منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

يتكفل رفع هذه المؤاخذة منة وتفضلا على العباد. فترك التحفظ المؤدي للغفلة لا يوجب العقاب وان انتهى إلى ترك الواجب الواقعي (١).

إذا عرفت هذا نقول : إن ترك التعلم المؤدي إلى الغفلة وان أوجب امتناع الواجب بالاختيار ، إلا أنه قام الدليل على عدم تحقق المؤاخذة عليه ، وهو حديث الرفع ، فلا يكون التعلم واجبا في هذا الفرض لرفع المؤاخذة على تركه الكاشف عن عدم لزوم تحصيله شرعا. وان شئت قلت : إن حديث الرفع يكشف عن دخل القدرة على الواجب من جهة التعلم في ظرف الواجب ، فالقدرة عليه من جهة التعلم قبل زمانه غير دخيلة في ملاك الواجب ، فلا يجب تحصيلها أو المحافظة عليها أصلا.

فالتعلم وان كان من المقدمات المفوتة في بعض موارده ، لكنه لا يشترك معها حكما لقيام الدليل الخاصّ على عدم لزوم تحصيله.

وبذلك يظهر : ان ما أفاده المحقق النائيني من خروج التعلم ـ الّذي يكون واجبا ـ عن المقدمات المفوتة ، لأن تركه لا يستلزم امتناع الواجب ، وانما يستلزم امتناع إحراز الواجب ، متين. فلاحظ وتدبّر.

هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة.

يبقى الكلام في أمر تعرض له صاحب الكفاية بعنوان : « تتمة » ، وهو انه لو دار الأمر في القيد الوارد في الخطاب بين رجوعه إلى الهيئة ، فيكون قيدا للوجوب. ورجوعه إلى المادة فيكون قيدا للواجب. فهل هناك قاعدة مطردة تعيّن رجوعه إلى خصوص أحدهما المعين أو لا توجد قاعدة مطردة ، فلا بد من ملاحظة كل مورد بخصوصه والحكم بما تقتضيه القرائن والمناسبات لو كانت؟.

__________________

(١) الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول ـ ١٩٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٠١

ذهب الشيخ إلى تعيين رجوعه إلى المادة (١). وخالفه صاحب الكفاية بذهابه إلى عدم الوجه في رجوعه إلى أحدهما ، بل المرجع القرائن الخاصة لو كانت وإلاّ فالأصول العملية (٢).

وقبل الشروع في تحقيق المطلب لا بد من ذكر امرين :

الأمر الأول : في ثمرة البحث ، وهي واضحة ، وذلك لأن القيد إذا كان راجعا إلى الهيئة لم يجب تحصيله لأنه شرط للوجوب ، بخلاف ما إذا كان راجعا إلى المادة فانه يكون من القيود الوجودية للواجب فيجب تحصيله ، بل للبحث ثمرة ولو كان القيد مما لا يجب تحصيله لو رجع إلى الواجب ، كما لو أخذ قيدا إذا حصل من باب الصدفة والاتفاق ، وهي : وجوب المقدمات الوجودية للواجب التي يجب تحصيلها قبل حصول القيد لفعلية الوجوب قبله ، بخلاف ما لو كان راجعا إلى الهيئة ، فان الوجوب لا يكون فعليا قبل حصوله فلا يجب الإتيان بسائر المقدمات الوجودية ، ومن هنا صح ما جاء في الكفاية من قوله : « وان يكون راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أو لا يجب » فلاحظ.

الأمر الثاني : انه قد تقدم من الشيخ إنكار إمكان رجوع القيد إلى الهيئة ، وبيان امتناع الواجب المشروط ، ومع ذلك لا يتجه له تحرير النزاع والحكم برجوع القيد إلى المادة من جهة الترجيح اللفظي. مع انه على مذهبه متعين عقلا.

ويندفع هذا الإيراد بوجهين :

الأول : انه يمكن ان يكون تحرير الشيخ للكلام في هذا الموضوع مبني على التنزل عن مذهبه مجاراة للخصم ، وهذا امر مألوف في طريقة المحققين مثل

__________________

(١) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٤٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٠٢

الشيخ رحمه‌الله.

الثاني : ما ادعي من ان الشيخ لم ينكر الواجب المشروط ببعض المعاني في قبال رجوع القيد إلى صرف المادة ، كرجوعه إلى المادة المنتسبة كما نسبه إليه المحقق النائيني (١). أو كون الوجوب المشروط عبارة عن سنخ إرادة غير الإرادة المطلقة وهي الإرادة على تقدير ، كما ادعاه المحقق العراقي ، فانها كما ذكر سنخ إرادة تختلف بها عن الإرادة المطلقة حتى بعد حصول التقدير والقيد (٢). فللكلام على هذه المباني مجال ، إذ يتكلم في رجوع القيد إلى المادة المنتسبة أو الإرادة فتكون الإرادة الثابتة سنخ إرادة خاصة ، أو إلى ذات المادة.

وعلى كل حال فقد ادعى الشيخ رجحان تقييد المادة على تقييد الهيئة ، وان اللازم في مثل الفرض الالتزام برجوع القيد إلى المادة دون الهيئة ، وقد ذكر لذلك وجهين :

الوجه الأول : ان إطلاق الهيئة يكون شموليا ، كما في شمول العام لافراده ، فان وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير التي يمكن ان يكون تقديرا له ، وإطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة (٣).

وقد أوقع الكلام في هذا الوجه في مقامين :

المقام الأول : في تحقيق الكبرى الكلية التي فرضها الشيخ ، وهي ترجيح الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي ، عند دوران الأمر بين رفع اليد عن إحداهما.

فقد أنكرها صاحب الكفاية بدعوى : انه لا وجه لترجيح أحدهما على

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٣٠ ـ الطبعة الأولى.

(٢) البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار ١ ـ ٢٩٦ ـ طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

(٣) الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٤٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٣

الآخر بعد ان كان كل منهما ثابتا بمقدمات الحكمة والإطلاق ، فان مفاد مقدمات الحكمة يختلف باختلاف الموارد ، فكما تقتضي الشمولية في مورد قد تقتضي البدلية في غيره ، كما انها قد تقتضي التعيين في بعض الموارد ، وإذا كان منشأ ثبوت كل منهما متحدا لم يكن وجه لتقدم أحدهما على الآخر لتساويهما ظهورا ، ولعل منشأ الترجيح ما رأى من تقدم عموم العام على إطلاق المطلق وترجيحه عليه ، والغفلة عن ان مرد ذلك لا يرجع إلى شمولية العام ، بل إلى كون شموله بالوضع وشمول المطلق بالإطلاق ، فيكون العام أظهر منه ، لأن ظهوره وضعي وظهور المطلق إطلاقي (١).

ولكن خالفه المحقق النائيني ووافق الشيخ في لزوم ترجيح المطلق الشمولي على الإطلاق البدلي عند دوران الأمر بينهما ، فإذا ورد مثلا : « أكرم العالم » ثم ورد : « لا تكرم فاسقا » ، فانه يقيد المطلق البدلي بغير العالم ويبقى الإطلاق الشمولي على إطلاقه (٢).

وقد تعرضنا لبيان وجه ما أفاده في الاستدلال على هذه الدعوى ، وبيان ما ذكر من المناقشة فيه ، كما ذكرنا وجها للدعوى بعنوان توجيه ما أفاده قدس‌سره أثبتنا به صحة الدعوى ، وان المتعين موافقته فيما ذهب إليه من ان الإطلاق الشمولي يرجح على الإطلاق البدلي ، كل ذلك ذكرناه في مبحث التعادل والترجيح (٣).

فقد كانت النتيجة : هو أن المعارضة في باب الإطلاق الشمولي والإطلاق

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٦٠ ـ الطبعة الأولى.

(٣) وقد أعاده سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) بتفصيله إتماما للفائدة ، وحيث انه وافق التقرير المحرر سابقا كان إعادة تحريره تطويلا بلا طائل ، وانما المهم الإشارة إلى نتيجة الدعوى بعد توجيهها. فراجع ما أوضحناه تعرف. ( منه عفي عنه ).

٢٠٤

البدلي ، بين الشمول في طرف المطلق الشمولي ونفس الإطلاق في طرف المطلق البدلي.

وبما ان الشمولية ليست من مفاد الإطلاق ومقدمات الحكمة ، بل مفاد دليل خارجي يختلف باختلاف الموارد ، كان الشمول مقدما على الإطلاق ، اما لأجل انهدام مقدمات الحكمة فيه ، بناء على كون مجراها هو المراد الجدي الملازم لأن تكون إحدى مقدماته عدم البيان إلى الأبد المنتفية بورود البيان بالشمول. أو لأجل أقوائية ظهور دليله على ظهور المطلق في الإطلاق ، بناء على كون مجراها هو المراد الاستعمالي ، فقد تقرر ان كل دليل يصادم الإطلاق ولم يكن من سنخه يكون مقدما عليه بلا كلام لأحد الوجهين المشار إليهما فعلا ، وبهذا الوجه الّذي أوضحناه بمقدمات ثلاث تعين علينا موافقة المحقق النائيني في أصل الكبرى الكلية ، وهي ترجيح الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي فان نسبة دليل الشمول إلى مقدمات الحكمة نسبة الوارد إلى المورود.

المقام الثاني : في انطباق هذه الكبرى الكلية على موردنا الّذي نحن فيه ، وكون المقام من صغرياتها ، والّذي يظهر من الشيخ وصاحب الكفاية المفروغية عن هذه الجهة وانما الكلام في الكبرى فقط.

إلاّ انه استشكل في ذلك : بأنه لو سلمت الكبرى الكلية ـ أعنى ترجيح الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي ـ فلا تنطبق على ما نحن فيه ، وعليه فلا تصلح دليلا على تعيين رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.

وبيان ذلك : ان القيد الّذي يدور أمره بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة اما ان يكون متصلا أو منفصلا.

فان كان متصلا : لم ينعقد للهيئة ظهور في الإطلاق وكذا المادة ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية الموجب لإجماله فلا يبقى موضوع للترجيح ، إذ ليس هناك إطلاق شمولي وإطلاق بدلي كي يرجح أحدهما على الأخر.

٢٠٥

وان كان منفصلا : فلأنه وان انعقد لكل من الدليلين ظهور في الإطلاق ، إلاّ ان تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي من جهة أقوائية ظهوره انما يكون فيما إذا كان التنافي بين الإطلاقين بحسب ذاتيهما ، بان كان مدلول كل منهما ينافي الآخر في نفسه. واما إذا لم يكن بينهما تناف ، بل علم بخطإ أحدهما من الخارج ، لم يكن وجه لتقديم الأقوى ظهورا على غيره. وما نحن فيه كذلك ، إذ ليس بين كل من الإطلاقين منافاة ذاتية ، إلاّ انه بعد ورود التقييد وتردد أمره بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة يعلم إجمالا بعدم موافقة أحدهما للواقع (١).

وفيه ما لا يخفى : اما حكمه بإجمال الدليلين فيما لو كان القيد متصلا ، فوجه الخدشة فيه : انه قد عرفت ان التصادم انما هو بين شمول أحد الإطلاقين والإطلاق الأخر ، ومن الواضح ان القيد المتصل إنما يوجب إجمال الإطلاق البدلي ، لأنه يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة ، وبوجودها يصلح للقرينية فلا تتم المقدمات ولكنه لا يوجب إجمال الشمول ، لأنه ليس بمدلول للدليل اللفظي كي يوجب إجماله وجود القيد المتصل المجمل ، بل هو مفاد قرينة عقلية لا ترتبط بعالم اللفظ ، فلا يوجب القيد المجمل إجمالها.

واما حكمه بعدم الترجيح في صورة انفصال القيد ، فلا يظهر وجهه : لأن التعارض البدوي بين الدليلين الّذي يرتفع بالجمع العرفي بينهما بما عرفت ، إنما هو عبارة عن تنافيهما وعدم إمكان اجتماعهما معا تحت دليل الحجية ، وهذا كما يتحقق بالتنافي الذاتي بين الدليلين كذلك يتحقق بالتنافي العرضي المتحقق بالعلم الخارجي بكذب أحدهما. وكما يجري وجه الجمع الّذي عرفته في صورة التنافي وبحسب ذاتهما كذلك يجري في صورة التنافي بالعرض ، ولا وجه للتفكيك بين الصورتين.

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٣٨ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٦

فالتحقيق ان يقال في وجه عدم انطباق الكبرى الكلية على المورد : ان أساس تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي على ما عرفت ، هو بيان ان لكل من الإطلاقين دالّين ومدلولين ، إطلاق وشمول وإطلاق وبدلية ، والدال على الإطلاق غير الدال على الشمول أو البدلية بضميمة ان المعارضة بين شمول أحدهما وإطلاق الآخر ، وهذا المعنى غير متحقق فيما نحن فيه ، فان الشمول بالمعنى المصطلح ليس هو مفاد الهيئة ، وإلا لما ثبت ذلك بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، بل كان في ثبوته محتاجا إلى جريان مقدمات عقلية أخرى غير مقدمات الحكمة. ولذلك عبّر عنه صاحب الكفاية بقوله : « فإن وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير ... » (١) ، فانه إشارة إلى ان الشمول ليس بمعناه المصطلح ، المراد به شمول افراد الطبيعة.

الوجه الثاني : ان تقييد إطلاق الهيئة يستلزم تقييد إطلاق المادة والتصرف فيه ، إذ يمتنع أخذ المادة بدون قيد الوجوب ، وتقييد المادة لا يستلزم تقييد إطلاق الهيئة وهو واضح. ومن الواضح انه إذا دار الأمر بين تقييد وتقييدين كان الترجيح للتقييد الواحد ، إذ الالتزام بالتقييدين ارتكاب لمخالفة الظاهر بأكثر من الالتزام بالتقييد الواحد ، لأن التقييد على خلاف الأصل. وعليه فيتعين إرجاع القيد إلى المادة لأنه يستلزم تقييدا واحدا (٢).

وقد ناقش فيه صاحب الكفاية ، والتزم بلزوم الالتزام بالتفصيل بين القيد المتصل والقيد المنفصل. ببيان : انه إذا كان القيد متصلا ورجع إلى الهيئة كان ذلك مانعا عن انعقاد الظهور الإطلاقي في المادة ، لانتفاء محل الإطلاق فيها بعد امتناع ثبوتها بدون قيد الوجوب ، فلا ظهور للمادة في الإطلاق كي يكون

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٦ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٤٩ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٧

التصرف فيه مخالفة للظاهر ، بل تقييد الهيئة يرفع موضوع الظهور الإطلاقي ، لا انه يتصرف في الظهور الثابت ، والأول ليس فيه مخالفة للأصل ، إذ مخالفة التقييد للأصل باعتبار انه مناف لظهور الإطلاق وموجب لرفع اليد عنه والتقييد هاهنا ليس كذلك. واما إذا كان منفصلا ، فحيث أنه قد انعقد ظهور للمادة في الإطلاق ، فرجوع القيد إلى الهيئة يوجب رفع اليد عن هذا الظهور وهو خلاف الأصل.

وبالجملة : الوجه انما يتجه في ما كان القيد منفصلا ، اما إذا كان متصلا فلا يدور الأمر بين تقييد وتقييدين ، بل بين تقييد وتقييد ، لأن تقييد الهيئة يمنع من انعقاد ظهور المادة في الإطلاق ، لا انه يرفع ظهورها المنعقد ، كما هو الحال في القيد المنفصل ، والمخالف للأصل هو الثاني دون الأول (١).

ولكن المحقق النائيني قدس‌سره وافق الشيخ رحمه‌الله وخالف صاحب الكفاية في تفصيله ، بدعوى : انه مع دوران الأمر في رجوع القيد المتصل إلى الهيئة أو المادّة ، يكون تقييد المادة وعدم تمامية الإطلاق فيها متيقنا ، اما لرجوعه إليها واقعا أو لرجوعه إلى الهيئة.

وعليه ، فيكون تقييد الهيئة مشكوكا بدوا فينفي بأصالة الإطلاق فيها.

وبالجملة : انه مع وجود القدر المتيقن في التقييد يكون الباقي مشكوكا ينفي بأصالة الظهور في المطلق. فأصالة الظهور في طرف الهيئة بلا معارض لكون المتيقن تقييد المادة ، واما تقييدها فهو مشكوك ينفي بالأصل (٢).

هذا ، ولكن حيث ان أساس هذه المناقشات والدعاوي هو استلزام تقييد الهيئة لتقييد المادة دون العكس التي أخذ في الكلمات مفروغا عنه ، لا بد لنا من معرفة مقدار صحة ذلك.

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٦٥ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٨

فقد ادعي : عدم الملازمة بين تقييد الهيئة وتقييد المادة.

وقرب المحقق الأصفهاني ذلك بوجهين (١). ذكر ثانيهما السيد الخوئي كما في تقريرات بحثه ..

وهو : أن تقيد الهيئة معناه أخذ القيد مفروض الوجود غير داخل تحت الطلب ، سواء كان اختياريا أو لا ، فيكون تحقق الحكم معلقا على تحققه. واما تقييد المادة فمعناه أخذ المتقيد تحت الطلب الملازم لوجوب تحصيل القيد إذا كان اختياريا. ولا يخفى ان النسبة بين هذين التقييدين عموم من وجه ، فهما يجتمعان في مورد ، فيكون القيد قيدا للمادة والهيئة ، ويفترقان في مورد. اما اجتماعهما ففي مثل الوقت الخاصّ بالنسبة إلى الصلاة ، فانه قيد لوجوب الصلاة كما انه قيد لصحة الصلاة. واما مورد افتراق تقييد المادة عن تقييد الهيئة فكتقيد الصلاة بالطهارة ، فان وجوبها غير مقيدة بها. واما مورد افتراق تقيد الهيئة عن تقيد المادة فكاشتراط وجوب الحج بالاستطاعة ، فان وجوبه لا يتحقق بدون الاستطاعة ، مع انه لا يعتبر في صحة الحج تحقق الاستطاعة ، فانه لو استطاع شخص ثم أزال الاستطاعة وحجّ متسكعا كان حجّة صحيحا. وإذا تبين ان بين التقييدين عموما من وجه لم يكن وجه لدعوى استلزام تقييد الهيئة لتقيد المادة ، لوجود بعض الموارد التي تتقيد فيها الهيئة دون المادة (٢).

ولا يخفى ما فيه : فان القيد إذا أخذ قيدا للوجوب كان تقيد الواجب به بما انه واجب قهريا ، إذ يستحيل تحقق الواجب بدون الوجوب ، والمفروض توقف الوجوب على تحقق القيد. وعليه فيمتنع ان يؤخذ مع كونه قيدا للوجوب قيدا للواجب ، بحيث يكون التقيد به مطلوبا الملازم لطلب تحصيله ـ أي نفس

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٩٣ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٤٣ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٩

التقيد ـ لو كان اختياريا ، وذلك لأنه بعد أن أخذ قيدا للوجوب كان التقيد به قهريا لا ينفك عن الواجب فلا يتجه تعلق الطلب به وأخذه في حيز الطلب.

وبالجملة : ما يؤخذ قيدا للوجوب يستحيل ترشح الطلب عليه وعلى التقيد به ، وهذا امر واضح لا سترة عليه ، وعلى هذا فيمتنع ما ذكره من إمكان ان يكون القيد قيدا للوجوب والواجب ، وما ذكره من إمكان ان يكون القيد قيدا للوجوب بلا ان يتقيد به الواجب ، لما عرفت من قهرية التقييد واستحالة انفكاكه عن أخذ القيد قيدا للوجوب ، ومعه يمتنع تعلق الطلب به لأنه طلب الحاصل.

واما ما ذكره من المثال على الأول ، من قيدية الوقت الخاصّ للصلاة ولوجوبها ، إذ لا كلام في كون الوقت الخاصّ شرطا في الصحة ، كما انه قيد للوجوب ، فيمكن التفصي عنه بعد ان عرفت امتناع مثل هذا عقلا ، بان يقال : ان الوقت الخاصّ قيد للواجب فقط دون الوجوب ، وما يكون قيد الوجوب هو ما به ابتداء ذلك الوقت كالزوال والغروب ونحوهما. فحدوث الوجوب المتعلق بصلاة الظهر واستمراره قد أخذ الزوال شرطا له ولم يؤخذ الزوال قيدا للواجب ، واما الوقت من بعد الزوال إلى الغروب فهو قيد للواجب ، بمعنى ان تقيد الصلاة به قد أخذ في حيّز الطلب ، فالصلاة الواجبة هي الصلاة المأتي بها في الوقت الخاصّ المعين. وليس في هذا المعنى كبير مخالفة لظواهر الأدلة ، بل تمكن دعوى انه ظاهر الأدلة ، لأن الظاهر قيدية الزوال ونحوه للوجوب كما هو ظاهر الآية والرواية ، اما الآية فقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ )(١) ، واما الرواية فقوله عليه‌السلام : « إذا زالت الشمس فقد وجب الصلاة والطهور » (٢).

__________________

(١) سورة الإسراء ، الآية : ٧٨.

(٢) عن أبي جعفر عليه‌السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة.

وسائل الشيعة ١ ـ ٢٩١ باب : ٤ من أبواب الوضوء ، حديث : ١.

٢١٠

واما ما ذكره شاهدا على الثاني ، من عدم قيدية الاستطاعة للحج مع كونها قيدا للوجوب ، ففيه ما لا يخفى : فان الاستطاعة التي تكون شرطا للوجوب هو مطلق الاستطاعة ولو حصلت في آن واحد لا الاستطاعة المستمرة. وبعبارة أخرى : الاستطاعة حدوثا شرط للوجوب لا الاستطاعة بقاء ، ومن الواضح ان تقيد الحج بالاستطاعة الحادثة المرتفعة أمر لا كلام فيه ، فالواجب قد تقيد قهرا بما هو شرط للوجوب وهو الاستطاعة الحدوثية ، والاستطاعة في حال العمل ليس شرطا للوجوب كي يكون عدم اعتبارها في صحة العمل كاشفا عن إمكان انفكاك الواجب عن قيد الوجوب ، وإلاّ امتنع صحة العمل بدونها لعدم تحقق الوجوب في حال العمل لعدم شرطه.

وبالجملة : ما أخذ من الاستطاعة شرطا للوجوب قد تقيد به الواجب قهرا ، وغيره لم يؤخذ شرطا للوجوب ، فتقيد الواجب به وعدمه يحتاج إلى دليل خاص ، وعدم تقيده لا يكون دليلا وشاهدا على ما ادعاه. فلاحظ.

واما الوجه الأول فهو : ان للمادة جهتين : إحداهما : جهة المطلوبية. والأخرى : جهة الوفاء بالملاك والمصلحة مع غض النّظر عن تعلق الطلب بها ، ورجوع القيد إلى الهيئة وان أوجب تقيد المادة من الجهة الأولى ، إذ يمتنع تحقق مطلوبية المادة بدون تحقق قيد الطلب لعدم الطلب بدونه. ولكنه لا نظر له إلى الجهة الثانية ، فان الوفاء بالملاك لا يلازم الطلب.

وعليه ، فإطلاق المادة من جهة الوفاء بالمصلحة وتحقق الملاك بها بدون القيد لا ينثلم بتقييد الهيئة ، إذ النّظر في التقييد إلى جهة الطلب لا غير. ونظير هذا ثابت في موارد التزاحم ، فانه يتمسك بإطلاق المادة لإثبات تحقق الملاك بها في صورة المزاحمة مع عدم تعلق الطلب بها للمزاحمة بما هو أهم (١).

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٩٣ ـ الطبعة الأولى.

٢١١

وهذا الوجه متين ، لكنه يبتني على صحة التمسك بإطلاق المادة في إثبات تحقق الملاك في غير صورة الطلب. ولكن سيأتي إن شاء الله تعالى بيان عدم تمامية هذا الوجه في إثبات الملاك في غير صورة الطلب. وان هناك وجها آخر لإثباته وهو التمسك بالدلالة الالتزامية للظهور الإطلاقي. فانتظر.

والّذي يتحصل : ان الكبرى المذكورة في كلام الشيخ ، وهي ملازمة تقييد الهيئة لتقييد المادة مسلمة.

واما تحقيق المقام بعد تسليمها فقد عرفته مما تقدم ، وان ما ذكره المحقق النائيني هو المتجه. فلاحظ.

التقسيم الثالث : انقسامه إلى الواجب النفسيّ والغيري.

وقد اختلف في تعريفهما وبيان حقيقتهما.

فعرفهما المشهور : بان النفسيّ ما كان إيجابه لا لداعي التوصل به إلى واجب آخر. والغيري ما كان الداعي فيه هو التوصل إلى واجب آخر. وهو المراد من ان النفسيّ ما وجب لنفسه والغيري ما وجب لغيره.

ولكن أورد على هذا التعريف : بأنه يستلزم ان تكون أكثر الواجبات ، بل كلها سوى المعرفة بالله ، واجبات غيرية ، لأن الأمر بها انما يكون لأجل ما يترتب عليها من الأثر والفائدة ، فان تحصيل هذا الأثر اما ان يكون لازما أو غير لازم ، فعلى الثاني لا وجه لإيجاب العمل الّذي يترتب عليه الأثر لأجله ، لعدم كون المصلحة لزومية ، وعلى الأول كان الواجب واجبا غيريا لأنه وجب للتوصل به إلى واجب آخر. نعم المعرفة بالله واجبة لنفسها ، لأنها محبوبة بذاتها.

والإيراد عليه : بان الأثر المترتب لما كان خارجا عن قدرة المكلف ، لأنه من خواص العمل امتنع تعلق الوجوب به ، وان كانت محبوبيته بحد اللزوم.

مندفع ـ كما جاء في الكفاية ـ : بأنها داخلة تحت قدرة المكلف بالقدرة على أسبابها ، فتكون كسائر المسببات التوليدية التي يتعلق بها التكليف بلحاظ القدرة

٢١٢

عليها بالقدرة على أسبابها. كالتمليك والتطهير ونحوهما من المسببات التوليدية المتعلقة للتكاليف.

وقد أجاب صاحب الكفاية عن هذا الإيراد : بان الفعل وان كان يترتب عليه الأثر ، إلاّ أنه معنون بعنوان حسن في نفسه ، والإيجاب متعلق به بما انه كذلك ، وان كان في الواقع مقدمة لأمر مطلوب واقعا. وهذا بخلاف الوجوب الغيري ، فان جهة الوجوب متمحضة في كونها التوصل إلى واجب نفسي. فالواجب النفسيّ بنظر صاحب الكفاية ما امر به لتعنونه بعنوان حسن وان كان مقدمة لغيره. والواجب الغيري ما امر به لأجل المقدمية والتوصل إلى الغير وان كان معنونا بعنوان حسن في نفسه. وقد ذكر انه يمكن ان يكون هذا المعنى مراد المشهور من ان الواجب النفسيّ ما أمر به لنفسه والغيري ما أمر به لأجل غيره (١).

وقد تصدى المحقق النائيني لدفع الإيراد المذكور : بان نسبة الفعل الواجب إلى الأثر ليست نسبة السبب التوليدي إلى مسببه كي يكون مقدورا بالواسطة ، بل نسبته إليه نسبة المعد إلى المعد له ، لأن الأثر لا يترتب على الفعل مباشرة أو بتوسط أمور اختيارية ، بل يتوسط بينه وبين الفعل أمر غير اختياري ، فيمتنع تعلق التكليف به ، لكونه غير مقدور حتى بالواسطة ، كما لو امره بشرب الدواء لأجل رفع المرض ، فان رفع المرض لا يترتب على شرب الدواء مباشرة ، بل تتوسط بينه وبين الشرط أمور غير اختبارية ، كمصادفة الدواء محل المرض ونحوها. وكما لو أمره بالإتيان بالماء ليشرب ، فان شرب المولى يتوقف على إرادته ، ولا يترتب على الإتيان بالماء فقط.

وبالجملة : الغايات المترتبة على الواجبات النفسيّة غير مقدورة ، ونسبة

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٧ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١٣

الواجب إليها نسبة المعدّ إلى المعدّ له.

ثم استشكل فيما أفاده صاحب الكفاية في دفع الإيراد : بأنه يستلزم ان يكون في الواجب النفسيّ ملاكان ملاك الوجوب النفسيّ وملاك الوجوب الغيري وهو ممتنع (١).

وبما ان تحقيق هذا الأمر ليس بذي أثر عملي في المسألة أصلا لا يتجه لنا إطالة الكلام في سبر كلمات الاعلام وتحقيقها ، فالاكتفاء بهذا المقدار لمجرد الإشارة متعين ، والقدر المتيقن هو ان الواجب النفسيّ ما وجب من دون تقيد بوجوب شيء آخر أصلا ، وليس كذلك الغيري فانه مقيد بوجوب شيء آخر. واما حقيقة كل منهما فلا يهمنا معرفتها.

وانما المهم تحقيق الأصل عند الشك في كون واجب معلوم نفسيا أو غيريا.

والكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : في تحقيق مقتضى الأصل اللفظي.

وقد ادعى صاحب الكفاية : إمكان التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات كون الواجب نفسيا لا غيريا (٢). خلافا للشيخ حيث أنكر صحة التمسك بالإطلاق. ببيان : ان مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه ، وهو لا يقبل الإطلاق والتقييد ، لأن الإطلاق والتقييد من شأن المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، اما الواقع فهو غير قابل للسعة والضيق كما لا يخفى ، فيمتنع فيه الإطلاق والتقييد.

اما سرّ كون مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه ، فيتبين في ان الفعل يتصف بالمطلوبية بمجرد الإنشاء والأمر ، فيقال عنه انه مطلوب. ومن الواضح

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٦٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٨ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١٤

ان اتصاف الشيء بالعرض انما يكون بطروّ واقع العرض عليه لا مفهومه ، فالجسم لا يتصف بالبياض الا بعروض حقيقة البياض عليه. وعليه فاتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد الأمر يكشف عن كون مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه ، إذ مفهوم الطلب لا يصحح اتصاف الفعل بالمطلوبية (١).

وقد ناقش فيه صاحب الكفاية : بان واقع الطلب يمتنع ان يكون مدلولا للصيغة ، فان وجود واقع الطلب تابع لأسبابه التكوينية الخارجية ، لأنه من الصفات النفسانيّة الخارجية ، ولا يتحقق بالإنشاء ، فلا وجه لإنشائه لعدم وجوده بالإنشاء. فالمتعين ان يكون مدلول الصيغة مفهوم الطلب القابل لتعلق الإنشاء به ، فانه أحد أسباب وجوده ، فيوجد بوجود إنشائي وهو غير الوجود الخارجي والذهني كما تقدم تحقيقه.

واما وجه اتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد الأمر والإنشاء : فهو لأجل تعلق الطلب الإنشائي به ، والمقصود بوصف المطلوبية هو المطلوبية الإنشائية ، التي قد تلازم المطلوبية الحقيقية وقد تنفك عنها.

وبالجملة : الطلب العارض على الفعل والّذي يوصف به العمل المطلوب هو الطلب الإنشائي المتحقق بالإنشاء.

وإذا تبين ان مدلول الصيغة هو مفهوم الطلب ، فهو قابل للإطلاق والتقييد. وتقريب التمسك بالإطلاق في إثبات النفسيّة : هو ان مدلول الصيغة وان كان يعم الطلب النفسيّ والغيري ، لكنه قد تقدم ان الوجوب النفسيّ الوجوب الثابت سواء وجب شيء آخر أو لا ، والغيري هو الثابت عند وجوب شيء آخر فالذي يحتاج إلى التنبيه عرفا والمئونة الزائدة على أصل مدلول الكلام هو الوجوب الغيري لأنه مقيد ، فمع عدم التقييد يتمسك بإطلاق الهيئة في ثبوت

__________________

(١) كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار ـ ٦٨ ـ الطبعة الأولى.

٢١٥

الوجوب مطلقا ، سواء وجب شيء آخر أو لم يجب في قبال تقييده بثبوته عند وجوب غيره. وعليه فيثبت بالإطلاق كون الواجب نفسيا (١).

وقد أورد المحقق الأصفهاني على ما أفاده صاحب الكفاية إيرادات ثلاثة :

الأول : ان التفاوت بين النفسيّ والغيري لما كان من جهة ان النفسيّ ما كان الداعي إلى وجوبه حسن ذاته والغيري ما كان الداعي إلى وجوبه التوصل به إلى واجب نفسي ، وكان المحتاج إلى التنبيه عرفا هو المعنى الثاني ـ أعنى ما كان الداعي فيه التوصل إلى واجب آخر ـ كان اللازم جعل الإطلاق بمعنى عدم تقييده بانبعاثه عن داع آخر غير نفس الواجب ، لا بمعنى عدم تقييده بوجوب شيء آخر كما هو ظاهر صاحب الكفاية ، فان الإطلاق بالمعنى الّذي ذكرناه هو المتناسب مع واقع النفسيّة دون ما أفاده صاحب الكفاية ، فانه ليس بمعنى النفسيّة ، بل هو لازم لها.

الثاني : ان التقييد بالمعنى الّذي عرفته ، أعنى كونه منبعثا عن داع غير الواجب لا يتنافى مع كون البعث المنشأ جزئيا حقيقيا. وعليه فلا مانع من التمسك بإطلاق الصيغة في نفيه وان التزم بان الموضوع له هو واقع الطلب ، إذ مرجع التمسك بالإطلاق إلى التمسك بظهور الصيغة في هذا الفرد دون ذلك ، لاحتياج أحدهما إلى مئونة دون الآخر.

الثالث : ان القيود تارة تكون من الشئون والأطوار. وأخرى تكون من قبيل الدواعي والأسباب ، فإذا كان من الأول أوجب تضييق المعنى المقيد ، بخلاف ما إذا كان من قبيل الثاني ، فان تقييد الشيء بداع خاص لا يوجب تضييق معناه ، وعليه فالتقييد بالداعي لا يوجب التضييق.

وعلى هذا فلا مانع من تقييد مدلول الصيغة بداع خاص ، وان التزم بأنه

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٩ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢١٦

فرد الطلب وواقعه ، لعدم منافاة هذا التقييد للفردية ، لأنه لا يوجب التضييق ، كي يقال : ان التضييق من شأن المفاهيم لا الافراد ، ومع ذلك فلا مانع من التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات الفرد الخاصّ ، لأنه لا يحتاج إلى مزيد بيان (١).

وقد ذكر هذا المطلب في مبحث الواجب المشروط ، في مقام بيان إمكان رجوع القيد إلى الهيئة ، ولو التزم بان مدلولها الفرد لا المفهوم ، بتقرير : ان التقييد بمعنى التعليق لا يستلزم التضييق الممتنع في الافراد (٢). وقد وافقه السيد الخوئي في ذلك ، وأورد هذا الأمر في مقام إيراده على المحقق النائيني كما تقدم ذكره فراجع.

والإنصاف ان هذه الوجوه مخدوشة كلها :

اما الأول : فلان إرجاع الإطلاق إلى نفي التقييد بكون الداعي في البعث هو واجب آخر ، وإثبات التقييد بانبعاث الوجوب عن حسن ذات الواجب يتنافى مع التمسك بالإطلاق ، لأن كلا من خصوصيتي النفسيّة والغيرية بالمعنى الّذي ذكره قيد زائد على أصل الوجوب ، سواء قلنا بان النفسيّة عبارة عن انبعاث الوجوب عن حسن نفسه فتكون قيدا وجوديا. أو انبعاثه لا عن داعي غيره فتكون قيدا عدميا. فالنفسية من هذه الجهة قيد زائد على أصل الوجوب يحتاج إلى بيان كالغيرية ، ولا وجه لدعوى أنه لا يحتاج إلى بيان زائد بعد ان كان قيدا كسائر القيود العدمية أو الوجودية. فالتمسك بالإطلاق من هذه الجهة غير صحيح. نعم في الواجب النفسيّ جهة أخرى تتلاءم مع الإطلاق ، وهي ثبوت وجوبه مطلقا وفي سائر الأحوال وجب هناك شيء آخر أو لا ، بخلاف الغيري فان وجوبه يكون في ظرف وجوب غيره ، والتمسك بالإطلاق من هذه الجهة لا

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٩٦ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٨١ ـ الطبعة الأولى.

٢١٧

محذور فيه ويثبت به الوجوب النفسيّ ، فما أفاده صاحب الكفاية في جهة التمسك بالإطلاق مما لا محيص عنه.

وبالجملة : في الواجب النفسيّ جهتان :

إحداهما : كونه منبعثا عن حسن نفسه ، أو لا عن غيره.

ثانيتهما : كونه ثابتا على جميع التقادير وفي جميع الأحوال ، ولا يمكن التمسك بالإطلاق من الجهة الأولى ، لأنها قيد زائد تحتاج إلى بيان وان كان عدميا ، لأن ما لا يحتاج إلى البيان الزائد هو عدم القيد لا التقيد بالعدم ، فان التقيد بالعدم كالتقيد بالوجود قسيم الإطلاق وينفي به. نعم يمكن التمسك بالإطلاق من الجهة الثانية ، وبها يثبت الوجوب النفسيّ ، وإليها نظر صاحب الكفاية في كلامه ، فما أفاده متجه.

واما الثاني : فقد اتضحت الخدشة فيه ، لأنه متفرع على تمامية الأول ، فبعد ان عرفت أن موضوع الإطلاق لا يرتبط بداعي الوجوب ، بل بثبوت الوجوب مطلقا ، لا يبقى مجال لدعوى ان التقييد بالغيرية بهذا المعنى ـ أي بمعنى الانبعاث عن داع غير الواجب ـ لا يتنافى مع الجزئية الحقيقية ، إذ الإطلاق لا يثبت النفسيّة من هذه الجهة كي يدعى عدم منافاتها للجزئية الحقيقية ، والبحث أجنبي عنها.

واما الثالث : فلان موضوع التقييد بالداعي وما هو من قبيله مما كان في مرحلة سابقة عن وجود الشيء أو لاحقة له ، اما ان يفرض المفهوم أو المصداق. فإن فرض المفهوم فاستلزامه لتضييق دائرته أمر بديهي غير قابل للإنكار ، فان المفهوم بعد تقييده بداع خاص يتحدد صدقه على الافراد وتتضيق دائرة انطباقه ، فمفهوم الاحتراق ـ مثلا ـ ينطبق على كل فرد من افراده ، فإذا قيد بما كان ناشئا عن السبب الخاصّ كالنار تضيقت دائرة صدقه فلا ينطبق حينئذ على ما حصل من الكهرباء. وان فرض المصداق ، فهو غير قابل للتضييق ، كما هو المفروض ،

٢١٨

سواء كان القيد من قبيل الدواعي أو كان من الشئون والأطوار. فالتفريق بين القيود في استلزام نحو منها التضييق وعدم استلزام نحو آخر منه لا وجه له ، بل هي جميعها مستلزمة للتضييق ان قيد بها المفهوم ، وغير مستلزمة له ان قيد بها المصداق لعدم قابليته للتضييق.

وبعبارة أخرى : انه إذا كان الغرض من التفريق بين نحوي القيود هو بيان قابلية مدلول الهيئة التي هو الفرد الحقيقي للطلب للتقيد بالداعي الخاصّ ، لعدم كون التقييد به موجبا للتضييق الممتنع في الفرد كالتقييد بما هو من شئون الشيء ، فانه يمتنع طروّه على الفرد ، لأن مفاده التضييق وهو ممتنع في الفرد ، إذا كان الغرض ذلك فهو منتف ، لأن التقييد بكلا نحويه يؤدي إلى تضييق دائرة المقيد فيمتنع ان يتحقق فيما هو غير قابل للضيق.

وخلاصة الكلام : ان ما أفاده صاحب الكفاية في تقريب التمسك بالإطلاق ، وفي دفع ما قيل في منع الإطلاق ، وجيه من الجهة التي ينظر إليها صاحب الكفاية ، أعنى عموم الموضوع له وخصوصه.

والّذي يتحصل : انه ان التزم بكون مدلول الهيئة واقع الطلب ، أو انه النسبة الخاصة الطلبية ، كما هو التحقيق ، امتنع التمسك بإطلاق الهيئة في إثبات الوجوب النفسيّ لعدم قابليتها للتقييد.

واما بناء على ما التزم به صاحب الكفاية من كون مدلول الهيئة مفهوم الطلب القابل للتقييد ، كان التمسك بإطلاق الهيئة باعتبار هذه الجهة ممكنا.

إلا أنه يشكل من جهة أخرى تقدم ذكرها فيما مرّ ، وهي ان مدلول الهيئة بنظر صاحب الكفاية وان كان معنى عاما ، إلا أنه ملحوظ باللحاظ الآلي ، فانه هو الفارق بين معاني الأسماء والحروف في نظره قدس‌سره ، ولا يخفى ان الإطلاق يتنافى مع هذا الفرض ، إذ هو يستدعي تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمطلق ، كيف؟ والمفروض انه يكون في مقام البيان الملازم لتوجه المتكلم إلى

٢١٩

المعنى استقلالا.

وعليه ، فالتمسك بإطلاق الهيئة ممتنع ، لأن معناها ملحوظ آليا وهو لا يتلاءم مع الإطلاق. وقد أشار صاحب الكفاية إلى هذا الإشكال في مبحث مفهوم الشرط (١) ، ولذا عدّ ما ذكره هناك مناقضا لما ذكره هنا ، وما ذكره في مبحث الواجب المشروط من صحة رجوع القيد إلى الهيئة.

وقد عرفت فيما تقدم التخلص عن إشكال التناقض : بأنه لم يصرح هنا بالتمسك بإطلاق الهيئة في إثبات الوجوب النفسيّ ، بل التزم بالتمسك بإطلاق الصيغة ، وهي كما لا يخفى تتألف من الهيئة والمادة ، فلعل مراده هو التمسك بإطلاق المادة ـ أعني نفس الواجب ـ في إثبات الوجوب النفسيّ ، وهي معنى اسمي ملحوظ بالاستقلال قابل للإطلاق والتقييد. وقد تقدم تقريب إطلاق المادة. وكلامه وان كان يظهر منه في بعض عباراته التمسك بإطلاق الهيئة ، لكنه يمكن ان يكون نظره إلى بيان نفي المانع من جهة خصوص الموضوع له لا في مقام اختيار هذا المعنى في نفسه والالتزام به ، بل في مقام دفع الإشكال فيه من بعض جهاته. فتأمل.

نعم ، ما جاء منه في الواجب المشروط من إمكان رجوع القيد إلى الهيئة يتنافى بحسب النّظر الأولي مع ما أفاده في مبحث مفهوم الشرط من عدم قابلية المعنى الحرفي للإطلاق لكونه ملحوظا آليا ، إذ التقييد أيضا يستدعي لحاظ المقيد استقلالا لأنه حكم على المقيد ، فيمتنع طروه على المعنى الحرفي لمنافاته لحرفيته.

ولكن قد أشرنا فيما تقدم إلى حلّ هذا التنافي البدوي. فلاحظ.

والنتيجة : ان التمسك بإطلاق الهيئة ممتنع ، لأن مدلولها هو النسبة غير القابلة للتضييق لأنه شأن المفاهيم. مضافا إلى تعلق اللحاظ الآلي بها المنافي

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٩٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

٢٢٠