منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

للإطلاق.

نعم ، لا مانع من التمسك بإطلاق المادة ومتعلق النسبة الطلبية ، فانها مفهوم اسمي ملحوظ استقلالا. فلاحظ.

المقام الثاني : في مقتضى الأصل العملي بعد عدم تمامية الأصل اللفظي.

والتحقيق : انه يختلف باختلاف الموارد ، فقد تتفق نتيجته مع النفسيّة في مورد ومع الغيرية في مورد آخر.

وقد ذكر المحقق النائيني لموارد الشك ثلاث صور :

الصورة الأولى : ان يعلم بوجوب أمرين تفصيلا وكان الوجوبان متماثلين في الإطلاق والاشتراط ، لكنه شك في كون أحدهما مقيدا بالآخر. كما لو علم بوجوب كل من الوضوء والصلاة بعد الزوال وشك في تقيد الصلاة بالوضوء فيكون وجوبه غيريا وعدم تقيده فيكون وجوبه نفسيا.

وبما ان الشك في هذه الصورة يتمحض في تقيد الصلاة بالوضوء ، إذ أصل وجوب كل منهما معلوم ، ولا بد من الإتيان بكل منهما ، فليس المشكوك الا تقيد الصلاة بالوضوء ، ومقتضى أصالة البراءة نفيه ، وعليه فيكون المكلف في سعة في إتيان الوضوء قبل الصلاة وبعدها. وهذا بالنتيجة يتفق مع كون وجوب الوضوء نفسيا فلاحظ (١).

واستشكل فيه السيد الخوئي ( حفظه الله ) : بان جريان أصالة البراءة في تقيد الصلاة بالوضوء معارض بجريانها في وجوب الوضوء النفسيّ للعلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، فلا وجه لإجراء البراءة في طرف مع إمكان جريانها في الآخر. ولأجل ذلك لا بد من الاحتياط بإتيان الوضوء قبل الصلاة (٢).

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٧٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٧٠ ـ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

٢٢١

ولا يخفى ان هذا المعنى الّذي ذكره السيد الخوئي مما يلتفت إليه من له قليل علم فضلا عن مثل المحقق النائيني قدس‌سره ، اذن فما هو الوجه في إجراءه البراءة في التقيد مع أنه طرف العلم الإجمالي؟.

والإجابة عن هذا السؤال هي : ان المحقق النائيني يذهب إلى انحلال العلم الإجمالي المزبور ، وعدم إمكان إجراء البراءة في أحد الطرفين ، فتكون البراءة في الآخر بلا معارض. بيان ذلك : ان وجوب الوضوء معلوم على كل حال نفسيا كان أو غيريا فهو لا يكون مجرى البراءة ، ووجوب التقيد محتمل ، فيكون مجرى البراءة ، لأن أصل البراءة فيه بلا معارض بعد ان امتنع جريانه في طرف الوضوء.

وعلى هذا فتمامية ما ذكره السيد الخوئي تتوقف على مقدمتين :

المقدمة الأولى : هو الالتزام بعدم جريان البراءة في الوجوب الغيري ، باعتبار أنه ليس من المجعولات الشرعية ، بل هو من الأمور اللازمة للوجوب النفسيّ ، فهو كالأمور التكوينية غير قابل للوضع ولا للرفع ، فلا معنى لإجراء البراءة الشرعية فيه. فالوجوب القابل لجريان البراءة هو الوجوب النفسيّ لأنه حكم مجعول قابل للرفع والجعل.

وعليه ، فتكون البراءة من وجوب التقيد معارضة بمثلها ، لجريان البراءة من الوجوب النفسيّ لأنه مشكوك ، واما أصل الوجوب فهو ليس بموضوع البراءة على تقديريه ـ كما هو المفروض ـ ، وما هو موضوع البراءة مشكوك وهو الوجوب النفسيّ ، فجريان البراءة فيه يعارض جريانها في وجوب التقيد.

المقدمة الثانية : انه قد يقال ـ في تقريب مدعى النائيني ـ : بان لزوم الوضوء واستحقاق العقاب على تركه معلوم على كل حال ، اما على تركه بنفسه لو كان واجبا نفسيا ، أو على ترك الواجب النفسيّ المقيد به لو كان واجبا غيريا ، فلا يكون العقاب عليه عقابا بدون بيان ، بخلاف التقيد فانه لا يعلم لزومه ولا

٢٢٢

يعلم بثبوت العقاب على تركه ، فيكون مجرى البراءة العقلية. وان لم يكن مجرى للبراءة الشرعية بمقتضى ما قرّر في المقدمة الأولى.

ويشكل : بان ترتب العقاب على ترك الوضوء اما لتركه نفسه أو ترك الواجب المقيد به بتركه ، مرجعه إلى تقرير العلم الإجمالي المدعى المانع من إجراء البراءة في طرف التقيد ، فان تحقق العقاب على ترك الوضوء لترك الواجب المقيد به يرجع إلى تحقق العقاب على ترك التقيد الواجب ، فليس ترك التقيد طرفا لترك الوضوء بكلا احتماليه كي يكون مجرى البراءة ، بل هو أحد احتمالي ترك الوضوء ، ففي الحقيقة انه يعلم إجمالا بلزوم الوضوء نفسيا لو لزوم التقيد ، وان العقاب ثابت على ترك الوضوء اما من جهة وجوبه النفسيّ أو من جهة استلزامه لترك الواجب. وبعبارة أخرى : يعلم إجمالا بثبوت العقاب على ترك الوضوء أو ترك الصلاة المقيدة به ، وإجراء البراءة في كل طرف معارض بإجرائها في الطرف الآخر ، لأن كل طرف موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والحاصل : ان وجوب التقيد لا يكون مجرى للبراءة الشرعية كما هو مقتضى المقدمة الأولى ، ولا مجرى للبراءة العقلية كما هو مقتضى المقدمة الثانية.

ولكن التحقيق عدم تمامية كلتا المقدمتين ، وما ذكره المحقق النائيني من دعوى الانحلال وجيه ، وذلك :

اما المقدمة الأولى : فلان أساسها هو عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة فيه. وهذا مسلم في الجملة لا مطلقا ، وذلك لأن الوجوب الغيري المستفاد من الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة أمر ذاتي لازم له غير قابل للوضع والرفع ، ولكن قد يلتفت الآمر إلى المقدمات فينشئ حكما خاصا بها ، كما لو قال : « ادخل السوق واشتر اللحم » ، فان الأمر بالمقدمة في مثل الحال أمر مجعول قابل للجعل والرفع ، فيمكن إجراء البراءة فيه مع الشك.

وبالجملة : عدم جريان البراءة فيما لا إنشاء له مستقلا من الوجوبات

٢٢٣

الغيرية مسلم لعدم كونه مجعولا شرعيا ، بل هو لازم تكويني ـ كما يأتي تحقيقه ـ. واما ما له إنشاء مستقل وجعل خاص ، فلا مانع من إجراء البراءة فيه ، لأنه حكم مجعول قابل للوضع والرفع. وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ المفروض تعلق الأمر بالوضوء المردد بين كونه نفسيا أو غيريا ، فعلى تقدير كونه غيريا يكون من النحو الّذي تجري فيه البراءة. وعليه فوجوب الوضوء ـ فيما نحن فيه ـ قابل لجريان البراءة بكلا نحويه ، لكنه لا يكون مجرى البراءة بعد العلم به على كل حال ، فينحل العلم الإجمالي ويكون أصل البراءة في طرف التقيد بلا معارض.

واما المقدمة الثانية : فنورد عليها فعلا بأنه لم يلتزم بعدم الانحلال في مثل هذه الصورة حكما ، بل التزم بالانحلال ، فالإيراد عليه فعلا جدلي.

هذا كله حول ما ذكره في تعليقته على : « أجود التقريرات » من تقريب عدم جريان البراءة بتشكيل العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، فطرفا العلم الإجمالي هما وجوب الوضوء النفسيّ ووجوب التقيد النفسيّ. ولكنه في تقريرات بحثه قرر العلم الإجمالي بنحو آخر ، وقد أشار إليه في ذيل تعليقته على أجود التقريرات ، وهو : انا نعلم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا ، أو وجوبه غيريا ، وجريان البراءة في الوجوب الغيري معارض بجريانها في الوجوب النفسيّ (١).

ومن الواضح ان هذا المقدار من البيان لا يرتبط بما هو محل الكلام ، من لزوم التقيد وعدمه ، فان مورد الشك هو لزوم تقيد الصلاة بالوضوء وعدمه ، وقد عرفت ان المحقق النائيني ادعى جريان البراءة فيه ولم يرتض السيد الخوئي ذلك ، وتقرير الإشكال بما عرفته لا ينفع في الإلزام بالإتيان بالتقيد ، وذلك لأن

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٧٠ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٩٢ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٤

مقتضى العلم المذكور ليس إلا الإتيان بالوضوء ، اما الإتيان بالصلاة مقيدة به فلا ، إذ ليس ذلك من آثار الوجوب الغيري ـ كي يلزم ترتيبه بمقتضى العلم الإجمالي ـ ، وانما هو من ملازماته والمفروض أنه غير معلوم كي يعلم بلازمه ، فهو نظير عدم ترتب نجاسة الملاقي لما هو محتمل النجاسة الّذي يكون طرفا للعلم الإجمالي.

فلا بد من تتميم هذا البيان بان يقال : ان هناك علما إجماليا آخر متعلق بالوجوب النفسيّ المردد بين الوضوء والتقيد ، فلدينا علمان إجماليان ذو أطراف ثلاثة لاشتراك أحد الطرفين فيهما ، لأن أحدهما متعلق بوجوب الوضوء المردد بين النفسيّ والغيري ، والآخر متعلق بوجوب النفسيّ المردد بين الوضوء والتقيد. فوجوب الوضوء النفسيّ طرف لكلا العلمين.

وعليه ، فيقال : ان جريان البراءة في كل من أطراف هذين العلمين معارض بجريانه في الطرف الآخر ، فيمتنع جريان البراءة في طرف التقيد لمعارضته بجريانها في الوجوب النفسيّ للوضوء. فلا ينحل العلم الإجمالي ـ كما ادعي ـ.

وأنت خبير : بان هذا الوجه إنما يجدي في إثبات الاحتياط والإتيان بالصلاة مقيدة بالوضوء لو فرض ان لكل من خصوصيتي النفسيّة والغيرية أثرا خاصا بها غير أصل الإلزام الّذي هو مقتضى أصل الوجوب الجامع. كي يكون إجراء البراءة فيه بلحاظ نفي ذلك الأثر. ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ ليس لكل منهما أي أثر إلزامي. وعليه فليست النفسيّة والغيرية موضوعا لأصل البراءة كي يدعى معارضتها بالبراءة في الطرف الآخر. واما أصل وجوب الوضوء فهو معلوم غير قابل لإجراء البراءة فيه ، فتكون البراءة من وجوب التقيد بلا معارض ، إذ البراءة لا تجري في أصل وجوب الوضوء للعلم به ، ولا تجري في خصوصية النفسيّة والغيرية لعدم الأثر فيها. فلاحظ.

٢٢٥

هذا ولكن الإنصاف : ان الاحتياط بالإتيان بالوضوء قبل الصلاة ليتحقق التقيد هو المتعين ، بيان ذلك : انه وقع الكلام في جريان البراءة الشرعية التي يتكفلها حديث الرفع في نفي الوجوب الغيري المشكوك.

والسّر في ذلك هو : الخلاف في كون المرفوع في حديث الرفع هل هو الحكم الشرعي المجعول ، أو أنه المؤاخذة على مخالفة الحكم الواقعي؟ فعلى تقدير كون المرفوع نفس الحكم المجعول أمكن القول بجريان البراءة في الوجوب الغيري إذا كان مجعولا ، لا الوجوب الغيري المبحوث عنه في علم الأصول وهو الملازم للوجوب النفسيّ ، لأن هذا غير قابل للوضع والرفع ، لأنه من الأمور التكوينية غير المجعولة شرعا.

نعم قد يتفق إنشاء البعث الغيري ـ كما ذكرنا ذلك ـ ، فهو المورد القابل لجريان البراءة لو التزم بان المرفوع هو الحكم المجعول ، فان مقتضى إطلاق حديث الرفع هو رفع الحكم المجعول مطلقا نفسيا كان أو غيريا.

وعلى تقدير كون المرفوع رأسا هو المؤاخذة لا الحكم نفسه ـ كما هو رأي الشيخ ـ فاما ان يقصد رفع المؤاخذة المترتبة على نفس العمل لأجل مخالفة الحكم المتعلق به ، أو يقصد به رفع المؤاخذة المتأتية منه ولو كانت على غيره مباشرة. وبعبارة أخرى : المؤاخذة على العمل اما ان تكون على نفسه مباشرة ، أو تكون على غيره ولكن كانت بواسطته وكان هو سببا لتحقق مخالفة الحكم الثابت على غيره ، فالكلام في حديث الرفع في أنه يرفع المؤاخذة المترتبة على العمل مباشرة أو الأعم منها ومن المؤاخذة المترتبة بواسطة هذا العمل. وبتعبير أوضح : هل حديث الرفع يرفع المؤاخذة على العمل ، أو المؤاخذة من جهة العمل ولو لم تكن عليه بل على غيره؟.

فعلى الأول : يمتنع جريان البراءة في نفي الوجوب الغيري ، إذ من الواضح انه لا مؤاخذة على ترك الواجب الغيري بما انه كذلك ، بل تتحقق

٢٢٦

المؤاخذة عند تركه لترك الواجب النفسيّ بتركه ، فالمؤاخذة على ترك الواجب النفسيّ لا ترك الواجب الغيري. وعليه فلا معنى لشمول حديث الرفع للوجوب الغيري.

واما على الثاني : فالوجوب الغيري مشمول لحديث الرفع ، إذ بترك الواجب الغيري يترتب العقاب على ترك الواجب النفسيّ بتركه.

وبما ان المختار ـ كما سيأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى ـ هو كون المرفوع هو المؤاخذة على نفس العمل ، لا الحكم المجعول ، ولا المؤاخذة المترتبة عند تحقق العمل أعم من ان تكون على نفس العمل أو على غيره ، كان القول بعدم جريان البراءة الشرعية في الوجوب الغيري هو المتعين.

واما البراءة العقلية : فهي غير جارية بلا إشكال ، لأن ملاكها هو قبح العقاب بلا بيان ، ومرجع ذلك إلى أنه لو كان في الواقعة حكم واقعي تترتب على مخالفته في نفسه المؤاخذة ، بحيث يكون مقتضيا لها ، فلا تصح المؤاخذة على مخالفته بدون الوصول إلى المكلف والعلم به. فموضوع القاعدة وجود المقتضي للعقاب ، ولكنه لا يؤثر بدون البيان. ومن الواضح ان الوجوب الغيري لا يقتضي العقاب والمؤاخذة ، إذ ليس على مخالفته بنفسه عقاب ، فهو خارج عن موضوع ثبوت البراءة العقلية.

فالمتحصل : ان الوجوب الغيري غير قابل للبراءة العقلية ولا الشرعية.

وعليه ، فحيث يعلم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، كان جريان البراءة من وجوب التقيد النفسيّ معارض بجريانها في وجوب الوضوء النفسيّ.

ودعوى : الانحلال بالعلم بوجوب الوضوء الجامع بين النفسيّ والغيري ، فلا يكون مورد البراءة.

مندفعة : بان كلي الوجوب وطبيعيه ليس مجرى البراءة ، لأنه ليس بكلا

٢٢٧

نحويه قابل لجريانها ، وما هو مجرى البراءة وهو خصوص الوجوب النفسيّ مشكوك وليس بمعلوم ، فالمقتضي للبراءة فيه ثابت ، فيعارض البراءة من وجوب التقيد. فالوجه في عدم جريان البراءة هو : عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة فيه.

ولأجل ذلك لا يتجه من السيد الخوئي إنكار الانحلال ، ودعوى لزوم الاحتياط ، لأن كلامه صريح في جريان البراءة في الوجوب الغيري ، ومعه تتجه دعوى الانحلال ، لأن وجوب الوضوء معلوم وغير قابل لجريان البراءة ، فتكون البراءة من وجوب التقيد بلا معارض. إلاّ ان يشكّل العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، فان البراءة في كل منهما معارضة للآخر ، لكنه خلاف ظاهر كلامه في تعليقته وتقريرات بحثه كما أشرنا إليه. فتدبر.

الصورة الثانية : ان يعلم بوجوب شيء فعلا مردد بين كونه نفسيا أو غيريا ، مع العلم بأنه لو كان غيريا كان وجوب ذي المقدمة فعليا ، لكن لم يصل إلينا ، نظير ما لو علم بأنه نذر اما الإتيان بالوضوء أو الصلاة ، بحيث لو كان هو الوضوء كان وجوبه نفسيا ، وان كان هو الصلاة كان وجوب الوضوء غيريا ، فهو يعلم اما بوجوب الوضوء بخصوصه أو بوجوبه مع الصلاة.

وقد اختار المحقق النائيني لزوم الإتيان بالوضوء للعلم بترتب العقاب على تركه ، اما لأجل تركه نفسه أو لأجل ترك ذي المقدمة من ناحيته. واما ترك ذي المقدمة من ناحية غير الوضوء ، فهو مما لا يعلم بترتب العقاب عليه ، فاصل البراءة من الفعل لا مانع منه.

وقد نسب إلى صاحب الكفاية في هذه الصورة : القول بالبراءة بالنسبة إلى الوضوء أيضا ، واستشكل فيه : بأنه لا يتم بناء على إمكان التفكيك في تنجز المركب ، فيكون منجزا من جهة غير منجز من جهة أخرى ، إذ المقام من هذا القبيل ، فان وجوب الصلاة من جهة الوضوء منجز ومن جهة غيره ليس بمنجز ،

٢٢٨

فجريان البراءة فيه من غير ناحية الوضوء لا ينافي عدم جريانها من ناحيته (١).

وبالجملة : مرجع كلام المحقق النائيني إلى دعوى انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيليّ بلزوم الوضوء واستحقاق العقاب على تركه ، وشك بدوي في لزوم الصلاة بسائر اجزائها وشرائطها ، فتكون مجرى البراءة بلا معارض.

وقد وافقه السيد الخوئي على ذلك ، فذهب إلى انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بلزوم الوضوء ، وشك بدوي في وجوب الصلاة ، فيكون وجوبها مجرى البراءة بلا معارض لعدم جريانها في الوضوء بعد العلم بوجوبه (٢).

وما أفاده المحقق النائيني مخدوش من جهات :

الأولى : ما أفاده من دعوى الانحلال للعلم التفصيليّ بوجوب الوضوء والشك في وجوب الصلاة.

وجهة الخدشة في ذلك : قد عرفتها بما تقدم من عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة ، فلا يكون طبيعي الوجوب مجرى البراءة ، بل مجراه خصوص الوجوب النفسيّ وهو مشكوك في الفرض ، فتكون البراءة من وجوب الصلاة معارضة بالبراءة من وجوب الوضوء نفسيا. فلا ينحل العلم الإجمالي بما ذكر ، لفرض تعارض الأصلين الّذي هو قوام منجزية العلم الإجمالي.

اللهم إلا ان يقال ان المحقق النائيني يلتزم بكون الشرائط متعلقة للأمر النفسيّ الضمني كالأجزاء. وعليه فيكون الوجوب النفسيّ للوضوء معلوما على التقديرين إلا انه على تقدير استقلالي وعلى آخر ضمني. ومن الواضح قابلية الأمر الضمني لجريان البراءة. وعليه فيمتنع جريان البراءة من وجوب الوضوء حينئذ للعلم بكليّة المانع منها ، فتكون البراءة من وجوب الصلاة بلا معارض

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٧١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٨٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٢٩

فالتفت.

الثانية : ما أفاده من تطبيق الالتزام بالتفكيك في تنجز المركب على ما نحن فيه.

ولإيضاح وجه الخدشة فيه لا بأس بالإشارة إلى المقصود بالتفكيك في مقام التنجز فنقول : ان المركب بما انه عين اجزائه كان ترك كل جزء موجبا لترك المركب ، فترك المركب يمكن ان يكون بترك كل جزء على حده ، وإذا كان المركب واجبا كان تركه بترك أي جزء من اجزائه موجبا للمؤاخذة والعقاب. وقد ذكر في مبحث الأقل والأكثر انه يمكن عقلا التفكيك في اجزاء المركب ، فيكون ترك المركب بترك بعضها موجبا للمؤاخذة وتركه بترك البعض الآخر غير موجب للمؤاخذة.

وعلى هذا الأساس بني على إجراء البراءة العقلية من الزائد على الأقل المتيقن ، وانحلال العلم الإجمالي بالوجوب المردد بين الأقل والأكثر. بتقريب : ان المؤاخذة على ترك الواجب من جهة ترك الأقل معلومة فلا تجري فيها البراءة.

واما المؤاخذة على تركه من ترك الزائد المشكوك فهي غير معلومة فيكون الزائد مجرى البراءة وان استلزم نفي المؤاخذة على ترك الواجب ـ لو كان المشكوك جزء واقعا ـ ، إذ لا امتناع من نفي العقاب على ترك الواجب من جهة وإثباته من جهة أخرى.

وصاحب الكفاية حين أنكر جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر انما هو لأجل إنكاره إمكان التفكيك ، فلا ينحل العلم الإجمالي (١).

إذا عرفت هذا نقول : ان نظر المحقق النائيني إلى تطبيق هذه القاعدة على ما نحن فيه ، فان العقاب على ترك الصلاة من جهة ترك الوضوء معلوم ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٣٦٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٣٠

والعقاب على تركها من غير ناحيته غير معلوم فتجري فيه البراءة بلا معارض.

ولكن الإنصاف ان هذا الوجه إنما يتم بالنسبة إلى خصوص اجزاء المركب دون الشرائط ، لأنها لا يتقوم بها المركب فلا يكون تركها تركا للمركب كالأجزاء ، بل يكون تركها سببا وملازما لترك المركب ، فليس هناك تروك متعددة للمركب بتعدد الشرائط كي يتصور التفكيك بينها في المؤاخذة وعدمها ، ووضوح هذا المعنى موكول إلى محلّه ، وانما القصد هو الإشارة إلى جهة الإشكال في كلامه من هذه الجهة ، وان إقحام ذلك المبحث فيما نحن فيه وتطبيقه عليه في غير محلّه.

الثالثة : ما أفاده من حمل كلام صاحب الكفاية على هذه الصورة واستشكاله في إجرائه البراءة من الوضوء.

وجهة الخدشة فيه : ان نظر صاحب الكفاية إلى صورة أخرى غير هذه الصورة ، وهي ما إذا علم إجمالا بوجوب شيء مردّد بين كونه نفسيا أو غيريا مع العلم بأنه لو كان غيريا فذي المقدمة ليس بفعلي ، كما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء عليها ، لكنها ترددت في كونه نفسيا أو غيريا لأجل الصلاة ، والمفروض ـ بحكم كونها حائضا ـ عدم وجوب الصلاة عليها فعلا. ومن الواضح ان إجراء البراءة في هذه الصورة لا إشكال فيه ، إذ مع العلم بعدم فعلية الواجب النفسيّ الّذي يحتمل كون الواجب المعلوم قيدا له ، لا يكون العلم الإجمالي بوجوب الشيء المردد بين كونه نفسيا وغيريا منجزا ، لأنه لو كان غيريا لا يكون فعليا ، فلا يكون أحد طرفيه فعليا ، فهو ليس بمنجز على كل تقدير ، فلا مانع من جريان البراءة فيه. فلاحظ.

ونتيجة الكلام : ان المتعين في هذه الصورة هو الاحتياط بإتيان الوضوء والصلاة المقيدة به للعلم الإجمالي بالوجوب النفسيّ المردد بينهما ، ولا وجه لانحلاله بناء على ما عرفت من عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة ،

٢٣١

لتعارض الأصلين حينئذ.

ولكنه انما يؤاخذ به من يلتزم بكون الشروط متعلقة للأمر الغيري ـ كما هو الحق ـ واما من يلتزم بكونها متعلقة للأمر الضمني كالأجزاء كالمحقق النائيني ، فالعلم الإجمالي منحل لجريان البراءة في طرف دون آخر كما عرفت.

الصورة الثالثة : ان يعلم تفصيلا بوجوب أمرين وشك في كون أحدهما المعين شرطا للآخر ، مع عدم العلم بتماثل الوجوب فيهما من حيث الشرائط ، كما إذا علمنا بوجوب الصلاة نفسيا في الوقت الخاصّ ، وعلمنا بوجوب الوضوء وشك في أنه نفسي أو غيري ، وإذا كان نفسيا فهو غير مقيد بالوقت الخاصّ ، وإذا كان غيريا فهو مقيد به لتبعيته لوجوب ذي المقدمة.

وقد ذكر المحقق النائيني ان الشك في هذه الجهة يتصور من جهات ، وهو في جميعها مجرى البراءة :

الأولى : الشك في وجوب تقيد الصلاة بالوضوء ، وقد تقدم ان الأصل فيه هو البراءة من وجوبه.

الثانية : الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت ، لاحتمال كونه نفسيا أو انه يختص بما بعد الوقت ، فتجري البراءة من وجوبه قبل الوقت.

الثالثة : الشك في ان الوضوء قبل الوقت هل يسقط وجوب الوضوء بعد الوقت أو لا؟ ومرجع هذا الشك إلى الشك في أن وجوب الوضوء بعد الوقت هل هو مطلق أو مختص بمن لم يتوضأ قبله ، ومقتضى البراءة عدم وجوبه بالنسبة إلى من توضأ قبل الوقت ، فأصالة البراءة عن تقيد الصلاة بالوضوء وعن وجوبه قبل الوقت وعن وجوبه لمن توضأ قبل الوقت بلا معارض.

وقد ذكر ان نتيجة البراءة في الجهة الأولى والثالثة نتيجة النفسيّة ، ونتيجتها في الجهة الثانية نتيجة الغيرية في تقيد الوجوب بما بعد الوقت ، لأنه

٢٣٢

شرط لوجوب الصلاة أيضا (١).

وقد ذكر السيد الخوئي في مقام تحقيق هذه الصورة : انه يمكن ان تتصور على وجهين :

الأول : ان يكون هناك علم إجمالي بوجوب الوضوء المردد بين النفسيّ والغيري من دون علم بالتماثل مع الصلاة في الإطلاق والاشتراط ، لكن يعلم انه ان كان وجوب الوضوء نفسيا فهو ثابت قبل الوقت فقط ، وان كان غيريا فهو ثابت بعد الوقت ، فهنا علم إجمالي بوجوب الوضوء قبل الوقت أو وجوبه بعده ، وقد تقرر في محله ان العلم الإجمالي في التدريجيات منجز كغيره. وعليه فيمتنع إجراء البراءة من وجوب الوضوء النفسيّ قبل الوقت وإجرائها من تقيد الصلاة بالوضوء بعد الوقت ، لأنه يستلزم عدم لزوم الإتيان بالوضوء بالمرّة. وهو مخالفة عملية قطعية للعلم الإجمالي.

وعليه فمقتضى العلم الإجمالي الإتيان بالوضوء قبل الوقت والإتيان بالصلاة متقيدة به. نعم لا يلزم الوضوء بعد الوقت إذا أتى به قبله لكفاية الوضوء قبله وان لم يكن واجبا.

الثاني : ان يعلم إجمالا بوجوب الوضوء المردّد بين النفسيّ والغيري بلا علم بالتماثل ، لكنه يعلم انه ان كان غيريا فهو مقيد بالوقت وان كان نفسيا فهو غير مقيد به ، بل مطلق بالنسبة إلى ما قبل الوقت وبعده.

وما أفاده المحقق النائيني في الجهات الثلاث لا يخلو من خدشة :

اما ما أفاده من جريان البراءة في الشك في تقيد الصلاة بالوضوء. فجهة الخدشة فيه : ما مر من عدم انحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء أو التقيد ، والبراءة في أحدهما معارضة بالبراءة في الآخر.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٧١ ـ الطبعة الأولى.

٢٣٣

واما ما أفاده من جريان البراءة في الشك في الوجوب النفسيّ للوضوء قبل الوقت فيخدش : بعدم إمكان البراءة ، لأنها مستلزمة لتضييق دائرة الواجب وتقليل افراده التخييرية ، وهذا ينافي الامتنان المفروض انه ملاك البراءة. ولذا يمنع من جريان البراءة في كل مورد يوجب جريانها للتضييق على المكلف والكلفة عليه لا السعة.

واما ما أفاده من جريان البراءة من الوضوء بعد الوقت لو أتى به قبله على تقدير كونه غيريا. فهو في نفسه وان كان تاما ، إلاّ ان الّذي ينبغي ان يذكر في وجهه علميا هو : ان المعلوم على تقدير الغيرية هو أصل تقيد الواجب بالوضوء ، واما تقيده به على ان يؤتى به بعد دخول الوقت فهو غير معلوم ، فتنفى الخصوصية المذكورة بالبراءة.

واما ما ذكره في وجه ذلك : من كون المعلوم لزوم الإتيان بالوضوء لمن لم يأت به قبل الوقت ، اما من أتى به قبله فلا يعلم لزوم الإتيان به بعد الوقت ، فينفي وجوبه عليه بأصالة البراءة. فهو وجه ليس بعلمي (١).

والتحقيق : ان الوجه الأول الّذي ذكره السيد الخوئي وان كان وجها علميا لا خدشة فيه ، إلا انه لا يرتبط بما هو نظر المحقق النائيني ، فان نظره في كلامه إلى الوجه الثاني كما لا يخفى.

واما الإشكال على المحقق النائيني في ما أفاده من جريان البراءة في الجهات الثلاث للشك. فتحقيق الحال فيه :

اما لزوم الاحتياط في الشك في تقيد الصلاة بالوضوء ، وان كان تاما في نفسه ، إلا انه قد عرفت أن المحقق النائيني لا بد له من الذهاب إلى البراءة ، لالتزامه بتعلق الأمر الضمني بالشرائط الموجب لانحلال العلم الإجمالي ، لكون

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٩٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٣٤

جريان البراءة في طرف التقيد بدون معارض ، كما تقدم بيانه وتوضيحه ، وقد عرفت ان التحقيق عدم الانحلال ولزوم الاحتياط لتعلق الأمر الغيري بالشرائط وعدم قابليته للبراءة.

واما الإشكال عليه بعدم صحة نفي الوجوب قبل الوقت مع الشك فيه ، لكون البراءة موجبة للتضييق ، وهو ينافي الامتنان ففيه :

أولا : ان هذا المعنى وان كان إشكالا على المحقق النائيني ، لكنه مما لا يتجه الالتزام به من قبل المستشكل ، لأن دليل البراءة في نظره لا يختص بحديث الرفع ـ كما يرى الشيخ ذلك ـ ، كي يقال باختصاص مجراها بما يكون في جريانها امتنانا على العباد ، لأنه لسان حديث الرفع. بل أنه التزم بان استصحاب عدم التكليف من أدلة البراءة أيضا ، وخالف في ذلك الشيخ رحمه‌الله حيث استشكل في تماميته دليلا على البراءة. ومن الواضح ان دليل الاستصحاب لا يختص بمورد الامتنان. وعليه فحديث الرفع ان لم يشمل الشك في الصورة المزبورة فاستصحاب عدم التكليف يكفي في إجراء البراءة فيه بنظر المستشكل.

وثانيا : ان ما ذكره لا يصلح إشكالا على المحقق النائيني أيضا ، وذلك لأن نفي الوجوب قبل الوقت ان لم يمكن بأدلة البراءة لمنافاتها الامتنان ، فهو ممكن بالاستصحاب ، إذ يمكن استصحاب عدم الوجوب إلى الوقت ولا مانع منه.

ولنا ان ندافع عن المحقق النائيني فنقول : ان نظره هو نفي التكليف قبل الوقت ، ولم يثبت أنه التزم به لجريان أصل البراءة ، وصدور التعبير بالبراءة لا صراحة فيه في كون الدليل هو أصل البراءة ، بل يمكن ان يكون تعبيرا عن نتيجة الاستصحاب المحكم في المقام. فتأمل.

واما ما أفاده من عدم علمية الوجه الّذي ساقه المحقق النائيني لبيان عدم وجوب الوضوء بعد الوقت لمن أتى به بعده ، وان الوجه العلمي ان يحرر بنحو آخر ، وهو ما تقدم. فهو غير سديد لأنه إنما يتم إذا التزم بلزوم الإتيان

٢٣٥

بالتقيد لمكان العلم الإجمالي ، فانه يقال ـ كما أفاده المحقق الخوئي ـ ان أصل التقيد معلوم ، اما التقيد بالوضوء بالخصوصية المعينة ـ أعني كونه بعد الوقت ـ فهو غير معلوم فتجري فيه البراءة. ولكن المحقق النائيني لم يلتزم بلزوم التقيد ، بل عرفت انه أجرى البراءة منه ، فلا معنى أن يقال إن أصل التقيد معلوم والشك في خصوصية زائدة عليه ، بل المتعين هو تحرير الوجه بالنحو الّذي ذكره من ان المعلوم هو لزوم الوضوء على من لم يأت به قبل الوقت ، اما من أتى به قبله فلزومه عليه بعده غير معلوم فتجري فيه البراءة.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل وتحقيقه بمقامه.

وهاهنا تنبيهان ذكرهما صاحب الكفاية ، وتابعة في التعرض إليهما الأعلام ، وتبعا للاعلام ولما يترتب عليهما من أثر علمي وعملي نتعرض إليهما بالتفصيل.

التنبيه الأول : وموضوعه استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته.

وقد تعرض صاحب الكفاية فيه إلى جهات ثلاث :

الجهة الأولى : بيان عدم استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته (١).

وقد ذكر لتقريبه وجوه :

الأول : ما جاء في الكفاية من : بناء العرف والعقلاء على عدم العقاب والثواب على المقدمات ، ولذا لا يرون من يترك واجبا ذا مقدمات متعددة انه مستحق لعقابات متعددة بعدد المقدمات ، كما لا يرون من يأتي بمثل هذا الواجب بمقدماته مستحقا لثوابات متعددة ، بل لا يرونه مستحقا لغير عقاب واحد أو

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٣٦

ثواب واحد على ترك الواجب أو فعله (١).

الثاني : ما ذكره المحقق الأصفهاني في تعليقته على الكفاية ، وهو وجه برهاني لا عرفي كالأول ، ومحصله : ان الوجوب المقدمي بما انه معلول لوجوب ذي المقدمة ، لكون الغرض منه غرض تبعي لا استقلالي ، كانت محركيته وباعثيته تبعية أيضا بتبع باعثية ومحركية الأمر النفسيّ ، فان الانبعاث نحو امتثال الأمر النفسيّ لازم للانبعاث نحو امتثال الأمر الغيري ، كملازمة البعث الغيري للبعث النفسيّ ، وإذا كان الانبعاث عن الأمر الغيري تابعا للانبعاث عن الأمر النفسيّ كان أمرا ارتكازيا كنفس البعث الغيري قد لا يلتفت إليه بنحو التفصيل ، وكما أنه غير مستقل في مقام البعث والانبعاث كذلك هو غير مستقل في مقام عدم الانبعاث ، فان عدم الانبعاث عنه بتبع عدم الانبعاث عن الأمر النفسيّ ، وعليه فلا يكون الانبعاث عنه موجبا للقرب ، ولا عدمه موجبا للبعد ، فلا يكون امتثاله موجبا للثواب ولا عدمه موجبا للعقاب (١).

الثالث : وهو وجه برهاني آخر ، فان ما ذكره المحقق الأصفهاني بهذا المقدار لا يخرج عن كونه وجها صوريا لا يخلو عن خدشة عند التأمل.

ومحصل ما نريد ان نقوله بيانا لهذا الوجه هو : ان الثواب انما ينشأ عن إتيان العمل مرتبطا بالمولى بالإتيان به بداعي الأمر ـ الّذي هو معنى الامتثال ـ ، فترتب الثواب على موافقة الأمر الغيري انما تتصور بالإتيان بالمقدمة بداعي الأمر الغيري ، ومن الواضح ان الأمر الغيري لا يصلح للداعوية والتحريك

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٩٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

هذا ما أفاده سيدنا ـ دام ظله ـ في مجلس الدرس ، لكن ظاهر الكفاية ان الوجه برهاني لا عرفي ، لتعبيره باستقلال العقل ، وان لم يبين جهته. وعلى كل فهو وجه في نفسه وان لم يكن مراد صاحب الكفاية. هكذا تفضل سيدنا الأستاذ ـ دام ظله ـ أخيرا بعد عرض الأمر عليه. ( منه عفي عنه ).

٢٣٧

أصلا ، فلا يمكن الإتيان بالعمل بداعي امتثال الأمر الغيري. أما انه لا يصلح للداعوية والتحريك ، فلان المكلف عند الإتيان بالمقدمة اما ان يكون مصمما وعازما على الإتيان بذي المقدمة أو يكون عازما على عدم الإتيان به ، فان كان عازما على الإتيان به ، فإتيانه المقدمة ـ مع التفاته إلى مقدميتها كما هو المفروض ـ قهري لتوقف ذي المقدمة عليها ، سواء تعلق بها الأمر الغيري كي يدعى دعوته إليها أو لا ، فالإتيان بالمقدمة في هذا التقدير لا ينشأ عن تحريك الأمر الغيري ، بل هو أمر قهري ضروري ومما لا محيص عنه. وان كان عازما على عدم الإتيان بذي المقدمة ، فلا يمكنه قصد الأمر الغيري بالإتيان بالمقدمة ، إذ ملاك تعلق الأمر الغيري بالمقدمة هو جهة مقدميتها والوصول بها إلى الواجب النفسيّ ، لو لم نقل ـ إذ وقع الكلام في أن المقدميّة جهة تعليلية للوجوب الغيري أو جهة تقييدية ـ : بان موضوع الأمر الغيري هو المقدمة بما هي مقدمة لا ذات المقدمة.

ومن الواضح أنه مع قصد عدم الإتيان بذي المقدمة لا تكون جهة المقدمية وتوقف الواجب عليها ملحوظة عند الإتيان بالمقدمة ، ومعه لا معنى لقصد امتثال الأمر الغيري بالعمل ، إذ جهة تعلق الأمر الغيري غير ملحوظة أصلا.

ويتضح هذا الأمر على القول بكون الأمر الغيري متعلقا بالمقدمة الموصلة ، فانه مع القصد إلى ترك الواجب النفسيّ لا يكون المأتي به واجبا بالوجوب الغيري ، فلا معنى لقصد امتثاله فيه لأنه ليس بمتعلق الوجوب.

وخلاصة الكلام : ان البرهان والعمل العرفي قائمان على عدم استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته.

الجهة الثانية : انه بناء على عدم كون ترك الواجب الغيري موجبا لاستحقاق العقاب ، فلو ترك مقدمة لواجب استقبالي بحيث لا يتمكن من الواجب في ظرفه عند تركها ، كما لو ترك إحدى المقدمات المفوتة كالغسل قبل

٢٣٨

الفجر للصوم ، إذ بتركه لا يتمكن من الصوم في ظرفه (١).

فهل يستحق العقاب على ترك الواجب النفسيّ من حين ترك المقدمة أو من زمان الواجب نفسه؟. وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها لكل من الاحتمالين :

اما وجه استحقاق العقاب من حين ترك المقدمة فهو : ان ملاك الثواب هو انقياد العبد للمولى وكونه بصدد امتثاله أمره ، كما ان مناط العقاب هو طغيان العبد وخروجه عن وظيفة العبودية والرقّية ، فانها هي الجهة التي يترتب عليها العقاب عند ترك الواجب أو فعل المحرّم ، لكشف ذلك عن عدم كون العبد في مقام الانقياد إلى المولى وطغيانه على المولى. ومن الواضح ان هذا المعنى ينكشف ويحصل بترك المقدمة ، إذ يتحقق الخروج عن مقام العبودية بتركها الملازم لترك ذيها في ظرفه ، فملاك العقاب متحقق بترك المقدمة.

واما وجه عدم استحقاقه العقاب قبل مجيء زمان الواجب وانتهائه فهو :

ان الانقياد للأمر النفسيّ انما يكون في ظرفه ، ولا يعقل تحققه قبل ظرفه ، فعدم الانقياد الّذي يكون عصيانا وموجبا للعقاب هو عدمه في ظرفه أيضا ، لأنه هو نقيض الانقياد والإطاعة ـ للزوم اتحاد الزمان في المتناقضين ـ ، وعليه فملاك العقاب لا يتحقق قبل ظرف الواجب (٢).

والإنصاف ان ما ذكره المحقق الأصفهاني تبعيد للمسافة ونقل للبحث إلى جهة غير ما ينبغي تحريره.

فالذي ينبغي ان يقال هو : إحالة الالتزام بأحد الوجهين على ما يلتزم به في مسألة التجري من استحقاق المتجري للعقاب وعدمه ، فان البحث هناك يقع في أن ملاك الثواب والعقاب هل هو نفس مخالفة التكليف وموافقته. وبتعبير

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١١٠ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٩٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٣٩

آخر : ان العقاب يكون على نفس العمل الّذي يكون مخالفا للتكليف امرا أو نهيا ، أو ان ملاك الثواب والعقاب هو ما يتصف به العبد من كونه في مقام الإطاعة والامتثال ، أو كونه في مقام المعصية والمخالفة وان لم يتحقق منه المخالفة فعلا ، نعم يشترط فيه إظهار هذه الصفة النفسيّة ، فلا يتحقق العقاب على مجرد كون العبد في مقام المعصية ـ لو اطلع عليه المولى ـ مع عدم إظهار ذلك بمظهر.

فموضوع النزاع هو : ان العقاب والثواب يترتب على نفس المخالفة والموافقة للتكليف أو يترتب على الانقياد والتجري ، والأول كون العبد في مقام الإطاعة مع إظهار ذلك. والثاني كونه في مقام المعصية مع إظهاره أيضا ، لا مجرد الصفة النفسانيّة فانها لا تقتضي ثوابا ولا عقابا.

فمع الالتزام بان العقاب يترتب على نفس التجري ولو لم تحصل المخالفة للتكليف ، لأن ملاك العقاب هو طغيان العبد على المولى الموجب لبعده عنه والحاصل بالتجري ـ كما عليه المحقق الخراسانيّ (١) ـ ، لا بد من الالتزام بان العقاب يتحقق عند ترك المقدمة لتحقق التجري به ، وإظهار عدم المبالاة بأمر المولى ، ولأجل ذلك التزم صاحب الكفاية هاهنا بترتب العقاب عند ترك المقدمة.

ومع عدم الالتزام بذلك ، والالتزام بان موضوع العقاب نفس المخالفة فلا عقاب على التجري ما لم يصادف الواقع ـ كما يظهر من الشيخ رحمه‌الله (٢) ـ ، كان الوجه الالتزام ـ فيما نحن فيه ـ بترتب العقاب في ظرف الواجب ، إذ لا يتحقق ترك الواجب ومخالفته بمجرد ترك المقدمة ، لتقيده بظرف خاص وهو بعد لم يأت.

وبالجملة : لا بد من بناء الحق في المقام على ما يحقق في مسألة التجري من

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ٢٥٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ٥ ـ الطبعة الحجرية.

٢٤٠