منتقى الأصول - ج ٢

السيد عبد الصاحب الحكيم

منتقى الأصول - ج ٢

المؤلف:

السيد عبد الصاحب الحكيم


الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٢٦

الوجه الثاني : الالتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخر ، فيلتزم بان الوقت أو غير الوقت من الشروط شرط للوجوب ولكن بنحو الشرط المتأخر ، فإذا علم بحصوله في ظرفه يعلم بفعلية الحكم فعلا قبل حصول الشرط ، فلا مانع من ترشح الوجوب على المقدمات لفعلية الوجوب النفسيّ قبل حصول الشرط ووقت الواجب ، فلا يلزم على كلا الوجهين وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، بل اللازم ليس إلا الإتيان بالمقدمة قبل الإتيان بذيها وهو ليس بمحذور. كيف؟ وذلك شأن غالب المقدمات فانه يؤتى بها قبل ذيها.

وبالالتزام بالوجه الثاني أنكر ثمرة الواجب المعلق ، لأن الثمرة منه ليس إلاّ إمكان التفصي عن الإشكال المزبور والتخلص عن محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، وقد عرفت انه ينحل الإشكال بالالتزام بالواجب المشروط بنحو الشرط المتأخر ، وينتفي المحذور به فلا ملزم للالتزام بالواجب المعلق كما هو نظر صاحب الفصول ، فلو التزم باستحالة الواجب المعلق لم يترتب عليه الحيرة في التخلص عن محذور وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان ذيها.

ثم انه وان كان الالتزام بكل من الواجب المعلق والواجب المشروط بالشرط المتأخر ممكنا ثبوتا ، إلاّ انه يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، بل قد يكون ظاهر الدليل هو تعليق فعلية الوجوب على حصول الشرط الّذي ينافى كلا من الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر ، نظير قوله عليه‌السلام : « إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور » (١).

وقد تنبه صاحب الكفاية إلى هذه الجهة ، وتصدى لحلّها بما محصله : انه إذا تم الدليل على وجوب المقدمة قبل زمان ذيها نستكشف من ذلك بطريق الإن

__________________

(١) عن أبي جعفر عليه‌السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة.

وسائل الشيعة ١ ـ ٢٦١ باب ٤ من أبواب الوضوء ، حديث : ١.

١٨١

سبق وجوب ذي المقدمة وكون المتأخر زمان إتيانه لا وجوبه ، لعدم طريق للتخلص إلاّ بذلك ، لأن وجوب المقدمة يستحيل ان يكون قبل وجوب ذيها.

الوجه الثالث : وهو الالتزام بوجوب هذه المقدمات بالوجوب النفسيّ التهيئي ، وذلك بعد العلم بعدم سبق وجوب ذي المقدمة اما لعدم تصوره ثبوتا أو لعدم مساعدة الدليل عليه إثباتا ، فانه لا محيص عن الالتزام بذلك إذ الوجوب الغيري محال لعدم وجوب ذي المقدمة. فيلتزم بالوجوب النفسيّ غاية الأمر انه ليس لغرض في نفس المقدمة ، بل لتحصيل غرض الواجب والتهيؤ للإتيان به في ظرفه (١).

هذا ما أفاده صاحب الكفاية في التخلص عن إشكال وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان ذيها.

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في الوجه الثاني الّذي ادعى صاحب الكفاية أنه طريق للتخلص عن الإشكال غير طريق الالتزام بالواجب المعلق ، وانه ظهر به عدم انحصار التفصي عن العويصة بالتعلق بالتعليق.

وجهة الإشكال أنه لا فائدة في الالتزام بالشرط المتأخر ما لم يلتزم بتأخر زمان الواجب. ببيان : ان الغرض تصحيح وجوب المقدمة قبل زمان ذيها ، فلا بد من فرض تأخر زمان الواجب وتقيّده بوقت معين متأخر ، فالالتزام بالشرط المتأخر الملازم لفعلية الوجوب المصحح لوجوب المقدمة فعلا إنما يتعقل بناء على الالتزام بالواجب المعلق ، فحالية الوجوب وفعليته لتحقق شرطه في ظرفه لا تكفي ما لم يلتزم بالواجب المعلق ، لكون المفروض تأخر زمان الواجب عن زمان وجوبه.

وبالجملة : الفرض ان الواجب مقيد بزمان معين ، فالالتزام بفعلية

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٨٢

الوجوب قبله لتصحيح وجوب مقدماته التزام بالواجب المعلق أيضا ، لأنه التزم بانفكاك زمان الوجوب عن الواجب ، فلا محيص عن الالتزام به وان التزم باشتراط الوجوب بالشرط المتأخر وحصول الشرط في ظرفه (١).

وعلى أي حال فالتفصي بالوجهين الأولين ، أعني الالتزام بالجواب المعلق وبالجواب المشروط بالشرط المتأخر ، يبتني على القول بإمكانها ثبوتا ، واما مع القول باستحالتهما فلا يتجه التفصي بهما عن الإشكال.

ومن هنا استشكل المحقق النائيني قدس‌سره في التفصي بهما لما عرفت من التزامه باستحالة كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر ، كما أضاف إلى وجه الاستشكال : ان الالتزام بهما لا ينفع في إثبات إيجاب التعلم قبل البلوغ وقبل الاستطاعة ، لعدم تحقق التكليف بذي المقدمة قبلهما جزما ، مع انه لو التزم بتحقق الوجوب قبلهما فلازمه إيجاب سائر المقدمات لا خصوص التعلّم ، مع انه لا يقول أحد بلزوم المسير إلى الحج على من يعلم بتحقق الاستطاعة فيما بعد. فما هو الفرق بينه وبين سائر المقدمات الوجودية؟ (٢).

ولأجل ذلك سلك طريقا آخر للتفصي عن الإشكال.

وقد أشار أولا إلى وجه آخر للتفصي وهو : الالتزام بمتمم الجعل.

وبيانه : ان مصلحة الواجب إذا كانت تامة فعلا قبل فعلية الوجوب ، بحيث كان عدم التكليف به فعلا لعدم القدرة عليه لا لعدم تمامية ملاكه ، تعلق التكليف بمقدماته التي لا يتمكن منها بعد حصول زمانه ، ويعبر عنه بمتمم الجعل.

وضابطه : ان يكون غرض المولى يتحقق بفعل بنحو خاص لا يمكنه الأمر به كذلك ، كالفعل بقصد الأمر ، فيتصدى لإنشاء حكمين يتوصل بهما إلى

__________________

(١) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٩١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٤٨ ـ الطبعة الأولى.

١٨٣

تحصيل غرضه. فما نحن فيه كذلك ، لأن التكليف مثلا بالصوم قبل الفجر ممتنع ، والمفروض انه بترك الغسل تفوت مصلحة الصوم لعدم القدرة عليه بدونه ، فيتعلق تكليف مستقل بالغسل فعلا يكون متمما للجعل وتكليف الصوم نفسه (١).

ولكنه لم يبين عليه في المقام ، لعدم اطراده في سائر الموارد ، إذ الالتزام بتمامية المصلحة قبل البلوغ أو قبل الاستطاعة مما لا يمكن ، فلا وجه حينئذ للأمر بالتعلم ، وعلى تقدير الالتزام بذلك فلازمه عدم التفريق بين التعليم وغيره من المقدمات الوجودية وهو مما لا يلتزم به أحد.

واما ما سلكه من الطريق للتفصي ، فهو يتضح ببيان جهات ثلاث :

الأولى : انه قد تقرر ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه خطابا وان خالف في ذلك بعض ، فذهب إلى عدم منافاته عقابا وخطابا ـ كما ينسب إلى أبي هاشم (٢) ـ. وذهب بعض إلى منافاته خطابا وعقابا. ولكن الحق ما عرفته من منافاته خطابا وعدم منافاته عقابا.

وذلك اما منافاته خطابا : فلان التكليف انما هو بلحاظ جعل الداعي للمكلف نحو الفعل ـ اما بان نلتزم ان حقيقته ذلك ، أو ان ذلك لازمه الأخص وان حقيقته هو نفس الإرادة التشريعية ، أو جعل الفعل في العهدة ، فان إبراز الإرادة أو جعل الفعل في العهدة إنما هو بلحاظ ترتب الداعوية عليه ـ ، وفي مورد الامتناع يمتنع حصول الداعي نحو الفعل وتحقق التحرك والانبعاث إليه ، وهذا لا ينافي كونه اختياريا باختيارية سببه ، فان قوام صحة التكليف ليس اختيارية الفعل فقط ، بل إمكان الانبعاث وحصول الداعي نحوه.

نعم من يلتزم بان حقيقة التكليف ليس إلاّ جعل الفعل في عهدة المكلف

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٤٩ ـ الطبعة الأولى.

(٢) شرح مختصر الأصول ـ ٩٦.

١٨٤

بلا شرط تحقق الداعوية نحوه ـ كما قد يظهر من بعض عبارات السيد الخوئي ـ (١) له ان يلتزم هاهنا بان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا ، لأن التكليف يكون كسائر الأحكام الوضعيّة التي لا يعتبر فيها إمكان الانبعاث ، بل تتعلق بذمة المكلف وان لم يكن قادرا أصلا.

واما عدم منافاته عقابا : فلان الفعل وان خرج عن القدرة ، لكنه حيث كان ذلك بالاختيار كان امتناعه اختياريا ، فيستحق العقاب على تركه ، لأن ملاك العقاب اختيارية العمل ، ولأجل ذلك يتحقق العقاب على قتل شخص نفسه لو رمى جسمه من السطح ، فان الاصطدام بالأرض المحقق للموت لا يكون اختياريا بعد الرّمي ، ولذا يمتنع التكليف بتركه في تلك الحال ، ولكنه حيث ان كان منشؤه الاختيار لم يمتنع عقابه إذ يعدّ ذلك قتلا للنفس اختياريا وان كان حين حصوله غير اختياري.

الثانية : ان العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى الملزم إذا لم يتمكن من إيجاد الأمر على طبقه لعدم التفاته أو لغير ذلك ، كما لو رأى العبد ابن سيده في الحوض بحيث لو تركه يغرق ، ولم يكن سيده حاضرا ، فانه يجب عليه إنقاذه تحصيلا لغرض مولاه الملزم ، لأنه يعلم لو كان سيده حاضرا لأوجب عليه إنقاذ ابنه.

نعم لو كان المولى متمكنا من الأمر ولم يأمر لم يجب على العبد تحصيل غرضه في هذه الحال ، لأن عدم امره مع تمكنه يكشف عن عدم إرادته تحصيل هذا الغرض ولو كان ملزما في نفسه.

الثالثة : ان القدرة على العمل تارة : لا تكون دخيلة في الملاك ، بل تكون شرطا عقليا لتصحيح التكليف ، وإلاّ فالملاك بدونها حاصل وأخرى : تكون دخيلة

__________________

(١) الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول ٢ ـ ١٠٨ ـ الطبعة الأولى.

١٨٥

في الملاك ، فتكون شرطا شرعيا ، وهي في هذه الفرض تارة : تكون دخيلة في الملاك مطلقا في أي ظرف تحققت. وأخرى : تكون دخيلة فيه على تقدير خاص وظرف معين لا مطلقا. والثانية : تارة : تكون دخيلة فيه بعد حصول شرط الوجوب ، ولو قبل تحقق زمان الواجب. وأخرى : تكون دخيلة فيه بعد تحقق زمان الواجب ، فالقدرة الحاصلة قبل ذلك غير محصلة للملاك أصلا. فالاحتمالات أربعة. اما الأول والثاني : فيلزم على تقديرهما وجوب تحصيل المقدمات في أول أزمنة الإمكان. واما الثالث : فيفرق فيه بين المقدمات المفوتة قبل حصول شرط الوجوب والمقدمات المفوتة بعد حصوله ، فلا يحرم تفويتها على الأول دون الثاني. واما الرابع : فلا يجب الإتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب.

هذا محصل ما أفاده قدس‌سره وقد أطال فيه الكلام (١).

والتحقيق ان يقال : ان قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » تذكر لدفع توهم : عدم اختيارية الأفعال ، لأن كل فعل إرادي حين تعلق الإرادة به يكون واجبا ، وحين عدم تعلقها به يكون ممتنعا ، وذلك لأن الإرادة لما كانت هي الجزء الأخير للعلة التامة ، فعند تحققها يكون تحقق المعلول قهريا بحكم استحالة تخلف المعلول عن العلة ـ ومن هنا قيل : ما لم يجب لم يوجد ـ ، وعند عدم تحققها يكون انتفاء المعلول ضروريا ، لأن المعلول لا يوجد بدون علته ، فالفعل الإرادي يدور أمره بين الضرورة والامتناع فلا يكون اختياريا ، لأنه اما ان تتعلق به الإرادة فيكون ضروريا ، أو لا تتعلق به الإرادة فيكون ممتنعا ، لأن المعلول ضروري الوجود عند وجود علته كما انه عدم عند عدم علته.

فانه يقال في رده : ان الوجوب الناشئ عن الإرادة الّذي يعبّر عنه واجب بالغير لا بالذات ، لا يتنافى مع اختيارية الفعل ، كما ان الامتناع الناشئ

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٥٠ ـ الطبعة الأولى.

١٨٦

عن عدم الإرادة الّذي يقال عنه انه ممتنع بالغير ، لا يتنافى مع كون عدم الفعل كوجوده اختياريا ، فان الضرورة والامتناع الذين يتنافيان مع اختيارية الفعل هما الضرورة والامتناع السابقان على مرتبة الإرادة لا اللاحقان لها الناشئان منها. فالفعل وان كان ضروريا بالإرادة لكنه اختياري ، لأجل ان ضروريته بالإرادة. فالقاعدة المذكورة أساس بيانها والتنبيه عليها هو دفع هذا الوهم ، وقد طبقت على موارد :

المورد الأول : ما أشرنا إليه من كون الامتناع ـ في الفعل الإرادي ـ ناشئا من عدم الإرادة ، فانه قيل عنه : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

واما تحقيق صحة تعلق الخطاب بالفعل الممتنع لعدم الإرادة وعدم صحته فليس محله هاهنا ، وان كان الحق عدم صحته ، فلا يصح ان يتعلق الخطاب بعثا أو زجرا بالفعل على تقدير عدم تعلق الإرادة به ، لأن الفعل على هذا التقدير ممتنع الحصول ، والمفروض ان التكليف انما هو لإيجاد الداعي والمورد غير قابل لذلك.

المورد الثاني : المسببات التوليدية بعد حصول السبب ، فانها بعد حصول السبب وقبل تحققها لا تكون إرادية ، بل تكون ضرورية الحصول ، كما هو المقصود من المسبب التوليدي ، نظير القتل الحاصل بعد رمي السّهم أو بعد إلقاء الشخص بدنه من شاهق.

فقد يتوهم : انه يمتنع تحقق العقاب عليها ، لأنها في ظرف تحققها ليست اختيارية.

لكنه يندفع بالقاعدة المذكورة ، فان الامتناع في المسببات التوليدية إنما نشأ عن الإرادة والاختيار لتعلقها بالسبب ، وهذا يصحح ترتب آثار الفعل الاختياري على المسبب من صحة المؤاخذة عليه ونحوها ، لأن إرادة السبب إرادة للمسبب بنظر العقلاء ، فالفعل اختياري بنظرهم.

نعم يمتنع تعلق التكليف به في الحال المفروضة ، إذ التكليف لا يتقوم

١٨٧

بصدق اختيارية الفعل كصحة العقاب عليه ، بل يتوقف على إمكان التحريك والدعوة ، وهو غير متحقق لعدم القدرة على الفعل ولا على الترك بعد حصول السبب ، فلا يكون المورد موردا لإيجاد الداعي والبعث لعدم قابليته لذلك.

المورد الثالث : ان يكون الفعل في نفسه من الأفعال الإرادية التي تتعلق بها الإرادة بنفسها مباشرة ـ لا كالمسببات التوليدية ـ ، فيفعل المكلف فعلا يستلزم سلب إرادية ذلك الفعل ، فيكون ضروريا بلا ان تتعلق به الإرادة. نظير حركة المرتعش ، فانه من الموارد التي تطبق عليها القاعدة المزبورة ، فيدعى فيه بصحة العقاب على الفعل غير الإرادي ، لأنه وان كان فعلا غير اختياري إلا ان عدم الاختيار لما كان ناشئا عن الاختيار كان ذلك مصححا لترتب آثار الفعل الاختياري عليه ـ من صحة المؤاخذة عليه ـ بنظر العقلاء.

نعم يمتنع والحال هذه تعلق التكليف به ، لأنه ليس بمقدور ، فلا يتحقق الداعي المقصود إيجاده بالتكليف. فالامتناع بالاختيار في هذه الموارد لا ينافى الاختيار عقابا وان كان ينافيه خطابا. لكنه ينبغي أن يقال : انه ان كان الفعل المسلوب عنه الإرادة مبغوضا للمولى بجميع افراده وأحواله كان تطبيق القاعدة على المورد في محله ، لأنه فعل باختياره ما ينتهي إلى فعل مبغوض للمولى وان كان غير مقدور عليه في ظرفه ، لكن عدم القدرة بعد ان كانت ناشئة عن الاختيار لا تنافي الاختيار. واما إذا كان الفعل المسلوب عنه الإرادة مبغوضا للمولى في بعض افراده وهو الفرد الإرادي ، بمعنى ما تتعلق به الإرادة مباشرة وما يقع عن اختيار في ظرفه فلا وجه للحكم بصحة العقاب على الفعل المزبور بمقتضى القاعدة ، لأنه فعل غير مبغوض للمولى ، إذ هو ليس بإرادي فعلا.

فالوجه التفصيل بين الصورتين ، وتشخيص كل منهما يتبع ما يستظهر من لسان دليل الحكم والحرمة والمبغوضية.

ولا يخفى ان الّذي يتناسب مع ما نحن فيه هو هذا المورد دون مورد

١٨٨

المسببات التوليدية ، إذ الواجب ذو المقدمة المفوتة من الأفعال الإرادية في نفسه ، وليست نسبة المقدمة المفوتة إليه نسبة السبب التوليدي إلى مسببه. وقد عرفت ان الحكم بصحة العقاب مطلقا في هذا المورد غير وجيه.

لكن المورد يختلف عما نحن فيه أيضا من جهتين :

الأولى : ان المورد الّذي نحن فيه يختص بالواجبات العبادية كالحج والصلاة والصوم مما يعتبر فيها الإرادة والقصد إليها ، فلا كلام فيها من هذه الجهة كما هو الحال في المورد الثالث.

الثانية : ان الإشكال فيما نحن فيه ليس من جهة مخالفة التكليف الفعلي المتعلق بالعمل ، كي يقال إنه هل أخذ الفعل الإرادي في متعلق الحكم أو مطلق الفعل ، بنحو ينسب إلى اختيار الفاعل ولو بالواسطة؟ ، فان الفرض ان الواجب مقيد بزمان متأخر فلا يتمكن منه فعلا ، لعدم اختيارية قيده. وانما الكلام في سلب القدرة عليه في ظرفه بترك بعض مقدماته ، فليس فيما نحن فيه تكليف بالفعل يتكلم بان مخالفته تتحقق بالنسبة إليه مع انسلاب الإرادة عنه بذلك ، أو لا تتحقق إلا باعمال الإرادة فيه بخصوصه ، كما هو الحال في مورد الثالث.

وعليه ، فأساس الإشكال والبحث فيما نحن فيه هو التساؤل عن الملزم للإتيان بالمقدمات المفوتة ، لأنه قبل حصول زمان الواجب لا وجوب يترشح عليها ، وبعد حصول زمانه لا تكليف بالواجب لعدم القدرة عليه بتركها ، فحالها من هذه الجهة حال المقدمات الوجوبية من عدم تعلق الإلزام بها.

وقد ذكر للجواب عنه ـ غير ما جاء في الكفاية (١) ـ وجهان :

الأول : ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره من ان الملاك في ظرفه إذا كان تاما لا قصور فيه يحكم العقل بحرمة تفويته ولزوم المحافظة عليه في زمانه ،

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٤ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٨٩

وعليه فهو يحكم بلزوم المقدمة المفوتة ، لأن بالإتيان بها محافظة على الغرض وبفواتها تفويت للغرض ، وبالملازمة بين حكم العقل والشرع يتعلق وجوب شرعي بالمقدمة ويعبر عنه بمتمم الجعل.

واستشهد على هذا المعنى بموارد الإرادة التكوينية ، فان الشخص إذا علم بأنه سيبتلى في سفره بالعطش ، وانه لا يجد الماء في الطريق ، يرى نفسه ملزما بحكم العقلاء بتهيئة الماء واستصحابه معه قبل الابتلاء به محافظة على تحصيل الغرض الملزم في ظرفه وهو رفع العطش ، ويعد مذموما عند العقلاء لو ترك أخذ الماء معه. والإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في سائر الجهات كما حقق في محله.

وبالجملة : وجوب المقدمة شرعا انما هو كحكم العقل بلزوم المحافظة على غرض المولى الملزم وقبح تفويته بترك مقدماته (١).

الثاني : ما أفاده السيد الخوئي ( حفظه الله ) من ان لزوم المقدمة المفوتة من باب وجوب المقدمة العلمية. بيان ذلك : ان العقل كما يحكم بصحة العقاب على مخالفة التكليف الّذي سيتحقق في المستقبل ولو بترك بعض ما يستلزم تركه مخالفته في ظرفه ، كذلك يحكم بصحة العقاب على تفويت غرض المولى الملزم للزوم تحصيله. فإذا علم المكلف ان للمولى غرضا ملزما يتحقق بالفعل في الزمان المستقبل ، حكم العقل بلزوم المحافظة عليه وصحة العقاب على تفويته في ظرفه ، فإذا توقف تحققه على الإتيان بفعل في هذا الزمان لزم ذلك بحكم العقل لأنه مقدمة علمية (٢).

وهذان الوجهان وان كانا تامّين في أنفسهما ، إلا ان ربطهما بقاعدة :

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٥١ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٦١ ـ الطبعة الأولى.

١٩٠

« الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » لا وجه له محصل.

اما ما أفاده المحقق النائيني : فقد عرفت ان العقل والشرع يحكمان بلزوم المقدمة بملاك حرمة تفويت الغرض ولزوم المحافظة عليه. ومن الواضح ان تفويت الغرض وعدم المحافظة عليه يحصلان بمجرد ترك المقدمة المفوتة ، فتحقق المخالفة للتكليف بترك المقدمة نفسها ، فيكون العقاب عليه وهو فعل اختياري كما لا يخفى.

وعليه فتطبيق قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » ناشئ عن المسامحة ، إذ العقاب على ترك المقدمة وتفويت الغرض به لا على ترك الواجب ، كي يقال انه ممتنع بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار. وقد عرفت ان ترك المقدمة أمر اختياري لتعلق الإرادة به مباشرة ، فالعقاب عليه عقاب على ما هو بالاختيار.

واما ما أفاده السيد الخوئي : فهو وان ارتبط بالقاعدة المذكورة بنحو ارتباط ، لأن لزوم المقدمة كان بحكم العقل بصحة العقاب على تفويت الغرض الملزم في ظرفه ، وترك الواجب الّذي يترتب عليه الغرض وان كان استقباليا. فلقائل ان يقول : ان الواجب في ظرفه ممتنع ، فلا يصح العقاب عليه. فيجاب : بالقاعدة المزبورة ، وان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فالوجه مرتبط بالقاعدة بنحو ارتباط. إلا أن التنصيص عليها في خصوص المورد وجعلها من متممات الحكم بلزوم المقدمة غير وجيه ، لأن المفروض ان الحكم بلزوم المقدمة كان من باب حكم العقل بلزوم المقدمة العلمية فهو تام في نفسه ، والإشكال بان الواجب في ظرفه ممتنع إشكال عام يسري في كثير من الموارد ، ويدفع بما تكرر من أن اختيارية الامتناع لا تنافي الامتناع ، وليس هو إيرادا خاصا بالمورد حتى يفرض كون القاعدة من متممات وجه الحكم بلزوم المقدمة. وإلاّ كان اللازم التنصيص عليه فيما إذا التزم بالواجب المعلق في دفع الإشكال ، لأنه يقال أيضا : انه لا يصحح العقاب على ترك الواجب في ظرفه لأنه ممتنع بترك المقدمة ،

١٩١

فلابد من بيان هذه القاعدة.

وبالجملة : الحكم باللزوم لا بد وان يفرض مفروغا عنه لوجه من الوجوه المذكورة التامة في نفسها ، ويكون ذكر القاعدة لدفع توهم يقال ، لا ان تكون القاعدة قواما لوجه الحكم باللزوم ومتمما له فتدبر ولاحظ.

ثم انه بعد ان تبين أن أساس الحكم بلزوم المقدمة المفوتة ، هو حرمة تفويت الغرض الملزم فقد يتوهم : ان هذا انما يتمّ فيما لم تكن القدرة دخيلة في تحقق الملاك ، بل كان الفعل بنفسه واجدا للملاك ولو لم يكن مقدورا نظير ترتب الغرض على الدواء عند تحقق المرض ولو لم يكن مقدورا ، إذ لو كانت القدرة دخيلة في تحقق الملاك لم يكن تحصيل القدرة لازما ، إذ قبل القدرة ليس هناك غرض ملزم يلزم المحافظة عليه ويحرم تفويته. ولا يلزم تحقيق هذا الأمر ، أعني واجدية الفعل للملاك.

إلاّ انه يندفع : بما مر من تصوير دخالة القدرة في الملاك بأنحاء ثلاثة الّذي ورد في كلام المحقق النائيني :

النحو الأول : ان تكون القدرة دخيلة في الملاك بوجودها المطلق ، بمعنى ان الملاك يتحقق بتحققها في أي ظرف كان. ومن الواضح ان المقدمة تجب في أول أزمنة إمكانها ، لحصول القدرة على الواجب بواسطتها ، فيكون الفعل واجدا للملاك في ظرفه ، فيحرم تفويته بترك المقدمة. فالقدرة وان كانت دخيلة في تحقق الملاك ، لكن دخالتها بنحو لا يمنع من وجوب المقدمة المفوتة.

النحو الثاني : ان تكون القدرة الدخيلة في الملاك هي القدرة على الواجب بعد حصول بعض مقدمات الوجوب التي يتوقف عليها الملاك ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

والحكم في هذا الفرض هو لزوم المقدمة الوجودية المفوتة بعد حصول شرط الوجوب ، لكون الفعل في ذلك الحين واجدا للملاك فيحرم تفويته ، وعدم

١٩٢

لزومها قبل حصول شرط الوجوب ، لعدم تمامية ملاك الواجب فلا يحرم تفويته ، إذ ليس فيه تفويت للغرض الملزم.

النحو الثالث : ان تكون القدرة الدخيلة هي القدرة على الواجب بعد دخول وقته ، ولا إشكال في عدم لزوم المقدمة المفوتة ، إذ الفعل وان كان مقدورا عليه في زمانه قبل زمانه ، لكنه غير واجد للملاك. فلا يحرم ترك المقدمة ، إذ ليس فيه تفويت للغرض الملزم. وقد عرفت عدم لزوم جعل الفعل واجدا للملاك في ظرفه ، وانما اللازم هو المحافظة على الملاك الفعلي الملزم.

فيتحصل : ان أخذ القدرة في الملاك لا يلازم عدم وجوب المقدمة المفوتة بقول مطلق ، بل هو ملازم له في الجملة.

والتحقيق : ما عرفته ، وقد أفاده المحقق النائيني قدس‌سره.

ثم انه قد يشكل : بأنه إذا فرض وجوب الملزم للإتيان بالمقدمات المفوتة ، لم يختلف الحال في مطلق المقدمات ، بل مقتضى ذلك وجوبها ، إذ ملاك الإلزام هو المقدمية وحصول التفويت بتركها ، وهو أمر مطّرد في جميع المقدمات المفوتة ، مع انه لا يلتزم بذلك في مطلق المقدمات ، ولذا يفتى بجواز إجناب الشخص نفسه قبل الوقت مع علمه بعدم تمكنه من الغسل في الوقت.

والجواب عن الإشكال : ما أفاده صاحب الكفاية : من انه يمكن اختلاف المقدمات في نحو دخالتها في الملاك فتارة : تكون القدرة على المقدمة دخيلة في الملاك بقول مطلق ، فيلزم تحصيل المقدمة قبل زمان ذيها. وأخرى : لا يكون الأمر كذلك ، بل يكون الدخيل في الملاك هي القدرة على المقدمة في زمان ذيها ، بحيث لا يكون للقدرة عليها قبل زمان ذيها أي تأثير في الملاك. فلا يلزم تحصيلها قبل زمان ذيها ، لعدم الملزم حينئذ (١) حتى على فرض كون وجوب المقدمة وجوبا

__________________

(١) الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول ـ ١٠٥ ـ طبعة مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام.

١٩٣

شرعيا مترشحا من وجوب ذيها ، وذلك بالالتزام بالواجب المعلق أو نحوه كما عليه صاحب الكفاية ، وذلك لأن القدرة على الواجب من قبل المقدمة في زمانه إذا كانت دخيلة في الملاك كانت شرطا للوجوب ، فلا يلزم تحصيلها قطعا ، إذ المقدمة الوجوبية لا تجب بالوجوب المقدمي فالتفت.

هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة غير التعلّم.

ولا بأس بالتعرض إلى أمرين أفادهما المحقق النائيني قدس‌سره :

الأمر الأول : ان اشتراط القدرة على الواجب في زمانه ودخالتها بخصوصها في الملاك دون مطلق القدرة ، انما يصح في التكليف العام إذا كان العجز عن المقدمة في زمانه اتفاقيا وفي بعض الأحيان. كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فان الغالب هو تمكن المكلفين من الوضوء بعد الوقت ، وتحقق العجز عنه في أثناء الوقت اتفاقي لا غالبي. واما إذا كان العجز من المقدمة في زمانه وتوقفه على تحققها قبل زمانه غالبيا أو دائميا. نظير المسير بالنسبة إلى الحج ، فان القدرة على الحج في زمانه تتوقف على المسير إليه قبل زمانه غالبا ، وعدم توقفه على ذلك وإمكان المسير إليه بعد زمانه اتفاقي ونادر جدا ، فلو كان الأمر كذلك ، ودلّ دليل بظاهره على كون الدخيل في الملاك هو القدرة على الواجب في زمانه ، فاللازم حمل الدليل على خلاف ظاهره ، اما بجعل الدخيل في الملاك هو القدرة المطلقة ، أو القدرة عليه بعد حصول شرط الوجوب ، وذلك لأن الالتزام بظاهره يستلزم تخصيص التكليف العام بالفرد النادر ، وهذا قبيح ومستهجن ، إذ قد عرفت ان المكلف القادر على الإتيان بالحج بعد زمانه بدون المسير إليه قبله نادر جدا.

نعم إذا جاء دليل يدل على اشتراط القدرة بعد زمان الواجب ، وكان نصا في مدلوله ، كان المتعين الالتزام به ولو استلزم اختصاص التكليف بالفرد النادر (١)

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٥٣ ـ الطبعة الأولى.

١٩٤

وأورد على التفرقة بين النص والظاهر : بان تخصيص التكليف العام بالفرد النادر ، اما ان يكون مستهجنا وقبيحا أو لا ، فان كان قبيحا لم يتجه الالتزام بالدليل المستلزم لذلك ولو كان نصا بل المتعين طرحه. وان لم يكن قبيحا لم يتجه التصرف بظاهر الدليل المستلزم لذلك ، إذ لا مانع من إبقائه على ظاهره. فالتفرقة بين النص والظاهر لم يظهر لها وجه (١).

والتحقيق : ان للتفصيل وجها وجيها وهو : ان تقدم ظهور المخصص على ظهور العام انما هو باعتبار أقوائية ظهوره من ظهور العام ، ففي المورد الّذي يكون فيه استبعاد للتخصيص أو استهجان وقبح يضعف ظهور المخصص ولا يكون مع ذلك مفيدا للظن النوعيّ الّذي هو الملاك في حجية الظهور عند العقلاء ، فلا يصلح ظهوره للتصرف في العام لعدم حجيته. اما إذا كان المخصص قطعيا لا يحتمل الخلاف ، فيكون قرينة ـ بعد فرض عدم إمكان الالتزام بالعموم لانتهائه إلى التخصيص بالأكثر المستهجن ـ على وجود قرينة لفظية أو نحوها على تعلق الحكم من أول الأمر بالعنوان الخاصّ النادر وهو غير مستهجن.

وبالجملة : الفرق هو ان المخصص القطعي يكون دليلا على كون بيان الحكم من أول الأمر على العنوان الخاصّ ، وليس كذلك الحال في المخصص الظني ، فانه ترتفع حجيته لضعف ظهوره وعدم صلاحيته لمزاحمة ظهور العام بواسطته للاستبعاد والاستهجان.

وهذا المعنى ثابت متقرر وينص عليه في مسألة تخصيص الأكثر ، فانه يلتزم بعدم الالتزام بالمخصص الظني المستلزم لخروج أكثر الافراد. بخلاف ما إذا كان المخصص قطعيا كالإجماع ، فانه يكون محكما ولو استلزم خروج أكثر الأفراد ، لكن يلتزم رفعا للاستهجان بكون ذلك قرينة على كون بيان الحكم من

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٥٣ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

١٩٥

أول الأمر على الموضوع الخاصّ النادر ، وهو مما لا استهجان فيه.

الأمر الثاني : ان القيود المأخوذة في واجب واحد قد تختلف ، فيكون الشرط في بعضها القدرة عليه في زمان الواجب فلا يجب فعله قبل الوقت ، وان ترتب على تركه فوات الواجب في ظرفه ، ويكون في بعضها الآخر هو مطلق القدرة عليه ولو قبل زمان الواجب ، فيلزم الإتيان به وتحقيقه قبل الوقت إذا علم بتفويت الواجب في ظرفه بتركه. وتعين أحد النحوين يتبع فيه دلالة الدليل الخاصّ.

وقد مثّل للأول : بالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فان ظاهر الآية الشريفة : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... ) الآية (١). هو تعليق وجوب الوضوء على القيام إلى الصلاة ، ومن الواضح ان المراد بالقيام دخول الوقت بنحو الاستعمال الكنائي ، لا نفس القيام ، إذ لا يقيد وجوب الوضوء بحال القيام إلى الصلاة.

وعليه ، فتكون مصلحة الوضوء اللزومية مقيدة بدخول الوقت. وعليه فيكون الشرط هو القدرة عليه بعد الوقت.

ومثل للثاني : بالماء الّذي هو مقدمة إعدادية ، فانه يستكشف من الرواية الصحيحة الدالة على لزوم إبقائه قبل الوقت ، ان الشرط هو القدرة المطلقة ولو قبل الوقت (٢).

ولا يخفى انه قد أورد على المحقق النائيني قدس‌سره في المثال للثاني بالماء واستشهاده بوجود النص الصحيح ـ أورد عليه ـ : بأنه لا رواية صحيحة تتضمن هذا المعنى ، وقد نقل عنه ان أقرّ أخيرا بذلك واعترف (٣).

واما تمثيله للأول بالوضوء واستشهاده بالآية ، ففيه ما لا يخفى : لأنه لو

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية : ٥.

(٢) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٥٣ ـ ١٥٤ ـ الطبعة الأولى.

(٣) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٥٤ [ هامش رقم (١) ] ـ الطبعة الأولى.

١٩٦

سلم كون القيام كناية عن دخول الوقت ، فغاية ما تدل عليه دخالة الوقت في تحقق الملاك الملزم للوضوء ، وان وجوبه مقيد بدخول الوقت كالواجب ، واما دخالة القدرة عليه بالنحو الخاصّ في تحقق الملاك فهو مما لا تتكفل الآية بيانه ، إذ لا تعرض لها إلى أصل دخالة القدرة وعدم دخالتها أو كيفية دخالتها في الملاك ، بل الآية ليست بأصرح من قوله عليه‌السلام : « إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور » (١) في تقييد الوجوب بالزوال.

وبالجملة : الكلام في دخالة القدرة ونحوها ، والآية إنما تتكلف دخالة الوقت في المصلحة ، وهو لا يدل على كون الدخيل هو القدرة بعد الوقت ، بل يمكن ان تكون القدرة المطلقة دخيلة في تحقق الملاك وان كان الوجوب بعد الوقت ، لأن الوقت دخيل أيضا في الملاك. فالتفت.

واما التعلم ومعرفة الأحكام : فقد ادعى المحقق النائيني : عدم اندراجها في المقدمات المفوتة ، لعدم انسلاب القدرة على الإتيان بالواجب بترك التعلم ، بل الواجب يكون مقدورا ، ولذا يصح تعلق التكليف به في حال الجهل كتعلقه به في حال العلم. وعلى هذا فلا يكون الوجه في إيجاب التعلم هو قاعدة : « عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار » لعدم تحقق موضوعها ، إذ لا يمتنع الفعل بترك التعلّم.

وعليه ، ففي فرض ترك التعلم ..

تارة : يكون المكلف متمكنا من الاحتياط وإحراز الإتيان بالواجب في ظرفه ، فلا إشكال في عدم وجوب التعلم حينئذ ، لعدم الوجه فيه بعد إمكان الإتيان بالواجب وإحراز الامتثال.

__________________

(١) عن أبي جعفر عليه‌السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة.

وسائل الشيعة ١ ـ ٢٦١ باب ٤ من أبواب الوضوء : حديث : ١.

١٩٧

وأخرى : لا يكون المكلف متمكنا من الاحتياط في ظرف الامتثال وإحراز الامتثال ، بل غاية ما هنالك هو احتماله موافقة ما جاء به لما هو المأمور به واقعا ومصادفته للواقع ، كما في بعض موارد حصول السهو والشك ، وعدم العلم بحكمه ، فانه قد لا يتمكن من الاحتياط فيأتي بالعمل بنحو يحتمل موافقته للواقع كما يحتمل مخالفته للواقع. ففي مثل هذه الحال يجب التعلم بحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، وذلك لأن التكليف وان كان مجهولا إلا أنه لا يكون مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، كي يطمئن العبد بعدم العقاب ، وذلك لأن العقل انما يحكم بمعذورية الجاهل وقبح عقابه فيما لم يكن هناك بيان أصلا ، أو كان ولكن لم يتمكن المكلف من العثور عليه وتحصيله بعد التصدي لذلك ، اما مع وجود البيان وعدم الفحص عنه وإهمال التصدي لمعرفة ما بينه المولى وانه هل يتكفل حكما إلزاميا أو لا؟ فلا يستقل العقل بقبح العقاب مع مخالفة الواقع جهلا.

وعليه ، فإذا استحق العبد ـ فيما نحن فيه ـ العقاب على المخالفة ، فمع احتمالها يحتمل العقاب ، فلا بد من دفعه لحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، ودفعه انما يكون بالتعلّم. فلزوم التعلّم ملاكه حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، لا قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » أو لزوم تحصيل غرض المولى.

وبهذا البيان يتضح انفراد التعلّم عن المقدمات المفوتة من جهتين :

الأولى : ان وجوب الإتيان بالمقدمات المفوتة انما يثبت في المورد الّذي يعلم بثبوت التكليف المتوقف على المقدمة في ظرفه علما وجدانيا أو تعبديا أو عاديا ، إذ بدون ذلك لا يعلم بوجود الملزم كي يجب تحصيله. وليس الأمر كذلك في وجوب التعلّم ، فانه يثبت مع احتمال التكليف احتمالا عقلائيا ، وان لم يتحقق العلم ، إذ باحتمال التكليف يحتمل العقاب بمخالفته ، فيحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.

الثانية : ان استحقاق العقاب على المقدمات المفوتة يثبت من حين تركها ،

١٩٨

لأن فوات الواجب يكون بتركها.

واما العقاب في صورة ترك التعلم فهو منوط بالإتيان بالواجب فان خالف الواقع ثبت استحقاق العقاب في ذلك الحين ، لأن العقاب على ترك الواجب وهو لا يفوت بمجرد ترك التعلم.

هذا محصل ما أفاده المحقق النائيني قدس‌سره في المقام (١).

وهو ـ مع غض النّظر عما أفاده أخيرا من ثبوت استحقاق العقاب بترك المقدمات المفوتة من حين تركها ، فانه لا يخلو من بحث ليس المقام محلّه فقد ناقشه المحقق الأصفهاني (٢) ـ وجيه وتامّ. فان التعلم ليس من المقدمات المفوتة ، وملاك وجوبه يختلف عن ملاك وجوبها بالتقريب الّذي بينّاه.

إلا أن السيد الخوئي ( حفظه الله ) ناقش في هذا الكلام على إطلاقه ، وذكر : ان ترك التعلم في بعض موارده يلازم سلب القدرة على الواجب في ظرفه ، فيندرج بذلك في المقدمات المفوتة ويترتب عليه حكمها من لزومه بملاك لزوم تحصيل غرض المولى وقاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » ، لو لم تؤخذ القدرة في ظرف الواجب دخيلة في الملاك.

وذلك لأن ترك التعلم قد يستلزم الغفلة وعدم الالتفات إلى وجوب بعض الاجزاء أو الشرائط المعتبرة في الواجب ، فالإتيان بها مع الغفلة عنها خارج عن حيّز القدرة ، فيستلزم ترك التعلم عدم التمكن من الواجب وعدم توجه الخطاب به إلى المكلف. كما أنه قد يستلزم عدم تمكنه منه ، لتوقف القدرة عليه على تعلمه ، كترك تعلّم القراءة أو الذّكر لمن لا يعرف النطق بالعربية أصلا ، فانه بترك التعلم تنسلب القدرة على الواجب.

__________________

(١) المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات ١ ـ ١٥٤ ـ ١٥٧ ـ الطبعة الأولى.

(٢) الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية ١ ـ ١٩٨ ـ الطبعة الأولى.

١٩٩

وبالجملة : دعوى خروج التعلم عن المقدمات المفوتة ممنوعة على إطلاقها. نعم هي مسلمة في الجملة ، كما في موارد إمكان الاحتياط أو احتمال إدراك الواقع (١).

ولكن يمكن الدفاع عن المحقق النائيني : بان كلا من الموردين ـ اللذين ذكرهما السيد الخوئي ـ لا يصلح شاهدا على اندراج التعلّم ـ في بعض موارده ـ في المقدمة المفوتة.

اما مورد ترك تعلم مثل القراءة ونحوها من متعلقات الأحكام لا نفس الأحكام ، فتحقيق المناقشة فيه موكول إلى محلّه ، وانما نشير إلى جهة المناقشة فقط فنقول : ان تعلم القراءة ونحوها يكون دخيلا في إيجاد القدرة لا المحافظة على القدرة الموجودة ، وملاك وجوب المقدمات المفوتة موضوعه المحافظة على القدرة ، واما إلحاق إيجاد القدرة بالمحافظة عليها فتحقيقه موكول إلى محلّه كما عرفت.

واما مورد استلزام ترك التعلم لحصول الغفلة عن الحكم الملازم لامتناع امتثاله ، فمناقشته تظهر ببيان شيء : وهو انه قد استشكل في رفع المؤاخذة في حال النسيان الوارد في حديث الرفع ، بان الحكم مرتفع في حال النسيان جزما لاستحالة تكليف الناسي عقلا لغفلته ، فارتفاع الحكم ليس امرا مربوطا بيد الشارع كي يكون رفعه امتنانا على العباد.

وقد أجيب عنه : بان الغرض رفع المؤاخذة على ترك المقدمات الموجبة لعدم النسيان ، وذلك لأن الحكم وان ارتفع بالنسيان ، إلا ان النسيان قد ينشأ من أمر اختياري للعبد ، وهو ترك التحفظ ، فيمكن تصور ثبوت المؤاخذة على ترك التحفظ المؤدي للنسيان لا على مخالفة الحكم المنسي. فحديث الرفع

__________________

(١) الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه ٢ ـ ٣٦٧ ـ الطبعة الأولى.

٢٠٠