذكور في كلام الشيخ لا يرتبط به بالمرّة.

فان الشيخ في مقام دفع إشكال الدور المتقدم ذكره ذكر وجهين : أحدهما ما تقدم وتقدم الكلام حوله. وثانيهما هو : ان المقدمية إذا كانت متقومة بكون الفعل عباديا ، فلا محيص عن ان يلتجئ المولى إلى الأمر بذات العمل ـ بدون أخذ قصد الأمر فيه ، بناء على امتناع أخذه في متعلق الأمر كما تقدم البحث فيه ـ ، ثم إعلام المكلف بلزوم الإتيان بالفعل بداعي أمره ، وان الغرض منه لا يتحقق بدون ذلك ، وبذلك لا يحتاج إلى أمر آخر لتحقق غرض المولى بذلك ، فيكون الأمر مقوما للمقدمية ومغن عن أمر آخر ، وبذلك يرتفع الدور ، إذ عبادية الفعل وان نشأت من تعلق الأمر به ، لكن الأمر تعلق بذات العمل ، فهو لا يتوقف على الفعل العبادي كي يتحقق الدور (١).

ومن الواضح ان ما جاء في الكفاية لا ربط له بما ذكرناه عن كتاب الطهارة ، فان ما جاء في كتاب الطهارة حلّ للإشكال ، ومن العجيب ان المشكيني ادعى ان الوجه المذكور في الكفاية هو مختار التقريرات (٢) ، فانه كما عرفت لا يحلّ إشكال الدور أصلا ، بل هو يمهّد موضوع الإشكال ، وقد عرفت ان الإشكال الّذي ذكره الشيخ هو إشكال الدّور فقط ، فكيف يجعل هذا الوجه جوابا له وردّا عليه؟ وبذلك نستطيع الجزم بعدم كونه مراد التقريرات وان لم

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. الطهارة ـ ٨٨ ـ الطبعة الأولى.

(٢) كما في حاشية كفاية الأصول ١ ـ ١٧٩ ـ طبعة المحشاة بحاشية المشكيني.

٢٥٥

تحضرنا التقريرات فعلا (١).

وأعجب منه ما ذكره المحقق الأصفهاني من : ان الوجه الّذي في الكفاية هو نفس الوجه المذكور في كتاب الطهارة بأدنى تغيير (٢) ، فانك قد عرفت البون الشاسع بينهما وعدم ارتباط أحدهما بالآخر.

ومجمل الكلام : ان الإنسان يقف موقف الحيرة والاستغراب تجاه هذه الاشتباهات المتكررة. فلاحظ.

الوجه الرابع ـ وهو ما نقله صاحب الكفاية ـ : انه يلتزم بوجود أمرين :

أحدهما يتعلق بذات العمل. وثانيهما يتعلق بالعمل بقصد الأمر الأول ، فيتمكن المولى بهذه الطريقة من تحقيق عبادية الطهارات ، إذ بدون ذلك لا يتمكن منه ، لعدم كون الطهارات بنفسها عبادة ، وعدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر الأول.

وأورد عليه في الكفاية بوجهين :

الأول : ان ذات العمل ليست بمقدمة ، إذ المفروض كون المقدمة هو العمل العبادي لا مجرد الحركات الخاصة. وعليه فيمتنع ان يتعلق بها أمر غيري مترشح من الأمر النفسيّ ، إذ ملاك تعلق الأمر الغيري بالعمل كونه مقدمة للواجب النفسيّ ، فلا يتعلق بما ليس بمقدمة.

الثاني : انه قد مرّ امتناع تصحيح أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر شرعا بالالتزام بأمرين ، وانه لا محيص عن كونه مما يحكم به العقل لا الشرع.

فتصحيح عبادية الطهارات بأمرين لا يخلو عن المحذور (٣).

__________________

(١) ذكر سيدنا الأستاذ ـ دام ظله ـ في اليوم الثاني : بأنه راجع التقريرات ، فوجدها غير موافقة لما ذكره صاحب الكفاية كما جزم به أولا. ( منه عفي عنه ).

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ٢٠٣ ـ الطبعة الأولى.

(٣) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٢ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٥٦

والتحقيق ان الوجه الأول لا يخلو عن بحث ، وهو : ان الأمر الأول الّذي يتعلق بالطهارات الثلاث اما ان يكون غيريا ، أو نفسيا تهيئيا ، أو نفسيا استقلاليا.

اما إذا كان غيريا ـ كما هو مفروض إيراد صاحب الكفاية بحسب ما فهمه من كلام المستدل ـ فيصح تعلقه بذات العمل على بعض الوجوه.

بيان ذلك : ان العمل مع قصد القربة اما ان يلتزم بأنهما مأخوذان بنحو التركيب ، فيكون كل منهما جزء المقدمة ، أو يلتزم بان الأمر متعلق بالعمل القربي بنحو التوصيف والتقييد.

فعلى الأول : لا امتناع في تعلق الأمر الغيري بذات العمل ، لأنه يكون بنفسه مقدمة ، فان جزء المقدمة مقدمة ، كما لا يخفى.

وعلى الثاني : فاما ان يبنى على انحلال الواجب والمأمور به إلى جزءين ، ذات العمل والتقيد ، بحيث يختص كل منهما بأمر ضمني.

وعلى هذا الأساس يبنى على جريان البراءة في الأقل والأكثر عند الشك في شرطية شيء ، كما تقدمت الإشارة إليه في أول مبحث التعبدي والتوصلي.

أو يبنى على عدم انحلال المأمور به ، وان الواجب في الحقيقة امر بسيط ، وهو الحصة الخاصة.

وعلى هذا الأساس يبنى على عدم جريان البراءة مع الشك في شرطية شيء في باب الأقل والأكثر.

فان بني على انحلال المأمور به المقيد إلى جزءين ، يكون كل منهما قابلا لتعلق الأمر به ، فلا مانع حينئذ من تعلق الأمر الغيري بذات العمل لأنه جزء المأمور به.

نعم إذا لم يبن علي الانحلال لم يتجه تعلق الأمر بذات العمل ، لأنه ليس

٢٥٧

بمأمور به ولا يمكن ان يكون مأمورا به لعدم توفر الملاك فيه. فإشكال صاحب الكفاية انما يتوجه على البناء الأخير ، وإلاّ فهو على البناءين الأولين غير متجه.

وتحقيق أحد هذه المباني ليس محله هاهنا ، بل له مجال آخر يأتي التعرض إليه.

فالمتعين من إيرادي الكفاية هو الثاني ، فقد مر بيان مراد الكفاية من الإشكال على تصحيح أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر بالالتزام بأمرين ، وانه مما لا محيص عن الالتزام به فيتوجه على هذا الوجه ويضاف إليه إيرادين آخرين :

أحدهما : ما تقدم من ان الأمر الغيري غير قابل للدعوة والتحريك نحو العمل المأمور به ، فلا وجه لأن يدعو الأمر الثاني إلى دعوة الأمر الأول.

وثانيهما : ان قصد امتثال الأمر الغيري الأول بتوسط الأمر الثاني لا يستوجب المقرّبية وترتب الثواب عليه كما تقدم ، وتعدد الأمر لا يصحح ترتب الثواب وحصول القرب كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى نقول : ان المقصود من الأمر الثاني انما هو الإتيان بالعمل بقصد الأمر الأول ليكون عباديا ، وهو غير متحقق ، إذ الأمر الأول لما كان غيريا لا يكون قصده محققا للعبادية ، إذ لا يوجب القرب ، فلا يتوصل إلى العبادية بتعدد الأمر.

هذا إذا كان الأمر المتعلق بذات العمل غيريا.

واما إذا كان نفسيا تهيئيا ، بمعنى انه أمر مستقل غير تابع لثبوت الأمر بالغاية ، ولكن الغرض منه التوصل إلى تحقق الغاية ، فهو وسط بين الأمر الغيري والنفسيّ المحض. وقد التزم بتعلقه بالمقدمات المفوتة عند عدم تمامية الوجوه المذكورة في تصحيح وجوبها قبل زمان وجوب ذيها.

فيرد عليه : انه يمتنع تعلق الأمر النفسيّ التهيئي في هذا الفرض ونحوه

٢٥٨

مما كان وجوب ذي المقدمة فعليا ، وذلك لما ذكرناه في الأمر الغيري من عدم قابليته للدعوة والتحريك. ببيان : ان المكلف اما ان يكون في مقام امتثال الأمر النفسيّ بذي المقدمة أو لا يكون ، فان كان في مقام امتثال الأمر النفسيّ ، كان إتيانه بالمقدمة مما لا بد منه ، سواء قصد امتثال الأمر التهيئي أو لم يقصد. وان لم يكن في مقام امتثال الأمر النفسيّ لم يتحقق منه قصد الأمر التهيئي ، إذ قد عرفت انه بملاك التوصل إلى الواجب الآخر ، فإذا لم يقصد امتثال الواجب الآخر لم يتحقق التوصل قهرا ، فلا يلحظ ملاك الأمر التهيئي عند إتيان العمل ، فيمتنع قصد امتثاله.

نعم الأمر التهيئي المتعلق بالعمل قبل زمان الواجب الآخر المقصود التوصل به إليه ، كالمتعلق بالمقدمات المفوتة ، له قابلية الدعوة ، إذ لولاه لما أتي بالمقدمة المستلزم لترك الواجب ، فيمكن ان يكون الداعي للإتيان بالمقدمة ليس إلاّ تعلق الأمر به ، ولولاه لما أتى به وكان معذورا في ترك الواجب في ظرفه ، لعدم القدرة عليه ، وعدم الملزم لإيجادها أو المحافظة عليها قبل ظرفه.

واما إذا كان الأمر نفسيا محضا وذاتيا بلا ارتباط له بأمر آخر. فلا إشكال فيه ، إلا أنه خارج عما هو محل الكلام ، فان الغرض من هذا الوجه تصحيح عبادية الطهارات من طريق غير الأمر النفسيّ ، وإلاّ رجع هذا الوجه إلى الوجه الأول الّذي التزم فيه باستحباب الطهارات بذاتها. فالتفت.

الوجه الخامس : ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من ان الشرائط كالأجزاء متعلقة للأمر الضمني النفسيّ ، فالإتيان بها بداعي أمرها النفسيّ الضمني كما يؤتى بالاجزاء كالركوع. وعليه فعبادية الطهارات باعتبار تعلق الأمر النفسيّ ، وبذلك تندفع الإيرادات ، إذ المقربية والثواب ناشئان من امتثال الأمر النفسيّ الضمني ، ولا أمر غيري في المقام كي يستشكل في عباديته ، وإشكال الدور يندفع بما يدفع به نفس الإشكال على تعلق الأمر بنفس العمل

٢٥٩

وذي المقدمة المفروض كونه عباديا ، والمحاذير الأخرى التي ذكرها قدس‌سره واضحة الاندفاع (١).

وهذا الوجه ـ مع غض النّظر عن صحة ما التزم به من كون الشرائط كالأجزاء متعلقة للأمر الضمني ، وعدم صحته ، فانه محل كلام ، فقد ادعي امتناعه ـ غير سديد ، فانه لو سلم كون الأمر الضمني يتعلق بالشرائط ، فالشرط في ما نحن فيه هو الطهارة لا نفس الوضوء وهي مسببة عن الوضوء ، والإشكال في تصحيح عبادية نفس الأعمال المأتي بها ، وهي لا تكون متعلقة للأمر الضمني لأنها ليست شرطا ، كما ان الطهارة غير متعلقة للأمر الضمني ، إذ للشيخ رحمه‌الله بيان وجيه لعدم إمكان تعلق الأمر بالطهارة أصلا ـ يأتي ذكره في محله إن شاء الله تعالى ـ ، فالطهارة ليست على حد سائر الشرائط في كونها متعلقة للأمر الضمني النفسيّ. فتدبر.

الوجه السادس : ما ذكره السيد الخوئي ( حفظه الله ) من انه يمكن الإتيان بإحدى الطهارات بقصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ التي هي مقدمة له ، فانه محقق لعباديتها ، إذ يكفي في تحقق العبادية الإتيان بالفعل مضافا إلى المولى المتحقق بقصد التوصل ، وان لم نقل بوجوب المقدمة غيريا. فعبادية الطهارات الثلاث تتحقق ـ بنظر السيد الخوئي ـ بطريقين :

أحدهما : قصد أمرها النفسيّ لو دل الدليل الإثباتي على استحبابها في أنفسها كما هو مختاره.

ثانيهما : قصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ ، وان لم يلتفت إلى استحبابها النفسيّ (٢).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٧٥ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٤٠١ ـ الطبعة الأولى.

٢٦٠